تبدو مسألة تصوير الإنسان لغيبيَّاته موضوعاً فائق الحساسيَّة، وذلك لما أعطيت من اهتمامات وردَّات فعل؛ تلك التعبيرات العقائديَّة التي تحاول الاقتراب من المفاهيم المقدَّسة للإنسان. للمسلمين تجاربهم المثيرة للجدل والغنيَّة في هذا المجال، نظراً لما تخلَّل الدين الإسلامي من تفرُّعات وفِرق وجغرافيات مختلفة، حيث نمت هذه التصوُّرات نتيجة لظروف مختلفة وآراء متناقضة وتاريخ متغيِّر على حدود حذرة من الخطوط الحمراء لمقدَّسات كثيرة.
عند العودة إلى ما قبل ولادة التصوير الإسلامي بقرون، سنقرأ كيف حظيت الأيقونات الدينيَّة بتشجيع مسيحي في القرن الرابع ميلادي من قبل الدولة البيزنطيَّة، حين استخدمت صور ولوحات للمعتقدات المسيحيَّة، لإيصال تعليماتها، وصور ليسوع المسيح ومشاهد من حياته كصلبه ومريم العذراء وصور القدِّيسين، فضلاً عن ذلك فقد ساد إيمان بما تحمله تلك الصور من قوَّة الإله الكامنة، حيث قوبلت بقدر كبير من التبجيل والقداسة.
ظلّت هذه الصور مقتصرة في المباني المُهمَّة والكنسيَّة إلى أن وصلت للأماكن العامة والبيوت لتقود في الأخير إلى حركة تحطيم الصور الدينيَّة (حرب تحطيم الأيقونات البيزنطيَّة الأولى والثانية) والتي صاحَبها اضطهاد وحشي للأديرة المسيحيَّة.
سيكرِّر المسلمون هذا التجربة في حركة تحطيم الصور المقدَّسة التي ابتدأت حسب مؤرّخين إسلاميين بتحريم رجال الدين للتصوير الديني، لما حمل المسلمون من تقديس لفكرة الروح والغيب التي حاولت الرسومات محاكاتها. فما هي هذه اللوحات وما دلالاتها؟
في أواخر القرن الثالث عشر كان قد ولد التصوير الإسلامي، آخذاً مواضيعه من النبي محمد عليه الصلاة والسلام وبقيَّة الأنبياء والقديسين، والأحداث التاريخيَّة والحروب وبما تسمى بالفتوحات الإسلاميَّة والقصص القرآنيَّة والشعبيَّة، ومع تأكيد الطابع القصصي أخذت هذه الصور تنتشر حتى أصبحت لا تقلّ عن النصوص المكتوبة. وعند فلاسفة الإسلام اعتبروا الأيقونات الدينيَّة أيقونات فنيَّة، ومع إدراكهم العميق بأن العمل الفني هو عمليَّة خلق وإبداع.
حيث تعدّ مخطوطة خواندمير التي ظهرت تقريبا في القرن العاشر، من أهم المخطوطات للتصورات الدينيَّة حيث أخرجت اللوحات بعداً شكليًّا للنص المكتوب مثل نوح وسفينته التي تطَلَّ مقدّمتها كالفرس؛ كنوع السفن التي كانت تُستخدم في ذلك العصر، وتصور لقوم إبراهيم يعدّون النار ليلقوه فيها، ولإبراهيم وإسماعيل يشيِّدان الكعبة ولأهل الكهف، وللمسيح وهو يرجم إبليس، أو وهو يتأمَّل مصرع اللصوص الثلاثة الذين حاول كل منهم قتل الآخر، ولوحة العشاء أو المائدة الأخيرة والتي حاكت واقع إنزال مائدة من السماء لبني إسرائيل حيث يظهر بها ستة أشخاص، البعض تملأ وجوههم السخرية والبعض الآخر الدهشة.
ازدهر التصوير الإسلامي بالمخطوطات في بداية العصر العباسي، حيث ظهرت أشهر المخطوطات والوثائق الفنيَّة التي وردت بها تصورات إسلاميَّة بنيت على القصص القرآنيَّة مثل مخطوطة كليلة ودمنة عام 1344م والتي احتوت على مائة واثنين صورة ملونة، وكتاب الأغاني للأصفهاني، ومخطوطة كليات حافظ لحافظ أبرو لشاه رخ، صُوَّر بها لوحات تحكي قصَّة سليمان وبلقيس والهدهد، لتظهر في إحدى لوحاته بلقيس فوق عرشها بأفاريز ضخمة تتوهَّج بلون غريب، وأجسام ساكنة وأشكال متعرِّجة، والجرئيَّة للأشجار والحيوانات واللون المكثف الذي يعكس بهاء عرشها وإلى جانبها جنود سليمان من الجن، وصورة لها ولسليمان معاً فوق العرش وحولهما طيور ومخلوقات غريبة.
ونظراً لاتكاء اللوحات على الدين، كانت قد صرَّحت بالرمز الذي شكَّل المساحات الفنيَّة بألوان مشبعة وخطوط قويَّة وتركيبات غير تقليديَّة رسخت جذورها كتجربة دينيَّة تأمليَّة بدلاً من العناصر الواقعيَّة، فلم يكن وجود الشغالة على رؤوس الأنبياء والقديسين، أو اللثام في اللوحات الإسلاميَّة على محمل الصدفة، وإنَّما كانت رمزيَّة وتمييزاً لهم، واستطاع المسلمون من خلال هذا الزخم الفني تأسيس طابعهم الخاص في الفن التشكيلي، ولعلَّ أبرز التصويرات الدينيَّة التي أظهرت الفرادة الإسلاميَّة للآخر معتمدة على حدث رئيس في الدين الإسلامي، هي تلك التي رُسمت في معراج نامه بألوان نابضة مستوحاة من الفن الشعبي (المحفوظة بدار القوميَّة في باريس) وظهرت باللغة التركيَّة في القرن الخامس عشر، وهي مخطوطة تحاكي رحلة الإسراء والمعراج بتفاصيلها وخطواتها من القدس إلى السماء الأولى حتى السابعة، ويظهر في إحدى اللوحات في المخطوطة تكوين بشري يبتدأ برأس ثم رأسين وثلاثة وأربع وصولاً إلى سبعة، وهذا التكوين الذي بدا رمزاً للسماوات السبع التي مرَّ بها النبي عليه الصلاة والسلام،إلى جانب الآخر من تصوير الملائكة والحور العين والجنَّة والنساء المعذَّبات لتطاولهن على أزواجهن وعذاب الرجال الذين أكرموا الأمراء رياء، ويظهر لشجرة الزقوم أغصان على شكل رماح ورؤوس الفاسقين على هذه الرماح، وتصوُّرات أخرى معتمدة على الوصف القرآني الظاهر.
من الواضح أيضاً تأثُّر الدين الإسلامي في المسيحي أو المعتقدات الأخرى على مستوى النص، الذي انعكس بدوره على الفنون، وقدَّم هذا التأثير الثراء في التصوُّرات الإسلاميَّة؛ فكتاب النامة للوزير قلندر باشا الذي أُلِّف في القرن السابع عشر، تجلَّت فيها لوحة للعذراء وهي ترضع عيسى مختبئة خلف صخرة يحيطها يسقان نبات مزخرفة وبتلات زهور عشوائيَّة وأشكال مجرَّدة وملوَّنة وشخص خلفها يراقبها معتمدة الرواية القرآنيَّة، ولوحة آدم وحواء في الجنَّة والشيطان المتمثِّل إلى هيئة حيَّة، بدا فيها وجه حواء موجوم بالندم وآدم يلتفت مؤنِّباً على أنَّها سبب خروجهما من الجنَّة، وليس كتاب قلندر الكتاب الوحيد الذي ورد فيه تصوُّر لآدم وحواء، وإنّما أيضاً كتاب الآثار الباقية للبيروني(م1307)، يكشف فيه حواء وآدم فضولهما البشري الذي بدا واضحاً على ملامحهما وهم يتلقيان تعليمات من الله حول الابتعاد عن الشجرة، مع مزج الألوان مما أعطاها بعدًا سرياليًّا على أنها تشبه الحلم ، ووجود هالة على شكل دائرة تحيط رأسيهما.
مخطوطات مثل هذه لم تقابل بالرفض عند المسلمين نظراً للموضوعات الأقل قدسيَّة التي تناولتها، لكن ستأتي مخطوطة تتناول جانبًا حسَّاسًا من سيرة الدين الإسلامي وهي من أضخم الأعمال الفنيَّة للمسلمين التي أنتجت على يد الوزير رشيد الدين عام 1310 م والتي اسماها (جامع التواريخ)، حيث إن رشيد الدين استدعى العديد من الرسامين لرسم العديد من التصورات الدينيَّة ابتداءً بآدم وبقيَّة الأنبياء إلى تسعة تصوّرات واضحة ومكتملة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام وهي من أندر التصوُّرات الإسلاميَّة، إحداها لمولد النبي يتجلَّى فيها جده عبد المطلب وأمّه آمنة وإحدى قريباتها وملكين يحملين النبي.
وكذلك كتاب عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني 1370م صُرح فيه تصورات لجبريل وإسرافيل وللملائكة ومواقعهم في السماء. وأيضاً “حيرة الأبرار” لمير علي نوائي، صوَّر فيه قاسم علي لوحة للنبي عليه الصلاة والسلام وهو جالس في محراب مسجد وإلى جانبه القرآن وحوله هالة نورانيَّة، وإلى جانبه المؤذِّن بلال واثنين من الصحابة وعلي رضي الله عنه، وكانت القطعة غنيَّة بالألوان الزاهيَّة والمختلطة والمتناقضة وضربات فرشاة فوضاويَّة الإيمائيَّة، ومُرقَّعة بهرام ميزرا عام 1544م، رسم فيها الفنان أحمد موسى الذي اشتهر بتصوراته الدينيَّة، مجموعة من التصورات عن المعراج يظهر فيها النبي عليه الصلاة والسلام تيحط رأسه سحابة ذهبيَّة مع جبريل الذي يكون رمزه تكوين بعباءة صفراء وتاج تميّزه عن سائر الملائكة.
لم تنتهج أغلب اللوحات هذا النهج الصعب لكنها لم تتخلَّ عن إبداع الخصوصيَّة الفنيَّة للتجربة الإسلاميَّة؛ فالشاعر نور الدين عبدالرحمن جامي، الذي ولد 1414م وهو شاعر صوفي، كان قد ألَّف العديد من المخطوطات التي تضمُّ قصصًا تاريخيَّة وقرآنيَّة على أسلوب الشعر المثنوي، كمخطوطة سبحة الأبرار وتحفة الأحرار، ووردت في مخطوطاته بعض التصورات بألوان رنانة يغلب عليها الأصفر والأحمر. والمنمنمات لفنانين مجهولين، مثل مخطوطة يوسف وزليخا التي تروى حكاية امرأة العزيز ويوسف، وتشمل المخطوطة على لوحة ليوسف وهو في ضيافة قصر زليخا، ولوحة أخرى وزليخا تتعلق بقميص يوسف، ويظهر الخوف واضح على ملامح يوسف وشعلة صفراء على رأسه، ومخطوطة بستان سعدي لجامي توجد في إحدى أجزائها تصوير للبراق على أنه تكوين لديه أجنحة وسنام وأقدام رفيعة وعلى رأسه تاج ، ولوحة أخرى لإبراهيم وهو يستضيف عابد النار.
ومع أنَّ التصوُّر الإسلامي قد وصف أحداثًا بعيدة وغير مرتبطة بشكل مباشر بوقائع وأحداث الدين الإسلامي، لم يخرج في أغلب لوحاته عن النص حيث اعتمد عليه في وصف رؤاه للتاريخ والأسطورة، ناحتاً الشكل المادي من رواية النص المكتوبة ليضفي فرادة موضوعيَّة وانسجام مع جوهريَّة النص والمرويات الدينيَّة، فمخطوطة خمسة نظامي التي تعد كأرفع وأثرى مخطوطة إسلاميَّة في متحف بريطانيا لنظامي الكنجوي رسم بها أشهر المصورين الإسلاميين كمير سيد علي، فن مظفر، ميزرا علي، أقاميرك، محمد زمان الذي تميل أعماله إلى الواقعيَّة مع احتفاظه بأسلوب المنمنمات، والبعض منهم مجهول الهويَّة.
صوِّرت بها بعض الأحداث الدينيَّة الإسلاميَّة مثل ذي القرنين يشرف على بناء السدّ، المسيح والكلب الميِّت، لوحة الحضرة الربَّانيَّة التي تتجلَّى سماء سوداء فيها رقائق ذهبيَّة وسحب صافية موزَّعة عشوائياً، والنبي عليه الصلاة والسلام فوق البراق وحوله ثمانية عشر ملك في تآزر لوني وتكويني .
كذلك كِتاب قصص الأنبياء للنيسابوري الذي رسم فيه المصوِّر الفارسي أقا رضا ابن المصور علي أصغر القاشاني، لوحة هارون وموسى وسحرة فرعون الخائفين، ولوحة مصرع هابيل وهو ملقى على حجرة على يد قابيل أخيه، حيث ركَّز على التراكيب البسيطة وأشجار مشتَّتة على سطح اللوحة مع الاحتفاط بالشكل التقليدي للسحب.
وعلى عكس المسلمين الذين سعوا إلى تكريس الرمزيَّة بنهج حر، استخدم المسيحيّون الواقعيَّة المفرطة في تصوّراتهم الدينيَّة التي عاد نشاطها واتساعها في عصر النهضة الأوروبيَّة، وظهر فن الكنسيَّة الكاثوليكيَّة (فن الركوكو والباروكي)، وأشهر فناني النهضة دافنشي ولوحته الشهيرة العشاء الأخير التي تظهر اثنا عشر فرداً من الحواريين يتوسطهم يسوع المسيح بينما في التصوير الإسلامي ظهر ستة أفراد، ونستطيع من لوحة دافنشي أن نشعر بالارتباك والقلق في وجوه الحواريين وانعدام الثقة بينهم، ورافائيل وميكيل انجيلو وجويا لاحقاً الذين استخدموا المادة الدينيَّة كمادة فنيَّة وتناولوا العديد من المواضيع الدينيَّة، ولم تكن لوحاتهم نابعة عن التقديس أو التبجيل.
غير أنَّ ما يميِّز تجربة التصوُّرات الإسلاميَّة القديمة في الشرق عن المسيحيَّة في الغرب هو تعدُّد الأساليب والتقنيات التي أحدثها توسع الخارطة الفنيَّة بعد ما تسمَّى الفتوحات الإسلاميَّة،حيث تأثَّرت الفنون البصريَّة للمسلمين بالخلفيَّة الفنيَّة التاريخيَّة الجغرافيَّة والإقليميَّة لدى الدول التي وقعت تحت سيطرتهم، واستطاع الإسلام التفاعل معها فنيًّا مثل الحضارات الفارسيَّة والتركيَّة والهنديَّة لاحقاً، وكان لكل منها ألوانها وشخوصها المميزة، إلى جانب استخدام الخطوط المائلة والعموديَّة، والأشكال الهندسيَّة، والنقوش الإسلاميَّة والزخارف في ملء الفراغ، حتى عُدَّت اللوحات الفنيَّة على أنها إحدى المنمنمات الإسلاميَّة.
دعمت دول الخلافة الإسلاميَّة بمختلف عصورها هذا النوع من الفن، وعادة ما تطرَّق الباحثون والمؤرّخون المعاصرون إلى ذكر الأحداث التاريخيَّة والسياسيَّة، مع وجود العديد من الدراسات الفنيَّة حول التجارب الشعريَّة المختلفة في عصور الخلافة والجانب المعماري الإسلامي والمنمنمات (النقوش والزخارف الإسلاميَّة) في ظلِّ الخلافات الإسلاميَّة، إلا أنَّ الدراسات في اللوحات التشكيليَّة والفنون البصريَّة في العصر الحالي، تكون نادرة أو شبه معدومة، أو نستطيع القول بأنَّه تعمِّد طمس أثرها واخفائها وتصديرها وبيعها إلى الدول المهتمّة بالتاريخ خاصَّة اللوحات التي تحمل دلالات دينيَّة، كأن لم يكن عند المسلمين أعمالًا فنيَّة، على عكس المجالات الفنيَّة الأخرى التي نالت العناية من قبل الدارسين والمؤرِّخين المعاصرين رغم الثراء والجماليَّات الملفتة التي تتمتَّع بها هذه التصورّات التي يصف رجال الدين بعضها، إن لم يكن كلّها، بالجريئة.
_____
*أبرار المخمري: فنانة تشكيليّة يمنيَّة.
*المصدر: التنويري.