اجتماعالمقالات

إشكاليَّة علوم الإنسان؛ هدم مقولة ادِّعاء “النتائج المطلقة” وتبنِّي “حقيقة نسبيَّة الحقائق”

العلوم الإنسانية

من الإشكاليات العويصة التي بدأت مؤخراً في البُرُوزِ إشكالية النتائج التي توصلت إليها علوم الإنسان، حيث أصبحت السوسيولوجيا والسيكولوجيا والأنثروبولوجيا وعلوم التربية بجميع حقولها وميادينها المعرفية، إضافة إلى العلوم الاجتماعية والاقتصادية …إلى آخره من العلوم التي تدعي أنها تدرس الإنسان أو أبعاده وتجلياته وتمظهراته، أصبحت تدعي [كل هذه العلوم] أنها وصلت إلى نتائج دقيقة ومضبوطة، قد تغير وجهة نظرنا حول الإنسان،  إلى حد القول أنها نتائج مطلقة، بمعنى عمومية وتشمل الإنسانية جمعاء، وجاء مقالنا المقتضب هذا في سياق هدم هذه المقولات التي تدعي اليقين وبلوغ الحقيقة المطلقة، للدفع عنها والتذكير بأطروحة أو الحقيقة التي توصلت إليها كل من فلسفة العلوم المعاصرة وابستيمولوجية علوم الإنسان والتي مفادها أن: “الحَقِيقَةَ الوَحِيدَةَ المُتَوَّصَلِ إليها في سِياقِنا المُعاصِرِ والرَّاهِنِ هو اللاَّ-حَقِيقَة ونِسْبِيَّةُ كُلُّ الحَقَائِقَ.”، ولعلنا بهذه الصفعة قد نوقظ نتائج علوم الإنسان التي تدعي أنها مطلقة من سباتها الوثوقي والدوغمائي المتزمت، من أجل أن تعترف على الأقل بنسبية ونسبوية كل حقيقة متوصل إليها حول الإنسان!

يمكن القول أن الإنسان كموضوع للدراسة اقترن بميلاد علوم الإنسان منذ منتصف القرن التاسع عشر مع بروز مشروع التيار الوَضْعِي بزعامة أوغست كونت الذي يمثل الأب الروحي للفلسفة الوَضْعِيَّةِ التي ترمي إلى مجاوزة الخطاب التأملي المجرد والذي كان لصيقاً بالميتافيزيقا، ولهذا كانت الفلسفة الوضعية فَلْسَفَةً عِلْمِيَّةً لِلإنْسانِ، أي تدعوا إلى التخلص من الخطاب الميتافيزيقي للإنسان بخطاب علمي له، فدراسة ظواهر الإنسان دراسة علمية موضوعية تنحل منحل العلوم الطبيعية من رياضيات وفيزياء وكيمياء وبيولوجيا وجيولوجيا، يمكن إسقاط هذا المنهج على الإنسان ومجمل أفعاله وتصرفاته وسلوكياته وحوادثه.

لهذا جاءت علوم الإنسان متمثلة في السُّوسْيُولُوجْيَا والذي سيدرس الواقعة الاجتماعية دراسة علمية موضوعية.

ثم السَّيْكُولُوجْيَا التي ستدرس الجانب الشعوري واللاشعوري والإدراكي وكل ماله علاقة بالنفس  في الإنسان دراسة أمبريقية اختبارية تجريبية.

فالأَنْثْرُوبُولُوجْيَا وهي تدليل على علم الإِنَاسَةِ، وتهتم بالجانب النسقي في الإنسان، خاصة النسق الثقافي، أي الأنثروبولوجيا الثقافية، ثم النسق الإجتماعي، أي الأنثروبولوجيا الاجتماعية، إضافة إلى الإثنولوجيا.

هناك علوم إنسانية أخرى تشكل امتدادات لهذه العلوم الثلاثة الرئيسة: السوسيولوجيا والسيكولوجيا والأنثروبولوجيا، مثل العلوم الاقتصادية والاجتماعية وعلم التاريخ وعلم الجغرافيا والديمغرافيا …إلى آخره من العلوم التي تهتم بدراسة الإنسان، أو جعلت من الإنسان موضوعا خاصا لها أو بعدا من أبعادها، لهذا لا يجب الانزعاج من نسيان ذكر أحد العلوم أو تفضيل واحدة على أخرى، لأن مسألة تصنيف علوم الإنسان فيها إشكال وتحتاج إلى كتاب أو مجلد لمعالجتها، فنكتفي بالقول أن علوم الإنسان هي علوم موضوعها الإنسان، ومن بين أبعادها الإنسان، فمن تحقق فيه هذا الشرط من العلوم عُدَّ علم إنسان.

وعودة أبدية إلى موضوعنا الذي هو مسألة النسبية في هذه العلوم الإنسانية، فرغم أننا نجد تطلع التيارات الوضعية إلى تفسير الظاهرة الإنسانية تفسيراً سببياً، إلا أن ذلك كان دائماً بشكل نسبي، وادعاء التزام الحياد والموضوعية في دراسة الإنسان هو ادعاء كاذب وباطل ومجرد بهتان وتوهم.

لأن محاولات مُطْلَقَةِ نَتَائِجِ الظاهرة الإنسانية قد اصطدمت بجملة من الصعوبات وطرحت عديد الإشكالات، ذلك أن ظواهر الإنسان ومجمل أفعاله هي أفعال نسبية لا تتكرر ولا تخضع للاطراد، فكيف يمكن أن نعتبرها دراسات مطلقة أو ندعي أننا نفسرها تفسيرا علميا؟

أليس الأجدر، بدل التفسير العلمي للظواهر الإنسانية والبحث عن النتائج المطلقة، ذرء النتيجة والاكتفاء بنسبة الأسباب إلى مسبباتها ؟

فالإنسان ليس معطى ثابت في الطبيعة وموجود أمامنا لنضعه في المختبر ونطبق عليه تجارب فنخلص لنتائج ونقول ها هو الحل، لا ليس كذلك، فنحن أمام أعقد الكائنات المخلوقة على وجه الأرض، نحن أمام مخلوق يُفَكِّرُ، والتَّفْكِيرُ قادر بقدرة قادر أن ينفي كل خطاب مطلق حول هذا الكائن المفكر.

فنحن نتفهم السعي الدؤوب لعلوم الإنسان للتحرر من كل خطاب تأملي مجرد مطلق، لكن أن تسقط في خطاب مطلق وضعته هي نفسها هذا ما لا نرضاه البتة.

لهذا نعترف هنا، أن علوم الإنسان ستظل عاجزة عن استيفاء شرط الاطلاقية، لأنه وبكل بساطة، لا تضع علوم الإنسان، ما تدرسه، أي الإنسان هو أيضاً بين قوسين بلغة هوسرل، وبالتالي يجب علينا أن نتخلص من أحكامنا وتصوراتنا المسبقة القبلية حول الإنسان، وبالتالي وضع حقيقة “نسبية” النتائج المتوسل إليها حول هذا الإنسان أمام أعيننا دائما وأبدا.

لا يمكن أن نرجع دعوة النتائج اليقينية إلى منهج اشتغال الباحث في علوم الإنسان، ذلك أن يعتقد انطلاقا من روح العلمية الذي يحمله، والغرور والطبع المتكبر وادعاء الحياد الفكري، … إلى آخره، كل هذا يعيق تحقيق النسبية في هذا العلوم، التي تتأسس في جوهرها على أحكام قيمة الباحث فيها، بل حتى الاختلافات التي نلمحها لدى الدارسين والمهتمين بهذه العلوم، تَعِلَّةٌ على ثاوية ولا واعية هذه الشروط، كما لا يمكن تحقيق الشك في الأحكام المسبقة والأحكام الجاهزة التي نجدها في ذهن الباحث في علوم الإنسان.

إن نسبية علوم الإنسان لهي أشد تعقيدا، وذلك لأن الباحث فيها يعتقد أنه يلاحظ ويجرب كما يحدث في العلوم الطبيعية والدقيقة، لكن ما لا يعرفه أن الظاهرة الإنسانية التي نُخْضِعُهَا للملاحظة والقياس هي ظاهرة قابلة للتغير والتغيير والتحول المستمر، وبهذا يجب ما أمكن خلخلة التمركز الذاتي للباحث والذي هو شرط ضروري لبلوغ النسبية في هاته العلوم، فيغذو الأمر شديد الصعوبة حينما يكون الباحث يود دراسة ذات متغيرة بإستمرار وسيالة ولا يمكن مَرْكَزَتُهَا البَتَّةِ، كما لا يزيح تمركزه، أقصد الباحث عن الظاهرة المدروسة.

لهذا لا شك وأننا في القرن الواحد والعشرين على علم بالإشكالية التاريخية لبروز علوم الإنسان التي هي علوم جاءت وليدة الثورة الفرنسية الشهيرة لسنة 1789م، والاختلالات التي شهدها المجتمع  بصعود الطبقة البرجوازية وتدهور الطبقة البروليتارية وحدوث الثورات في جميع الميادين الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والفكرية والإيديولوجية والسياسية والتربوية والقانونية كل هذا مطلع ومنتصف القرن التاسع عشر إلى حدود منتصف القرن العشرين، مما أدى إلى بروز علم دراسة المجتمع المتمثل في السوسيولوجية، وعلم دراسة الأفعال السلوكية والنفسية والإدراكية …إلى آخره المتمثل في السيكولوجيا، إضافة إلى علم دراسة الإنسان نفسه، الأنثروبولوجيا التي انقسمت إلى أنثروبولوجيا ثقافية وأنثروبولوجيا اجتماعية ولا ننسى كذلك علوم التربية والبيداغوجيا والديداكتيك التي هي علوم تدرس كيفية تربية الإنسان.

ولا بد لنا من الاعتراف أن الروح العلمية هي روح مولعة بالنسبية لا الاطلاقية، كما أن العصر العلمي هو عصر جاء لمجاوزة وإيقاف عصر الماورائيات التي كانت تدعي الاطلاقيات، لهذا كان الإنسان بدوره عصيا على أية مقاربة اطلاقية، ونؤكد أن ميلاد علوم الإنسان تدليل على تشكل الروح العلمية وترسخها في أوروبا نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولهذا فمن المستحيل، من وجهة نظرنا، مبدئيا أن تتمكن علوم الإنسان من بلوغ النتائج المطلقة، أو تحصيل حقيقة عن الإنسان لأن المعرفة التي يكونها الإنسان عن نفسه معرفة منظورية، ولأنها منظورية فإنها نسبية.

ولا ننسى كذلك قصور المناهج المستخدمة في علوم الإنسان لبلوغ حقيقة مطلقة حول الإنسان.

فمنهج التفسير الذي هو بمثابة منهج كشفي يكشف لنا العلاقات الثاوية الموجودة وراء كل حادثة أو واقعة أو فعل إنساني معين، لا بد أن نوضح أن هاته العلاقات الأولية هي علاقات ليست ثابتة كما ثم الاعتقاد سابقا بل هي علاقات متغيرة بإستمرار ومتحركة ومتحولة وسائرة تخرج من قبضة كل تفسير، بل يمكن ملاحظتها وفقط، وبهذا لا يمكن لهاته العلاقات الثاوية المضمرة أن تتحول إلى أكسيومات ترمي ضبط الفعل الإنساني الغير مضبوط، ولهذا كل معرفة تدعي ضبط الإنسان هي معرفة متسرعة في مقتضاياتها ومطالبها وقاصرة في نتائجها.

كما أن معرفة ما هو جواني-داخلي في الإنسان معرفة تبدو مستحيلة، ذلك أن عالم الإنسان الباطني عالم صادر عن قوة غريبة حتى على الإنسان ذاته، ويعجز هو نفسه عن فهمها وتأويلها، فقط يمكن ملاحظة ما هو نفسي-داخلي انطلاقا من سلوكات وتصرفات وأفعال وأفكار الإنسان الصادرة عنه-الظاهرة والمتجلية.

إن الخاصية المميزة لكل معرفة تدعي أنها حول الإنسان هي المعرفة البديهية المُلاَحَظَةُ والواضحة.

وجب كذلك على علوم الإنسان مراعاة البعد الوجودي في الإنسان، فالتجربة الوجودية هي تجربة معيشة يعيشها الإنسان حينما ننطلق من فرضية أنه موجود في هذا العالم، وكل ما هو موجود في هذا العالم بالضرورة نسبي ليس مطلق، فوجوده ينتهي بعدمه، أي موته وفنائه.

مهما بدا الموقف الداعي بالنتائج المطلقة لعلوم الإنسان موقفاً مشروعاً ولا محيد عنه فإنه مع ذلك، موقف يضع علوم الإنسان أمام عائق لا يمكن تجاوزه، لأنه اعتبر الإنسان ظاهرة ساكنة بدل اعتباره ظاهرة عارضة وفعالية وفاعلية عاقلة.

لهذا سنجد أنفسنا، بخلاف ذلك، إزاء حركة فاعلية، أقصد الإنسان، تتأبَّى وتَسْتَعْصِي، بشكل جذري، على كل مسعى لادعاء إطلاقيتها، وذلك بسبب أنها وبكل بساطة، ذات متحركة وسيالة ومتغيرة وسائرة وصائرة في نفس الوقت.

ولهذا نحتاج إلى منهج دينامي أصيل يتلاءم ودينامية حركية موضوع الدراسة، أي الإنسان، ويتلاءم والسياق المتحرك الذي يحكم الفعل الإنساني.

ولهذا المنهج  ملمحان فهو حركي-دينامي، ومتغير في آن واحد، إذ يتعلق الأمر، في الحقيقة، بانطلاقنا من حركية القوانين والقواعد التي تؤثر، تبعاً لعلاقات مبعثرة وعبثية، متداخلة وغير منظمة، في موضوع معقد هو الإنسان، وفي مثل هكذا منهج يتم استحضار كل ما يحيط بالموضوع المدروس، أي الإنسان، من أبعاد وتجليات وتمظهرات وتجليات، هي بمثابة شروط (اللغة، التاريخ، المجتمع، اللاشعور …إلى آخره.) تشرطه دائماً.

ولهذا لا ينبغي الانطلاق من دراسة الإنسان من تصور نعتبره فيه كما لو كان حراً ومستقلاً ومريداً إرادةً كُلِّيَةً عن شروطه التي تشرطه.

لهذا ظل مفهوم المطلق مفهوم غير مستساغ من طرف العلوم الطبيعية الدقيقة، ونريد أن يصبح غير مستساغ أيضاً حتى بالنسبة لعلوم الإنسان، لكونه مفهوما ميتافيزيقا وترنسندنتاليا بمعنى متعاليا …، ومعنى كل هذا بكل بساطة أن نضع الإنسان في عالمه السيال والمتحرك، أي نضع دينامية الإنسان في قلب دينامية العالم.

إن علوم الإنسان علوم بصيغة الجمع لكونها تقوم على روح علمية، وتسعى إلى تحديد المتغيرات والقواعد أو القوانين والعلاقات التي تسكن حركة الإنسان وتتمفصل ضمن بنى وطبقات متحركة، وذلك من أجل الكشف عن هاته المتغيرات التي تقدم نفسها كثورات وانقلابات تجثم في الإنسان جثوم العادة.

فالمظهر الأول لعلوم الإنسان هو كونها علوم تركز على البنى المتحركة في الإنسان، هذه الأبنية أو الصفائح التِّكْتُونِيَّةِ المتحركة في الإنسان لا تقوم البتة على أكسيومات مبرهن عليها، أو بديهيات، لأن الإنسان دائم التغير والتحرك والجريان في المكان والزمان.

كما أن هناك وقائع وأفعال وأفكار توجد داخل الإنسان تشرطه وتتحكم فيه ويصعب كشفها عن طريق تطبيق مناهج البحث العلمي.

لهذا نقول عن سلوكات وتصرفات وأفعال وأفكار الأفراد هي نتاج إكراهات تمارسها عليهم كل الشروط التي تشرطه في كليته، لهذا يحق لنا قول، أن الإنسان كحركة لا يمكن فهمه إلا بشكل نسبي، أي نسبة إلى الشروط والظروف التي تشرطه وتحده دائماً.

في الختام، نقول إن إشكالية أو مسألة النِّسْبِيَّةِ أو النِّسْبَوِيَّةِ في علوم الإنسان التي ارتأيناها في هذا المقال المُوجَزِ، إشكالية تحتاج فعلاً إلى الدراسة المُعَمَّقَةِ الجدية، ذلك أننا أصبحنا نلمح حالياً تزايداً مُهْوِلاً لنتائج علوم الإنسان التي تدعي أنها نتائج دقيقة ومضبوطة إبستيمولوجياً، ومطلقة كذلك، لهذا يجب إعادة النَّظَرِ في هذه النتائج التي أصبحت بمثابة مسلمات نعتقد خطأً أنها حقيقية وصادقة، وهذا ما نرفضه البتة، ونؤكد دائماً نسبية علوم الإنسان على غرار نسبية العلوم الطبيعية الدقيقة، ونعلن منذ الآن نهاية حقيقة الحقيقة، كما عبر عن ذلك نيتشه حينما قال: “الحقيقة مجرد أوهام، نسينا أنها كذلك”، وعلوم الإنسان أغفلت أن كل نتائجها مجرد أوهام نست أنها كذلك.

———-
محمد فرَّاح: حاصل على شهادة الإجازة في التربية تخصص التعليم الثانوي التأهيلي-الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات