لا يمكننا بالتأكيد إنكار أهمية التربية باعتبارها عملية مواكبة لكل فرد منذ ولادته، وطبعا فالهدف الأسمى منها هو توارث ونقل الصفات والعادات الخيرة، والتجاوز عن الصفات الخبيثة التي تلحق الأذى بالمجتمع بصفة عامة، والذات بصفة خاصة، ويعتبر جون لوك من أهم الفلاسفة الذين لم يفارقوا الحياة إلا بعد تخليدهم لبصمة خاصة لا يمكن التغافل عنها فيما يخص عالم فلسفة التربية، خاصة من خلال كتابه الشهير “آراء في التربية” الذي صدر في السنوات الأخيرة من حياته، فقد كان له الفضل الكبير في تطوير مفهوم فلسفة التربية خلال القرن الذي عاصره، فقد وضع دعامات وأسس تعليمية تنهج للمربي أو المعلم مسارا واضحا لتربية وتعليم الطفل، وبلور المفهوم الجوهري لفلسفة التربية عن طريق إضافة عنصر هام حول فطرة المتعلم والذي هو “الصفحة البيضاء”، والذي يفيد أن عقل الإنسان فور ولادته يكون خال من أي فكرة تماما وتنقش فيه الأفكار والتجارب تدريجيا من خلال المحيط الذي ينشأ فيه، والمبادئ التي تغرس فينا عن طريق المجتمع، فماهي الأسس الثلاث التي تقوم عليها فلسفة البريطاني جون لوك التربوية؟ وعلى ماذا تقوم أنواع التربية هذه؟
وخلال هذا المقال سنحاول التعرف على هذه الأنواع الثلاث للتربية التي حددها جون لوك خلال كتابه “آراء في التربية”، حسب ترتيبها:
أ- التربية البدنية : ففي فلسفة جون لوك التربوية كانت التربية البدنية أو الجسمية أولى أنواع التربية ومن بين أهمها بالنسبة له، ففي نظره أن أهم ما يمكن للإنسان أن يملكه هو الصحة الجيدة، وقد استهل كتابه “آراء في التربية” بالعبارة الشهيرة في حياتنا اليومية، التي لم يكن أغلب الناس يعلمون أن صاحبها هو الأول هو جون لوك وهي :«العقل السليم في الجسم السليم، قول قصير، لكنه وصف تام لحياة سعيدة في هذا العالم»[1].
فحسب ما ذكره في عبارته هذه، فالجسم الصحي الخالي من الأمراض، هو أفضل ما يمكن أن تضمنه لطفلك، والذي بالتأكيد أنه لا يأتي من فراغ بل بعد نظام صحي، حيث لا يجب أن نقدم فيه للطفل التوابل واللحوم إلا حين بلوغه ثلاث سنوات على الأقل، كما أنه يجدر بنا أن نعود الطفل الانتظام على ممارسة الرياضة والنوم الجيد، فقد أكد على أهمية النوم من خلال:«لا يوجد شيء يساهم أكثر في نمو صحة الأطفال أكثر من النوم. كل ما يجب تنظيمه هو متى يجب أن يناموا خلال الساعات الأربعة والعشرين في اليوم».
فالنوم في سيرورة نمو الطفل هو أكثر ما يساعده على بناء صحة جيدة والحفاظ عليها، ويساهم أيضا في تطوره العقلي والجسدي.
وأكد أيضا على أهمية الفواكه بالأخص التفاح والإجاص، من خلال قوله: «التفاح والإجاص ايضا عندما يكونان ناضجين تماما وتم جمعهما لبعض الوقت…يمكن تناولهما في أي وقت وبكميات كبيرة نسبيا، خاصة التفاح…بالإضافة لذلك، أعتقد أن الفواكه المجففة بدون سكر صحية جدا، لكن يجب تجنب الحلويات بجميع أنواعها».[3]
فمنه يمكننا التأكد أن لوك ضد أن يستهلك السكر بالنسبة للأطفال كونه غير صحي لصغر سنهم، لكنه يحفز على استهلاك الفواكه ذات السكر الطبيعي شريطة نضوجها تماما وخاصة الإجاص والتفاح، وأيضا الفواكه المجففة طبيعيا دون أي سكر مضاف.
والذي دفعه أن يقر أن التربية البدنية مهمة لصحة الطفل هو كونه يرى أن أساس السعادة هو الاهتمام بصحة البدن فهو يقول: «مدى أهمية الاهتمام بصحة البدن من أجل أعمالنا وسعادتنا، ومن أجل بناء جيد لتجاوز كل الصعوبات والتعب».[4]
بمعنى أن السعادة تكمن في بناء جيد لصحتنا البدنية، فعندما تكون شخصا مهتما بنظامك الغذائي وعدد ساعات نومك وبعض التمارين الرياضية، فهذا يجنبك العديد من الأمراض منها النفسية التي كنت ستعاني منها لولا ذلك.
ب-التربية الأخلاقية: فأساس هذا النوع من التربية عند جون لوك هو الفضيلة، والتي بها تتم تربية الطفل على كبح رغباته والتحكم بها وأن يكون عقلانيا في اختياراته، لأن الرغبات الشخصية تجعله يميل في اتجاهات عكس ما يجب أن يربى عليه الطفل، فالفضيلة في علاقتها مع التربية لها دور عميق لأنها تساعد على بناء شخصية الطفل، من خلال تعزيز وتقوية أخلاقه، ولكن لن تنجح هذه التربية على الفضيلة إلا من خلال تحفيز وتشجيع الأطفال باحترامهم وعدم تحقيرهم، فدائما ما نجد الشخص الذي يكون مشبعا بالاحترام والتحفيز، يميل دائما نحو الحق لأن تربيته لا تقوم على القمع والاحتقار، بل على الاستماع والاحترام من طرف الأبوين، هذا ما يساعد على تعزيز ثقته بنفسه، وهذا ما يبرهن لنا أهمية حضور الفضائل الأخلاقية في شخصية الطفل منذ تربيته الأولى، عكس الأطفال الذين تكونوا في أوساط تعتبر القمع والاحتقار هو الطريقة الأمثل للتربية نجدهم لا يستطيعون التعبير عن أي شيء بالطريقة الصحيحة كما أن أغلبهم يكون ميالا للكذب، لأنهم دائما خائفين من ردود أفعال والديهم في أبسط الأمور، لكن لوك لا يحبذ ذلك بل ينصح بأن تغرس في نفس الطفل أسس الفضيلة، وزرع حب الحقيقة في نفسه وجعله يفضلها على النفاق والمصالح والاعتراف بأخطائه والتوازن في عواطفه منذ أوائل تربيته، فالفضائل تساهم في أن يتعود الطفل على التسامح مع نفسه ومع الاخرين.
فيمكن اعتبار التربية عند جون لوك انها تدريب من أجل تكوين العادات الحسنة والأخلاق الحميدة، وذلك عن طريق الفضيلة التي تروض الرغبات الشخصية للإنسان، ويجب أن نربي الطفل على أنه لا يمكن أن على كل ما نحبه فقط لأننا أردناه، بل يجب أن نحصل على ما هو مفيد لنا ولصالحنا بالرغم من أنه في بعض الأحيان لن نكون محبين له، وعندما يتعلم الطفل كل هذا، فهومن خلال ذلك يتعلم الحكمة ويكون أخلاقا حميدة منذ مهده، ويتعلم كيف يستخدم فكره جيدا، ويستفيد من خبرات وتجارب الآباء اللذين يكونون هم أساس تربيتهم، ولا يمكن أن يتم اعداد طفل ليكون عقلانيا وحكيما، إلا من خلال تعويده على تكوين الأفكار الصحيحة وأن يسمو بفكره إلى مستوى الأفكار القيمة وان يتعود على التشبع بالفضيلة وإنكار رغباته الذاتية، وهذا ما تطرق له في كتابه “آراء في التربية” في: «إن الفضيلة هي النقطة المباشرة التي يجب أن تستهدفها التربية». [5]
وأيضا يرى أنه يجب التجاوز عن العقاب الجسدي أكبر قدر ممكن، كونه غير فعال في تكوين شخصية الطفل، فالعقاب الجسدي إن لم تكن له أضرار جسدية ظاهرة، فأكيد أنه ستكون له أضرار نفسية جانبية على صحة الطفل والتي ليست في صالحه، ونتائجها ستظهر سواء على المدى القريب أو البعيد، فذلك النوع من التربية العنيفة لا يخلق سوى احتقار الطفل لذاته وخسارة ثقته في نفسه وفي محيطه، مما يجعله غير قادر على التصرف على سجيته، كونه سيبقى أسيرا لمخاوفه من والديه والمجتمع، وهذا ما سينتج عنه كبح قدراته ومهاراته وستبقى دفينة في داخله، ولن يستطيع التعبير عنها فالتربية السليمة لا علاقة لها بالعقاب الجسدي، لأنها لا تصون براءة الأطفال بل تقتلها وتقمع حريتهم ولا تحبذهم على إخراج ما هو أصيل وطبيعي في ذواتهم، فالطفل الذي تعود على التعرض للعنف الجسدي من محيطه يربى تلقائيا على اللجوء لحلول بعيدة عن مبادئ الصدق والأمانة والصبر اثناء وقوعه في مشكلة ما، لأنه دائما يعاني من الخوف الداخلي من قول الحقيقة رغم أنها في بعض الأحيان تكون عادية وطبيعية، فعلى الطفل منذ صغره أن يتعلم تقبل أوامر والديه ومعلمه دون اللجوء كحل للضرب، ففي فلسفة جون لوك التربوية لا ينصح أبدا باللجوء للعقوبات الجسدية فهو يرفضها رفضا قاطعا، لأننا يجب أن نحاول الابتعاد على تخويف الطفل أثناء تربيته، ويجب تجنب القسوة الزائدة التي لا تجدي نفعا، واعتماد في مقابلها التحفيز والمدح المادي والمعنوي، وعند الضرورة فيكفي العقاب المعنوي والذي لا يمس بكرامة الطفل أو ينقص من قيمته، فمن خلال هذا النوع من التربية الايجابية تتأسس الفضيلة في ذوات الأطفال، وهي الشيء الأهم الذي يجب أن يكون لدى الطفل، وذلك من أجل تحريره لاكتشاف جوهره.
ج- التربية الفكرية : ما أكده لوك خلال هذا النوع من التربية هو أن :«عقل الطفل صفحة بيضاء تكتب فيها ما تشاء حسب الرغبة»[6]، أي أن كل ما يكتسبه الطفل بعد ولادته عبارة عن تجارب تأتي عن طريق الحواس وهي التي تملأ دماغه بالأفكار كون الحواس هي مصدر المعرفة عنده، وهي وسيلة التوصل إلى الحقائق من خلال الملاحظة والاستنتاج. كما أنه أراد الوصول من خلال هذا النوع من التربية أن يكون أفرادا يحملون معارف تطبيقية تساعدهم على مواجهة الواقع، لا فقط معارف نظرية تضيع للطفل سنينا ثمينة من حياته فقط ليتعلم لغة او لغتين، وأكد ذلك من خلال :«كيف يمكن لطفل ان يقيد لسبع، ثمان، او عشر من افضل سنوات حياته ليكتسب لغة او لغتين». [7]
ويقول أيضا :«ربما تستغربون وضعي التعليم في الأخير وخاصة اذا ما أخبرتك بأنه أقل قسم من اقسام التربية، وقد يبدو هذا الأمر غريبا خاصة من رجل قضى حياته بين الكتب».[8]
هذا لأنه خلال حديثه عن أنواع التربية في كتابه “آراء في التربية”، قام أولا بالحديث عن التربية البدنية ثم الأخلاقية ثم آخر ما تطرق إليه هو التربية الفكرية، فهو لا يعتبر التربية هي نفسها التعليم، بل يعتبر التربية شق قائم بذاته، أما التعليم فهو فرع من التربية الفكرية، فالسبب وراء وضعه التعليم في آخر أنواع التربية هو كونه ضد التعلمات التي تلقن للطفل والتي تكون بعيدة حياته الواقعية، فبالنسبة له أن التعليم لا يجب أن يقتصر على السطحيات، بل على العلم الذي يقوم على المهارات التطبيقية، وأي نوع من التعلمات التي تمكن الطفل من الاستفادة منها فهو يرى أن كل طفل يجب أن يمتلك على الأقل مهارة واحدة.
ويرى أيضا أن :«القراءة والكتابة والتعلم، أنا أعتبرها ضرورية، ولكنها ليست النشاط الرئيسي بالضرورة»[9]، وهذا ما يؤكد لنا أنه كان ضد الثقافة السطحية، التي لا تعلمك كيف تواجه الواقع، فجون لوك شجع على تعليم الطفل تعلمات جوهرية ذات نفع مباشر في الواقع المعاش، كما أنه يعتبر أن العلوم التطبيقية التي تجهز الانسان الى التعامل مع الحياة، ليست فقط مهن ومعارف بل هي في نفس الوقت تخلق المتعة لدى الفرد في تعلمها، وأيضا تعود بالنفع صحيا ومعرفيا.
وخلاصة لما سبق، ففيما يخص التربية عند جون لوك نجده حاول في سيرورة نمو الطفل تحقيق كل من التربية البدنية، الأخلاقية والفكرية، حيث اهتم في كل واحدة منهم على أهم ما يجب التركيز عليه في تربية الطفل سواء فيما يخص الاهتمام بالصحة البدنية من ناحية الأكل، الملبس والنوم، أو التركيز على تعليم الطفل كل ما يخص الفضائل وتحفيزه من أجل مساعدته على بناء شخصية قوية وحكيمة قادرة على النقد ولديها رغبة في البحث عن الحقيقة وهذا فيما يخص التربية الأخلاقية، أما التربية الفكرية فركز خلالها على تعليم الحرف والمهن التطبيقية للطفل، وذلك بسبب نزعته التجريبية التي تشير إلى أن التعلم يأتي من التجربة و الحواس، كما أنه ركز على وجوب تربية الطفل على التشجيع والتحفيز ليتمكن من الإبداع و ينشأ على حرية الفكر والمعتقد.
[1].LOCKE JOHN,”SOME THOUGHTS CONCERNING EDUCATION”, BOSTON, PUBLISHED BY GRAY AND BOWEN, 1830, «A sound mind in a sound body, is a short but full description of a happy state in this world ». p.33
[2] . LOCKE JOHN,”SOME THOUGHTS CONCERNING EDUCATION”, BOSTON, PUBLISHED BY GRAY AND BOWEN, 1830,«Nothing contributing more to the growth and health of children than sleep. All that is to be regulated in it is, in what part of the twenty-four hours they should take it». P.50.
[3] .«Apples and pears too,which are thorough ripe, and have been gathered I think may be safely eaten at any time , and in pretty large quantities, especially apples , which never did anyone hurt …fruit also dried without sugar I think very wholesome , but sweetmeats of all kinds are to be avoided». p.49
[4].«How necessary health is to our business and happiness, and how requisite a strong constitution , able to endure hardships and fatigue». p.34.
[5].LOCKE JOHN,”SOME THOUGHTS CONCERNING EDUCATION”, BOSTON, PUBLISHED BY GRAY AND BOWEN, 1830, «It’s virtue then, direct virtue , which is hard and value part to be aimed at virtue education». p.90
[6]. LOCKE JOHN,”SOME THOUGHTS CONCERNING EDUCATION”, BOSTON, PUBLISHED BY GRAY AND BOWEN, 1830 «I considered only as white paper , or wax , to be moulded and fashioned as one pleases». p.257
[7] .«How else is it possible , that a child should be chained to the oar seven, eight or ten of the best years of his life , to get a language or two». p.185.
[8] .«You will wonder, that I put learning last , especially if I tell you I think it is the last part, this may seem strange in the mouth of a bookish man ». p.185.
[9] . LOCKE JOHN,”SOME THOUGHTS CONCERNING EDUCATION”, BOSTON, PUBLISHED BY GRAY AND BOWEN, 1830, «Reading and writing , and learning , I allow to be necessary , but yet not the chief business ». P.186
*المصدر: التنويري.