وحدة الاختبار الروحي بين ابن عربي ولاوتسو
في خريف 1924، ألقى الفيلسوف واللاَّهوتي الألماني رودولف أوتو محاضرة في الولايات المتحدة، عنوانها: “باطنية الشرق وباطنية الغرب”[1]، وفيها كشف عن نظائر مدهشة بين سانكارا (800 قبل الميلاد)، وهو المعلم الهندي لعقيدة انعدام الثنائية، وبين ايكهارت (260-1327م) المعلم الريناني للوحدة البسيطة.
لم يشأ أوتو من مثل هذا التناظر بين معلِّمَيْن صوفيِّين ينتمي كل منهما الى حضارة مختلفة عن الأخرى. إلا بيان الوحدة الواصلة بين التجارب الروحية في الحضارات الإنسانية. أما مغزى الأفكار التي قدمها أوتو في هذا الصدد، فهي في الكشف عن وجود بنى مماثلة في ظاهرة التصوف. بمعزل عن المواضع المكانية والفترات التاريخية. ولئن كان بعض التجارب ينزع الى اتخاذ أشكال متقاربة في التعبير اللغوي وأشكال متقاربة في التعبير الرمزي.
إلا أن هذا التماثل لا يلغي التمايز او الاختلاف. على العكس من ذلك، فإن جوهر التصوف – كما يبين أوتو – لا يمكن أن ينبثق الا من مجموع التمايزات الممكنة”. صحيح ان التعابير المختلفة للظاهرة الصوفية تتحدد بالظروف التي تفترضها السياقات الدينية او الثقافية المختلفة. إلا أنها تتجاوزها في الوقت نفسه.
الدارس المقارن لهذا الاختلاف والتمايز في الاختبارات الروحية. يسعى – لا سيما حين يتعلق الأمر بالتعبير الصوفي- الى إقامة فواصل حاذقة بين النقل (الواعي) والالتقاء (العفوي). وفي الواقع، فلدى التعرض الى النص الصوفي المتعدد، فإننا غالباً ما نخرج من طريقة المقابلة والمقارنة بنتائج مدهشة.
وهو ما يمكن ان نلاحظه مثلاً…
حين ننتقل من السياق الإسلامي الى سياق آخر ينتسب الى حضارة عميقة الغور في. روحانيتها كحضارة الشرق الأقصى. نجدنا في مثل هذه الحال كما لو أننا بإزاء حوار داخلي حميم بين فضاءين مختلفين متباينين. إلا انهما يلتقيان على جوهر واحد. وهو ما يفضي إليه التصوف كإعراب عن وحدة التجربة الروحية. أما نقطة الالتقاء في فضاء التصوف فهي تتمثل في الفضاء العربي الإسلامي. بما ذهب إليه ابن عربي في “الفتوحات المكية” من أن الخلاف حقٌ حيث كان.. فقد عنى بهذا مقصوده بوحدة الوجود والشهود. فالله المتجلِّي في عوالم خلقه وحدة واختلاف، وظاهر وباطن، واول وآخر.. وما عْرِفَ الحق إلا بجمعه الأضداد.
ومن قبل أن نقوم بتمثيل مقارن يترجم وحدة التجربة الصوفية من المفيد الوقوف على مفهوم التجلِّي. بوصف كونه ركناً أساسياً من أركان التصوف العملي، وأحد أبرز الأبنية المعرفية للتصوف النظري.
التجلِّي كإعراب عن جوهر التصوف
لدى السؤال عن ماهية التصوف ومعناه، تتعدد الأجوبة وتتنوع بتعدد وتنوع البنى الحضارية للجماعات الإنسانية. سوى أن الإجابات على الجملة. دأبت على الوصل بين مفهومي التصوف والتجلي بوصفهما متحداً دلالياً يفضي كل منهما الى غاية واحدة. ولئن كانت لغة العرفاء انطوت على تباينات لا حصر لها في كيفية الإعراب عن هذا المتحد الدلالي. فقد بدت مآلات الفهم على نفس النشأة. واذا كان لنا من تمييز في المرتبة فسنجد ان التمايز بين التصوف والتجلي كتمايز العام عن الخاص، والكلي عن الجزئي.
ولما كان التصوف بناءً واحداً ومترابطاً بين مجمل وحداته النظرية والسلوكية. جاز القول ان كل وحدة في منظومته القولية والعملية موصولة بنظيرتها ومتممة لها، كالإيمان، والإيقان، والزهد، والحب، والعشق، والود، والشهود والكشف والخفاء والتجلِّي الخ… وحين أسس أئمة الصوفية لمراتب علومهم ربطوا المراتب كلها بعروة وثقى. كل مرتبة منها تتدلَّى من نظيرتها وصولاً الى تكامل الجميع ضمن وعاء التصوف. وحين حكم العرفاء على عالم الدنيا بأنه كون ساقط فقد أرادوا أن يفصحوا عن أن مهمة الإنسان كخليفة. تجلَّت فيه إرادة الله تكمن في الصعود نحو النقطه العليا، والتطلع الى المتسامي الإلهي للخروج من غربته واستلابه.
والحقيقة أن مقولة الكون الساقط التي أوجبت القول بالاغتراب، بسبب من عدم تجانس الروح والمادة، هي أساس الأسس في فهم الصوفية. حتى ان من العرفاء من رأى الى تعريف التصوف بأنه “النظر الى الكون بعين النقص”.[2] ولكن النقص الرابض في صميم الكون كبير الى حد مريع. بل هو من الضخامة والتوغل في الأشياء بحيث حتم أن تكون مساحات الخواء شديدة الاندياح. ولولا ذلك لما كان لصوفية ان تعرف طريقها الى الوجود. فالصوفية بهذا المعنى دفاع ضد الخواء، ومحاولة جُلّى لإيلاج الملأ في صميم العالم[3].
ومن المشتغلين بفلسفة التصوف…
من رأى بأن الصوفية إنما تنبثق من افتتان الإنسان بالمتعالي. او من وَلَعِهِ بالمفارق واللاَّنهائي، وربما تفصلنا عنه مسافة سرمدية. فمن قلق الاغتراب ينبجس النداء الى العالي. ومن زيف المعطيات أو المرئيات جاء غرام الإنسان بحقيقة تعلو فوق كل ما هو برسم الحواس. كما أن مقولة الكون الساقط كان من شأنها ان دفعت الانسان الصوفي الى رفض العالم. وكذلك الى رفض القوى التاريخية والمادية التي تسود هذا العالم. فلا مبالغة في القول بأن الصوفي هو الكائن الوحيد الذي يقف حراً أمام الله وحده، ومصدر حريته أنه يرفض الكون ويطلب الحق دون سواه، حتى لكأن العالم ككون نازل في المنظور الصوفي الباطل دون أدنى لبس[4].
فإذا كان التصوف هو حركة تعرّف على موجد الوجود. فالتجلي هو مقام الوصول الى المعرفة بظهور الألوهية في قلب العارف وشهود العارف على تجلِّي الله في العالم. أما التجلي الأعظم، وهو فناء الموجود في الواجد فقد ذهب جلّْ الصوفية الى النظر اليه كدليل على الأحدية وأصالة الوجود المحض. فيما الماهيات سوى مظاهر وأظلَّةٍ للوجود الأصيل. والكون كله حادثٌ مخلوق، وكل ما فيه من المخلوقات له بداية ونهاية، والله تعالى هو الممسك له، والحافظ عليه وجوده.
عند الصوفي الكبير محمد بن عبد الجبار النفري (ت 366هـ)
الله هو الموجود المطلق المتَّصف بالوجود الحقيقي. هو الواجب الوجود. واحدٌ في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله، وأنه لا أجزاء، ولا أبعاض، وأنه غير مركب، ولا يقبل التركيب، لا كل ولا بعض. ولا صغير، ومنزهٌ عن جميع صفات الحادثات(…) وحسب النفري أن كل موجود سوى الله تعالى. إنما يوجد في زمان عين، ومكان معين، وما دام كذلك، فكل موجود سواه له أول واحد، وكل ماله وحد فانه مخالف للقديم سبحانه، الذي لا أول له ولا آخر. ثم أن كل شيء حادث أما الله فليس حادثاً، وكل شيء متغير والله ليس متغيراً، أضف الى ذلك، أن كل حادث مصيره الى نهاية[5].
وهكذا تكون أول علامة لشهود الأحدية عند النفري..
هي خروج الصوفي عن الكائنات، ورد جميع الموجودات الى الله تعالى، لما يستولى عليه من حقائق التوحيد، بحيث لا يشهد حركة ظاهرة أو باطنة ولا أثر، ولا يسمع خبراً. ولا يلاحظ حساً ولا زماناً ولا مكاناً. فالحق يفنيه عن الأكوان وعن نفسه، فيضمحل جمعه ومتفرقاته، وتتلاشى أحواله وأوقاته، فلا أثر ولا خبر ولا حركة ولا وارد، ليس في الوجود الا المالك الواحد.[6]
لا تنأى المقاربات التي أجرتها أدبيات التصوف الإسلامي للتصوف ومفاهيمه عما ذهبت إليه أبحاث التصوف وعلم الإجتماع الديني المقارن في الغرب الحديث. وقد درست الباحثة الأميركية أفلين أندرهل Evelyn Undrhill التجارب الروحية في الإسلام والمسيحية والبوذية، ولاحظت ان “ما يسمّيه العالم “تصوّفاً” هو علم المطلقات… اي علم الحق الواضح بذاته، والذي لا يمكن “التفكير فيه بالعقل”…” الصوفي – حسب رؤيتها – هو من يتوق إلى معرفة ما هو مطلق.
لكنه يدرك أن المطلق تتعذر معرفته من خلال استخدام العقل فقط…
فالمتصوّفة لا يرون في التفكير العقلي. كقاعدة عامة، دليلاً كافياً إلى الروح، ولذلك يستعملون أنواعاً أخرى من النشاط العقلي ليقاربوا المطلق المحيّر. ولما كان لكل ثقافة نصيبها من التصوّف. ورغم اختلاف الأسماء التي أطلقت على المطلق والطرق التي يُسلك إليه من خلالها. يبقى جوهر كل ثقافة متوافقاً مع ما سبق ذكره.
هكذا سنرى ان الباحث في التصوف المسيحي فيدنت يوغيس يبحث عما يسميه إدراك اتحاد الأتمان بالبراهمان من خلال ممارسات تأملية وزهدية. ان بوذية الزن تتغيَّأ الوصول إلى الوعي الكوني من خلال تأمل صارم تزول من خلاله ثنائية التفكير كلياً وإرادياً من ذهن السالك؛ تماماً كما يسعى الصوفيون إلى اختبار “انتقال الروح” (تجربة مباشرة للمقدّس) من خلال العيش بعزلة، ومن خلال الفقر والتقوى، التي يقصد منها (تحرّر) القلب من كل ما هو غير الله” (James, 455)؛ وأما القديسون الكاثوليك فإنهم يتوجهون نحو اتحاد الروح بالله من خلال الصلاة والصوم والتأمل[7].
ماهية التصوف إذاً..
تكمن في “القدرة على فهم الحقيقة المتعالية”؛ وهي قدرة كامنة في صميم النفس البشرية. تقول أندرهل: “قلّة من الناس يمرّون في الحياة من دون معرفة معنى التأثر بالشعور الصوفي” (Underhill, 73). قد يكون مشهد الشمس من قمم جبال بعيدة. أو صوت سمفونية أو معانقة حبيب مفقود من فترة طويلة. أو مشهد فقير متألم. سبباً لهذا “الشعور المتعالي الذي يتدفّق من جزء آخر من النفس ويهمس للفهم والحواس بأنهم غافلون عن شيء ما”. هذا الشعور مألوف لكثيرين. لكن ما يميّز الصوفية عن سواهم هو الانسجام الاستثنائي معه.
أما بالنسبة للشخص العادي…
فيمكن لهذا الشعور أن يكون تثقيفياً لفترة قصيرة. ويبقى في أحسن الأحوال تتمّة لحياة سارية في ثنايا العالم الطبيعي. من جهة أخرى. وبالنسبة للصوفي، تبدو تجربة هذا الشعور مكثفة جداً. بحيث إنه عندما يحصل يبدأ بإعادة تنظيم كاملة لرؤيته العالمية وإعادة توجيه لأولوياته حول الحقيقة المتعالية التي تكشفها له التجربة. وليس من ريب أن هذه التجربة التبصّرية تتعدد مسميَّاتها في الثقافة الصوفية والعرفانية. منهم من يذهب الى تسميتها بـ “الصحوة”. ومنهم تعريفها بـ الى “الكشف والتجلِّي”. وآخرون انبروا الى وصفها بـ لحظة الانتقال من العدم المحض الى الجلاء والاستنارة.
إلى هذه التوصيفات التي مرّت، ثمة من جاء بمصطلح الصحوة لكي يقارب الحد الأعلى من التعبير عن الاختبار الصوفي.
تشتمل الصحوة كمبدأ عام في فضاء التصوف على إدراك مفاجئ متبصّر لحقيقة العالم العظيمة والبديعة – أو أحياناً لوجهها الآخر. الأسى الإلهي في قلب الأشياء – التي لم تفهم من قبل. وبالتالي لا يوجد كلمات يمكن أن تصف هذا الإدراك. أما عالم المدركات الماضية في واقعه فلا يمكن أن يكون إلا ضبابياً في أحسن الأحوال[8]. ان مثل هذا التوصيف لمصطلح الصحوة يلقي الضوء على ثلاثة أوجه أساسية للاختبار الروحي. أولاً، إنها مفاجئة وقوية؛ ثانياً، تؤدي إلى ترك العلائق الدنيوية. وثالثاً، تثير قوة دفع شديدة نحو معرفة إضافية بما تم كشفه في التجربة.
مفهوم التجلِّي.. فلسفيا
في الفضاء المعرفي الغربي جرى النظر الى التصوف من وجهين متلازمين: الأول بما هو تنظير فلسفي لظاهرة سوسيوتاريخية. والثاني بما هو اختبار معنوي وروحي يكابده الصوفي داخل دين ما أو خارجه. قصد التعرّف على الله. وقد يكون الفيلسوف الألماني المعاصر مارتن هايدغر أحد أكثر أقرانه ممن استطاعوا خرق الجدار الاسمنتي الذي أقامته ميتافيزيقا الحداثة بين الله والعالم. يتحدث هايدغر عن نموذج أعظم من التجلِّي الذي تفضي إليه التجربة الأولية المتعالية. وهو يطلق على هذا النموذج عبارة “القلق الأساسي”. ويعني بذلك ذاك النوع من القلق الذي “يكشف عن اللاَّشيء” الكامن “. في داخل” كل كينونات العالم الداخلي (What is Metaphysics, 103)..
وهذا الصنف من التجربة
يمكن أن يعتبر مماثلاً إلى حد كبير لتجربة الصحوة كما يمكن اعتباره مثالاً عليها. “القلق الأساسي” هو مثل الصحوات. مفاجئ ويحصل من غير توقع، وهذا ما يسبب انسحاباً من الشؤون الدنيوية وينتج عادة خلال الترتيبات البعيدة المدى لأنشطة الشخص تجاه الأهداف المتعالية. يرى هايدغر أن “القلق الأساسي يمكن أن يستيقظ في الوجود في أي لحظة. ولا يحتاج إلى أي حدث غير اعتيادي لإيقاظه”. وأما الحقيقة المتعالية التي تكشف عنها الصحوة فلا يمكن بلوغها عبر وسائل التفكير العقلي الميتافيزيقي، ذلك لأنها تتجاوز كل مفهوم عقلي قد يسعى هذا النوع من التفكير لحبسه في الداخل[9].
في مسعاه الى الكشف عن أبعاد جديدة للميتافيزيقا يرى الفيلسوف الألماني فرانز فون بادر. (1756-1841) ان الفلسفة تبدأ بالسؤال عن الذي يؤسّس بنية الكينونة والتفكير.. أي العقل الأول الذي يُحدِث ويؤيِّد ويساعد؛ ذاك الذي يُحدث الكينونة ويؤسّسها، ويؤيّدها، ويساعدها. وهذا وحده المبدأ الذي يخلق ويؤسّس ويدعم في الوقت نفسه. وهو أكثر من مجرد سبب أوّل، أو محرك أول كما وصفه أرسطو. فعندما يكون الذي يُحدث ويؤيّد ويساعد هو المؤسّس، هو الذي يُحدث ويؤيّد ويساعد. لكن الذي يحُدث أولاً، يمكن أن يكون الذي يُحدث نفسه وبالتالي يؤسس نفسه وحسب. فالمحدِث والمؤسّس الأول لا يمكن أن يُحدث ويؤسّس غيره قبل أن يُحدث ويؤسّس نفسه أولاً. ومن خلال كونه مؤسساً لذاته فقط، يمكن لذاتيّ التأسيس أن يؤسّس[10].
إن مبدأ التأسيس.
كما يضيف بادر – ينبغي أن يكون مؤسِّساً ذاته بمعنى محدَثٌ بالذات، وعالم بالذات وخلاَّق. المبدأ المؤسِّس بحق هو الذي يولّد المعرفة وكل ما يتعلق فيها، أو إن المعرفة المطلقة والخالقية المطلقة يتماهيان في المبدأ. وكذلك فإن تعليم تماهي الذات والموضوع في العقل الواعي لذاته أو كون العقل مع ذاته هو تعليم أن الادراك الكامل هو إدراك منتج. يدرَكُ عندما يُحدِث. عندما لا يكون وعي الذات تماهياً أزلياً بين الذات والموضوع لا يكون تماهياً حقيقياً؛ لأن التماهي. بين ما يُحدِث وبين ما يُحدَث، والتماهي بين ذات وموضوع الوعي الذاتي الذي لا ينشأ إلا في الزمن، ليس تماهياً، بل هو تعاقب إلغاء للفوارق.
إن وعياً ذاتياً كهذا..
الذي يتماهى في حالة تعاقبية ليس أولياً ولا أصيلاً، بل هو ثانوي ومستخلص. وهذه المعرفة اللاأولية أو الثانوية هي المعرفة الذاتية لكل عقل متناه. فكل عقل متناهٍ يعرفه لا يحدِث نفسه وبالتالي لا يعرف نفسه، وهكذا يُعرَف بكونه معروفاً من الروح المطلق[11] الذي أحدثه. وكل معرفة ذاتية أو تفكير ذاتي للموجود المحدود هو أيضاً مفكَّر فيه ويعرِف بمعرفته أنه مفكَّر فيه في الوقت نفسه. “الأنا أفكر” (الكوجيتو) هي دائماً في الوقت نفسه “أنا مفكّرٌ فيّ إذا أنا أفكٍّر (cogitor ergo cogito)[12].
يريد بادر مما مرّ اقتباسه أن يؤسس لكوجيتو جديد يعيد الميتافيزيقا الى التطلع. نحو الأفق الأعلى بعد أن سدُّت في وجهها آفاق التسامي الإلهي. والسبب في ذلك كله يعود الى ما يسميه هايدغر بـ “نسيان الكينونة”. أو بحسب التعبير القرآني نسيان الله. كما في الآية: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}[13].
“كوجيتو”
بادر له سمتٌ مخصوص ومفارق. انه يروم فتح السبيل أمام الميتافيزيقا لتتعرف الملأ الأعلى عبر العقل المتدبِّر. لقد انطلق بادر من نقد منظومة ديكارت في “الأنا أفكر، إذن أنا موجود” ليقدم منظومته الفلسفية العرفانية التي تقوم على نظرية التعرٌّف. على المتعالي المطلق من خلال المقولة التالية: أنا مفكّر فيه وبه من الله، إذن أنا يمكن أن أكون وأفكر”. وما من شك فإن انتماءه الى البيئة الرومانسية في الفلسفة المثالية الألمانية جعلته يمضي بعيداً نحو ميتافيزيقاه الخاص. ولقد تأثر الى حد كبير باللاَّهوتي وفيلسوف التصوف الكبير يعقوب بوهم. (Jacob Boehme) الذي منه توصل بادر الى تواصل المتناهي واللاّمتناهي ولكن عن طريق سكن المطلق في المتناهي، وتعلّق المتناهي بالمطلق عبر تمثل صفاته وأفعاله. ففي معرفة الذات مقرونة بتأمل الذات الحكيمة الإلهية يكمن مصدر وهدف المعرفة والوجود الإنسانيين[14].
التصوف كمعادل للإيمان الأقصى
دلّت الاختبارات الروحية لدى العرفاء والقديِّسين، على ان فهم الأمر القدسي وإدراك أسراره يمكث في المنطقة العليا من الإيمان. والمعني بهذا، هو الدرجة التي يصل اليها المؤمنون بالسير والسلوك الى معرفة أنفسهم، ومعرفة الموجودات وصولاً الى معرفة الله. والذين يصلون الى هذه الدرجة المتعالية. هم الذين يطلق على كل فرد منهم صفة العارف أو الإنسان السالك في طريق الكمال. فالإيمان الأقصى – كما يقول الفيلسوف واللاّهوتي الألماني بول تيليتش – هو الذي يوفّر لصاحبه القدرة على التجاوز والتعالي والاستيعاب والإحاطة. ومن يبلغ تلك الدرجة القصوى يستطيع أن يعيش المجاز والحقيقة بنفس المقدار.
وان يعيش الغيب والشهود..
كما لو كان معهما في عالم واحد. فهو في حالة انسجام ووئام ولو ظن الآخرون خلاف ذلك. إيمان المؤمن بما يؤمن لا يمكن وصفه، بل لا يمكن تحديده. فهو ليس مجرد ظاهرة تماثل الظاهرات الطبيعية الأخرى. بل انه الظاهرة المركزية في حياة الإنسان الشخصية الجلية والخفية في الوقت نفسه. فالإيمان في حده الأقصى هو إمكانية جوهرية للإنسان، ولذلك فوجوده ضروري وكلي، وهو ممكن وضروري أيضاً في كل زمان ومكان. وإذا فُهِمَ الإيمان في جوهره على انه همُّ أقصى. فلا يمكن إذّاك أن يثلمه العلم الحديث أو أي نوع من الفلسفة. ثم إنه يسوغ ذاته ضد من يهاجمونه، لأنهم لا يستطيعون أن يهاجموه إلا باسم إيمان آخر. ولعل أبرز ما في واقعية الإيمان أن الذين يرفضونه إنما يعبِّرون، وهم يفعلون ذلك عن إيمان ما[15].
مع ذلك …
فإن جانباً مهماً تستظهره منزلة القدسي في الاجتماع الإنساني. وهذا الجانب هو ما يفضي إليه التصور الدنيوي المحض القائل بالتناظر الضدي بين الإيمان والعقل. فعلى هذا الصعيد يجب أن يسأل المرء أولاً: بأي معنى تُستعمل كلمة “عقل” حين تُواجَه بالإيمان؟ هل المقصود بها. كما هي الحالة الشائعة اليوم، أن تُطلّق بمعنى المنهج العلمي والصرامة المنطقية والحساب التقني أم أنها تُستعَمل، كما كان الحال في كثير الحضارات البشرية ولا سيما الحضارة الغربية، بمعنى منبع المعنى والبنية والمعايير والمبادئ؟
ثمة إجابات لا حصر لها وردت حول ثنائية العقلي –
الغيبي والعلاقة الناظمة بينهما. ومنها ما جاء على لسان تيليش في سياق مساجلاته مع لاهوتيين علمانيين قالوا بالتناقض بين الإيمان والعق. فقد رأى أن الإيمان لو كان نقيضاَ للعقل لكان يميل إلى نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان. فالإيمان الذي يدمِّر العقل، يدمر في المقابل نفسه ويدمر إنسانية الإنسان. إذ لا يقدر سوى كائن يمتلك بنية العقل على ان يكون لديه هماً أقصى.
أي أن يكون شغوفاً بالله والإنسان في آن. وذلك إلى الدرجة التي يؤول به هذا الشغف إلى تخطي الثنائية السلبية التي تصنع القطيعة بين طرفيها. وحده من يمتلك ملكة “العقل المتصل” ـ أي العقل الجامع بين الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية ـ هو الذي يفلح بفتح البـاب العالي على الوصل بين الواقع الفيزيائي للإنسان وحضـور المقـدس في حياته. وما نعنيــه بالعقل المتصل هـو العقــل الذي يشكل البنية المعنويــة للذهن والواقع، لا العقل بوصفه أداة تقنية بحتة.
وبهذا المعنى يصير العقل شرطاً تأسيسياً للإيمان…
ذلك لأن الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الإنجذابية إلى ما وراء ذاته. أي الى ما بعد أنانيته التي يتجاوزها بالإيثار والعطاء والجود والغيرية. بتوضيح آخر، أن عقل الإنسان متناهٍ ومحدود، ويتحرك داخل علاقات متناهية ومحددة حين يهتم بالعالم وبالإنسان نفسه. ولجميع الفعاليات الثقافية التي يتلقى فيها الإنسان عالمه هذه الخاصية في التناهي والمحدودية.
لكن العقل ليس مقيداً بتناهيه. بل هو يعيه، وبهذا الوعي يرتفع فوقه وعندها يجرب الإنسان انتماءً إلى اللامتناهي الذي هو مع ذلك ليس جزءاً منه ولا يقع في متناوله. ولكن لا بد له من الاستحواذ عليه. وحين يستحوذ على الإنسان يصير بالنسبة إليه هماً لا متناهياً أي مقدساً ونبيلاً. وحين يكون العقل ـ بهذه الصيرورة ـ مسلّمة للإيمان، يكون بهذا المعنى تحققاً للعقل. ومقام الإيمان بوصفه حالة هم أقصى هو نفسه مقام العقل في طور نشوته الإنجذابية. والنتيجة أن لا تناقض بين طبيعة الإيمان وطبيعة العقل بل يقع كل منهما في داخل الآخر[16].
العقل والتجلِّي عند العرفاء المسلمين
لئن كانت هذه هي الرؤية التوحيدية الصوفية التي قوربت في الفكر الغربي الحديث. فسنجد ما يناظر خصائصها الجوهرية في العرفان الإسلامي. فلو كان لنا أن نستجلي هذه الرؤية على وجه الإجمال. فلا مناص من الوقوف أولاً على ما قدمته المدرسة الصوفية حيال التجلِّي كمفهوم ومصطلح، والكيفية التي جرى التعامل معه من خلالها.
لقد اتفق أكابر أئمة الصوفية وفي مقدمهم ابن عربي على تعريف التجلِّي…
بأنه إشراق أنوار إقبال الحق على قلوب المقبلين عليه. وقيل هو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب، كما جاء في معجم المصطلحات الصوفية[17] فالتجلِّي يكون على ثلاثة أحوال: تجلِّي ذات، وتجلِّي صفات الذات، وتجلِّي حكم الذات. الاول هو المكاشفة او كشوف القلب في الدنيا كقول عبد الله بن عمر. كنا نتراءى الله في ذلك المكان، يعني في الطواف. وكشوف العيان في الآخرة. والثاني هو موضع النور، وهو أن تتجلى له قدرته عليه فلا يخاف غيره، وكفايته له فلا يرجو سواه. والثالث يكون في الآخرة، فريق في الجنة وفريق في السعير. وقيل علاقة تجلي الحق للأسرار هو أن لا يشهد السر ما يتسلط عليه التعبير او يحويه الفهم، فمن عبر أو فهم فهو خاطر استدلال لا ناظر إجلال.
وفي الإنسان الكامل ان الحق إذا تجلى على العبد سمى ذلك التجلي بنسبته الى الحق سبحانه شأنا إلهياً، وبنسبته الى العبد حالاً. ولا يخلو ذلك التجلي من أن يكون الحاكم عليه اسماً من أسماء الله تعالى، أو وصفا من أوصافه، فذلك الحاكم هو المتجلَّى. وان لم يكن له وصف أو اسم مما بأيدينا من الأسماء والصفات الإلهية، فحال اسم ذلك الولي المتجلَّى عليه هو عين الاسم الذي تجلَّى به الحق عليه، وذلك معنى النبي الخاتم(ص) انه سيحمده يوم القيامة بمحامد لم يحمده بها من قبل. وقوله(ص) اللهم اني أسألك بكل اسم سمَّيت به نفسك، وأستأثرت به في عينك. فالأسماء التي سماها بها نفسه هي التي نبهنا عليها أنها أسماء أحوال المتجلَّى عليه.
أما سائر التجلِّيات فهي على منازل، ولكل منزل صفاته وخصائصه:
أ-التجلِّي الذاتي
ما يكون مبدؤه الذات من غير اعتبار صفة من الصفات معها. وإن كان لا يحصل ذلك الا بواسطة الاسماء والصفات. اذ لا يتجلى الحق من حيث ذاته على الموجودات الا من وراء حجاب من الحجب الاسمائية.
ب-التجلِّي الشهودي
هو ظهور الوجود المسمى باسم النور. وهو ظهور الحق بصور اسمائه في الأكوان التي هي صوَّرها، وذلك الظهور هو نَفَسُ الرحمن الذي يوجد به الكل.
ج-التجلِّي الصفاتي
ما يكون مبدؤه صفة من الصفات من حيث تعيُّنها وامتيازها عن الذات.
وأما سر التجلِّيات
فهو شهود كل شيء في كل شيء. وذلك بانكشاف التجلِّي الاول للقلب، حيث يشهد أحدية الجمعية بين الأسماء كلها، لاتصاف كل اسم لجميع الأسماء، ولا تحادها بالذات الأحدية، وامتيازها بالتعينات التي تظهر في الأكوان التي هي صورها. فيشهد كل شيء في كل شيء[18].
في الحقبة التي تلت زمن ابن عربي دأبت فلسفة التصوف على تأصيل عميق الغور لمفهوم التجلي. وقد ظهر هذا التأصيل لدى الحكيم الإلهي صدر الدين الشيرازي المشهور بـ ملا صدرا (980-1050 هـ – 1572) 1640
على قسمين:
الأول:
هو التجلي الذاتي الذي يكون مبدأ لانكشاف الحقائق الغيبية عن ذات الحق من وراء الحجاب. والثاني: هو التجلي الصفاتي الذي يكون مبدأ ومنشأ لتلك الصفات والأسماء والحجب النورية[19].
يعتقد صدر المتألهين بأن للحق (تعالى) تجلياً وظهوراً واحداً على الأشياء والممكنات، وهو بعينه تجلي الحق الثاني على نفس ذاته في مرتبة الافعال؛ ذلك لأن الحق يفيق عن ذاته الاشياء بما انه تام وكامل، فالظهور الثاني على ذاته هو هذا النوع من الإفاضة، وطبعاً من غير المناسب أن يكون الظهور الثاني عين الظهور الأول، لأن الظهور الاول هو تجلي الذات الواجبة في الأفعال؛ حيث أطلق على هذا التجلي الإفاضة ونفس الرحمن والعلية والتأثير ومحبة الأفعال والتجلي، فتكون منشأ لتكثر الأسماء والصفات[20].
التجلي الاول
هو ظهور الاشياء، والتجلي الثاني هو تكثّْرها. ولو دقَّقْنا النظر لوجدنا ان هناك تجلياً وظهوراً واحداً ينحل الى تجليين وظهورين. ذلك بأن جميع الماهيات والممكنات هي مرائي لوجود الحق (تعالى). ومجالي للحقيقة المقدسة، ومن خصوصيات المرآة ان تحكي عن الصور المتجلية فيها. وبما أن الممكنات بعيدة عن المبدأ ويعتريها النقص والظلمة، فلا يمكنها ان تحكي عن تمام الوجود[21].
وللتجلي في منظومة صدر الدين الشيرازي الفلسفية صلات وصل وطيدة بسواها من المصطلحات العرفانية. منها على سبيل المثال مصطلح الخلاء ومصطلح الخيال او التخيُّل.
بعض المحققين من الفلاسفة الذي لا يعتقدون بوجود الخلاء في العالم. رأوا بأن التخلخل الحقيقي محال، وما نظنه تخلخلاً او تكاثفاً. ما هو إلا دخول الاجسام الغريبة او خروجها. وبعبارة اخرى، التخلخل عبارة عن الانتفاش الذي يؤدي الى تباعد الأجزاء ودخول أجزاء مباينة غريبة وبالعكس[22].
أما التخيّل
فهو عبارة عن حركة النفس في المحسوسات، والتفكُّر هو حركة النفس في المعقولات. ولقد ظن البعض ان التخيل عبارة عن حصول الصور الخيالية في اجزاء من الدماغ، وقد رفض صدر المتألهين هذه العقيدة، واعتبر ان الصور المتخيلة مجردة كسائر الصور الإدراكية، ثم ان المادة الدماغية ليست حاملة الاشكال والصور المختلفة؛ لان المادة لا يمكنها[23].
تأويلية ابن عربي
تأخذ مسألة التجلي التي هي حاصل الإيمان الأقصى. بُعداً محورياً بالغ الأهمية في منظومة ابن عربي العرفانية، فتجلّي الله أمرُ يتحقق في قلب العارف. ولكي يشرح ابن عربي نظريته فيما يخصّ “الإله المصطنع من الاعتقادات” يربط التجليات الإلهية وقلب الإنسان العارف ربطاً محكماً، ويقول: “وإذا كان الحق يتنوع تجلِّيه في الصور(الصورة)، فبالضرورة يتّسع القلب ويضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلِّي الإلهي.
فإنه لا يفصل شيء عن صورة ما يقع فيها التجلِّي، فإن القلب من العارف او الانسان الكامل بمنزلة محل فصّ الخاتم من الخاتم، لا يفضل بل يكون على قدره وشكله من الاستدارة، إن كان الفص مستديراً، او من التربيع والتسديس والتثمين وغير ذلك من الأشكال إن كان الفص مربعاً او مسدساً او مثمناً او ما كان من الأشكال، فإن محلّه من الخاتم يكون مثله لا غير (غيره)، وهذا عكس يشار اليه من باب التوهم، من أن الحق يتجلَّى على قدر استعداد العبد، وهذا ليس كذلك، فإن العبد يظهر للحق على قدر الصورة التي يتجلى له فيها الحق.
وتحرير هذه المسألة ان لله تجلّيين:
تجلّي غيب، وتجلّي شهادة، فمن تجلّي الغيب انه يعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب، وهو التجلِّي الذاتي الذي الغيب حقيقته، وهو الهوية التي يستحقها بقوله عن نفسه: “هو”. فلا يزال “هو” له دائما أبداً، فإذا حصل له. أعني للقلب(القلب)- هذا الاستعداد، تجلى (وتنجلى) له التجلّي الشهودي في الشهادة فرآه فظهر بصورة ما تجلّى له كما ذكرناه (ذكرنا).
فو تعالى أعطاه الاستعداد بقوله: “أعطى كل شيء خلقه”…
ثم رفع الحجاب بينه وبين عبده، فرآه في صورة معتقده (معتقد). فهو عين اعتقاده، فلا يشد القلبُ ولا العينُ أبداً إلا صورة معتقده في الحق، فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته، وهو الذي يتجلّى له فيعرفه، فلا ترى العين إلا الحق الاعتقادي، ولا خفاء بتنوع الاعتقادات: فمن قيده أنكره في غير ما قيده به، وأقر به فيما قيده به إذا تجلى، ومن أطلقه عن التقييد لم ينكره وأقرّ به (له) في كل صورة يتحول فيها، ويعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلة له، الى ما لا يتناهى، فأن صور (صورة) التجلي ما لها نهاية تقف عندها، وكذلك العلم بالله (تعالى) ما له غاية في العارف (العارفين) يقف عندها، بل هو العارف في كل زمان يطلب الزيادة من العلم به، “ربِّ زدني علماً” “ربِّ زدني علماً” “ربِّ زدني علماً”. فالأمر لا يتناهى من الطرفين[24].
لم يكتفِ ابن عربي وهو يشق مسعاه التنظيري لتظهير عقيدة التجلِّي ضمن هذه الحدود التوصيفية، بل ذهب الى ترتيبات منطقية تصنِّف العلوم والمعارف ضمن ثلاث مجموعات:
أولها: العلم العقلي:
وهذا النوع من العلوم يراه ابن عربي عرضة للإصابة والخطأ معاً[25]. ورغم ما يتحدث به أحياناً عن البرهان الساطع والدليل القاطع[26] في مجال العلوم النظرية. إلا أنه لا يرى في العلوم العقلية رافعاً للشك والتذبذب، ما لم يقع العقل تحت إشراف القوة القدسية وحمايتها وسلطانها. وهكذا تُحصَّل الحقائق والمعارف عن طريق تعلمها من معلمها الأساس وهو الحق تعالى، لا بالتقليد والاتباع للقوة المفكّرة.
في رسالته المعروفة الى الفخر الرازي يقول الشيخ الأكبر: “واعلم ان اهل الافكار، إذا بلغوا فيه الغاية القصوى، أداهم فكرهم الى حالة المقلد الصميم، فإن الأمر أعظم من أن يفعله الفكر، فما دام الفكر، فمن المحال ان يطمئن العقل ويسكن، وللعقول حد تقف عنده من حيث قوتها في التصريف الفكري، ولها صفة القبول لما يهبه الله تعالى، فإذن: ينبغي للعاقل ان يتعرض لنفحات الجود، ولا يبقى ما هو في قيد نظره وكسبه، فإنه على شبهة في ذلك”[27].
ويذكر ابن عربي في هذا المقطع من كلامه جملة قضايا هامة على نحو الاختصار لكن مع صراحة هي: أ- إن أهل الفكر مقلّدون. ب-لا يمكن للإنسان الوصول الى اليقين باعتماده الفكر وسيلةً ومنهجاً. ج- إن مجال المعرفة العقلية ذات الأداة الفكرية محدود، ولا يمكن تخطّي هذا المجال الضيّق. د- ان للعقل قدرة على تحرير ذاته من أسر الفكر، ليضع نفسه في مهبّ نسيم الجود، فيتعلم الحقائق من الحق تعالى[28].
والنتيجة التي يخرج بها ابن عربي من هذا الترتيب، هو تقدم وأولوية المعرفة الحاصلة عن طريق التجلِّي والمكاشفة الشهودية للأنبياء والأولياء على تلك الحاصلة بوساطة التفكير والنظر في مجال الإلهيات.
ثانيها: العلم بالأحوال:
وهذا العلم – كالعلم العقلي – هو الآخر في مدار الاشتباه والخطأ، إلا أن خطأه من نوعه، واشتباهه من صنفه، تماماً “كمن يغلب على محل طعمه المرَّةُ الصفراء، فيجد العسل مرّاً، وليس كذلك، فإن الذي باشر محل الطعم إنما هو المرة الصفراء”[29].
ثالثها: علم الأسرار:
وهذا النوع من العلوم، ينقسم الى قسمين:
أ-قسم يشبه النوع الاول:
يدرك بوساطة العقل، مع فارق وهو ان العالم في ذاك النوع يصل الى مدركاته عن طريق التفكير والنظر، أما هنا، فلا تحصل المدركات نتيجة عملية تفكير ونظر وإنما بإفاضة الروح القدس لها.
ب-القسم الآخر:
ينحل بدوره ايضا الى نوعين، أحدهما يرتبط بعلم الاحوال، بيد انه اكثر شرفاً منه، وثانيهما من نوع الأخبار التي للصحة والخطأ سبيل اليها، إلا إذا كان صدق مخبرها وعصمته أمراً ثابتاً مؤكداً، كأخبار الأنبياء والأوصياء[30].
إن علم الأسرار هو ما يسميه ابن عربي في موضع آخر “العلم الإلهي” ويراه، “أصل العلوم كلها، واليه ترجع”[31] وبناء عليه فـ “العالِم به يعلم العلوم كلّها ويستغرقها، وليس صاحب تلك العلوم (الأخرى) كذلك، فلا علم أشرف من هذا العلم المحيط…”[32].
6 – استعصاء الكشف على البيان
حين يبوح العارف الواصل بحال من أحواله فلا ينبغي أن نتوقع منه شرحاً عما هو فيه، أو في ما اختبره في نفسه. وقد تكون هذه واحدة من أظهر سمات الأولياء والعارفين ممن رزقوا العلوم الكشفية وما بان لهم من حقائق الغيب. ولئن كان لكل ولي اختبار معنوي، فهو مخصوص به وليس لغيره منه إلى حظ الإخبار اللفظي، فضلاً عن أنه لا يتكرر للولي على النحو الذي جاءه من قبل.
ولذا فالحادث الروحي الذي مرّ على عين العارف وفؤاده، إن هو إلا إخبار إلهي عن أمر غير منظور حتى للعارف نفسه من قبل أن يؤتى بالخبر. وما ذاك إلا لأن هذا الحادث، وان كان ثمرة سير وسلوك ومجاهدة – فهو إشراق رحماني حل في صدره من لدن الروح القدس. وإذن فإنه بهذه المنزلة عطاء مجاني، وحين يتصرف الولي بهذا العطاء على نحو المكاشفة سيكون شأنه شأن العبد الصالح الذي أوتي علم من الكتاب حيث قال تعالى بلسان ذلك العبد: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}33 .
لقد واجهت فلسفة التصوف
معضلة إدراك السبب الذي يجعل الاختبارات الروحية أمراً عصياً على السرد وفقاً لقوانين المنطق. بعضهم يذهب إلى أن الحقيقة القدسية لا تُعقل. ومعنى لا معقوليتها أن الإدراك الإنساني والجهاز المفهومي الذهني عاجز عن عرض هذه الحقيقة وإيضاحها. وبعضهم يرى أن الحادث المعنوي أمر لا عقلاني وغير قابل للتوصيف. ذلك بأن التجربة الروحية تتحصّل بالمباشرة، من دون ان ترتدي لباس المفاهيم. وهذا عائد إلى أن الكلمة تقف في مقابل المفهوم، ومن ثم لا يكون لها معنى إذا ما افتقدت مفهوماً معيناً. وبناء عليه فإذا لم يكن ثمة مفهوم في التجربة، فلا يمكن حينئذٍ تشريح الحقيقة التي تحتويها تلك التجربة من خلال نظام دلالي لغوي وبمنظومات لفظية كلامية34
ومثلما ظهرت معضلة استعصاء الكشف على البيان في اختبارات التصوف الإسلامي، كذلك ظهرت وتبعاً لخصوصيتها اختبارات التصوف في الأديان التوحيدية الأخرى.
يعتقد الفيلسوف الإنكليزي والتر ستيس في كتابه:
“العرفان والفلسفة” إن السبب الذي يمنع تفسير التجارب العرفانية هو تأبّيها عن المفاهيم. كما ان سبب عجز الفهم البشري عن إدراك هذا النوع من التجارب هو أن القوانين المنطقية الحاكمة على مجال الفهم الإنساني لا استخدام لها في نطاق هذه التجارب. يرى العارف هنا أن في تجربته تناقضاً. أي أنه يشاهد ما ينقض قوانين المنطق، وهو – من ثم – كلما حاول صوغ ما شاهده في لباس من الألفاظ وجد نفسه متورطأ في تناقض مقولي. أي أن العارف يجد نفسه محاطاً بأناس لهم منطقهم العام، فيما هو يأنس لمنطق ذاتي خارج عن مألوفهم. وعندما تصل الكلمات التي يعبر فيها عن أحواله، فإنهم غالباً ما يأخذهم الشك كلماته فيرمونه إذّاك بالشطح والتكذيب. ولهذا فهو يعود حسيراً تائهاً محاولاً تفسير ما حدث بأن المشكلة هي في لسانه ومنطقه القولي وهو لا محالة سوف يعتقد بأن تجربته – وفقاً لذلك – غير قابلة للوصف والبيان35.
ولو عدنا الى التجلي بمقصوده الناتج عن الإيمان الأقصى
كما مرّ معنا في تأصيلات بول تيليتش، لوجدناه يكمن في النقطة التي تختفي فيها كل عينية في لجّة الألوهية الخالصة. وهذا أمرٌ يدركه العرفاء بتعقل خاص يحصِّلونه إثر اختبارات مضنية في رحلة السير والسلوك. ربما لهذا السبب جاز ما فعله جمعٌ من كبار العرفاء والفلاسفة الإلهيين لجهة اعتبار التصوف أمراً عقلانياً بوصفه حصيلة تكامل بين الحس والحدس والفيض المتأتي من حضور الغيب. لقد كان بعض كبار المتصوفة في أوروبا وآسيا فلاسفة كباراً، وفي الوقت نفسه، مبرزين في وضوحهم وتماسكهم وعقلانيتهم. لكنهم أدركوا أن المحتوى الحقيقي للإيمان في الهم الأقصى لا يمكن أن يتوحد بقطعة من الواقع، كما يشتهي الإيمان التقديسي، كما لا يمكن أن يُعبِّر عنه بألفاظ النظام العقلي.
بل هو تجربة نشوة انجذابية. لذا لا يستطيع المرء أن يتحدث عن التجلِّي كإيمان أعلى إلا بلغة ترفض في الوقت نفسه إمكانية الحديث عنه. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يعبر بها الإيمان الصوفي عن نفسه. عند هذه النقطة يطرح تيليتش طائفة من الأسئلة: هل يمكن وجود شيء للتعبير إذا كان محتوى الإيمان الصوفي يتعالى عن كل شيء قابل للتعبير؟ ألا يقوم الإيمان على تجربة حضور المقدس؟ كيف تكون مثل هذه التجربة ممكنة إذا كان الأقصى هو ما يتعالى عن كل تجربة ممكنة؟
الجواب الذي تقدمه التجربة الصوفية على نطاق كوني تفيد التالي…
يوجد مكان يحضر فيه الأقصى داخل العالم المتناهي، هو تحديداً، أعماق النفس الإنسانية. هذه الأعماق هي نقطة الاتصال بين المتناهي واللامتناهي. ولكي يبلغها الانسان، لا بد له ان يفرّغ ذاته من جميع المحتويات المتناهية في الحياة الاعتيادية، وأن يتخلى عن جميع الهموم الأولية لصالح الهم الاقصى. يجب أن يمضي الى ما وراء أجزاء الواقع التي يجرب فيها الإيمان التقديسي الأقصى. يجب ان يتعالى على انقسام الوجود، بما في ذلك جميع الانقسامات الأكثر عمقاً وكلية، وهو الانقسام بين الذات والموضوع. فالأقصى يتجاوز هذا الانقسام، وعلى من يريد أن يبلغ الأقصى ان يقهر هذا الانقسام في ذاته عن طريق التأمل والتدبر والنشوة الانجذابية. والايمان/ داخل حركة النفس هذه، هو حالة من التقلب بين امتلاك محتوى الهم الأقصى وعدم املاكه. وهو يتحرك في درجات من التقريب، في انتكاسات وتحققات مفاجئة.
ولا يستخف الايمان الصوفي بالإيمان التقديس او يرفضه. بل هو يتخطاه الى ما هو اضر في كل فعل إيمان تقديسي، ولكنه يختفي وراء الأشياء العينية التي يتجسد بها36. كان اللاهوتيون أحياناً يضعون الإيمان مقابل التجربة الصوفية. وهم يقولون إن المسافة بين الإيمان والأقصى لا يمكن أبدا أن تُردم. ويحاول التصوف ان يمزج العقل بمحتوى همه اللاَّمشروط، بأساس الوجود والمعنى. ولكن لم يكن لهذه المقارنة سوى صلاحية محدودة. فالصوفي يعين المسافة اللامتناهية التي تفصل اللامتناهي عن المتناهي، ويقبل حياة المراحل الأولية من الوحدة مع اللامتناهي، التي لا تقاطعها النشوة النهائية إلا نادراً، او لعلها لا تقاطعها أبداً، في هذه الحياة. ولا يمكن للمؤمن ان يظفر بالإيمان إلا إذا استحوذ عليه محتوى همه الأقصى. والتصوف، مثل نزعة التقديس، نمط من الإيمان، وهناك عنصر صوفي، كما هناك عنصر تقديسي، في كل نمط إيمان37.
يتسق رأي تيليتش مع كثيرين من عظماء المتصوفة المسلمين
لجهة البعد المتسامي للإيمان في الشخصية الإنسانية مهما كانت اعتقاداتها وانتماءاتها الفكرية والحضارية. وهذا ما حمله على التنظير لمضمون جديد لمفهوم الإنسانوية بعيداً من الفهم التسطيحي الذي شهدته الحداثة الغربية على مدى خمسة قرون مضت.
وهكذا فإن قضية العقلي الغيبي سوف تؤلف نقطة الجذب الكبرى في فلسفة ابن عربي. ولشدة عنايته بها نجدها مبثوثة بالإشارة والعبارة في كبريات أعماله وقد توزعت في صعيدين: الاول: في صعيد التنظير لفلسفة التصوف، والثاني في صعيد التجربة الشخصية. ولعل الشيخ الأكبر هو أحد أكثر العرفاء الذين ساجلوا الفلاسفة والمتكلمين وأهل الحرف من الفقهاء وبخاصة لجهة استعصاء كشوفات الأولياء ومعارفهم على الإعراب. يقول في “الفتوحات”: إن علوم أهل الأسرار الحاصلة عن طريق الكشف والشهود بالتجلي الإلهي وتلقي الفيض القدسي تقع وراء حدود العقل ومجاله(…) ثم إن هذه المعرفة التي يهبها الحق تعالى لمن شاء من عباده لا يستقل العقل بإدراكها، ولكن يقبلها فلا يقوم عليها دليل ولا برهان، ثم أن هذه الأوصاف الذاتية لا يمكن العبارة عنها، لأنها خارجة عن التمثيل والقياس، فإنه ليس كمثله شيء، فكل عقل لم يكشف له من هذه المعرفة شيء يسأل عقلاً آخر”38.
بعض المحقِّقين لاحظوا هنا طائفة من الاستنتاجات:
– منها:
أن المعرفة الوهبية (علوم الكشف والشهود والتجلّي) هي معرفة يفهمها العقل ويراها صحيحه ومن ثم فهو يعترف بها ويقر لها.
– ومنها:
أن العقل غير قادر – بالاستقلال واعتماد طريق الفكر والنظر – على الوصول الى هذه المعرفة أبداً. ومن هنا كانت واقعة في طور فوق طور العقل.
– ومنها:
أن العقل على الرغم من استقباله هذه المعارف بوساطة الفيض الإلهي ويقر بها. إلا أنه عاجز عن شرحها وتفسيرها بمنظومة المفاهيم والقضايا التي يحملها، ذلك أنها معرفة لا تتكيف مع هذه المفاهيم39.
– ومنها:
كذلك أن السر في بلوغ العارف معرفةً بالحق تعالى خارجة عن طاقة الفكر والنظر،.يكمن في أن العارف يتحد بالحقيقة التي يصلها في تجربته العرفانية، الأمر الذي لا يحصل بتاتاً في المعرفة العقلانية. ذلك أن الإنسان هناك يدرك الحقيقة من وراء حجاب المفاهيم(…) ثم ان الإنسان الذي يبلغ القدرة الإلهية المطلقة بتجربته العرفانية، يفهم ببصيرته أن كل قدرة في هذا الوجود إنما هي مظهر للقدرة الإلهية، أما سلوك سبيل العقل فهو لا يؤدي بالإنسان إلا إلى التصديق بقدرة الله سبحانه من دون أن يشاهدها..
ومن هنا..
يخطو العقل النظري عند ابن عربي في معرفة صفات الله وأسمائه خطوات سليمة في الطريق الصحيح، ويدرك الحقائق – بهداية الأنبياء – إدراكا جيداً، ويرسم خارطة الوجود ومراتبه رسماً مطابقاً للواقع وفق نظام صحيح تماما، فيغدو عالماً عقلياً شبيهاً بالعالم العيني، إلا أنه رغم ذلك كله، لا يبلغ مبلغ العارف في شهوده، فيظل يميزه عنه ما يميّز فهم معنى الحلاوة عن تذوق العسل(…) ومع ذلك فإن ابن عربي، يقرّ – من جهة أخرى – بأن الاكتفاء بهذه المعارف العقلية لا يؤدي إلى الاتصال بالحقيقة المصحوب ببلوغ الكمال والسعادة الحقيقيّين، وإنما يظل الإنسان – رغم هذه المعارف – عَطِشاً كما كان من قبل، ويبقى يتخيّل الماء من دون أن يبلغ فاه، ومن ثم فلا يصدره أو يرويه40.
7- ديالكتيك العدم والجلاء عند لاوتسو
لا ينأى الطريق الى فهم الحقيقة اللاَّمتناهية للوجود لدى العرفان الإسلامي عما توصلت إليه صوفية الشرق الأقصى من مقاربات لتلك الحقيقة. فالحقيقة المقصودة هي نفسها، وان اختلفت اللغة ووسائط الإعراب عما في الاختبارات الروحية والمعنوية من حقائق مستترة.
يقول لاوتسو منبِّهاً أحد مريديه:
التاو لا يدرك فهو لا يتعلق بالأفكار، و”تعاليمي يسهل فهمها…لكن عقلك لن يستوعبها أبداً” Tao Te Ching, 21,70) . يمكن أن تطول هذه اللائحة على نحو غير محدد، لأن الصوفيين مجمعون في موقفهم المعارض لأن يكون العقل طريقاً يمكن أن يوصل إلى قمة الجبل المقدس. وفي مقطع آخر يقول الحكيم الصيني: “فوق ليس مُشرِقاً / تحت ليس مظلماً / يعود إلى عالم اللاشيء / صورة من دون صورة / لطيف لا ينالُه إدراك / اقترب منه ولكن ليس هناك بداية / اتبعه ولكن لا يوجد نهاية / لا تستطيع معرفته لكنك تستطيع أن تكون هو / اعرف فقط من أين أتيت / هذا هو جوهر الحكمة”. (Tao Te Ching 14).
لنا ان نشير الى ان حضارة الشرق الأقصى تختزن عوالم روحانية عميقة الغور في التاريخ. وهي على تعددها واختلافها فإنها تتلاقى في النقطة العليا. ولو كان لنا ان نعدّ حضارة الصين كمثال على روحانية الشرق الأقصى لوجدنا مركبة من ثلاث عقائد متداخلة في ما بينها رغم تمايزها التاريخي والتفصيلي وهي: الكونفوشيوسية، والبوذية (القادمة من الهند)، ناهيك عن التاوية.
تهتم الكونفوشيوسية بتشكيل هندسة معنوية وأخلاقية غايتها تحقيق عروة وثقى تربط الفرد بالمجتمع والدولة، وتعلِّم الانسان كيفية تطبيق هذه الهندسة. في حين تركز الديانة البوذية على جلاء الصلة بين الانسان بذاته ومع خالق الكون.
أما التاوية
فتركز على تعريف صلة الانسان بالحياة والوجود، وتستهدف بتعاليمها إرشاده إلى كيفية خلق التناغم الكلي داخل نفسه ومع الكون حتى بلوغ (التاو) أي تحقُّق الانسجام الكلي. ولذا يُنظر الى التاوية بأنها اكثر العقائد حضوراً وتأثيراً في الحياة الصينية. وتحتوي على جوانب عديد تتعلق بالكثير من تفاصيل الحياة الانسانية والوجود الكوني. والمعروف ان التاوية الفلسفية تغتذي من كتابين أساسيين: الأول وهو الـ”يیکنك”، وقد ألفه “لاوتسو” مؤسس التاوية، في القرن الثالث ق.م. والثاني هو الـ”چنگ تسی”، ويضم مجموعة من الأمثال والمواعظ، وصنفه “چنگ تسي” بعد فترة قريبة من صدور الكتاب الاول.
يقوم جوهر التاوية على فكرة مؤداها: ـ
ان الوجود بأجمعه، بما فيه الوجود الانساني، يتكون من قوتين او طاقتين متكاملتين: (ين ـ يان) وتكتب أيضاً (ينغ ـ يانغ) ولفظها الصحيح هو(ینگ ـ یانگ). ويمكن ترجمتهما بعدة كلمات: المؤنث ـ المذكر/ البارد ـ الحار/ المنفعل ـ الفعال / السالب ـ الموجب. هذه (الثنائية تكاملية) تشير الى ان كل طرف منها لا يوجد الاّ مع الطرف الآخر. فليس هنالك ليل دون نهار، شهيق دون زفير، ذكر دون أنثى، ساخن دون بارد.. إلخ؛ وكلٌّ منهما يحمل معه قدرة التحوُّل نحو الآخر. أما كلمة (تاو) فهي تعني (طريق الانسجام) للتوازن والتكامل بين طاقتي الوجود. او بمعنى آخر، القوى المطلقة والغاية القصوى لكل الوجود. ولأن ثنائية الوجود عند التاو هو ثنائية تكاملية.
فإن الخير هو الانسجام والتكامل بين الثنائيات، اما الشر فأنه ينتج من تخلخل الانسجام والتوازن بين هذه الثنائيات. فمثلا، ان توازن (البرد والحر، الليل والنهار، الرجل والمرأة، الدين والدنيا، الحداثة والاصالة، الدولة والشعب، الواجب والمتعة، الفرد والمجتمع…)، هو الخير، وغلبة أحدهما على الآخر، هو الشر. والخير يكمن في انسجام الثنائيات، وأما الشر فيكمن في تناحرهما. الأنثى وحدها هي الوحشة والجفاف، والذكر وحده هو السأم والموت، الانسجام والتوافق بين الاثنين هو الحب والخصب والحياة. بين الماضي والمستقبل هناك الحاضر، والحاضر هو الخير وهو الواقع، وهو الماضي والمستقبل بآن واحد. ان الشر لا يكمن في النار وحدها بل في الثلج أيضاً، أما الخير فيكمن في وسط النار والثلج، أي الماء الجاري من اتحادهما، وهو الارتواء والخصب وسر الحياة41.
8- الجلاء كمعانقة للعدم
سوف نرجع إلى كتاب لاوتسو (حوالي القرن السادس قبل الميلاد) المسمى: تاو تي تشنغ وكتاب تشوانغتسي (375-300 قبل الميلاد) لفهم المضامين الكونية لمعنى العدم في الجلاء. فإذا حملنا مفهوم العدم على الجلاء، فلن تعود علاقتهما علاقة اعتماد متبادل، بل ستخضع إلى حقيقة جوهر الوجود، فلو اعتبرنا أن معنى الجلاء هو معانقة العدم لذاته كما تفعل التاوية، لربما انفتح السبيل من أجل رأب الصدع المفرِّق بين العدم والوجود.
مثل هذه المعانقة بين ثنائية العدم والوجود سوف تفضي الى توحيد الوجود الذي حرص ابن عربي على تظهيره من خلال التكامل الذي أجراه بين الوحدة والكثرة، وبين الله والعالم عند التاوية سنجد مفهوم الجلاء هو المعادل لهذه السيرورة التكاملية بين انحاء الكثرة اللامتناهية في الكون.
ولو كان لنا أن نلقي نظرة على الكلمة الألمانية للجلاء، Lichtung، سوف يتبين انها مفردة مشتقة من الفعل: lichten أي الذي يمكن له أن يترجم كتسوية الأرض، أما كإسم فهي تعني الإنارة والانفتاح من غير حجب وموانع. يستخدم هايدغر الكلمة بمعنى فتحة في الغابة خاوية من الموانع، مما يتيح لها المجال لكي تلعب دور فضاء موجود باستقلال عن التأثير المتبادل بين وجودها في وجهيه: المستتر والظاهر42 أما بالنسبة إلى الإنارة، فمع أن هايدغر كان قد ربط بين الوجود والنور في أعماله المبكرة وخصوصاً عمله الأكثر بياناً وإثارة للجدل: “الوجود والزمن”43، فيبدو أنّه قد عاد ليرفض هذا التشبيه في بعض أعماله.
يسأل هايدغر:
هل للجلاء والنور أي علاقة مع بعضهما بعضاً؟
ثم يجيب: من الجلي أن الأمر ليس كذلك! «الجلاء» يتضمن المعاني التالية: الإيضاح، إرساء الأسس، الكشف والبيان؛ لكن هذا لا يعني أنه حيث «يجلِّي الجلاء» سيوجد لدينا بالضرورة الإشراق والسطوع، فما ينجلي هو الحر والمنفتح. وفي الوقت ذاته، ما ينجلي هو بعينه ما يستر نفسه ويخفيها44.
حين يتكلم لاوتسو عن حكماء العصور القديمة أصحاب المعرفة المقربة بالتاو (أو المطلق)45، يعود ليتساءَل: «من يقدر على تسكين الماء الموحل، ليعيده ببطء إلى الصفاء، ومن يقدر أن يحرك المياه الساكنة، ليعيدها ببطء إلى الحياة؟46“.
بالنسبة إلى لاوتسو وتشوانغتسي
فإن قيام الإنسان بإزالة ارتباطه بمقاييس الصواب والخطإ و«هذا وذاك» وهلم جرا، يعني أن يطهر نفسه من تللك الأشياء التي تمنع تناغمه مع التاو، فإن هذه الوحدة المتناغمة مع المطلق هي ما تتيح المجال أمام الرجل الحكيم ـ الذي تعرفه التاوية على أنه ذاك الذي يحاذي طريق التاو ويتحقق به ـ كي يجتمع مع كثرة الأشياء في العالم في حالة من الوجود اللاَّمتعين الذي لا فرق ولا تحديد فيه، حيث يسير بين الأشياء متحرراً من الهم عليها والاهتمام بها. ولذا فإن الرجل صاحب الإشراق والطهارة الحقيقيين قادر على الدخول في البساطة المحضة والعودة إلى الكيان الأولي من خلال اللاعمل، مُحيلاً الجسد إلى طبيعته الفطرية، معانقاً روحه، وبهذه الطريقة يسير عبر عالمه اليوم 47.
من الصحيح إذن أن الجلاء يفتح نفسه أمام الإشراق والظلام، وكذلك أمام الصوت والصمت، لكنه ليس هو ما يقوم بالجلاء أو الفسح أو التحرير. فقط “التاو” عبر قدرته التوليدية لديه الطاقة على إنتاج هذه الصفات، وفقط العدم المرتبط به يمكن له أن يسهل تحقيقها. سبب هذا، أن العدم، كما يفهمه فلاسفة التاوية، ليس مجرد نفي الحضور أو الافتقاد إلى الحضور، بل هو الجوهر الكوزمولوجي الذي يتألف منه الواقع، وهو الحيز الكامل الذي يوجد التاو من خلاله وتتم تجربته فيه. وهكذا فإن جلاء هايدغر ليس أكثر من السطوع الذي يعبئ فراغه، أما الطاو، فلأنه ليس لديه أي طبيعة «شيئية»، فإن طاقته الخلاقة تتفجر من خلال العدم بطريقة لا تشبه النهلستية (العدمية) في شيء، ولهذا فلطالما جرت الإشارة إلى الفلسفة التاوية بأنها ميونطولوجية. – أي الدراسة الفلسفية للعدم.
إذا ما أخذنا صفات العدم المذكورة أعلاه وطبقناها على الجلاء، فإن الجلاء يلعب دورين مترابطين ولكن متمايزين:
- على مستوى الموجودات، حيث يقوم بتجويفها ليتيح المجال أمام دفق الحياة الخلاق ليحصل فيها؛
- وعلى مستوى الوجود فإنه يجلو الوجود نفسه بحيث يشرق تجذره في العدم. بكلمات أخرى: يستمر الجلاء دون مانع من الوجود أو حد منه، ولكن انكشافه لا ينبع من حالة سابقة من إخفائه لذاته بل من خلال كونه متحداً مع التاو.
العدم بمفهومه التاوي..
هو خالقية الحياة في أقصى صورها، وهو وسيلة الإمكانيات المصبوغة بدهشة التاو التي تقع في جوهر كل موجود كان ثم لم يعد كائناً، أو هو كائن الآن، أو سيكون لاحقاً. إن شموليتها هي اكتمالها، ومن خلال هذا الاكتمال يدع التاو الأشياء تكون كما في استعدادها الطبيعي أن تكون؛ ولهذا أمكن القول إن القفزة إلى هاوية العدم ليست قفزة من هذه الذات إلى ذات أخرى، بل هي عودة باطنية إلى السكون البسيط الفارغ المتجرد الذي يميز الأشياء التي تتناغم مع الطاو48. وهكذا يتم تجاوز «حدث الوجود» في الجلاء من خلال «لا حدث» التاو؛ وهو «لا حدث» لأن التاو يعمل كالمحور لجميع التحولات، وفي الوقت ذاته يعمل كأساس حقيقتها في حال كونه دون أساس سابق له.
وعلى الاجمال فإن التاوية تجعل العدم كالموئل الذي يحقق فيه التاو خلاقيته، ومن خلال ذلك تنسب إليه صفات تفتقد إلى الوجود تماماً للتأكد من أن رفعته ستظل أبعد من تطفل أيدي الإنسانية. أما بالنسبة إلى حكيمي الصين لاوتسو وتشوانغتسي فليس الجلاء “زوال خفاء” بل انكشاف أن الوجود متحد دائماً مع العدم في دورة التولد وإعادة التولد والبروز والكمون. لذلك يشير الجلاء إلى موقع حريتنا الكوزمولوجية التي تسهل انجلاء جوهر الحقيقة نفسها، وهي حقيقة ترتبط من دون ريب مع تعايش التاو مع العدم واستخدامه له.
يتحدث هنري كوربان في كتابه
“الخيال الخلاَّق عند ابن عربي” عن الوحدة الصوفية باعتبارها وحدة تفاعلية بين الله والعالم، وكذلك داخل الاختلاف في هذا العالم. يقول في هذا مقتبساً من الشيخ الأكبر إن كل مخلوق هو مظهر او مجلى للوجود الإلهي الذي يتجلى فيه متلبسا باسم او عدة اسماء من الأسماء الإلهية. والعالم هو مجموع الأسماء الإلهية التي يتسمى بها حين نسميه من خلالها. فكلاسم متجلٍ من أسمائه هو رب الموجود الذي يظهره (أي الذي هو مظهره). فكل موجود هو مظهر الرب الخاص، أي أنه لا يظهر الحق إلا مخصوصاً ومفرداً في هذا الاسم. فلا موجود محدد ومفرد يمكنه أن يكون مظهر الألوهة في كلِّيتها، أي في مجموع أسمائها الحسنى أو مجموع “الأرباب”. لهذا يقول ابن عربي: “وكل موجود فما له من الله إلا ربه خاصة، ويستحيل أن يكون له الكل.
وهنا يجد المكان الإلهي مركزيته في روحانية مدرسة ابن عربي..
اي سر الربوبية. الشيء الذي تكشفه لنا عبارة للعارف الكبير سهل التستري:”إن للربوبية سراً” وهو أنت، لو ظهر لبطلت الربوبية. هذا في العمق ما يذهب اليه ابن عربي لما تكلم عن الخفاء كسرٍّ من أسرار الربوبية في عالم الخلق. إننا نجد في كلام كهذا إحالة ضمنية لظاهرة الحب الأزلي الذي يشير اليه الحديث القدسي “كنت كنزاً فحببت أن أعرف فخلقت الخلق فعرفوني”…
بين التجلِّي كحاصل عرفاني لفلسفة وحدة الوجود عند ابن عربي، والجلاء كحاصل لعناق حميم بين الوجود والعدم عند لاوتسو، تنعقد مقامات الوصل في عالم الكثرة، ليصير الوجود كله نفساً واحدة لتجلِّي الواجد الأعظم.
_________
د. محمود حيدر– مفكر وباحث في الفلسفة والإلهيات – رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة – بيروت – لبنان.
[1] – خوسيه آنذل بالنثه – حول لغة المتصوفة وظاهرتي الالتقاء والنقل – فصلية “المعارج” – ملف خاص حول التصوف – العددان (48-49)- ربيع 2004.
[2] – أبو العلا عفيفي – التصوف – الثورة الروحية في الإسلام – دار الشعب – بيروت – بلا تاريخ – ص 49.
[3] – يوسف سامي اليوسف – مقدمة للنفري – دار الينابيع – دمشق 1997 – ص 9- 10.
[4] – المصدر نفسه –
ص 14.