الاندماج أو التلاشي
إنّ الوحدة في الكثرة، والكثرة في الوحدة مقولة معروفة في تراثنا الفلسفي، فإذن يمكن أن نتصوّر وحدة واختلافًا معا. وربما يكون الاختلاف ضرورة مفهوميَّة وعمليَّة للوحدة، لأنّ الواحد المطلق في واحديته- وهو مستحيل- مستقطب بالفسحة لا بالوحدة، لأنّ الوحدة هي استقطاب المختلف أو المتعدّد حصرا- إذن من دون ابتذال جدلي مادي (ديالكتيك) كما شاهدنا منذ كارل ماركس حتى انهيار النظام السياسي الشيوعي على أنقاض النظام المعرفي الماركسي، يمكن أن يكون لدينا تصوّر لوحدة وصراعات المختلفات، والذي هو صراع أقرب إلى الحوار، إذا افترضنا أنّ أهداف الحوار ونتائجه ليست منحصرة في الاتّفاق على أساس التسوية، بل ربّما تحقّقت غاية الحوار في تغليب فكرة على فكرة أو رأي على رأي أو معرفة على معرفة طوعًا أو سلمًا.. وهذا ضابط منهجي لا يعفينا من واجب الاستمرار في الحوار، لأنّ في ذلك تعطيلًا للفكر، هو لا فكر مقابل الفكر الإشكالي أو الصراعي الإقصائي الذي قد لا يعطِّل ولكن حركته تضرّ أكثر ممّا تفيد.
والحوار والسجال أو الصراع، بشرط غائيَّة المعرفة وحرّيّتها، قد يكون أو هو كائن في مقام الضرورة، خاصَّة إذا ما أخذنا بمفهوم الحقيقة المركّبة والمعرفة المركّبة، بحيث تفسح مكانًا معرفيًّا للآخر والمعرفة الأخرى، مع العلم أنّ المعرفة الشخصيَّة تتبدّل فتصبح المعرفة السالفة معرفة أخرى وكأنّها معرفة الآخر وكأنّ الذي كان عارفًا بها وأصبح عارفًا بما هو مختلف عنها كائن آخر.
إنَّ كلًا منّا يملك رصيدًا من عناصر المعرفة الموزّعة بين الجميع من دون استثناء، والتي يتسابق في ميادينها الجميع من دون استثناء،وإن كان فرد أو طرف أو مذهب يملك نسبة أكبر من المعارف أو الحقائق واقعًا أو حسب ما يدّعيه، فإنَّ ما يملك الآخرون، ومهما يكن قليلا في نظر غيرهم، فإنّه كثير بذاته، لأنّ الكيف داخل في ضمن الكمّ في المعرفة.
وليس العدد هو المعيار بل المعنى، وفي المعرفة ينقص المعنى بقدر ما يحطّ من قيمة ما لا يعرفه من حقائق. إذن فالشراكة في المعرفة توسع مساحتها، وقد تتضيّق هذه المساحة بالاتّفاق من دون أن تتوقّف المعرفة عن الحركة، فيطغى مظهر الوحدة على مظهر الاختلاف أو التعدّد أو الصراع، من دون أن ينفيه، لأنّه إذا ما نفاه يكون قد أسّس له أو لتجديده بشكلٍ أقسى وأقل معرفة. ما يعني أنّ الوحدة المعرفيَّة التي هي أقل إلحاحًا من الوحدة الوطنيَّة مثلا، لا يجوز أن تقضي على التنوّع، ولا يمكن لها أن تقضي على هذا التنوّع، بل قصاراها أن تنقل الاختلاف من صعيد التناقض التناحري الإلغائي إلى صعيد التكامل.
هذا هو فضاء أو معنى التسامح، الذي لا بد من تخليصه من محموله السلبي الذي يشير إلى أنّ القبول بالآخر أو الفكرة الأخرى يقوم على ذرائعيَّة غير معرفيَّة. لأنّ المضمون الفعلي للتسامح قد يكون هو قبول الآخر أو الفكرة الأخرى على عواهنها. من هنا يقترب مفهوم التسامح من خطر كونه استعلائيًّا. في حين إنّ تعبير السماحة قياسًا على (الشريعة السمحة) قد يكون أقرب إلى تظهير المضمون الموضوعي لقبول الآخر والرأي الآخر.
على أنّه لا بدّ من الانتباه إلى أنّ هناك آخرين، هناك آخر هو شخص آخر، وهناك آخر ذاتي، هو ذاتك، معرفيًّا هكذا، طالما أن المعرفة متجدّدة أو متغيّرة، لأنّها متحرّكة وإلا انتهت إلى جهالة، فإذن انت اليوم غير أنت بالأمس المعرفي، فماذا تصنع بالمعرفة الماضية أو المنقضية التي هي ذاتك، هل تقتلها؟ هل تلغيها؟ وهي التي أفضت بك منهجيًّا إلى المعرفة اللاحقة! لقد اخترعنا النقد الذاتي للاحتفاظ بالذات وتسويغها وتجاوزها من خلال استيعابها، نحن مدعوون إلى اعتماد هذا الأسلوب في التعاطي مع الآخر، الذي ندير الاختلاف عنه أو معه. هذا إذا ما سمّونا إلى مستوى الإقرار بأن الآخر شرط معرفي ووجودي للذات، للأنا الخاصَّة والعامَّة، وأنّ الذات كذلك شرط معرفي ووجودي للآخر.
والآخر والمعرفة الأخرى تحدّينا المعرفي الجميل، والذي من دون وعيه نتكلّس، ننعزل، وفي عزلتنا وقطيعتنا ننكبّ على إنتاج وعي التمايز عن الآخر، أي وعي الفقر المعرفي الذي يؤدّي على الانقراض وهو الكامن وراء حضارات كانت ثمّ بادت.. في النهاية. أنا لا ألغي الآخر إلا بمؤثّرات انتمائيَّة إلى جماعة ما كأنّي أحمي الحدود الفكريَّة أو الدينيَّة او المذهبيَّة، عندما انصبّ نفسي مصدًّا لمنظوماتها الفكريَّة والقيميَّة ضدّ الرياح اللواقح، أي الآتية من أصقاع ومناخات، أخرى قريبة أو بعيدة. ومن هنا يصحّ القول بأنّ الجماعات التي تصرّ على التمايز الكامل من غيرها إنّما تنتهي إلى التلاشي، والاندماج هو الحلّ الأمثل أو الأقل ضررًا، وهو غير الذوبان القاتل والمستحيل.
______
* صحيفة المستقبل / الراصد التنويري (العدد 2) أيلول/ سبتمبر 2008.
*المصدر: التنويري.