ازدواجيَّة الحركات الإسلاميَّة في دائرة التخبّط السياسي
في دائرة الاعتدال تنتظم عمليَّة المراجعة، ويشتغل العقل الحركي “عقل العصبة” بالمفاهيم المبدئيَّة الجديدة “المشاركة والتفاعل”، والمفردات الأصوليَّة الجديدة “المصالح والمفاسد وفقه الأولويّات”. وتنتقل الحركة الإسلاميَّة من تبنّي المفاهيم العامَّة ذات الصلة بالنظرة إلى الواقع والمجتمع إلى المفاهيم الخاصَّة ذات الصلة بالسياسة والمؤسّسات، فينتقل مفهوم التعايش والتفاعل مع المجتمع- وهي المفاهيم التي كانت حصيلة نقد لعقليَّة المفاصلة والعزلة- إلى مفهوم المشاركة السياسيَّة. كما تؤدّي المفاهيم الأصوليَّة الجديدة مثل “فقه الأولويّات” و”فقه الموازنات” و”فقه الترجيح بين المصالح والمفاسد” أدوارًا وظيفيَّة، إذ تعين في طرح قضيَّة المشاركة في المؤسّسة التشريعيَّة والتنفيذيَّة للتداول الفكري.
تحصل الحركة الإسلاميَّة – في هذه الدائرة- نظرة أكثر واقعيَّة عن الأطراف الفاعلة في الواقع ووزنها السياسي وطبيعة الحراك الاجتماعي. وتتعرّف على منهجيَّة صناعة القرار السياسي. ويدخل إلى مفرداتها ولأوّل مرَّة مفهوم السقف السياسي، ومفهوم الإقدام، ومفهوم استثمار الهوامش وتوسيعها.. إنّها بكلمة، تدخل إلى قلب السياسة. فيتّجه عقلها النظري إلى إعادة طرح سؤال المرجعيَّة الإسلاميَّة. فتراجع كل الإجابات الجاهزة التي حصّلتها في الدائرة العقائديَّة والتبشيريَّة، لأنّها لا تسعفها في كسبها السياسي، ولا يحصل من وراء تبنّيها سوى التخبّط في ازدواجيَّة خطيرة بين ممارسة سياسيَّة متقصّدة، وخطاب عقائدي غير مطمئن.
بعض الحركات الإسلاميَّة تستمرّ، بقصد، في استصحاب هذه الازدواجيَّة، وترى أنّ الخطاب العقائدي هو من آليّات التحشيد الجماهيري الذي ينفع في تقوية الموقع التفاوضي لخطّ الاعتدال السياسي. لكن غالبيَّة حركات الاعتدال السياسي الإسلامي تسعى لإعادة النظر في هذا الخطاب العقائدي وتتبنّى مفهومًا جديدًا لمسألة المرجعيَّة الإسلاميَّة.
لا تقطع حركات الاعتدال السياسي الإسلامي في تعاملها مع النصوص الشرعيَّة مع المنطقات الأصوليَّة ولكنّها تنتظم بعمق في التراث الأصولي، وتدعو إلى تدشين زمن أصولي جديد، تلعب فيه النظريَّة المقاصديَّة دورها في الربط بين النصّ والواقع.
لم تعد الحركة الإسلاميَّة في دائرة الاعتدال- مرتهنة لدلالة النصوص التفصيليَّة- ولم يعد- بفعل هذا التحوّل الفكري والمنهجي- المنتوج الفقهي عبئًا ثقيلًا عليها. إنّها حين تطرح قضيَّة المرجعيَّة الإسلاميَّة، فإنّها لا تعني أكثر من تفعيل المنهج المقاصدي لفهم الواقع ومعالجة إشكالاته وإبداع اختيارات وبرامج للتنمية المجتمعيَّة قادرة على المنافسة ومتّسمة بصفات الإغراء والجذب. لم تعد المرجعيَّة الإسلاميَّة- ضمن دائرة الاعتدال- منتوجًا فقهيًّا إسلاميًّا مبسوطًا، ولم تعد مجرّد إحالة إلى التجربة التاريخيَّة للأمَّة، وإنّما صارت مقاصد عامّة لفهم الواقع، وأداة منهجيَّة للانخراط فيه، وقواعد كلّيَّة للاقتراح والتدبير.
تتجاوز الحركة الإسلاميَّة في دائرة الاعتدال عقل “العصبة” وتدرك أنّه يستحيل عليها أن تكون بديلًا عن الواقع، وتعي أنّ عليها أن تنفتح على مؤسّسات المجتمع إذا أرادت فعلًا أن تغيِّر الواقع. وهكذا يصير عقل العصبة عقلا سياسيا يرى أنّ المؤسّسة هي مفتاح تغيير الواقع.
للمرء أن يلاحظ أنه بقدر اقتراب الحركة الإسلاميَّة من الواقع، بقدر ما ينضج التفكير الحركي الإسلامي، بحيث تفصل عموماته، وتطّرد مراجعاته. وبقدر ما ينفصل التفكير الحركي عن الواقع تحت أي تبرير فكري، بقدر ما يكون خطابه غارقًا في العموميَّة، وتكون ممارسته مدعاة للتشكّك.
________
- الراصد التنويري (العدد 2) أيلول/ سبتمبر 2008.
*المصدر: التنويري.