صدر عن الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب كتاب يستحقّ القراءة في عصر الكورونا للمؤرِّخ المصري النابه الدكتور ناصر إبراهيم أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة القاهرة الكتاب عنوانه( الأوبئة والأزمات الاجتماعيَّة في مصر) يركِّز الكتاب على أزمات القرن السابع عشر ميلاديا، وينطلق في رأي الدكتور رؤوف عباس المؤرِّخ العظيم والذي كتب مقدّمة للكتاب قبل رحيله من أنَّ التاريخ الاجتماعي أحدث ميادين البحث في التاريخ عمرا، إذ بدأ الاهتمام به في الغرب منذ العشرينيات من هذا القرن، واستقرَّت مناهجه مع نهاية الحرب العالميَّة الثانية، وتشعَّبت مناحي الدراسة فيه باختلاف المدارس الفكريَّة ذات الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي. وتأخَّر اهتمام المؤرِّخين المصريين بالتاريخ الاجتماعي حتى بدايات النصف الثاني من هذا القرن، وما لبثوا أن اهتمّوا به في الستينات اهتماما خاصّا، تمثَّل في عددٍ من الأطروحات الجامعيَّة والكتب التي وضعت التاريخ الاجتماعي على خريطة البحث التاريخي في مصر والعالم العربي.
وكان الدكتور رؤوف عباس من بين جيل الستينات الذي اجتذبه التاريخ الاجتماعي، فساهم في دراسته، ثم وجَّه تلاميذه إلى ارتياد هذا الحقل من الدراسات التاريخيَّة، فتمَّت تغطية الكثير من جوانب تاريخ مصر الاجتماعي في القرن التاسع عشر في عدد من الأطروحات الجامعيَّة التي أشرف عليها بكليَّة الآداب جامعة القاهرة. ثم عنَّ له أن يلتمس جذور مصر الحديثة في الحقبة العثمانيَّة من تاريخها، تلك الحقبة التي لم تنل من اهتمام الدارسين إلا القليل، فوجَّه بعض تلاميذه إلى اختيار موضوعات أطروحاتهم في بعض الظواهر الاجتماعيَّة في ذلك العصر، وكان الأستاذ ناصر إبراهيم من أنجب أولئك التلاميذ، وجاءت دراسته للأوبئة والمجاعات في مصر في القرن السابع عشر أو قل- إن شئت- الأزمات الاجتماعيَّة في ذلك القرن، مساهمة جادَّة في ميدان التاريخ الاجتماعي وفي دراسة المجتمع المصري في العصر العثماني معا.
لقد كان الوباء والجوع وجهان لعملة رديئة واحدة عانت منها مصر بين الحين والآخر على مرِّ تاريخها الطويل، ولكنها كانت أكثر شيوعاً عندما تعجز السلطة عن مواجهة الأزمات لضعف فيها، أو صراع داخلها، أو لسقوط هيبتها، وقلّة حيلتها. وكان مثار الأزمات دائما يعود إلى حدوث ندرة مفاجئة في الموارد، تؤثِّر على الغذاء الضرورى المتاح بالأسواق، حدثت- في الغالب- لعوامل طبيعيَّة أو بشريَّة، وغالبا ما كانت تحلّ المجاعة حتى تجرّ في أذيالها الوباء، أو يحّل الوباء حتى يعصف بقوّة العمل فيشحّ الغذاء وتقع المجاعة.
فإذا قُدِّرَ للبلاد أن يتولَّى زمام أمورها حاكم همام، كان بالإمكان احتواء الأزمة ومعالجة آثارها، أما إذا كانت الإدارة عاجزة عن إدارة الأزمة، فالهلاك والخراب، وتدهور الأحوال، نتيجة اتِّساع دائرة الأزمة زمانا ومكانا، واقع لا محالة.
وقد عرفت مصر التجربتين: احتواء الأزمة، وانقلاب زمامها منذ فجر تاريخها حتى مشارف العصر الحديث، ولعلَّ مرد ذلك إلى غياب الخدمات العامَّة- ما خلا حفظ الأمن وإقامة العدل- من بين مهام السلطة في مصر.
كانت الدولة تهتمّ بتنظيم الري ورعاية النيل المبارك، لارتباط موارد الخزانة بما يجري به النهر من خير، وللعلاقة الوثيقة بين التحكم في نظام الرى وإحكام القبضة على الناس، وهو لا يتحقَّق إلا إذا كانت الدولة قادرة على إحصاء الموارد، وتأمين المنتجين على حياتهم وأموالهم، وإقامة العدل بينهم، أما ما عدا ذلك من أمور تتَّصل بما يحتاج إليه الناس من خدمات فقد أسقطته الدولة من اعتبارها، فلا تهتمّ بتوفير خدمات كالتعليم أو العلاج أو غير ذلك من سبل الرعاية الصحيَّة والاجتماعيَّة، وكان الاهتمام بمراقبة الأسواق يكاد لا يتجاوز أسوار المدن، ولا يمتدّ إلى الريف الذى أُسِقطَ دائما من الحساب.
ولا يعني ذلك أن مصر افتقدت تلك الخدمات الضروريَّة التى لا تستقيم بدونها حياة الناس، بل كان بعضها متاحا من خلال المؤسَّسة الدينيَّة على مرِّ تاريخ مصر الضارب بجذوره في أعماق الزمن، وجاءت نفقات تلك الخدمات مما تقدّمه الدولة والموسرون من الناس من هبات وعطايا، أو من خلال أعمال الخير التي يقيمها الأثرياء تقرّبا وزلفى إلى الله أو طلباً للجاه حسبما تكون دوافعهم لعمل الخير. وتلك الخدمات التعليميَّة والصحيَّة والاجتماعيَّة كانت محدودة، محبوسة –غالباً- داخل أسوار المدن، لا تصل إلى الريف وأهله، أو تصل إلى البعض ولا تتوفَّر لأغلب الناس.
وهكذا كانت الأزمات الاجتماعيَّة كثيرة الحدوث، في العصور الوسطى على وجه الخصوص، ولعل تاريخ مصر في عصر سلاطين المماليك وخاصَّة النصف الثانى من ذلك العصر – أكثر عصور تاريخ مصر نصيبا من الأزمات الاجتماعيَّة التى يجلبها الوباء والجوع معا أو يسبق أحدهما الآخر، حسبما تفعل عوامل الأزمة فعلها.
ودراسة الأزمات الاجتماعيَّة ليس مبعثها مزاج سوداوي، يدفع الباحث إلى تجنّب الأحداث ذات الأضواء الباهرة، ليضرب في دياجير الظلام بحثا عن الأحداث الكئيبة المقبضة، وخاصَّة عندما تقع العين على ما تفيض به المصادر – من وصف تقشعِّر له الأبدان، وتتفتَّت الأكباد، وتشمئز النفوس، في حالة المجاعة وحالة الوباء، ممّا لا يخلو من مبالغات صارخة، تعكس ميل الكاتب – في الغالب- إلى تجسيد هول الأزمة التى سمع به أمام ناظري قارئه. ليس ذلك دافع الباحث لدراسة الأزمة، ولكن دراسة الأزمة الاجتماعيَّة تكشف بنيان المجتمع؛ مواطن القوَّة ومواطن الضعف فيه، وما ارتبط بذلك البنيان من أسس اقتصاديَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة وسياسيَّة، فالمجتمع كائن عضوى تكشف حالة المرض عن مدى كفاءة الأعضاء التى تكوِّن بدنه وأحشاءه معاً، وتحليل حالة المرض (أو تشخيصها) يحتاج إلى باحث من طراز فريد، يميِّز بين الصحَّة والمرض، ويضع يده على موضع الداء، ويحدِّد بدقَّة أسبابه، وطرق الوقاية منه.
والدكتور ناصر أحمد إبراهيم ينتمي إلى ذلك النوع النادر من الباحثين، أقبل على دراسة هذا الموضوع الصعب بعزيمة لا تعرف الكلل، فراح ينقِّب في الوثائق التاريخيَّة، وخاصَّة سجلات المحكمة الشرعيَّة عن مادَّة بحثه، فكان كمن يبحث عن ضالته في خضم زحم كيوم الحشر، إذ تحفل السجلات بدقائق وقائع الحياة اليوميَّة بشتَّى جوانبها، ويحتاج الباحث إلى التحلي بالصبر والجلد وأن تكون له يقظة الصيَّاد الماهر وبراعته، حتى يضع يده على ما يفيد دراسته، كذلك أقبل الباحث على مخطوطات القرن السابع عشر، يلتقط من بينها كتابات المعاصرين للأزمات الاجتماعيَّة أو مَنْ كتبوا عن أزمات قريبة العهد بهم، واستطاع أن يستخرج من بطون المخطوطات الطبيَّة معلومات بالغة الأهميَّة عن عادات الناس وتقاليدهم ومعتقداتهم إضافة إلى طرقهم في التداوي واتقاء المرض، وهو مصدر لم يسبقه إلى استخدامه غيره من الباحثين. ولم يغفل كتابات الرحَّالة الأجانب الذين مرّوا بمصر أو عاشوا فيها ردحا من الزمان ووصفوا الأزمات التي تصادف وجودهم عند وقوعها.
تمثِّل “المجاعات والأوبئة” لبّ الأزمات الاجتماعيَّة كما يذكر المؤلف؛ وذلك بوصفها أخطر ظاهرة اجتماعيَّة اقتصاديَّة هدَّدت معظم الناس باللابقاء. وبقدر ما تختلف طبيعة ونوعيَّة الأزمات الاجتماعيَّة من مجتمع لآخر، بقدر ما تتغير داخل المجتمع الواحد. فإذا كانت المجاعات والأوبئة قد تلاشت تقريباً – كظاهرة – من واقع الحياة اليوميَّة في الوقت الحاضر، إلا أنها مثَّلت محوراً أساسياً لمعظم الأزمات الاجتماعيَّة التي واجهت المجتمع المصري في فترة ما قبل القرن التاسع عشر.
ويتميّز التاريخ المصري بامتلاكه لأقدم وثيقة عنها، والمتمثّلة في “مسلة الجوع” التى تعود إلى عهد “زوسر” في الدولة القديمة، وكذلك في قصّة “النبي يوسف” وبقراته السبع العجاف، يأكلن سبعا سمانا؛ حيث كانت الزراعة تمثّل عماد الاقتصاد المصري، ومن ثم فقد كان تواتر سلسلة طويلة من المجاعات والأوبئة يمثِّل شيئا مستمراً في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي.
ويعدّ العصر العثماني أحد الحلقات الرئيسيَّة لهذه الظاهرة، والتي تتناول هذه الدراسة تحليلها وكشف أبعادها المختلفة في تاريخ مصر في القرن السابع عشر الذى لم يحظَ بدراسة مستقلَّة، ليس في مجال الأوبئة والكوارث الطبيعيَّة فحسب، بل في شتَّى ألوان الكتابة في التاريخ الاجتماعي لهذا القرن الذي يعدّ من أكثر الحقب في تاريخ مصر غموضا؛ بسبب ندرة الدراسات عن هذه الحقبة، بالإضافة إلى التعميمات الواسعة التى غرق فيها الكثيرون ممَّن اتَّخذوا في دراساتهم فترة الثلاثة قرون كإطار تاريخي، ممَّا أدَّى إلى عدم وضع القرن السابع عشر في سياق واضح بالنسبة للقرن السادس عشر أو الثامن عشر. ومن هذه الزاوية، يعدّ المحدّد الزمني لدراسة المجاعات والأوبئة في القرن السابع عشر محاولة متواضعة؛ لمعرفة هذه الحقبة التاريخيَّة. أيضا تهدف الدراسة إلى توضيح جانب هام من علاقة الفرد بالدولة أو حقيقة الدور الذي تؤدّيه السلطة في المجتمع، كما يحاول البحث تتبّع ملامح التطوّر الديموغرافي، ورصد بعض الظواهر الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي ارتبطت بوقوع المجاعات والأوبئة، إضافة إلى الوقوف على الكيفيَّة التى حدثت بها عوامل التغير التي أدَّت إلى أن يشهد المجتمع المصري نوع من التدهور النسبي خلال الأربعين سنة الأولى من القرن الثامن عشر.
ودراسة هذا الجانب المهم من الأزمات الاجتماعيَّة يتطلَّب بالضرورة الحصول على بيانات دقيقة عن نفقات المعيشة، وهو ما لم يكن متاحاً، ولكن في ضوء البيانات المشتّتة لسجلات المحاكم الشرعيَّة أمكننا بناء احصائيات، أفادت البحث في تقديم محاولة لاختبار مستوى خطّ الفقر؛ وذلك لتحديد الكيفيَّة التى كان يتمّ بها التحوّل من مجرّد أزمة غلاء شديد إلى مجاعة ضارية وطاعون وأوبئة مختلفة.
وواجهت الدراسة صعوبة أخرى في الإلمام بأثر المجاعات والأوبئة على منحنيات التطوّر الديموغرافي، وما كانت تسبّبه من خلخلة سكانيَّة أو فراغات ديموغرافيَّة داخل المدن والقرى؛ وذلك بسبب عدم وجود سجلات للمواليد والوفيات ولتعداد السكان، وهو ما لم يعرف كنظام إلا في القرن التاسع عشر؛ حيث كان أوَّل تعداد رسمي في عام 1848، ومن ثم اضطررنا إلى الاعتماد على الأرقام المتاحة، سواء في كتاب “وصف مصر”؛ حيث أجريَتْ محاولة في زمن الحملة الفرنسيَّة لتعداد السكان، أو من خلال الحوليات التاريخيَّة المعاصرة وكتابات الرحالة، وهي الأدبيات التي اهتمَّت بتسجيل عدد ضحايا المجاعات والأوبئة. وإذا كانت جميع هذه الأرقام التى رصدتها تلك الكتابات لم تخرج عن كونها مجرد انطباعات، بُولِغ في أكثرها، إلا أنها تبقى في النهاية ذات دلالة هامة. وبتحليل تلك الأرقام ومقارنتها ببعضها البعض يمكن الخروج بدلالات معيّنة حول أثر المجاعات والأوبئة على حركة التطوّر الديموغرافي للمجتمع المصري في تلك الفترة.
وقد اعتمدت الدراسة على مصادر متعدّدة، يأتي في مقدّمتها سجلات “المحاكم الشرعيَّة” التي تعدّ من أهم وأغنى الأرشيفات التاريخيَّة رصداً لوقائع الحياة اليوميَّة، بمختلف مظاهرها الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والعمرانيَّة والتجاريَّة والتي تنفي الاعتقاد الشائع بأننا لا نمتلك مصادر أصيلة عن تاريخنا الاجتماعي والاقتصادي قبل القرن التاسع عشر.
أيضا اعتمدت الدراسة على المصادر التاريخيَّة، سواء التى حُقِّقت ونُشِرَت أو تلك التى ما زالت مخطوطات، كذلك أفادتني كثيراً “المخطوطات الطبيَّة” في توضيح أنواع الطواعين وخصائص وأعراض كل منها وطرائق الشفاء المعروفة آنذاك. وجاءت كتابات الرحالة والقناصل الأوربيّين على درجة كبيرة من الأهميَّة، حيث قدّمت ملاحظات هامة حول طبيعة العدوى الطاعونيَّة ودورتها الزمنيَّة وعوامل انتشارها، وأهم البؤر المصدِّرة للعدوى، وتباين درجات قوّتها وأهم الأسباب التي تؤدِّي إلى توقفها عن ممارسة نشاطها المدمّر. وبالإضافة إلى هذه المصادر، فقد أفادت الدراسة من معظم الدراسات والأبحاث التاريخيَّة الحديثة التي أعانت الباحث في تحليل كثير من القضايا التي ناقشتها الدراسة. الكتاب يصعب اختصاره لأهميَّة المعلومات والتحليلات الواردة به وهو يستحقّ القراءة اذ حينما ستبدأ فيه لن تتركه إلا إذا انتهيت منه.
*المصدر: التنويري.