مقدمة
يعاني الوعي الديني من التباس الإلهي بالبشري عبر فتاوى وأحكام اجتهادية نسبية تسوّق على أنها تشريعات إلهية، تسلب الفرد حريته وإرادته عندما تفرض عليه قبليات المجتهد، سواء كانت عقدية أم أخلاقية، وتفرض عليه مواقف، يلتزم بها بدوافع دينية، مهما تعارضت مع قيمه الإنسانية. ولعل الموقف من الآخر المختلف، بما فيه المختلف الداخلي أوضح المصاديق. يعيش معها الفرد حالة اغتراب عن طبيعته الإنسانية، فيحسب تصرفه تكليفاً شرعياً قربة لله لتفادي تأنيب الضمير وقمع شكوك الحقيقة وهي تدوي في أرجائه. فنقد آليات وأدوات ومرجعيات ومباني الفقيه، مهمة أخلاقية لاستعادة الوعي، كخطوة أولى للنهوض الحضاري. والاجتهاد أحد المصطلحات الفقهية الخطيرة، ارتفع به الخطاب الديني حد الاصطفاء الإلهي، بعيداً عن حقيقته وأساليبه في تزوير الوعي بل وتشويه القيم الدينية الأصيلة عندما يقحم الناس في صراعات عقدية وسياسية تحت عناوين طائفية وأيديولوجية، ويعتبر فتاواه وأحكامه ملزمة لأتباعه، ومبرئة للذمة، كما يكتبون في بداية كتبهم الفقهية عادة. أو عندما يشرّعون لأحكام تتعارض مع القيم الأخلاقية والإنسانية، كالحيل الشرعية، وتبرير أخذ الربا بعناوين ثانوية، وحماية سلطة الاستبداد تحت شعارات طائفية ومذهبية.
فما هو الاجتهاد؟ وما هي شرعيته؟. هل هو مصدر من مصادر التشريع أم هو منهج لاستنباط الحكم الشرعي؟. أو ماذا؟ وهل ثمة ضرورة دينية وأخلاقية له أم لا؟.
المسار التاريخي
كانت محاولات الفقهاء، لتدارك نقص الأدلة مضنية، وكانت وجهتهم الأولى توسعة مفهوم السُنة لتشمل سُنة الأئمة والصحابة بشروط، إضافة إلى مطلق سُنة النبي، بيد أن هذا القدر عجز هو الآخر عن مواكبة الواقع وأسلمة الحياة وفقاً لشرعة الفقهاء. إنها مهمة صعبة مع نقص الأدلة، وقد تكون تعجيزية لو اقتصروا على النص وحده، بعد أن ألزموا أنفسهم بملء الفراغ التشريعي مهما راكم الواقع من أسئلة ومستجدات حياتية تتطلب موقفاً شرعياً. وادَعَوا أن مهمة الحكم الشرعي تنظيم حياة الإنسان، وليس جزءا منها ليأخذ العقل دوره في التشريع وفقاً لمتقضيات الحكمة ومبادئ التشريع فيما لا نص فيه، لذا عرّفوه: بـ(التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان). (الصدر، محمد باقر، دورس في علم الأصول، ج1، ص63). ولا يخفي أن توسعة موضوع الحكم ليشمل جميع وقائع الحياة اجتهاد شخصي، لم تصرّح به الآيات، ولن تدعمه الأدلة سوى آراء فقهية قديمة، تمت ترقية مصادرها لدرجة الكمال، فغدت نصوص مقدسة، تتعالى على النقد والمراجعة. التعريف المتقدم للحكم الشرعي في كتب أصول الفقه يكشف أفق تفكير الفقيه، وهو يكرّس سلطته عندما يلزم نفسه بمواصلة التشريع لمواكبة الواقع. وتعني المواكبة استمرار التشريع الفقهي، وبالتالي استمرار منصبه وصلاحياته وامتيازاتها وسلطته ومركزيته، سيما الروحية منها. لذا يؤكد الفقهاء، وفقاً لرؤيتهم الكونية ومنظومتهم الأخلاقية، أن الإنسان ملزم بالتوفيق بين سلوكه في مختلف مجالات الحياة والشريعة الإسلامية!! بعد أن آمن بالله والإسلام والشريعة، وبعد أن عرف أنه مسؤول كونه عبداً لله تعالى عن امتثال أحكامه. واتخاذ الموقف العملي الذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة. (المصدر نفسه، ص45). وهذا تصور عبودي للإنسان وحقيقته الوجودية، يرفضه الاتجاه الأخلاقي في التشريع. ولو سلّمنا جدلاً بقوله، فهو صحيح بالنسبة للأحكام المعلومة، وأما المشكوكة والمجهولة فالأصل براءة الذمة. غير أن الصدر أدرك الإشكال، فأضاف: (واتخاذ الموقف العملي الذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة)، وهي رؤية كلامية مترشحة عن “مسلك حق الطاعة” الذي تبناه محمد باقر الصدر ونظّر له في كتبه وأبحاثه الأصولية. بيد أن الدليل العقلي عاجز عن إثباته، وحكم العقل ثابت بقبح العقاب بلا بيان. وليست تصورات مسلك حق الطاعة سوى صورة نمطية للإله، وقيم العبودية التي تسرّبت من خلال بعض التشريعات، وتحوّلت بمرور الأيام إلى قيم دينية. وسبق الكلام عن الموضوع.
إذاً، بداهات العقل الفقهي قائمة على وجود تشريعات لكل وقائع الحياة. بيّنت الشريعة بعضها وفوضت الفقيه صلاحية مواكبة الواقع من خلال عملية الاجتهاد واستنباط الأحكام من مصادرها في كل مسألة لم يرد فيها نص صريح (وتشمل جميع منطقة الفراغ التشريعي، التي تفتقر لوجود نص تشريعي). فلجأ الفقهاء إلى العقل مصدراً للتشريع بصيغ مختلفة أهمها الاجتهاد.
الاجتهاد لغة: “بذل الوسع لقيام بعمل”. جاء في غريب القرآن: (الاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة، يقال: جهدت رأيي. وأجهدته أتعبته بالفكر).
وأما اصطلاحاً فقد مر معنى الاجتهاد بمرحلتين. الاختلاف بينهما جوهري: إذ كان يعني في بداية تأسيس المصطلح، “الرأي”. ورأي الفقيه في المسألة الفقهية يعني اجتهاده الشخصي. وكان الاجتهاد أحد أدلة الفقيه لدى المذاهب السُنية. رغم أن الاجتهاد لا يورث سوى الظن، وعدم القطع بالحكم، الذي هو شرط في حجيته: (إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)، (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ). والاجتهاد بهذا المعنى تعبير عن قاعدة قررتها (مدرسة الرأي) مدرسة أبي حنيفة مفادها: (إن الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصاً يدل عليه في الكتاب والسُنة رجع إلى الاجتهاد بدلاً من النص). (المصدر السابق، ص56). فرأي الفقيه وفقاً لهذا المعنى يكون أحد مصادر التشريع ودليلاً من أدلة الفقه. فكما يستدل الفقيه بآية أو رواية على الحكم الشرعي، يستدل برأيه الاجتهادي فيما لا نص فيه. فيأتي دوره بعد فقدان النص في المسألة. وأيضاً كان الاجتهاد يرادف القياس في مرحلته الأولى. قال الشافعي، الذي يرادف بينهما: (ونحكم بالإجماع ثم القياس وهو أضعف من هذا، ولكنه منزلة ضرورة لأنه لا يحل القياس والخبر موجود). (الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر، ص 599). ومن هنا انفتح باب (القياس) و(الاستحسان) و(المصالح المرسلة) و(سد الذرائع).
وقد استنكر فقهاء الشيعة الاجتهاد بمعنى الرأي، بدءاً بعصر الإمام الصادق ومن جاء بعده حتى القرن السابع (المصدر نفسه). بيد أن الكلمة اكتسبت منذ عصر المحقق الحلي، أحد فقهاء المذهب الشيعي، وكتابه المعارج (676 هـ)، دلالة تضمنت بذل الجهد لاستنباط الحكم الشرعي من مصادره. فإذا قال الفقيه هذا اجتهادي “بمعنى الاستنباط” سيكون مسؤولاً عن أدلته ومصادره. (وكان الاجتهاد محددا بكل عملية استنباط لا تستند إلى ظواهر النصوص، ثم اتسعت لتشملها، بعد تطور أدوات بحوث الاستنباط، ثم أخذ المصطلح يشمل كل عملية يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العملي تجاه الشريعة). (المصدر نفسه). وهذه هي المرحلة الثانية من تطور دلالة المصطلح.
والحقيقة أن مؤاخذة الشيعة على الاجتهاد بمعنى الرأي ليست صائبة تماماً، فعندما يقول الفقيه “هذا اجتهادي”، “هذا رأيي”، لا يعني رأياً مزاجياً تعسفياً بعيداً عن النص وأجواء الشريعة ومقاصد التشريع، بل من وحي النصوص، وقيم الدين وثوابت التشريع ومقاصد الشريعة. يقارن بينها ويقيس بعضها إلى الآخر، ثم يفتي وفقها، ويفترض أيضاً أنه يفتي بعيداً عن ذاتياته. فمع فقدان الدليل اللفظي، آية أو رواية، يستدل على الحكم من خلال حس الفقاهة وخبرته الواسعة بالأدلة والأحكام، وبالتلي يستدل بالقرآن والسنة بشكل غير مباشر، يتمثّل روح الشريعة ومقاصد التشريع، في كل مسألة لم يرد فيها نص. فهو لا يجتهد مقابل النص ولا يتعارض حكمه مع أحكام الشريعة كي يؤاخذ على رأيه، بل يجتهد في وضوئهما. نعم قد يجتهد لتحديد فعلية الحكم الشرعي كما فعل الخليفة الثاني في عام المجاعة وسهم المؤلفة قلوبهم، على مرآى ومسمع من الصحابة ولم يعترضوا عليه. بيد أن المشكلة الأهم بالنسبة للاجتهاد بمعنى الرأي، هل كل مجتهد مصيب مع اختلاف الآراء في المسألة الواحدة. وكيف تمت معاجلة هذه المسألة الشائكة؟.
التخطئة والتصويب
سعى الفقهاء لحل هذه المشكلة عبر توظيف مقولة كلامية معروفة بعنوان: (التخطئة والتصويب)، لتحديد الموقف من قضية الاجتهاد، واختلاف الآراء: فهل كل مجتهد مصيب؟ وكيف يمكن تبرير ذلك؟. وماذا لو أدى الاجتهاد إلى اجتماع الضدين كاتصاف الفعل بالمصلحة عند مَن يفتي بوجوبه، واتصافه بالمفسدة عند مَن يفتي بحرمته؟. وسبب المشكلة تبني الفقهاء لمبدأ شمول الشريعة وتأكيدهم “ما من واقعة إلا ولله فيها حكم”. ولا يرد الإشكال على من ينفي شمول الشريعة لجميع وقائع الحياة كالاتجاه الأخلاقي، الذي تقتصر عنده الشريعة على الأحكام المنصوص عليها قرآنياً. ثم يأخذ العقل دوره في التشريع وفق الشروط المتقدمة. وأحكامه ستكون بشرية وضعية، تستفيد من نصوص الشريعة وقيم الدين والأخلاق وتراكم تجارب التشريع، بما يحقق مصلحة الفرد والمجتمع والدولة، ويبعث على الأمن والاستقرار وتسوية الخلافات وإحقاق الحق. أي التشريع من أجل الإنسان ومصالحه الشخصية والمجتمعية.
والسؤال هل كل مجتهد مصيب في اجتهاده؟ وهل كلا الحكمين المختلفين الواردين على موضوع واحد من جهة واحدة مصيبين، أم لا بدّ من خطأ أحدهما؟. وكيف نضمن عدم وقوع التضاد بينها. وقد انقسم الفقهاء حول هذه المسألة إلى مصوّبة ومخطّئة. فما المراد بالتخطئة والتصويب؟
التخطئة: تعني إمكانية عدم تطابق ما توصل إليه المجتهد مع الواقع. وبشكل أوضح: يقول أصحاب هذا الرأي: إن لله تعالى حكماً قد يؤدي إليه الاجتهاد، وقد لا يؤدي. وأن الحكم الشرعي واحد واقعاً، يصيبه من يصيبه من المجتهدين ويخطئه من يخطئه منهم. ويضيف أصحاب هذا الرأي: الأحكام وإن كانت أموراً اعتبارية إلاّ أنّ لهذه الاعتبارات مناشئ واقعية. مادامت الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، مثل الحج والصلاة والصوم، وحينئذ لو صح أن تكون الصلاة واجبة ومحرمة لكان معنى ذلك أنّ الصلاة في الوقت التي هي ذات مصلحة هي ذات مفسدة، وهذا هو اجتماع الضدين المحال. (مجلة الاجتهاد العدد: 28 – فبراير – 2018م، والكلام للمجتهد الشيعي الكبير الخوئي).
التصويب: يعني، صوابية أحكام الفقيه. وأن لله أحكاماً بعدد آراء المجتهدين، فما يؤدي إليه الاجتهاد فهو حكمه. وليس هناك واقع غير ما أدى اليه النظر. وقد ادعى علماء المذاهب الاشاعرة التصويب في الاجتهاد. بمعنى أدق، أن أصحاب هذا الرأي، يعتقدون: ليس هناك حكم واقعي، بل أحكام الله بعدد آراء الفقهاء. فمن حكم بوجوب الصلاة مثلاً حكمه مصيب للواقع، ومن حكم بحرمتها حكمه مصيب للواقع، وليس هناك حكم واقعي كي يقع التضاد بينهما، كما يذهب لذلك المخطئة. إذاً ليست ثمة مشكلة على القول بالتصويب، وأن أحكام الفقهاء جميعها صائبة، وأن الله يجعل حكماً وفقاً لما توصل له اجتهاد المجتهد.
هذا هو المسار التاريخي لمصطلح الاجتهاد فهو إما اجتهاد بمعنى الرأي أو اجتهاد بمعنى استنباط الحكم الشرعي من أدلته. ثم غُلق باب الاجتهاد، وانحصر التقليد بأئمة الفقه الأربعة: أبو حنيفة، مالك، الشافعي، أحمد بن حنبل. وبعض يضيف لهم: الطبري، الليث بن سعد، والأوزاعي. هذا لدى السُنة، وأما لدى الشيعة فالاجتهاد حركة استدلالية مستمرة لمواكبة الواقع، رغم الموقف المتصلب للمذهب الإخباري – الشيعي، الرافض للاجتهاد، مكتفياً بالروايات.
وبالتالي: الاجتهاد نشاط عقلي، وفق قواعد ومبادئ، ينتهي فيها المجتهد إلى رأي في المسألة، فما هي تداعياته، وما هو مبرر نسبة اجتهاد الفقيه إلى الله تعالى؟.
***
ماجد الغرباوي – باحث بالفكر الديني.
*المصدر: التنويري.