قديما، وفي أوَّل فتنة سياسيَّة واجهت المسلمين في تاريخهم، وتداعت فيها الفرق إلى تحكيم القرآن، ظهرت المقولة المشهورة: “القرآن لا ينطق إنّما يتكلَّم به الرجال” في إشارة واضحة إلى أنَّ عقول الناس ومستويات فهمهم ومعرفتهم محدّد أساسي في إدراك المعنى، والتعبير عنه. واليوم عندما كثر الحديث عن الإسلام والتيّارات الممثّلة له على اختلاف مشاربها وميولها وتوجّهاتها، إلى درجة الالتباس الذي قد يحدث لدى الكثيرين في فهم “الإسلام الحقيقي” سواء في الداخل أو الخارج، ليس لنا سوى أن نسلم وانطلاقا من المقولة السابقة، بأن الإسلام لا يمكن أن يقدّم مجرداً عن الإطار الفكري والثقافي لممثّليه على أرض الواقع بغض النظر عن مدى قربهم أو بعدهم من نص وجوهر دينهم على المستوى النظري. وقد بدأ الغرب في السنوات الأخيرة يميِّز في الإسلام بين اتّجاهات ممثّليه وتيّاراتهم، وأبرز مثال على ذلك، ما حدث في ظلّ ثورات الربيع العربي، وما أعقبها من وصول الإسلاميّين، حيث ظهر القبول الواضح الذي حظي به إسلاميّو تونس محلّيّاً ودوليّاً لدى وصولهم إلى السلطة، فيما يبدو أنَّ أطرافاً أساسيَّة من الغرب ومن الإسلاميّين قامت بمراجعات مكّنت من تحقيق هذا التوافق، مقابل الترقّب الحذر تجاه إسلاميي مصر محلّيّاً ودوليّا.
بالنسبة لإسلاميي تونس، ساهمت اضطهادات النظام السابق لهم، وتوالي المحن السياسيَّة عليهم، في القيام بمراجعات أفرزت اجتهادات أكثر عقلانيَّة وأكثر اعتدالا، كما ساهم انتقال قائد النهضة للعيش في الغرب، في تجديد الفهم الديني انطلاقا من الرؤية المقاصديَّة للإسلام التي تحيل إلى القبول بتوافقات كثيرة مع المخالف عقديّا ضمن المشترك الإنساني.
تجربة الغرب في الصراع مع الإرهاب هي الأخرى قادته إلى اعتبار الإسلاميّين المعتدلين أهم حصانة وضمانة ضدّ التطرّف والتشدُّد، وهو ما دأبت الأحزاب الإسلاميَّة بدورها على أن تقدّم نفسها به في الآونة الأخيرة، خاصَّة في أجواء الربيع العربي وانبلاج بارقة الأمل في تسلّم السلطة، لكن الاختيار الحقيقي هو في ما بعد تسلّم السلطة، الممارسة العمليَّة للسلطة من طرف الإسلاميّين في هذه الأجواء المشحونة، وضمن هذا الحراك الاجتماعي الذي لا يكاد يهدأ، وفي إطار مناخ دولي مترقّب، سيحدّد بدرجة كبيرة مفهوم الإسلام لعقود مقبلة.
*المصدر: التنويري.