أنثروبولوجيا كانط أو الإنسان المتعالي
كغيره من الفلاسفة، استجاب كانط لدعوة سقراط الشهيرة “أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك”، لينشغل بالتفكير في موضوع الإنسان، محاولا بلورة انتروبولوجيا فلسفيَّة جديدة، تستند إلى أدوات نقديَّة ستساهم في بلورة مفهوم جديد عن الإنسان. لقد حرصت الأنثروبولوجيا الكانطيَّة على تحديد المقوّمات الجوهريَّة لإنسان الأنوار الذي وثَّق كانط في قدراته وآمن بفاعليّته، وحاول أن يساهم في تحرير تفكيره من القوالب المعرفيَّة السائدة والأنماط الفكريَّة المسيطرة. وسيستند في ذلك إلى طريقة جديدة في التفلسف، شكَّلت لحظة فاصلة في تاريخ الفكر الغربي، هي لحظة تأسيس السؤال النقدي، كسؤال تأسيسي، يعيد من خلاله العقل مساءلة ذاته، ليقف على إمكاناته وحدوده، مما يخوّله تجديد أدواته ومفاهيمه، وتحديد مجالات اشتغاله وكيفيَّة هذا الاشتغال، إن على مستوى المعرفة أو مستوى الفعل. محاولا استجلاء القدرات المعرفيَّة لهذا الكائن وإبراز حدودها، والكشف عن امكاناته الأخلاقيَّة.
طرح كانط سؤال الإنسان انطلاقا من مقاربته لأسئلة نقديَّة كبرى، تحدَّدت كموجّهات أساسيَّة للانتروبولوجيا الكانطيَّة:
ماذا يمكن للإنسان أن يعرف؟ ماذا عليه أن يفعل؟ وماذا عليه أن يأمل؟ إنها مقاربة نقديَّة ستتعقَّب الكائن الإنساني في بنيته الذهنيَّة من جهة وفي بنيته الوجدانيَّة من جهة أخرى. من خلال وضع ملكات الإنسان الثلات: المعرفة والإرادة والشعور تحت مجهره الفلسفي ليكشف عن تقاطعاتها وعن الموضوعات الخاصَّة بكل واحدة منها؛ مبرزا بذلك الذات الانسانيَّة في علاقتها بذاتها وبغيرها وبالأشياء من حولها.
إن اهتمامنا بسؤال الإنسان لدى كانط يعود بالأساس إلى كون الرؤية النقديَّة الكانطيَّة للإنسان، شكَّلت منطلقا قويا نحو تبلور نظريَّات نقديَّة جديدة حول الإنسان؛ ساهمت في تخليص العقل الغربي من الصورة اللاهوتيَّة عن هذا الكائن التي كانت تربط حقيقته بالسماء. إضافة إلى ذلك فإنَّ الإسهام الكانطي مكَّن من تحديد القدرات المعرفيَّة وإبراز حدودها ليخفِّف من هيمنة الفكرة الدينية على الحقيقة ومن فسح مجال جديد للعقل الإنساني كي يعيد ترتيب علاقته معها. وهذا في حدِّ ذاته، يعتبر بدايَّة فعليَّة لولادة إنسان جديد من رحم العقل بدل رحم النقل. وهو ما يفسِّر تركيز الفلسفة الأخلاقيَّة الكانطيَّة على إنسان الحياة أكثر من تركيزها على إنسان الميتافيزيقا، الذي هيمن على التصوّرات الفلسفيَّة اللاهوتيَّة قبل كانط.
سنحاول في هذه الورقة الكشف عن إنسان كانط، وذلك من خلال الوقوف على أهم المفاهيم التي تتدخَّل بشكل صارم في تحديد هويَّة هذا الإنسان.
فمن هو الإنسان الكانطي؟ ما طبيعته؟وما علاقته بالطبيعة؟ هل الطبيعة تضع حدودا له أم أنّه قادر على تجاوز حدودها؟
1-كانط الإنسان
قبل أن نشرع في الحديث عن إنسان كانط، سنقدِّم تعريفا مقتضبا بكانط الإنسان، وعيا منا بإنّ كل فلسفة تثوي بداخلها الفيلسوف-الإنسان الذي يحوّل تجربته الحياتيَّة في تلاقحها مع الحياة العامَّة لعصره، إلى مفاهيم فلسفيَّة تعكس رؤيته لذاته الإنسانيَّة وللعالم.
ولد ايمانويل كانط داخل أسرة فقيرة، متديّنة سنة1724م بمدينة كونكسبرج، تنتمي هذه الأسرة إلى الشيعة التقوية في المسيحيَّة اللوثريَّة التي ترى أن الإيمان يبرِّر المؤمن وأن الأعمال هي التي تؤيّده. نشأ كانط على هذه العقيدة، وتلقَّى تربية صارمة سيكون لها أثر كبير في تصوّره للواجب الأخلاقي. درس كانط في إحدى المدارس التابعة للشيعة التقويَّة، فأعجب بالنظام والروح الجديَّة التي تطغى على اللغة اللاتينيَّة، كما انبهر بنبل وشجاعة الرواقيَّة الرومانيَّة (1). سيحضر هذان الأثران بشكل واضح في رؤيته الفلسفيَّة للإنسان. توفّت والدته وهو في سن الثانيَّة عشرة، كما توفي والده وهو في سن الحادية والعشرين. سيمتهن كانط؛ بعد تخرّجه من الجامعة وتميّزه فيها؛ التعليم الخصوصي في بعض الأسر الغنيَّة، لينكب على التحصيل إلى إن عيّن استاذا بالجامعة، التي ظل يشتغل بها إلى أن توفي سنة1804م. وقد اتَّسم عصر كانط بجدل فلسفي حادّ بين النزعة العقليَّة والنزعة التجريبيَّة حول طبيعة العقل الإنساني وطبيعة المادَّة والعلاقة بينهما وحول الوجود الإلهي ووجود العالم وطبيعة الأخلاق. . . سيتأثَّر كانط بهذا الجدل الفكري وبالتطوّرات التي عرفها العلم في زمنه خصوصا فيزياء نيوتن التي أعجب بها كثيرا.
2. الإنسان والقبليَّة المعرفيَّة والأخلاقيَّة:
لسنا نضيف مجهولا إلى معلوم إذا نحن قلنا، إن كتاب (نقد العقل الخالص) في طبعته الأولى سنة 1781م وفي طبعته الثانية سنة 1787 إضافة إلى كتاب (نقد العقل العملي)، يعتبران من بين أهمّ كتب كانط التي بلور من خلالها رؤيته الفلسفيَّة للإنسان. وقد استند في ذلك إلى النقد الفلسفي للعقل الإنساني؛ حيث أعاد كانط النظر في المفاهيم والأدوات التي يشتغل بها هذا العقل ويفكِّر بواسطتها؛ ليكشف عن إمكاناته وحدوده المعرفيَّة إضافة إلى إبراز قدراته الأخلاقيَّة وما لها من امتدادات ما ورائيَّة، حتى صارت الأخلاق القاعدة الأساسيَّة التي أقيمت عليها الموضوعات الماورائيَّة أو المفارقة: النفس؛ الله؛ الخلود. . يمكننا القول حقا، إنَّ المشروع النقدي لكانط هو إعادة تأسيس لإنسان المعرفة وإنسان الأخلاق، الذي يتعالى عن الطبيعة، إنسان له قدرة على الانفلات من الطبيعة والتحرُّر منها. وهي فكرة يمنحها مفهوم “القبلي” دلالتها الفلسفيَّة القويَّة، هذا “القبلي” الذي ترتكز عليه المعرفة كما ترتكز عليه الأخلاق. فكيف يجعل “القبلي” المعرفي و”القبلي” الأخلاقي الإنسان متعاليا أو ترانسندنتااليا؟
2-1-الإنسان قبلي معرفيا
إنَّ سؤال الإنسان، هو سؤال أكثر ميتافيزيقيَّة من سؤال الميتافيزيقا، خاصَّة وأن الميتافيزيقا نفسها تستمدّ منه أنفاسها الانطولوجيَّة والأخلاقيَّة والمعرفيَّة. ونظرا لكون المقاربة الكانطيَّة لهذا السؤال كانت مقاربة نقديَّة للفعاليَّة المعرفيَّة والفعاليَّة الأخلاقيَّة، فإن الجواب الكانطي تمحور حول فكرة التعاليla trascendance، التي حاول كانط إبرازها في الفعل المعرفي الخاصّ بالإنسان. خصوصا في كتابه “نقد العقل الخالص”. حدَّد كانط، في هذا العمل، ملكات المعرفة لدى الإنسان، وهي ملكة الحساسيَّة ولها إطارين عقليّين قبليّين وهما “الزمان والمكان”، ثم ملكة الفهم “بمقولاتها القبليَّة”، التي حدَّدها كانط في اثني عشرة نوعا من المقولات؛ يتمّ من خلالها تنظيم معطيات الحساسيَّة؛ إضافة إلى ملكة العقل الخالص وهي ملكة إدراك الموضوعات التي تخرج عن مجال الحساسيَّة، ويسميها الموضوعات المفارقة. فكيف تحقّق هذه الملكات المعرفيَّة تعالي الإنسان عن الطبيعة؟
تشكِّل هذه الملكات الأدوات المعرفيَّة التي تحقِّق فعل التفكير وتسمح بإمكانية تحويل العالم إلى موضوع للمعرفة. ذلك أن قبليّات الحساسيَّة في ارتباطها بقبليّات الفهم، تمكن الإنسان؛ كذات مفكِّرة؛ من الانفصال عن الطبيعة، بحيث تصير الطبيعة موضوعا له. وكون الطبيعة موضوعا يعني أنها صارت ظاهرة للوعي phénoménبفعل القدرات المعرفيَّة القبليَّة. إنه انفصال بمعنى التعالي الذي يتأتَّى للإنسان من خلال القبليات المعرقيَّة، تتحدَّد فيه الطبيعة ك “ظاهرة” للإدراك. وهذا يعني، من جهة أخرى، أنَّ ما يمكن للإنسان أن يعرفه عن الطبيعة هو فقط ما يظهر له منها، أي ما يدخل في مجال حساسيته وفهمه. فأمَّا الطبيعة في ذاتها أي ك”نومين “noumène، فهي تنفلت من المعرفة.
في عمق هذه العلاقة المعرفيَّة بين الإنسان والطبيعة، يظهر الإنسان الكانطي كذات متحرِّرة من الطبيعة في ذاتها. كائن يخضع الأشياء لمقولاته فيحوّلها إلى ظواهر خاصة بوعيه، وهذه هي الثورة الكوبرنيكيَّة التي يقصد كانط أنه أحدثها في الفلسفة. لقد أصبح الإنسان بميكانيزماته العقليَّة المعرفيَّة القبليَّة، هو مصدر المعنى؛ وهذا في حدّ ذاته هو الفعل الخاصّ بالإنسان في هذا العالم، وليس فعل السيطرة والتحكُّم الذي بلغ حدّ التدمير؛ كما نفهم ذلك مع فكرة السيطرة على الطبيعة لدى ديكارت: هذه الفكرة التي تطوَّرت في شكل هيمنة تقنيَّة على العالم. إنَّ إضفاء المعنى على الطبيعة هو في جوهره تحقيق للحريَّة داخل العلاقة المعرفيَّة بها، حتى لا تبقى المعرفة الإنسانيَّة حبيسة التناقضات التي تصدر عن الطبيعة في ذاتها أو الأشياء في ذاتها. غير أن هذا التعالي الابيستيمولوجي كحريَّة هو أيضا إعلان عن نهاية المعرفة، إعلان عن امتناع إدراك الشيء في ذاته. هكذا يضعنا التعالي المعرفي في مأزق يتمثل في كون الإنسان يعرف ولا يعرف. بمعنى أن الطبيعة معروفة كظاهرة، مجهولة كنومين أو كشيء في ذاته(2).
هنا أمكننا القول إن وضع الإنسان في الأنتروبولوجيا الكانطيَّة هو بين المعرفة والجهل. ذلك أن المجهود النقدي الذي بذله كانط في “نقد العقل الخالص” يريد من خلاله التمييز بين ما يمكن معرفته وبين ما لا يمكن معرفته. بحيث يكون نقد العقل الخالص بمثابة العلم الذي يجفِّف منابع الخطأ، وبهذا الصدد يقول كانط”ينتج عن نقد الميتافيزيقا علم خاص يمكن أن نسميه نقد العقل الخالص”(3 )
تأسيسا على ما سبقت الإشارة إليه، تبرز أهميَّة مفهوم “القبلي “في مقاربة كانط لسؤال الإنسان، من زاوية نظريَّة المعرفة، فهو يحصِّن الإنسان من الوقوع في المتاهات المعرفيَّة للموضوعات الميتافيزيقيَّة حيث يجد صعوبة في الحسم في مسائلها عقليا. وهنا يقدِّم لنا كانط إنسانه حائرا أمام الميتافيزيقا عاجزا عن فكّ ألغازها، رغم ضرورتها بالنسبة له، بحيث لا يمكن التخلص منها كما يصرِّح بذلك كانط نفسه “هناك دوما ميتافيزيقا في العالم، وتكون موجودة دائما، وسيوجد معها جدل العقل الخالص لأن العلاقة بينهما ضروريَّة”(4). ومن ثمَّة لن يبقى أمام هذا الإنسان سوى الإيمان. وهذا ما جعل كانط يضحي بالعلم من أجل الإيمان.
أن يكون الإنسان الكانطي مؤمنا ليس اختيارا بل ضرورة تقتضيها الأخلاق؛ مما سيحدو بكانط إلى تأسيس مشروعه الأخلاقي، الذي سيقيم فيه الميتافيزيقا على الأخلاق. فكون الإنسان أخلاقيّا يلزم عن ذلك أن يكون مؤمنا.
2-2 الإنسان قبلي أخلاقي
أما في “نقد العقل العملي “وإلى جانبه، طبعا، كتاب “أسس ميتافيزيقا الأخلاق”، فإننا نجد كانط، سيكشف عن قبليَّة الإنسان الاخلاقيَّة، بحيث سيهتم بتحديد “القبلي الأخلاقي”. سيكشف كانط عن مبدا قبلي ينبغي ان يحكم الإرادة الإنسانيَّة وفي نفس الوقت يحرِّرها من النوازع الطبيعيَّة؛ وبذلك يجعلها إرادة خيرة. هذا المبدأ هو بمثابة “أمر مطلق” يلزم الإرادة بالواجب دون شروط تصدر عن الرغبة أو عن الأهواء. هو في جوهره يجسِّد القانون الأخلاقي، وهو قانون الاستقلال الذاتي، -المشهور لدى كانط – بما هو تجسيد للطبيعة الإنسانيَّة كطبيعة عاقلة تشكل قطيعة مع الطبيعة الخارجيَّة. بمعنى أن ما يشكل الإنسان كإنسان هو تحرر موجهات سلوكاته من قبضة الأهواء والميولات والنزوات والانفعالات المتناقضة، التي تستند عليها أخلاق المنفعة، التي تحضر بقوة في التعاليم الاخلاقيَّة الدينيَّة وبعض التعاليم الأخلاقيَّة الفلسفيَّة.
إنَّ إقامة الأخلاق على قانون قبلي هو القانون الأخلاقي يعتبر إفراغا للأخلاق من المحتوى الطبيعي، والتجريبي وسد الطريق على الأهواء، التي ما أن تكون وراء الفعل الأخلاقي حتى تنزل بالشخص منزلة الأشياء ويفقد إرادته الإنسانيَّة بما هي إرادة عاقلة وحرة.
في هذا المقام يتحدَّد الإنسان الكانطي ككائن أخلاقي، أو بالأحرى ك “شخص “يحمل الإنسانيَّة في ذاته، هذه الإنسانيَّة التي لا يضاهيها أي سعر، هي غاية في ذاتها وليست وسيلة. وبهذا الصدد يقول كانط “يعتبر الإنسان داخل نظام الطبيعة-كظاهرة من ظواهر الطبيعة وكحيوان عاقل-كائنا غير ذي أهميَّة قصوى. . . . لكن عندما نعتبره شخصا، أي كذات لعقل أخلاقي عملي، سنجده يتجاوز كل سعر”(5). هكذا يبرز لنا “القبلي الاخلاقي” في الأنتروبولوجا الكانطيَّة، الإنسان، كائنا متعاليا عن الطبيعة التي يعتبر جزءا منها. هو تعال بمثابة حريَّة أخلاقيَّة تكشف عن مواجهة أخلاقيَّة للطبيعة، بما هي مواجهة للأهواء. بهذه الكيفيَّة لم تعد مواجهة الأهواء حكرا على الخاصة: كفلاسفة أفلاطون، حيث هم وحدهم بإمكانهم الخروج من كهفها (التحرُّر من الدوكسا عن طريق الجدل العقلي)؛ أو قساوسة الكنيسة أو شيوخ المساجد أو. . . الذين تؤهلهم قدراتهم الدينيَّة على إدراك السر الإلهي الذي يخلصهم من استمالتها. . . لم يعد الإنسان الكانطي بحاجة إلى وصاية الحكماء ورجال الدين لتوجيه سلوكاته اللاأخلاقيَّة، فهو يحمل المبدأ الاخلاقي في بنيته العقليَّة؛ المبدأ الذي بموجبه يمكنه مقاومة الأهواء والتصدي لها. تبعا لذلك يكون كانط قد وضع حدا للتراتبيَّة الأخلاقيَّة بين الناس التي عزاها أفلاطون إلى التفاوتات المعرفيَّة وعزاها رجال الدين إلى التفاوتات الروحيَّة.
ومن جهة أخرى يعمل “القبلي”على تحصين الإنسان من الشر القادم من الطبيعة، الذي يتربص بإرادته العاقلة، ويشوش على ماهيته الأخلاقيَّة. اذ يمكن للأهواء ان تتسرب إلى وعيه الأخلاقي الخالص فتفرغ الفعل الاخلاقي من محتواه العقلي والإنساني.
أن القبليَّة المعرفيَّة والقبليَّة الاخلاقيَّة يعكسان وضعا انطولوجيا خاصا بالإنسان. فما طبيعة هذا الوضع؟
3-الإنسان الكانطي مزدوج انطولوجيا
لقد استطاع كانط من خلال “القبلي” أن يحدد “التعالي” كخاصيَّة مميَّزة للإنسان، فمن خلال هذه الخاصيَّة يتحدد الإنسان الكانطي ابستيمولوجيا كذات وتتحدَّد الطبيعة كموضوع، ومن خلالها أيضا يتحدَّد أخلاقيا كإرادة عاقلة حرَّة وتتحدَّد الطبيعة (الأهواء والانفعالات. . .) كعالم حيواني.
من البيّن، إذن، أن التوظيف الكنطي لمفهوم “القبلي” يحيل إلى تقسيم انطولوجي مزدوج للكائن الإنساني: كائن محسوس، مرتبط بالطبيعة وكائن معقول، متحرر منها أو لنقل؛ بصيغة أخرى؛ إنه يحيل إلى توزيع للإنسان بين نظام الطبيعة ونظام العقل. لذلك ظل الإنسان لدى كانط حبيس البنيَّة الميتافيزيقيَّة الثنائية (معقول /محسوس) التي حكمت مختلف التصوّرات الفلسفيَّة للإنسان منذ أفلاطون؛ فالإنسان المعقول بالنسبة لكانط هو الإنسان المتعالي، هو إنسان الحريَّة والإنسان المحسوس هو إنسان الطبيعة.
هكذا أمكننا القول إن الحريَّة كمفهوم مقابل للطبيعة هو المفهوم المركزي الذي حدَّد من خلاله كانط معالم الإنسان المعرفيَّة والأخلاقيَّة. إن ثنائيَّة الحريَّة والطبيعة كما تبلورت داخل الأنتروبولوجيَّة الكانطيَّة، ساهمت بشكل واضح في توصيف الدلالة الانطولوجيَّة للإنسان. وستكون لها تأثيرات كبرى على الفلاسفة من بعده، خصوصا التيار الفلسفي الفينومينولوجي كما تبلور مع هوسرل، وتطور مع هيدغر لما طعمه بالأنطولوجيا، والتيار الفلسفي الوضعي كما تبلور مع اوغست كونت، وتطور بقوة مع الوضعيَّة المنطقيَّة.
عموما، تعتبر فلسفة كانط في الإنسان إسهاما فلسفيا رائدا في مقاربة مشكلة الإنسان التي أرقت الفكر الغربي ولازالت تؤرقه. إذ يمكن اعتبارها انتروبولوجيَّة حاولت التوليف من خلال مفهوم القبلي الذي حدَّد به كانط التعالي كخاصيَّة جوهريَّة للإنسان، بين المنظورين المادي والمثالي في إنسان المعرفة. غير انه سينحاز بقوة إلى المنظور المثالي في إنسان الأخلاق. هذا ما جعل ثنائيَّة المعقول والمحسوس تشكل حجر الزاويَّة في الانتروبولوجيَّة الكانطيَّة.
المراجع:
1-تاريخ الفلسفة الحديثة يوسف كرم
2- ميشيل مايير. “نحوقراءة جديدة لتاريخ الميتافيزيقا:من الميتافيزيقا إلى علم السؤال”ترجمة ادريس كثير وعزالدين الخطابي صفحة47. الاولى 2010
3-kant. critiqu de laraison pure. Trad. . fr. Bari. Delamarre et Marty. Paris. Gallimard/p776
4-kant- : critique de la raison pure/trad/Barni et Delamarre6- etMartyParis/Gallimard/Pléade/99
5 -kant : fondements de la métaphysique des mœurs 1785 trad de V Delbos revue par ferdinand Alquié éd Gallimard p294
*المصدر: التنويري.