صناعة المعنى:
ينشِئ التَّعامل مع الصدمة، والغياب عن موقع الحدث، مخاوف مع البعد غير المعرفي، الذي يتشبَّث بالجانب العاطفي للممارسات، التي تُحْدِثُ خَضَّات عنيفة على مستوى الدولة والمجتمع. ففي الآونة الأخيرة، بدأ السودانيون في التساؤل عن كيفيَّة تشكيل عمليَّة صناعة الأماكن للذكريات الجماعيَّة بما يتجاوز الاهتمامات السياسيَّة، وأكثر من ذلك عندما يغيِّر التدمير العنيف والمتوحِّش تصوُّرات الناس للوثائق والآثار، عند حرق المتاحف، وتخريب المستشفيات والجامعات والمؤسَّسات العامَّة، واحتلال بيوت المواطنين وتهجيرهم، وتهجين الأماكن بساكنة جُدد، يفرحون بما أوتوا بغير حقّ. وهنا، تدور الاستراتيجيَّة المزدوجة في الاتِّجاهين، بناء على المعلومات المنظّمة لمحو آثار أصحاب هذا الحق، وإنشاء “مكان تذكاري” بديل، والاعتماد على منطق العدوان في محاولة إعادة ضبط السلوك الجمعي للتشكيك في النظام الرمزي اليومي، الذي كان سائدًا. وبالاعتماد على الأدبيَّات القليلة، التي تمَّ رصدها حتى الآن، والتي يمكن أن نوضح من خلالها بعض ملامح ما يجري في السودان، علينا التقاط صور ذهنيَّة تصلح حججًا للمباهلة. وتتمثَّل في نسخٍ مبسَّطةٍ من نوع الحجَّة، التي تقول إنَّ “الذكريات” و”المكان”، أو ما يمكن أن نسميه بـ”المحور الرأسي”، يرتبطان بالقواعد المُؤسِّسَة للعلاقات المشتركة بين أصحاب الحقِّ و”المكان”، لكن العمليَّة الثقافيَّة، أو ما يمكن أن نُطلق عليه “المحور الأفقي” تتوسَّط هذه العلاقات، ولا تستبعد المُعتَدِين من حقِّ الانتماء للفضاء العام. ولا يتم تحديد “المكان”، في هذه الحالة، من خلال الذكريات، ولا يحدِّدها الإدراك “على الجانب الأيسر”، أو عمليَّات صنع الإحساس “على الجانب الأيمن”، وإنما تعمل هذه “الذكريات” كمُرَشِّحٍ بينهما. ومع ذلك، فإنَّ كل هذه العناصر هي جزء من دائرة ليس لها أولويَّة واضحة في حمأة ما يدور من صراعٍ الآن، فالأولويَّة كما هو جليٌ تعتمد على العمليَّة السياسيَّة، التي تستثمر “الأماكن” و”الذكريات” على حدٍّ سواء، على أن يظل هذا النهج التحليلي موضوع بحث أوسع في المستقبل.
لهذا، فإنَّ أي نقاش حول العلاقة المتبادلة بين دراسات “المكان” و”الذاكرة” و”الهويَّة“، سيقودنا بالضرورة للتفكير الجدِّي في تنظيم مشروعٍ وطنيٍ طموحٍ يُظهر الحالات الثلاث “المكان والذاكرة والهويَّة“، مقترنةً بالاهتمامات اليوميَّة في عمليَّة تعاونيَّة لـ”صنع المعنى”، وإعادة “صنع المكان”، لأنَّهما على المحك، ويتطلبان إعادة صياغة “الذاكرة” وبناء “المكان” في وقت واحد. من وجهة نظر نشطاء حقوق الإنسان، يتطلَّب السياق تغييرًا ثقافيًا كبيرًا حتى على حساب النضال السياسي. ومع ذلك، يمكن لمثل هذه المبادرات أن تُحْدِث تغييرات ماديَّة قد تبدو متواضعة نسبيًّا في الفضاء الحضري العام، لكنَّها شديدة الأهميَّة من منظور “صنع المكان”، وبالتالي التأكيد على “صنع المعنى”. ويتعلَّق أحد العناصر الحاسمة في جميع عمليَّات “صنع المكان” بمزيج الأنشطة والوظائف في نفس الموقع، وبالتالي نطاق عقال السلوك المناسب، الذي يرتضيه الجميع. وبحكم التعريف العام، فإن الساحة المركزيَّة هي “المكان” الأكثر انفتاحًا، ومتوافقة مع جميع الأنشطة تقريبًا، وهو انفتاح تتقاسمه الحدائق المشتركة والمناطق المفتوحة الأخرى. وإلى جانب ذلك، تُعَدُّ النُصب التذكاريَّة والمتاحف أماكن محدَّدة جيدًا حيث يمكن تقييد السلوك بشكل مباشر، أو غير مباشر. وتظهر الحالات الثلاث انخفاضًا في حصَّة الوظائف المحدَّدة والتعليميَّة؛ والأهميَّة المتزايدة للأنشطة اليوميَّة الدنيويَّة، لا سيما في الساحة المركزيَّة. ومع ذلك، فإنَّ المزيج الواسع، وبشكل ملحوظ ومحسوس أن يكون مبرِّرًا للحاجة إلى الانفتاح والمرونة، التي هي آليَّات نموذجيَّة لـ”صنع المكان”، وبالتالي تدعم بناء “الذاكرة”.
ولهذا، فإنَّ الصراع الدامي، الذي يكتسح كل قيم التسامح في السودان، ويكتسي فيه مفهوم “المكان” و”الذاكرة” و”الهويَّة” بمنزلة مركزيَّة في حوارات الزمن الراهن، يتطلَّب أكثر من مجرد وقفات مراجعة سطحيَّة لأخطاء قادت إليه، وإنما تَعَمُّد جراحة عميقة لكل إشكاليات البناء الوطني، التي أخَّرت عجلة التنمية والنهضة، رغم ما تملكه البلاد من ثروات. وذلك بالتوافق على الحدِّ الأدنى من رؤىً؛ صعودًا بها الغايات العليا، فيما يطرح من نقاشات، ويُدرجُ من موضوعات تلامس حياة الفرد والجماعة، وتُجيب على تساؤلاتهم حول من هم، وتستجيب للمعالجات العاجلة كل ضائقة إنسانيَّة، أو نفسيَّة، أو مشاكل صحيَّة جديدة، أو متفاقمة، وإدخالهم المصحَّات العلاجيَّة، إذا بقي منها في السودان ما يصلح للاستخدام، والتي تُذَكِّر بالإيداع المبكِّر في المؤسَّسات الحافظة لرمق الحياة الأخير، والموت السريع. وتختلف المبادرات على مستوى المجتمع المحلي لمنع إساءة معاملة الهاربين من مصيرهم، ومحاولة معالجتها اختلافًا كبيرًا في جميع أنحاء البلاد، من معسكرات للنزوح، أو مهاجر اللجوء القاسية. وغالبًا ما تتضمَّن البرامج الواعدة فُرُق استجابةٍ متعددةَ التخصصات، وتعاونًا بين الوكالات، وجهودًا تعليميَّة مجتمعيَّة شاملة ومنسَّقة. على أن تشمل المعالجات طويلة الأجل القضايا الموضوعيَّة كإشكاليَّات الاندماج الاجتماعي، في مجتمع تتشابك فيه هموم مواطنيه وتوجُّهاتهم، وأفكارهم، ومساعيهم، وتطلعاتهم.
في المنهج:
لقد أصبحت التحقيقات في موضوع “الذاكرة” الاجتماعيَّة، أو الثقافيَّة، في السنوات الأخيرة، مجالًا رئيسًا للبحث والدراسة في جميع أفرع العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة. وشهدت الجامعات إحياء مفهوم “المكان” في العديد من التخصُّصات، إذ لم تعد دراسة “الذاكرة” حكرًا على علم النفس، بل تمتدّ الآن إلى الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والدراسات الثقافيَّة والدراسات الأدبيَّة والاتصالات والتاريخ، وعلى نحو متزايد، إلى الجغرافيا الطبيعيَّة والسياسيَّة. وتُحاول هذه المقالة إجالة النظر عبر بعض الاتجاهات الرئيسة في هذا الأدب المزدهر، وخاصَّة تلك الأعمال المكانيَّة بطبيعتها، والتي نجدها ذات أهميَّة كبيرة متعدِّدة التخصُّصات. ومع كثرة الحديث عن صناعة المعنى في كلما نتقصده من نشاط يُعَرِّفنا بأنفسنا في بيئة حاضنة، نتوقف عند حقيقة الانتماء، إذ تلتقي معًا “الذاكرة” والمكان لإنتاج الكثير من السياق للهويات الحديثة، التي تميز كل مجموعة عن غيرها. وتقدم هذه المقالة نظرة عامَّة متواضعة على تلك العلاقة الحرجة والديناميكيَّة بين هذه البعدين المهمين؛ “الذاكرة والمكان”، في صناعة المعنى، وهي بمثابة مواصلة لما بدأناه من سلسلة عن “الذاكرة والمكان والزمان” وعلائقها المتشعِّبة بالجغرافيا الاجتماعيَّة والثقافيَّة والسياسيَّة. ويستعرض هذا المقال بعض تعريفات ومفهوم “المكان” في إنشاء إطار مفاهيمي للتجديد الحضري في ضوء الإحساس بالمكان ومبادئ علم النفس البيئي، أو ما نُطلق عليه “ارتباط المكان”، الذي يُسلِّط الضوء على أهميَّة النهج والمبادئ القائمة على “المكان” في التجديد الحضري وآثاره على استمراريَّة “معنى المكان” و”هويته” في السياق السوداني، وأهميَّة البعد النفسي لهذا “المكان” في تجديد البيئة الحضريَّة بعد الحرب، من أجل الرفاهيَّة النفسيَّة للسكَّان.
ومن هُنا، نرى أنَّه يحسن أن نُقدِّم في هذه المقالة، مفهوم تعقيد “الهويَّة” الاجتماعيَّة، رغم بعض الخلاف في أصول، أو اختلاف في طارئ تشكلاته المستقرَّة والعارضة، إلا أنَّه بناء نظري جديد يُشير إلى التمثيل الذاتي للفرد للعلاقات المتبادلة بين هوياته الجماعيَّة المتعدِّدة. يعكس تعقيد “الهويَّة” الاجتماعيَّة في السودان درجة التداخل المتصوَّر للوجود بين المجموعات في فضاءات الزمان والمكان، التي يكون الشخص عضوًا فيها في نفس الوقت عندما ينظر إلى تداخل المجموعات المتعدِّدة على أنه مرتفع، ويحافظ الفرد على هيكل هويَّة مبسَّط نسبيًا حيث تتلاقى ذكرياته مع عضويات في مجموعات مختلفة لتشكيل تعريف مجموعة واحدة، وهي “سوداني”. وعندما يقرُّ الشخص ويقبل أن هذه العضويات في مجموعات داخليَّة متعدِّدة ليست متقاربة، أو متداخلة تمامًا، فإن بنية “الهويَّة” المرتبطة تكون أكثر شمولًا وأكثر تعقيدًا. مع ملاحظة أنَّنا في هذه المقالة، لا نود تحديد مفهوم تعقيد “الهويَّة” الاجتماعيَّة؛ في تَشَكُّلات “المكان” والذاكرة الجماعيَّة، ولا نُريد أن نحصر النقاش في سوابقه وعواقبه المحتملة، وإنما هي مجرد محاولة للتنبُّؤ بأن تعقيد “الهويَّة” الاجتماعيَّة غير المكتملة التَشَكُّل، كما هو الحال في السودان، يتأثَّر بالتوتُّر الحادث الآن، ويرتبط بأولويَّات القيمة الشخصيَّة للفرد في طرفي الصراع، والقدرة على التسامح مع أعضاء المجموعة الأخرى، التي تنازعه الوجود. وقطعًا لا يقصد من هذا النقاش أن يقتصر على النظر في هويتين فقط؛ في وقت واحد، بل يمكن توسيعه ليشمل عضويات فئات متعدِّدة، ولها مواقف مختلفة من طرفي الصراع.
ولكل هذا، فإن أيَّة محاولة لإعادة استكشاف مفهوم “الهويَّة”، فيما نحن بصدده من حديث عن “المكان” و”الذاكرة”، يقدِّم نقدًا للعلاقة بين “الهويَّة” الاجتماعيَّة والهويَّة الشخصيَّة، يشمل التمثيلات العقليَّة النشطة، والمخزنة للذات، في كِلا بُعْدَيهَا المتعلقان بالصفات الخاصَّة، وتلك المحدَّدة بالجماعة، التي شكَّلها الفضاء المشترك؛ أي “المكان” و”الذاكرة”، بالإضافة إلى الصفات الواعية وغير الواعية لكل فرد في المجتمع. وتساهم كل من “الذاكرة” الدلاليَّة والعرضيَّة في الذات، التي ليست بناءً موحدًا يضمّ الفرد فقط في الحاضر، كما هو الآن، ولكن أيضًا الذوات الماضية والممكنة، لأن معرفة الذات قد تتداخل بشكل، أو بآخر، مع وجهات نظر الآخرين، الذين مضوا عن ذواتهم. علاوة على ذلك، تختلف التمثيلات العقليَّة للذات سواء كانت إيجابيَّة، أو سلبيَّة، مهمَّة، ومؤكَّدة، ومستقرَّة. إذ إن أصول الذات، بهذا الفهم، متعدَّدة أيضًا، ويمكن اعتبارها من وجهات نظر التنشئة والبيولوجيَّة والداخليَّة والشخصيَّة، وترتبط الذات بالدوافع الأساسيَّة. على سبيل المثال، التماسك والوكالة والشركة، وتتجلى في شكل كل من الهويات الشخصيَّة والهويات الاجتماعيَّة. وبما أنَّ الذات هي نتاج قوى اجتماعيَّة قريبة وبعيدة، فهي أيضًا في حاجة إلى عامل نُضْجٍ يُشَكِّلُ بيئتها بنشاط، ويعمل على إدماجها في الجماعة بهويَّاتها المركَّبة.
سيولة المفهوم:
لقد أدَّى التجديد الحضري داخل البيئات التقليديَّة إلى تحويل “الأماكن” و”الذكريات” و”بناء المعاني” المضمنة في البيئات الاجتماعيَّة والثقافيَّة القائمة. وبالتالي، فإنَّ المعاني الاجتماعيَّة والعاطفيَّة، المرتبطة، أو التي تثيرها عناصر البيئة الحضريَّة، كانت على الأقل بنفس الأهميَّة، وغالبًا ما تكون أكثر أهميَّة من الجوانب الهيكليَّة والماديَّة لصور الناس. وحتى تنهض هذه المقالة بمسؤوليتها في توضيح وجهتها، فلا بد أن نُقِرَّ بأن مفهوم “المكان” يمكن إرجاعه إلى مصادر علميَّة كثيرة، إذ لم تتخلَّف أي من فروع المعرفة عن المساهمة الناضجة في التطرُّق الحصيف لأبعاده المختلفة، وكانت الكتابات الفلسفيَّة القديمة جذريَّة في تعريف “المكان” بخصائصه الاجتماعيَّة، التي أشار إيها أرسطو كبعد يُفَسِّر حدود “أين” في حياة الناس، وما تحويه من علاقة مع البيئة الماديَّة، والتي تستحضر الشعور “بالانتماء”. وقد استخدم الرومان، بعد قرون، مصطلح “روح المكان”، وأصطلح عليه لاحقًا بـ”عبقريَّة المكان”. يبحث كتاب “الذاكرة والمكان والهويَّة: إحياء ذكرى الحرب والصراع وتذكرهما”، الذي حرَّره دانييل دروزدزيوسكي، وسارة دي ناردي، وإيما واترتون، ونُشر في 12 فبراير 2018، بمطبعة روتليدج، في كيفيَّة ارتباط الجماهير المتنوِّعة بتاريخهم في زمن الحرب من خلال الارتباطات مع الذكريات الجماعيَّة اليوميَّة، في أماكن مختلفة.
ومن خلال معالجة مسائل “صنع المكان” و”الذاكرة” و”الهويَّة” على وجه التحديد، تلقي المساهمات ضوءًا جديدًا على عمليات إحياء ذكرى الحرب في الواجهات الحضريَّة اليوميَّة وداخل أجيال من الأسر والمجتمعات الوطنيَّة. وتسعى المساهمات إلى توضيح كيفيَّة تواصلنا مع الذكريات وأماكن الحرب والصراع. وتنكسر المظاهر المكانيَّة والسرديَّة لمحاولات وضع ذكريات زمن الحرب في سياق الخسارة والصدمات والصراع والنصر والمعاناة من خلال الأدوار، التي تلعبها العاطفة وبناء “الهويَّة” في تشكيل ذكريات ما بعد الحرب. ويقدِّم بحث “الذاكرة والمكان: جغرافيات العلاقة الحرجة”، الذي نُشِرَ في سبتمبر 2004، في مجلة “الجغرافيا الاجتماعيَّة والثقافيَّة”، المجلَّد الخامس، العدد الثالث، وكتبه كل من ستيفن هولشر، من جامعة تكساس في أوستن، وديريك إتش ألدرمان، من جامعة تينيسي، يقدِّمان منظورًا متعدِّد التخصُّصات، مع رؤى من التاريخ ودراسات “الذاكرة” وعلم النفس الاجتماعي والجغرافيا الثقافيَّة والحضريَّة، لوضع ذكريات الحرب في سياقها و”استخدامها” من قبل الحكومات الوطنيَّة، والمعارضة السلميَّة والمسلَّحة، وحركات التمرُّد، والجناة والضحايا، والتنشئة، تاريخ الأسرة، وكل تشكُّلات “الهويَّة”.
لقد أثبت المفهوم فائدة في إقامة الروابط مع ممارسة التخطيط، رغم ما يخالطه من سيولة منهجيَّة تفترع به عبر مسارب التخصُّصات المتعدِّدة. فتصوُّرات فينتور المُغِيِثَة لفكرة العمارة، وما يكتنفها من تعقيد وتناقض، قد جرى توسيعها لاحقًا لتشمل الجوانب الأسطوريَّة للأشياء المتعلِّقة بالتجربة الإنسانيَّة حتى تجلب وعي المصممين إلى الحاجة إلى التناغم مع “الجوهر الأساس للثقافة”، التي نحن بصدد تثبيت قيمها وقيمتها في أسس البناء المادِّي. وذلك، حتى يكون الإحساس بـ”المكان”، كما وصفه المهندس المعماري الفنلندي إليل سارينن، في عام 1982، بأنه “مفهوم موحَّد يجمع بين عدد من الفروع الجغرافيَّة المنفصلة، التي تبحث في مجال تصميم البيئة والسلوك العام”. في الأساس، المصطلح “المكان”، بحكم تعريفه، يوسع نطاق الاهتمام إلى ما هو أبعد من المساحة الجغرافيَّة إلى العالم تجربة الناس في وجودهم في بيئة طبيعيَّة معينة. وهذا عين ما يُعْنَى به علم النفس التجريبي عند النظر في دراسة العلاقات بين السلوك والسياق البيئي، الذي يظهر فيه، لأنَّ محور الاهتمام الأساس لعلم النفس البيئيَّة هو تأثير البيئة الفيزيائيَّة، ومن ثم تدور معظم البحوث في هذا المجال حول آثار الضوضاء وتلوث الهواء والتغيرات المناخيَّة، إلخ. من هنا، فإن قيمة المصطلح “الإحساس بالمكان” هو في تسليط الضوء على “الإحساس بالهويَّة” الخاصّ بالبيئات. وهذا التعريف للمكان يستخدم في كثير من العلوم، وزاد الاهتمام خلال القرن العشرين عبر الدراسات التجريبيَّة في ميدان علم النفس. فأصبح دور الأماكن والمساحات في تنمية الشخص أقرب إلى مفهوم “هويَّة المكان” باعتباره ماديًّا، ويؤخذ كمرجع بيئي لمصطلح معروف ومستخدم على نطاق واسع، نصطلح على تسميته بـ”الهويَّة الذاتيَّة”، من خلال الارتباط الشخصي إلى الأماكن المحدَّدة جغرافيًا، التي يكتسب فيها الشخص شعورًا بالانتماء والغرض، الذي يعطي معنى لحياته.
الهويَّة المضطربة:
لا شك عند كل مطلع على أحوال السودان أنَّ “الهويَّة” ظلَّت مضطربة، منذ البدايات الأولى للممالك والسلطنات، التي اتَّخذت لها من فضاء هذه الرقعة الجغرافيَّة “حيازة”، ووطَّدت فيها حُكمًا وسلطة. وحتى قيام الدولة الحديثة؛ في الفاتح من يناير 1956، استمر سؤال “الهويَّة” يؤرق الفكر السياسي للدولة، ويُحْدِثُ في المجتمع انقسامات تُعَبِّر عن نفسها في حركته، بما فيها الثقافة المنوط بها مسؤوليَّة تلطيف وتكثيف عُرى الاندماج الوطني، وما “الغابة والصحراء” إلا نموذج يُجلي هذا الانقسام، ولا يَتَفَطَّن لعواقبه. فصار السودانيون يمشون بين بعضهم بهويات لا يأتيها الحصر، وكل فرد فيهم يحمل “هويَّة بأربعين وجهًا”، كما جاء في عنوان كتاب المفكِّر الإيراني داريوش شايغان، الذي لم يترك لفلسفة “الهويَّة” بابًا إلا طرقه. فيما يواجه المهجَّرون واقعًا معقّدًا، وضع صديقنا الفيلسوف العراقي عبدالجبار الرفاعي توصيفه على عاتق الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، قائلًا: إنَّه “نسيج من الأحداث والأفعال والتفاعلات والارتدادات والتحدّيات والمصادفات، التي تشكِّل عالمنا الظاهراتي، ولكن في هذه الحالة يحمل التعقيد بشكل مقلق سمات الخليط وغير القابل للفصل والاختلال والغموض واللايقين”. ويلخِّص هذا التوصيف ويحلِّل نظريَّة الترابط الاجتماعي الضروري للهويات، التي تُمَكِّن من إنشاء علاقات تضامن عميقة عبر الاختلافات، سعيًا إلى فهم إمكانيات التضامن والائتلاف، بدلًا من “خنق الاختلاف”، أو “بلقنة”، أو “تجزئة” الواقع الاجتماعي للدولة.
إنَّ الإجابة المنطقيَّة على السؤال، “من أنا؟” هي جزء مهمّ من عمليَّة النمو الاجتماعي، وتحقيق الانتماء الوطني. وفي حين إنَّ هذا السؤال قد يبدو بسيطًا ومباشرًا، فإنَّ مفهوم “الهويَّة” معقَّد ومائع. وتعتمد الإجابة على “من أنا؟” على مجموعة من العوامل، التي توضِّح بعضها عالمة النفس بيفرلي دانيال تاتوم، مُشِيرَةً إلى أنَّ مفهوم “الهويَّة” معقَّد، تشكِّله الخصائص الفرديَّة، وديناميات الأسرة، والعوامل التاريخيَّة، والسياقات الاجتماعيَّة، والسياسيَّة. فقد خدع مفهوم الذات – وأحبط – علماء النفس والفلاسفة على حدٍّ سواء لأجيال، وكان أحد أكبر التحدِّيات لنا في السودان هو التصالح مع طبيعة الذات، التي يمكنها أن تخلق إحساسًا بالقواسم المشتركة مع الآخرين؛ إحساسًا بالاتِّساق، وبأنَّ هناك بعض الصلة بين “الغابة والصحراء”، وبين الأفريقيَّة والعربيَّة، وبين الإسلام والمسيحيَّة وكريم المعتقدات، وبين المركز والهامش، وبين الماضي والحاضر، وأنَّ المستقبل مشتركٌ برؤيتنا المشتركة لذواتنا. وربَّما يكون السؤال الأكثر إلحاحًا وأساسيًا، الذي يجب علينا الإجابة عليه فيما يتعلَّق بالذات هو “ما هذا الذي يجري باسمنا جميعًا؟” وتتجلَّى أهميَّة الإجابة على هذا السؤال عندما يعتبر المرء مِنَّا أنَّ ذاته جزء من ظاهرة ثقافيَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة شاملة. إذ إنَّ جميع الأفراد في المجتمع السوداني الواسع لديهم شعور بالذات بغض النظر عن مكان ولادتهم. وعلى الرغم من أنَّ محتوى التمثيلات الذاتيَّة قد يختلف حسب السياق الثقافي، إلا أنَّ وجود الذات عابر للتنميط المحلِّي للمكان، وتنطوي الذات على معرفة نشطة بالذكريات المشتركة.
وفي حين أن “الهويَّة” تُشير إلى إحساسنا بمن نحن كأفراد وكأعضاء في مجموعات اجتماعيَّة، فهي تختبر كذلك مشاعرنا حول كيفيَّة إدراك الآخرين لنا وتصنيفنا. لذلك، فنحن نطوِّر دائمًا أفكارًا حول هويَّاتنا وهويَّات الآخرين من خلال تفاعلنا مع الأشخاص المقرَّبين مِنَّا، مثل عائلتنا وأصدقائنا، ومدارسنا ومؤسَّساتنا الأخرى، ووسائل الإعلام، ولقاءاتنا مع الأفراد الآخرين. وفي بعض الأحيان لا ندرك حتى أنَّ لدينا هذه الأفكار لأنَّنا لا نتذكَّر كيف تَعَلَّمْنَاها. وتتأثَّر أفكارنا حول هويِّتنا أيضًا بالمجموعات الاجتماعيَّة، التي ننتمي إليها، فيما يُسمَّى بـ”الهويَّة الاجتماعيَّة”، التي تُشير إلى إحساسنا بهويِّتنا بناء على عضويتنا في مجموعات معيَّنة. ففي حين أنَّ هناك العديد من المجموعات الاجتماعيَّة المختلفة، التي يمكن أن تظلَّ هذه كما هي، أو تتغيَّر تبعًا لظروفٍ مستجدَّة، إلا أنَّها تساعد عضويتنا في هذه المجموعات الاجتماعيَّة على إعطاء معنى لحياتنا. في بعض الأحيان يكون لدينا خيار بشأن المجموعات الاجتماعيَّة، التي نرتبط بها، وأحيانا يتمُّ وضعنا في مجموعات لا نتعرَّف عليها. على سبيل المثال، قد يضطر شخص ما إلى تحديد مربع في نموذج يقول أفريقي، لكنه يعرف بأنَّه من جغرافيا تكتظُّ بأصناف ديمغرافيتها المتعدِّدة والمتنوِّعة. كما أنَّ العروبة، والثقافة العربيَّة، التي هي جزء مهمّ من هويتنا، لا تزال لدينا معها استدراكات حول كيفيَّة تعريفنا لأنفسنا وجوانب هويَّاتنا عبرها، والتي نُريد التأكيد عليها وإلباس صفاتها على الآخرين. وهذا المفهوم يسمَّى بـ”الهويَّة الفرديَّة”، أو “الشخصيَّة”، التي تُشير إلى الطرق الفريدة، والتي عادة ما نُعَرِّف بها أنفسنا، في مثل هذه البيئة المعقَّدة.
مقاربة موضوعيَّة:
لقد جاء في كتاب “الذاكرة في مكانها: تحديد التاريخ الاستعماري وإحياء الذكرى”، تحرير كل من كاميو دالي، وآشلي بارنويل، إنه من بلد الخليج الواسع في كوينزلاند، على طول الشواطئ القشريَّة في جنوب سيدني، وحدائق مدينة ملبورن والتلال الوعرة في جنوب أستراليا، عبر قلب وسط أستراليا المغبر وحتى كيمبرلي المهيبة، ترسم المجموعة كيف يتم تذكر التفاعلات بين السكَّان الأصليِّين والمستوطنين وأحفادهم، ونسيانها في المساحات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والثقافيَّة. ويقدِّم الكتاب وجهات نظر متنوِّعة بشكل فريد من مجموعة من التخصُّصات؛ بما في ذلك التاريخ والأنثروبولوجيا ودراسات “الذاكرة” وعلم الآثار واللغويات من كل من العلماء الراسخين والناشئين. ومن المساهمين من السكَّان الأصليِّين وغير الأصليِّين؛ ومن الأكاديميين، وكذلك القيمين على المتاحف والتراث الثقافي. فقد يختار شخص ما التأكيد على عائلته ودينه واهتماماته عند وصف هويته؛ في هذا الخِضَم الهائل من المساحة والتنوُّع. فيما يؤكِّد شخص مختلف على عرقه وحيه ووظيفته كأجزاء مهمَّة من هويِّته، التي تتكوَّن من كل الأشياء، التي يعتقد أنَّها تجعله هو؛ محليٌ وعالميٌ في آنٍ معًا. ويحدِّد المحرِّران بعض القضايا السياسيَّة الأكثر إلحاحًا في البلاد مع الاهتمام بالمحليَّة وأخلاقيَّات الاحتفال والعلاقات اللازمة على هذا النطاق، إذ سيكون من مصلحة أولئك الذين يرون الماضي مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالمستقبل. قد يختار شخص ما التأكيد على عائلته ودينه واهتماماته عند وصف هويّته. قد يؤكِّد شخص مختلف على عرقه وحيّه ووظيفته كأجزاء مهمَّة من هويّته. تتكوَّن هويّتك الشخصيَّة من كل الأشياء، التي تعتقد أنَّها تجعلك أنت.
إنَّ الأمر لا يتوقَّف عند هذا الحد، ولا يسعه مثال واحد لمجتمع هجين كالسودان، أو غيره، فـ”روح المكان” ليست هي هذه الحالة، ولا في غيرها، مرتبطة فقط بالموقع المادِّي، وإنما بمن يشغلونه أيضًا؛ أصليين، أو طارئين. وفي كتاباته، شجَّع روبرت فنتوري في كتابه “التعقيد والتناقض في العمارة”، الذي نشره عام 1966، على عدم النظر فقط في المعنى السيميائي للواجهة الخارجيَّة للمباني، ولكن أيضًا معنى المساحات المسكونة خلف الجدران. وادَّعى أنَّ العمارة تحدث في اجتماع الداخليَّة والقوى الخارجيَّة للاستخدامات و”الفضاء”، ومن ينشطون داخله. ومن جهة أخرى ذكرت روزابيث موس كانتر، المفكِّرة والمستشارة الإداريَّة المتميزة في جامعة هارفارد، في كتابها “رجال ونساء المؤسَّسة”، الذي صدر لأوَّل مرَّة عام 1977، كيف يتم تحديد المهن والصور الذاتيَّة للمديرين والمهنيين والمديرين التنفيذيين، وكذلك تلك الخاصَّة بالسكرتيرات وزوجات المديرين والنساء اللواتي يبحثن عن طريق للارتقاء، من خلال توزيع السلطة والعجز داخل “فضاء” الشركة. فقد أشارت كانتر لما يمكن أن يُعَرَّف بعلم نفس “المكان”، أي أنَّ “المكان” هو مزيج من الأفعال والمفاهيم والبيئة الماديَّة، التي تُشَكِّل تصورها للمكان عندما كانت الأفعال والمفاهيم والصفات الجسديَّة مترابطة، وهذا أمرٌ قد يحيلنا إلى نقاش مستفيض حول بيئة ما بعد هذه الحرب المدمِّرة لكل أصول هذا الترابط في بلد كالسودان، ما انفكَّ يوصف بقوَّة الترابط، الذي كان يعزِّز “روح المكان” قبل أن تجتاحه جحافل القطيعة التاريخيَّة مع الفضاء العام. لذلك، فإنَّ أستخدام مبادئ نظرة كانتر الأساسيَّة هي أكثر مما يمكننا الاعتماد عليه، في مُلاحظة السلوك الهمجي لمن يعتدون على “روح المكان” بهذه البربريَّة. وإذا لم يبرز أي شيء آخر يناقض هذه المُلاحظة، فقد يساعدنا إدراك أنَّ الناس يتأثَّرون بشكل مباشر بالسلطة والفرص والخوف. والأهمّ من ذلك كلّه، فإنَّ ذلك يساعدنا معًا على فهم سبب انهيار العديد من المنظَّمات والقوى السياسيَّة، التي تخاذلت مواقفها عن حراسة قدسيَّة “المكان”.
لهذا كلّه، تجمع “الذاكرة” حوارات في “المكان” بين العلماء والممارسين من الناس العاديين والأكاديميين، في بلد كالسودان مثلًا، الذين يتصارعون مع استمرار قوَّة ذكريات وتجارب الأنظمة السياسيَّة المختلفة، بما فيها تجربة الاستعمار. في حين أنَّ العديد من هذه الحوارات قد جرت على المسرح الوطني، فإن هذه المجموعة تعود إلى العلاقة الحميمة الغنيَّة لهؤلاء الناس العاديين. ولأن التدوين والتقصي هو مشكلة الأكاديميين؛ إلا من شَمَّرَ عن سَاعِد الجد منهم؛ كاجتهادات الدكتور عبدالله علي إبراهيم، في نظراته الأنثروبولوجيَّة المعمَّقة، أو تصوُّراته الفولكلوريَّة الفاحصة، أو حفريَّات الدكتور جعفر ميرغني، الذي ظلّ يُنَقِّب بأدب مُسْتَمْلَح عن كنوز حضارات السودان القديم، وبراعة تشكيلها للتاريخ، واسقاطاتها على الحاضر والمستقبل، سعيًا منه لترميم “الذاكرة الجماعيَّة”، بعد ترميم ما طالته قدرته على إصلاح بعض موجوداتها الماديَّة، كـ”البجراويَّة”، و”النقعة والمصورات”. وكلا العَالِمَين اختصَّا بمعاينة العُمران الاجتماعي والمعمار والبناء المادِّي كأحد أبرز تجلِّيات التحضُّر المعاصر، ورمزيَّات التعلُّق بالحضارات القديمة، التي عادة ما يبني عليها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والفولكولور تقديراتهم عن مدى تماسك المجتمعات، ويوثّق بها المؤرِّخون قراءاتهم لأخبار ما مضى، ويبرِّر بها الآثاريُّون نظرياتهم لمعرفة قوَّة وحجم التقدُّم “الذاكرة”، الذي وصلت إليه المجتمعات والممالك، التي مرَّت على بقعة أرض معيَّنة “المكان” عبر العصور.
وإن اختصَّ عبدالله علي إبراهيم بصرامة منهج الكتابة، فقد تجاوب الثاني مع مألوف الرواية والحكاية والمشافهة، التي تطبع ثقافة نقل المعرفة في السودان. وبقدر ما نالت أحاديث جعفر ميرغني الإذاعيَّة من شهرة، وسعة المتابعة، إلا أنَّها لم تتنزَّل على صفحات ما هو مطبوع ممَّا يطالعه المثقفون، ويقيمونه، ويقيمون به الحجَّة عليه، أو يثبتونها له، في جدالاتهم الخاصَّة والعامَّة حول “الهويَّة” و”الأماكن” و”التاريخ” و”الذاكرة الحضاريَّة”. وفي شَبَهٍ منه كانت مسامرات الطيب محمد الطيب، وغيره ممن جرت على ألسنتهم “مشافهات” الرواية التاريخيَّة. وحُبِكَت على نسقهم برامج إذاعيَّة وتلفازيَّة احتفت بـ”المكان”، وبثَّت شيئًا من سرديات التاريخ؛ مثل “رحيق الأمكنة”، الذي ما كان له أن يتجاوز حدود ما وُضِعَ له من مسارات سياحة عامَّة في الأحياء والقرى والمدن لتعريف جمهور عريض من المشاهدين بحقائق من محفوظات أهل تلك الأمكنة. فيما اتَّخذ عبدالله علي إبراهيم منحىً آخر في كتابة “عبير الأمكنة”، الذي أصدرته دار نسق بالخرطوم، عام 1988، محاولًا سكب عصارة تجاربه المتنوِّعة في الملاحظة العارفة والتجربة الميدانيَّة المُعَايِشَة للحواضر والبوادي، التي ساقته الأقدار والأسفار لمطالعة تفاصيلها، فنقل الديوانيَّة الأكاديميَّة إلى “المعافرة” الميدانيَّة. وقد كانت له ببادية “الكبابيش” مرويَّات، وله في أرض “الرباطاب” حكايات، وعين ساخنة وباردة، جعلت طلاب معهد الدراسات الأفريقيَّة والآسيويَّة، بجامعة الخرطوم، يتعوَّذون كلَّما مرُّوا على مدوّناته الماتعة، عن قومٍ طبعتهم سرعة البديهة، وعجمتهم بلاغة التشبيه.
صنع المكان:
تواجه المنعطفات السياسيَّة؛ كما الآثار والنصب التذكاريَّة في السودان، وكما في غيره، مسألة بناء الروايات عندما لا يمكن سرد الذكريات المأساويَّة والجرائم بصدق يُسَجَّلُ للتاريخ، أو يتمُّ كشفها بشكل مفرط في التفاصيل، تتوارى معه بصمات الفاعلين، فتتعثَّر إجراءات العدالة. وكلا الحالتين ظلَّتا تتكرَّران في السياقات السودانيَّة منذ الاستقلال، مرورًا بثورة أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وإلى انتفاضة ديسمبر 2019. إذ إنَّ القضيَّة وإن بدت مختلفة في بعض تفاصيل بداياتها، إلا أنَّ المخرجات تطابقت بشكل شبه كامل. ومع ذلك، فإنَّ أيٍ منها لا ترقى لأن تُشَكِّل مناسبة احتفاليَّة ترتفع فيها قيمة الإنجاز، لأنَّه، وحتى وفقًا للقائمين عليها، شخصت هذه الثورات كنصب تذكاريَّة “مضادَّة” ما رفعته من شعارات، لحقيقة ما وعدت به من ديمقراطيَّة، وعاكست بغبش التصوُّرات مجرى التنمية والاستقرار. فصارت كثرة الصراعات بين القوى السياسيَّة واحدة من هذه السمات المعاكسة للنجاح، بل أضحت قيادات التغيير “رموزًا للفشل”، بسبب ضعف رؤية وإدراك مسار وإرادة هذا التغيير، فكان حشف الفعل وسوء الكيل. ولذلك، تأخذ الأحزاب مسافة بائنة من كل تأسيس راسخ على أرض الواقع، فلا نجد حجر أساس لبناء وُضِع، غير ضجيج مفتعل يَصُمُّ الأسماع. بينما يستطيع “العسكر” أن يحتفوا بالأفعال والنجاحات، ويقدِّمون الحقائق في جلاء حول ما شيَّدوه، ويظهرون ما تُحَدِّث به الإنجازات عن نفسها.
ومع ذلك، فإنَّ الفجوة بين “الأماكن” و”الآثار”، التي يُشيِّدها ويتركها خلفه كل طرف منهما، أقل وضوحًا مما قد يُتَصَوَّر في كثيرٍ من الأحيان. فالروايات القديمة والجديدة متجذِّرة فيما يتم إنجازه من عمل، وكذلك في المشاريع الانعكاسيَّة، التي تُعيد “الذاكرة” إلى محطَّة التأسيس، التي تقف شاهدًا على هذا الإنجاز. لذلك، لا يمكن أن نسمِّي أحدًا “مُؤسِسًا” بلا أثر ماديٍ، أو معنويً، يتركه خلفه، أو خطَّة بناء تتبادل ثمراتها أيدي الناس. وفي الوقت نفسه، يجب أن تكون “الآثار” ممَّا يجذب الأفراد على تَذَكُّرها، والمشاركة بنشاط في زيارتها، وعلى أقل تقدير المشي عليها، أو بجوارها، أو النظر من خلالها لصنيع عهد مضى، أو نظام قائم يمضي بمسيرة الإعمار إلى غاياتها، مما يعني أن المعالم السياحيَّة هي كاللقاءات والاحتفالات، التي تنعقد في جميع المساحات الحضريَّة. مع مراعاة أنَّ الحشود الجماعيَّة تنتظم وفقًا لقواعد ما تواضع القوانين على ضبطه، وبالمثل، فإنَّ السلوك الشخصي المتَّزن؛ في هذه المساحات، لا يُعاَقَبُ عليه ولا يُقَيَّد. رغم أنه يمكن لمعلم المدرسة دعوة التلاميذ إلى التركيز على المعالم أثناء الزيارة بينما يصيح البائع المتجوِّل بمعروضاته من “كبكبي”، و”فول مدمس”، وحتى “الآيس كريم”، وألعاب الأطفال الصِغار. وبهذا المعنى، غالبًا ما يتمّ الاستشهاد بالنصب التذكاريَّة المُثَبَّتَة في هذه الساحات، كأمثلة على “الأعمال” المعروضة لمتعة الجميع، وكشاهدٍ حيٍ على إنجاز جهةٍ اجتهدت، فأوفت بما وعدت.
الذاكرة الجماعيَّة:
ومع كل ذلك، رافق الحديث عن مُمسِكَات الوحدة الوطنيَّة؛ في كل مراحله، نِقاشٌ سياسي شابه الكثير من الانفعال حول “الذاكرة الجماعيَّة” وعلاقتها بالماضي القريب والبعيد، ومحاولات بناء مقاربات تُسْعِف قصور تجارب النُظُم السياسيَّة المختلفة، وخاصَّة الديمقراطيَّة منها، وما وقع منها بعد الثورات الشعبيَّة في القرن الماضي، وما أعقب ثورة ديسمبر الأخيرة، ممَّا أظهر اختلافات كبيرة بين الأحزاب السياسيَّة والمنظَّمات الاجتماعيَّة والمدنيَّة حول طريقة إحياء ذكرى الضحايا، إذ صار لكل مجموعة ضحايا، وارتقى لها شهداء، وقُدِّسَت أماكن من دون غيرها، وأُبدِلَت أسماء غيرها. وافترقت “الذاكرة الجماعيَّة” بـ”أدلجة” القيمة التاريخيَّة لمن لهم الحقّ في أن يكونوا من بين رموزها وممسكاتها، وهل “حدائق مايو” هي ملك لأبريل الأولى (1985)، أم أبريل الثانية (2019). وقامت الحكومة، وليست المنظَّمات المحليَّة فحسب، برسم صور على الحوائط للشهداء “المُخْتَارين”، وإعادة تأهيل مجموعة غير متجانسة من “الذكريات”، ولجاجة أشكال الدعاء للجرحى والمعوقين والمفقودين. واحتفت ببطولات جماعات المقاومة، أو لونيَّة لجانها السياسيَّة، في إحياء ذكرى عمليات تتريس الطرق والجسور، التي أعيد تكييف هويِّتها، وتغيير بعض أسمائها، حتَّى صارت الكثير منها، وما عليها من تروس وإطارات “لساتك” محترقة، عائقًا كؤودًا أمام حركة الناس، الذين جاءت الثورة لتسهيل أمور حياتهم. وظهرت التضاريس المعقدة للخلافات السياسيَّة، من خلال مسميات هذه اللجان، التي لم يؤشِّر واحد منها على البناء والتنمية، ولا حتى النظافة وإعادة إعمار ما يخربون. وكشفت عن استخدام المتظاهرين، بقيادة هذه اللجان، للعديد من المواقع والمباني، وخلخلة ارتباطها بالذاكرة الجماعيَّة، حيث جرى تَعَمُّد تخريب ما فيها من مرافق وموارد مهمة، والقضاء على وظيفتها الحيويَّة؛ مثل جامعة الخرطوم، وتحول غيرها إلى مجرد رُكام وأطلال و”أماكن للذاكرة المهشمة”؛ لِفعلٍ سينكر دور البطولة فيه الجميع، ولن يجرأ أحد عن الحديث عن المجد كان لهذه “المتاريس”، أو “اللساتك”، لأن السكرة أقصر في “الذاكرة” من الفكرة المُخَلِّدَة لشائن الأفعال.
لهذا، فإنَّ حادثة “فضّ اعتصام” الثورة بالخرطوم، في عام 2019، ليست هي الوحيدة، التي تجعل من “المكان” والزمان دالةٌ رمزيَّة لأحزانٍ تختزنها “الذاكرة”، بما اعتمل فيها من صورٍ قاتمةٍ ومُؤلِمة، والتي تجلَّت فيها بشاعة القتل العشوائي في إطار الصراع السياسي في السودان، فجعلت من بوابة القيادة العامَّة للقوَّات المسلَّحة “حائطًا للمبكى” تتناصف فيه كل الجهات المسؤوليَّة عن دم توزَّعت قطراته بين ألسنة الاتِّهام والادِّعاء والإنكار، من دون أن يقوى طرف على إثبات براءته، خاصَّة بعد صار المتَّهم الرئيس “الدعم السريع” حليفًا يمتطي صهوة جنوحه وجموحه المستثمرون في دماء قتلاه والمتاجرون بقدسيَّة شهادتهم، وغائر جراحات من أصيبوا منهم، أو فقدوا ممن لم يُعرَف لهم أثر. ومثله اختزنت تضاعيف “الذاكرة” الجماعيَّة المُتْعَبَة أحداث ونكبات؛ صغيرة وكبيرة، ولكنها جميعًا قاسية ومؤلمة. فهمجيَّة “الجهاديَّة”، إبَّان فورة الثورة المهديَّة، ما زالت صور دمويتها تتراءى في مخيَّلة الكثيرين جدًا ممن نزلت على ممتلكاتهم، وأماكنهم، وتفاصيل ذاكرتهم آثارها، وحاق بأهلهم إضرارها وفظاعة أساليب عقابها. والمرويات في هذا مُشَبَّعَةٌ بكل صنوف الوحشيَّة والقسوة وظلامات التنكيل.
ولا يخالجني شكّ في أن ذلك العنف التاريخي، الذي مارسته “الجهاديَّة” المهدويَّة بغير رحمة، هو ما جعل انفعال الناس أقل مما هو متوقع عندما ضربت حكومة الرئيس جعفر محمد نميري “الجزيرة أبا”، والذي ما تزال تفاصيله حاضرة بين الناس. وإذا كان بالإمكان عقد مقاربة تكوينيَّة، يمكن مقارنة ذلك مع مجزرة شهداء “بيت الضيافة”، التي ما تزال صورها تطارد حجج الشيوعيين إلى يومنا هذا، رغم كل محاولات التبرير واعتساف تخارج النفي الملتويَّة. إذ صار في حكم المؤكَّد، بعد كل تلك السنوات، أنَّ الأيدي الملطَّخة بالدماء البريئة لا تغسلها “مطهِّرات” الأيديولوجيا، ولا شفاعات الهاربين من المسؤوليَّة. ويماثل بيت الضيافة ما حاق بقيادة المزارعين، فيما أُشْتُهِرَ بـ”عنبر جودة”، الذي تشكَّلت المأساة فيه بين يومي 16 و23 فبراير 1956، كأوَّل حالة اختبار قاهر للتجربة الوطنيَّة. وسيرة الأماكن في مأساة “دارفور” الحديثة؛ منذ “فاشر السلطان”، وما ارتكبته بحقِّها “مليشيات” القبائل، التي دَرَّبَها وسَلَّحَها الاستعمار البريطاني عام 1915 ضدّ دولة السلطان علي دينار، إلى ما أفرزته جرائم “المراحيل”، وحتى همجيَّة “الجنجويد” مع ساكنة الحواكير، تلاحق عقابيلها الإنجليز وحزب الأمَّة، كما تلاحق الحركة الإسلاميَّة، وما بينها من قوى اليمين واليسار، ولا تستثني الليبيين والتشاديين من أخطاء تدخُّلاتهما. وحُقَّ لـ”الدعم السريع” وحده أن يتَّشح بلقب المخضرم، الذي ركبت على ظهره قوَّتان متباينتان، في فترتين مختلفتين؛ هما الحركة الإسلاميَّة، التي كان لها منطقها فيما فعلت، ثم ورثته منها قوى الحريَّة والتغيير- المجلس المركزي “قحت”، وما انقلبت إليه في صيغة لاحقة، فيما يُعرف الآن بتنسيقيَّة القوى الديمقراطيَّة المدنيَّة “تقدم”، لتنفرد بامتياز استخدامه فيما حاق بالأماكن، وكل ميراث البلاد في راهننا البئيس. ومثلما يمارس “الدعم السريع” القتل والإعدام والاغتصاب بشكل وحشي، ويعمد للتخلُّص من الجثث وجميع أنواع الأدلَّة، التي يرميها في البحر، أو يقبرها في حُفَرٍ جماعيَّة، ويستهدف الوثائق والمكتبات والمتاحف والأماكن التاريخيَّة، فإنَّ هواته من جنود الغفلة، وبعض غرفه الإعلاميَّة توثِّق أدلة الإدانة في معرض إثبات الانتصار. وتجتهد “قحت” ووريثتها “تقدم” في محاولة الإنكار، ومن ثمَّ في أضفاء الشرعيَّة في البداية على الإفلات من العقاب، ورفضًا أوسع ليقظة التذكر في نهاية المطاف. وهم، وغيرهم، بهذا يقتلعون جذور التاريخ من “المكان”، فيما لا يزال يتعين استرجاع هذا التاريخ بالكامل لمصلحة هذا “المكان”، لأن الصراع حول إعادة تشكيل “الذاكرة الجماعيَّة” للمكان يتقاطع مع مصالح ومستقبل جميع طبقات المجتمع.
إعادة التشكيل:
لقد تحول ما أنجز في شأن قضيَّة التنمية الحضريَّة إلى تقييم سياسي للماضي الوطني، بزعم محو آثار العهد البائد، أو الحكومة، التي صًرَعَتها مقادير الأحوال، والتي تداخلت فيها محرّكات المؤامرة؛ من خيانة وتدبير ثورة شعبيَّة ومحض انقلاب عسكري. فهدمت، أو هُجِرَت مُؤسَّسات رسميَّة وأهليَّة، في محاولة من قوى الهياج الثوري إلى إعادة تشكيل هذه الأماكن، وإعادة صياغة الذكريات الجماعيَّة، ونفي الشعور بالماضي المشترك. ومن ثم، فرض تصور القيم العالميَّة كَقَيِّمَة على كل الموروثات الوطنيَّة. ولا تزال عمليَّة إعادة تكييف الذكريات المثيرة للجدل، التي خَلَّفتها لجنة إزالة آثار التمكين مفتوحة، ولا يزال الضحايا، أو أقاربهم يدلون بشهاداتهم إلى أمانة ضمير الإنسانيَّة. فقد ابتكرت اللجنة مجموعة متنوِّعة من التصرُّفات “المكانيَّة”، التي إذا أُخِذَت مجتمعة تُعزِّز أعمالها السياسيَّة المنافية لقيمة تراكم الكسب والمعرفة بالمكان، مثلما نفت الزمان بقوة الانقلاب عليه. وقد اتَّخذ هذا التكتيك أشكالًا مختلفة: مثل عقد مؤتمرات احتفاليَّة مركزيَّة متلفزة، وتتالي التصريحات المُجَرِّمَة لكل من كان اسمًا في مراكز السلطة والقرار، أو ما كان رسمًا في شواهد “المكان”. ونشطت مراكز رسم خرائط المصادرات والإحالات للصالح العام، ووضع علامات على ممتلكات المسؤولين المصادرة، وما إلى ذلك. وابتدعت العديد من ممارسات التخويف بشكل مباشر، وغير مباشر، ولم تغفل موضوع التأثير المبتذل على الحياة اليوميَّة لمن استهدفتهم قراراتها، وإن أدَّى ذلك إلى موتهم، عندما حُرِم البعض من تلقِّي العلاج، أو الحصول على الأدوية المنقذة لحياتهم، فرحلوا عن الدنيا من دون أن يجدوا انصافًا فيها.
ومع ذلك، فقد تبع هذه الممارسات نقاش واسع حول إضفاء الطابع المؤسَّسي على ما رافقها من ذكريات، تجلَّت فيها التناقضات العميقة بين مكوِّنات النخب السياسيَّة السودانيَّة. ويتكاثف هذا النقاش الآن؛ بالإشارة إلى حدود تأمُّل الأحداث المؤلمة الأخيرة، التي دمَّرت ما تأسَّست عليه ذاكرتنا في الخرطوم، واجتاحت بجرائمها الوحشيَّة كل البلاد. وبعيدًا عن مظاهر الانقسام السياسي ودواعيه المتمثِّلة في التذكُّر والنسيان، يتعلق السؤال بكيفيَّة إدراك الناس بشكل جماعي لهذه المنعطفات الحرجة في تاريخهم الحديث، ولأي أغراض تُسخَّر المعرفة المُتَحَصَّلَة من هذه التجارب. ومن خلال العديد من التوجُّهات المختلفة، رفضت حركات الاحتجاج الثوري أيضًا تحويل مواقف التدمير الكلي للبنيات التحتيَّة للبلاد إلى طاقة فعل إيجابي، وأن يمضوا إلى نظافة بيئتهم بدلاً من اعتناق عقيد الاحتفاء بتكديس القمامة كتروس، وتمجيد حرق الإطارات في الطرقات؛ أو لم يهتف أحد القيادات السياسيَّة يومًا مزهوًّا أن “المجد للساتك”، أي أنه يُمَجِّد إطارات السيارات الخَرِبَة، التي اعتاد المتظاهرون اضرام النار فيها في الطرقات؛ لإغلاقها وتعطيل حركة المرور. فيصير بقوله هذا إشعال “اللساتك” رمزًا لثورة أحرقت الأخضر واليابس، ولم تُبْقِ لِمُفجِروها غير انفجار أوضاع البلاد برمتها؟!! وبغض النظر عن منعرجات مسارها الكارثيَّة، ترتبط جميع هذه التصرفات الخرقاء رسميًا بهدف إعادة كتابة التاريخ بما يبعده عن الروايات الرئيسة السابقة، وإحياء ذكرى ثورات لم تكتمل، وباءت حصائل حصادها وبالًا على البلاد والعباد، من دون خلق الوعي بالمخاطر الكامنة في جميع الثورات، أو تعزيز الدفاع عن الحقوق الأساسيَّة لمواطن خَدَّرَهُ الوعد بالتغيير.
وللأسف، تُظهر حالة الخرطوم اليوم مجموعة متنوِّعة من المواقع والأماكن، التي كانت تسعى إلى الحفاظ على الذكريات بأهداف “تربويَّة وتذكاريَّة واحتفاليَّة”. وتُعَدُّ هذه الأهداف، أو الحالات الثلاث، مزيجًا من الفضاءات والمساحات، التي تتراوح بين “حوش الخليفة”، أو “ميدان المولد”، الذي تتحرك قيمته الموضوعيَّة التاريخيَّة مع متلازمته الوظيفيَّة الدينيَّة، كالاحتفال بمناسبة جامعة لا تستثني أحدًا من متع المشاركة، أو بهجة التفرُّج على ما يحتشد فيها من تنوُّعات المشهد الديني في السودان، أو تذوُّق ما يُعرض فيه من حلويات صاغت ذاكرة الحواس على مواقيت حلاوتها. ومثل ميدان الخليفة، يشخص المتحف الوطني ودار الوثائق المركزيَّة والفضاء العام المشترك، فيما عُرِفَ بـ”حدائق مايو”، “الساحة الخضراء”، الذي كان يضمُّ محاضن للثقافة والفكر، كـ”دار الكتب”، وغيرها، ممَّا نالت يد الغدر والتدمير الممنهج محوها من “الذاكرة الوطنيَّة”. وتجسِّد الحالات الثلاث؛ دار الوثائق والمتحف والحديقة، أو الميدان، الدرجة الهائلة من المرونة والانفتاح، التي تميِّز جميع أنواع المساحات الحضريَّة، والتي تكمن في صميم جميع أنشطة صناعة الأماكن الجماعيَّة؛ التعليميَّة والتربويَّة والترويحيَّة. والعكس صحيح فيما وقع الآن، يصرُّ أصحاب الحواس اللاهثة للتدمير على أهميَّة العمل على تغيير “الذاكرة” بالقضاء على قواعد المعرفة وحواضن المعلومات، وتدنيس قدسيَّة “الأماكن العامَّة”، بل تدميرها. ويعيثون فسادًا في المساحات الحضريَّة، والأماكن المتخصِّصة؛ مثل المتاحف والمكتبات والوثائق، وحتَّى النصب التذكاريَّة.
تأطير الذكريات:
قد يؤدِّي الصراع المثير للجدل مع مكوِّنات “الذاكرة”، في النهاية، إلى مناقشة الروايات السائدة بمنطق أيديولوجي مُنْبَت عن إجادة “صناعة المعنى”، أو إصحاح ” تأطير المكان”، وقد ينجح الانقلاب القسري على الحقائق مؤقَّتًا في إعادة تشكيل كل من الاستخدامات السياسيَّة للأماكن، أو مسخها، كما يجري بِجديَّة التخريب المُتَعَمَّد. وفي هذا السياق، تأتي الاستراتيجيات التربويَّة، التي يبتدعها النشطاء بشكل مفهوم لتغليف هذه الأماكن بقيود فهمٍ جديدة، وتعمل على الحدِّ من هذه الاستخدامات المسموح بها طبيعيًّا، وحتى ديمقراطيًّا، وتسعى لتنظيمها بشكل صارم ضدّ المعنى، الذي أُقِيمت من أجله. وغالبًا ما يكون دافع هؤلاء النشطاء هو إعادة بناء الحقيقة بمقاييس متعسِّفة؛ تجلَّت بِشكلٍ مُرَوِّع في دكتاتوريَّة قانون “لجنة إزالة التمكن”، التي تحوَّلت عمليًا إلى محاولة إزالة “الذاكرة” و”المكان” معًا، بدعوى استرداد حقٍ عام، تبعثر عائده بين أيدي لصوصٍ جدد. وألجمت كل حوارٍ منصفٍ للحقيقة بمنطق يُعَبَّرُ فيه عن آثار تاريخ مخفي من الصراع الأيديولوجي، ولكنه غير منسي. ويدفعه التحرُّك الشَرِه نحو مشروع تاريخي وتربوي كامل، يفتِّت نسق المناهج كلها، ويعتدي على ما توارثه الناس من قيم ونواظم أخلاقيَّة. ونظرًا لأنَّ العمليات المثيرة للجدل؛ في كل تاريخنا السياسي لا تزال مفتوحة، تستمر الخلافات في إعادة فتح أضابير المسكوت عنه بقصد التعدِّي على ثوابت الموروثات المشتركة لأمة تُغَالِب مخاض وخضَّات التكوين. إذ تكرر أنه في كل مرَّة تقوم ثورة تعود الجهود “التطهيريَّة” و”التنقيحيَّة” بكالح أحكامها، وتشرعن أخطاءها لجان الاستئناف غير الفاعلة، التي تتطاول إلى الظهور، في محاولة أحيانًا لتقليل الالتزام بصرامة الحقائق، أو الخضوع لضوابط المسؤوليَّات. بالإضافة إلى إصدار تشريعات الانتقام، والحاجة المفهومة لحجز أماكن لإيذاء الخصوم، وتَعمُّد جعلهم “يصرخون”، أو التشهير الإعلامي بهم، الذي تتقاصر عن ردِّ الاعتبار فيه مؤسَّسات العدالة منزوعة الدسم الأخلاقي.
ويوضح هذا الجدل السياسي، ذو الطبيعة الصراعيَّة، وجود فجوة أساسيَّة بين الروايات القائمة على الترميز الأيديولوجي، والروايات المتجذرة في العمل السياسي اليومي، الذي ليس من بين منطلقاته تحقيق أي شكل من أشكال التسامح، الذي يؤسِّس لـ”ذاكرة جماعيَّة”. بدلًا من ذلك، يعمل صنع الأماكن، واختيار الذكريات، على آليَّة استقرار وتعزيز ترابط هذه الذكريات والأماكن بتوجه خاص، تفرضه شرعيَّة القوة “الثوريَّة”، وليس قوة القانون العادل. والاستقرار هنا يعني خضوع كل العمليَّة الثقافيَّة للاستيلاء والعزل والتطهير، وإحلال تمكين بتمكين آخر، غالبًا ما يكون أفظع وأبشع من سابقيه. ويستهدف؛ أول ما يستهدف “المقدس”، ولا يستثنى من ذلك الدين والتراث والمتاحف، لأنها تجسد قضيَّة ثقافيَّة جماعيَّة، فيما يفتحون خيارًا للتعلُّم فقط لحقيقة وجودهم هناك كـ”رجال المرحلة” و”أصحاب المصلحة”. وتسمح كل إجراءات استثنائيَّة جديدة بإنشاء أطر مختلفة لتعريف “الحسِّ السليم”؛ تُقدِّم تكيُّفاتها مع المدخلات المبتكرة للتغيير، التي لا تتيح الجمع بين الأنشطة الثقافيَّة والسياسيَّة لمختلف الجماهير، وتضيق الاجتماع والتبادل في فضاء واحد مشترك. إذ إنَّ “المكان” يساعد في التشغيل الانتقائي للتذكُّر والنسيان، أي حيث تبدو ثنائيَّة “الذاكرة” قويَّة، وتحشد جميع العناصر المشتركة في تشكيل “الأماكن” للحفاظ على الرابطة الجماعيَّة. وكلا العنصران؛ “الذاكرة” و”المكان”، موجودان ضمنيًّا في حالات الصراع السياسي، ومع ذلك فإنَّهما يستحقَّان الاهتمام، لتأثيرهما على الطبيعة غير المتوقَّعة لتصرُّفات البعض في الفضاء الحضري، الذي يفترض فيه أن يجمع ويدعم هدف إعادة صياغة جميع التفاعلات التربويَّة. ويساعد انفتاح “الأماكن” ومرونتها، في جميع هذه الحالات، على تعطيل حدَّة الممارسات السالبة المعمول بها في لحظات الهياج الثوري.
فالأماكن، وفقًا لما حاولنا تقريره في هذا المقال، تعزِّز إعادة كتابة “الذاكرة”، على الرغم من أنها لا تدفعها نحو التطبيع الكامل مع الآخر المختلف. فنحن نشكِّل بتنوُّعنا أماكننا، التي بدورها تؤطِّر ذكرياتنا المشتركة. وقد نغامر بإعادة صياغة عبارة مارشال ماكلوهان “الوسيلة هي الرسالة”، ونذكر أن “المكان” هو “الذاكرة”، وليت الخرطوم جميعها تُصير هي “الذاكرة”، التي تولد فينا غريزة الاعتبار بما حَلَّ بها من دمار. ولدعم هذا الجهد، يستهدف منطق إعادة البناء الأثري المساحات الماديَّة والآثار لإعادة بناء العلاقة بين “الفضاء العام” و”الهويَّة” و”الذاكرة”. ويحارب الثوريون؛ مثل علماء الآثار، الماضي، الذي تمَّ محوه، ويحاولون “إصلاح المواد، التي تم تمزيقها ودمجها في حساب العهد الجديد: فهي تعطي ماديَّة لـ”الذاكرة”: فهي تحول طاقة فشلهم المتكرِّر إلى تراث، مثل المجسمات التاريخيَّة؛ لا أقل ولا أكثر. على سبيل المثال، انتهت إحدى المظاهرات السياسيَّة في الخرطوم بحفل شواء في شارع النيل، مما أثار جدلًا ساخنًا حول ما إذا كان ينبغي اعتبار هذا “المكان” العشوائي “موقعًا مقدَّسًا” أم لا. وتسبّب محفل خاص أقامه حزب الأمَّة القومي في داره بأمدرمان في غضب عام أكبر؛ استهجن فيه الغاضبون الحدث وأصحابه و”المكان” معًا.
الخواتيم:
لقد صار من المفهوم؛ في العرف العام، أنَّ الأنشطة “التوعويَّة” تبدو في الغالب غير مناسبة، وغير متوافقة مع معظم مراكز الأحزاب وتوجّهاتها الراديكاليَّة، حتى لو سبق أن وصفت من قبل بالرجعيَّة، أو التقليديَّة. وبدلًا من ذلك، هناك موقف بديل يَدَّعِي أنَّ التأمُّل في إدمان سلوك المعارضة السياسيَّة في السودان، يُطَبِّع ويُدِيم بطريقة، أو بأخرى، الاعتقاد بفظائع إرهاب الدولة، وقمعها، حتى وهي تبني وتحرث وتحرس وتعدل. وكثيرًا ما ارتفعت أصوات تنادي أنه بدلًا من الحفاظ على آثار الرعب من الدولة في المخيال الشعبي، يجب أن تكون المعارضة “مليئة بالحياة” والحيويَّة، وأن تكون بنَّاءة وإصلاحيَّة، وألا تقتصر المهمَّة في الوصفة الأخيرة “الإصلاحيَّة” على “سجن الهدى” وحده. وهذا الأخير يردِّد مبادئ نشطاء حقوق الإنسان الراديكاليين، الذين لا يرون قيمة “القصاص” إلا من المُخالف. على سبيل المثال، أصرَّت إحدى الجمعيَّات على أنَّ “السكن في مكان ما يمكن أن يكون وسيلة لتحويله” إلى فضاء جديد، لأنه يُوَلِّدُ شكلًا بديلًا من العيش المشترك، وهو نوع من الاهتمام الأوسع بإنتاج “الحيويَّة” في المساحات، التي تصبح “معماريات عاطفيَّة” لمعنىً منقوص القيمة الأخلاقيَّة.
وتتطلَّب أماكن عامَّة؛ مثل، المتاحف والنصب التذكاريَّة وجميع أنواع المساحات “المقدَّسة” والاحتفاليَّة نهجًا مقصودًا وانعكاسيًا لقياس قيمتها، لا بد أن ينتج معانٍ جديدة من النوع، الذي لا تستلزمه بالضرورة الاستخدامات اليوميَّة. وبذلك، يبقى إفساح المجال للتذكر في الأماكن المفتوحة منتدىً للتجمع في محاور المشهد السياسي العام، لأن هذه الأماكن التذكاريَّة بعيدة كل البعد عن الترويج للممارسات العاديَّة. على الرغم من أنها تواجه هذا النقد في بعض الأحيان، باعتبارها أماكن عاطفيَّة وحميمة واحتفاليَّة للغايَّة. ومع ذلك، فإنها تصطدم بالأفعال العاديَّة مثل المشي والرياضة والترفيه، وتسمح لكل الناس بتنشيط عملياتهم الانعكاسيَّة عند فهم مكان “مألوف بشكل غريب”. لذلك، تنمو العلاقة بين صنع الحواس، وصنع الأماكن، وصنع المعنى، على الخطوط التقليديَّة، حيث يؤدي القلق من إصلاح الذكريات إلى تعطيل الأماكن تقريبًا، وبمسميات الفعل السياسي غير الراشد؛ مثل، التطهير، والكنس، والتمكين، وإزالة التمكين، وغيرها من تجليات “الطفوليَّة” الأيديولوجيَّة. وإذا كان للعسكر رصيد يفخرون به، فلغيرهم باعٌ يَطَولَهُم لِسَانًا ويَقْصُر عنهم انجازًا. وكما هو الحال في المتحف التقليدي للديمقراطيات والعسكرتاريَّة السودانيَّة، فإن الأنشطة العاديَّة للحكومات السابقة ستزعج الزوار؛ إذا هي جُسِّمَت، أو جُسِّدَت، في مشهودات، كتماثيل، أو معالم، بقصد أن تكون جزءًا من دالات “الذاكرة” الجماعيَّة، لأن هذه الرموز تَظل غير متوافقة مع توجهات هذه الحكومات الاستئصاليَّة، والإقصائيَّة، أو حتى الديمقراطيات الفوضويَّة.
ويبقى أن نُذَكِّر أنَّ الصراع حول الذكريات أبعد ما يكون عن السعي العقلاني نحو الاستقرار واستكمال بناء “الهويَّة الوطنيَّة”، لأنَّ مجموعة واسعة من المشاعر حول التاريخ الحديث تشعل النقاش السياسي حول جدوى مثل هذا الصراع. على سبيل المثال، أثارت إعادة الترتيب المتأخِّرة لأسماء بعض الطرقات والحدائق والمؤسَّسات مخاوف بشأن مصير دائرة اللافتات الأصليَّة، ووضع الشارات الجديدة على شكل حجاب يُشير إلى الدائرة الخبيثة، التي سارت فيها أنظمة الحكم الحزبي كشكل من أشكال الاحتجاج للمطالبة بالاهتمام برموز لم تصنعها، ولم تجتهد لإيجاد مثلها. وقد ناقش قادة الأحزاب السياسيَّة الرئيسة مثل هذا الموضوع الساخن، في دورات حُكْمٍ ثلاثة حملتهم إليها ثورات شعبيَّة ونصف انقلابات، أو أودعتهم في كراسي الحكم ما تلاها من انتخابات. وما “حدائق مايو”، أو “الساحة الخضراء”، إلا مساحات حضريَّة كلاسيكيَّة، توجد مثيلاتها في كل مُدن العالم، ولا يمارس الناس “الخِفَة” السياسيَّة في تغيير أسمائها، إلا ما استدعته تحولات تنميَّة جذريَّة، لكن تُظهِر السمة الأساسيَّة لجميع هذه الحالات، محاولة إعادة تشكيل الفضاء العام لإعادة تأطير الذكريات، لأن الظن هو أن ذلك قد يغير الروتين العادي لذاكرة الناس عمن ارتبط فعلهم بالتأسيس. ولكن، لم يُحدثنا التاريخ أن فصوله تُكتَبُ هكذا، فحي “السَجَّانَة” في الخرطوم لم يمنحه عبور “شارع الحريَّة” بجواره أيَّة ذاكرة انعتاق من شهادة التاريخ بأن “المكان” احتضن معتقلًا في مبتدأ حضوره في “لذاكرة” الوطنيَّة، إذ ظلت النعوت في شواهد كليهما مقبورة في رَهْنِ بداياتها، لا راهن تجلياتها.
وفي الختام، قد يُفيد لفت الانتباه إلى أن السودانيين سيظلون يتعلقون باسم “شارع الإنقاذ” في مدينة بحري، شرق الخرطوم، لأن “شارع المعونة” الموازي له لم تستطع كل ثورات اليسار السوداني، في ستينيات القرن الماضي، أن تقتلع رمزيته “الإمبرياليَّة”، رغم نجاحها في إيقاف تمدده إلى مدينة بورتسودان، حيث كان ذلك هدف “التبرع” به من قِبَل برنامج “المعونة” الأمريكيَّة. فقد خَشِيَ المعارضون لقيامه أن يؤثر سلبًا على أهميَّة خطوط السكك الحديديَّة، لأن نقابتها كانت تحت قيادة الحزب الشيوعي، وعلى رأسها ألمع زعمائه. فتعطل أحد أهم مشاريع التنمية المُعِينَة للاقتصاد السوداني بسبب مواقف أيديولوجيَّة؛ إنصاف التاريخ وحده سيقرر مقارنة قيمة مبدئيتها مع ما ضاع على البلاد والعباد من مصالح. ومع ذلك، فإن اللافتات البسيطة، التي يضعها المتعجلون للتغيير؛ بلا تَدَبُّرٍ وتدبير، تُحافظ على ذكرى الاحتجاج، وربما ندوب التخريب، لكنها لن تخفي حقيقة من وضع حجر الأساس. فهناك فرق هائل بين الفعل الجاد، الذي يساعد على “الحدوث”، أو التأسيس، وذلك الغاصب الغاضب، والذي ينزع دائمًا إلى الاستيلاء على “مكان” عَمَّرَهُ غيره، وتعسف إعادة تعريفه. فمن منظور ثقافي، تميِّز العمليات المثيرة للجدل، التي ترتبط في الغالب بالثورات، المساحات العامة، والتي تجري محاولات تشريبها بمعانٍ جديدة لا تصمد أمام حفريات “الذاكرة” الواعية.
_________
- د.الصادق الفقيه: سفير سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن
الاثنين، 4 مارس 2024
صقاريا، تركيا
*المصدر: التنويري.