المقالاتسياسة واقتصاد

أقنعة الإله السياسي: الدين والأحزاب السياسية في الديمقراطيات المعاصرة

سياسة

مقدمة:

يشير العديد من الأكاديميين إلى أن الدين في الغرب آخذ في التقدم، ويتجلى ذلك بوضوح في المنافسة الحزبية، التي تقودها أحزاب اليمين، والتي تطرح نفسها على أنها المدافع عن المسيحية ضد تهديد الإسلام. وقد استدعي الافتقار إلى الدراسات المقارنة والمقاربة إلى إجراء تحقيق منهجي في المراجع الدينية لهذه الأحزاب من أجل معرفة ما إذا كان الدين بالفعل في حالة صعود في السياسة الحزبية. وقد تناول عدد من الباحثين قضية الوعظ السياسي المعقدة، التي مارسها الإنجيليون في أمريكا، واستهجنها الأوربيون بادئ الأمر، ولكنها صارت الآن لازمة أساسية في حملات اليمين الأوربي، وهي تجربة تعبر عن مراوغة دينية تستحضر قناع الإيمان، وتعتسف تحويله إلى حالة سياسية، إلى جانب كونه ظاهرة ثقافية شائعة. وذلك بعد أن كانت المشكلة الرئيسة في كل الخطاب السياسي الغربي تتوقف على فكرة “غياب الله” عن المشهد العام.

لقد توقع علماء السياسة، الذين يركزون على الغرب، أن يصبح الدين أقل أهمية في السياسة الحزبية. وبالتالي، فإن الانقسام الديني العلماني في المنافسة الحزبية سيختفي في النهاية. كان هذا التوقع بشكل خاص بسبب عمليات العلمنة، التي استمرت طويلاً في الديمقراطيات الغربية. ومع ذلك، تشير النزاعات الحزبية الأخيرة إلى أن مسألة دور الدين “المنظم” في المجال العام أصبحت قضية نقاش جاد بين الأطراف مرة أخرى. ويمكن إرجاع هذا بشكل خاص إلى زيادة التعددية الدينية، أو بشكل أكثر واقعية، لتأسيس مجتمعات مسلمة، وإبراز رؤية واضحة للإسلام في المجتمعات، التي صورت نفسها على أنها مسيحية و/ أو علمانية.

لذلك، فإن النقاشات الجديدة ليست فقط حول شرعية دور الدين، أو الأديان، في القطاعين العام والسياسي. بدلاً من ذلك، تسبب الوجود المرئي للدين الإسلامي “الجديد” في خطاب سياسي حزبي حول القضية الأكثر جوهرية للهويات الثقافية القومية. ففي هذا الخطاب، تم حث كلا الطرفين، الذين عملوا كممثلين لوجهة نظر “المسيحيين” ونظرائهم “العلمانيين” على إعادة موضعة أنفسهم. علاوة على ذلك، أشارت الأحزاب الشعبوية اليمينية المنشأة حديثاً بشكل متزايد إلى “القيم المسيحية” و، أو “العلمانية”، من أجل بناء هويات قومية غربية، واستبعاد الإسلام من هذه الجماعة بالتعريف. وقد كان واضحاً أن الهدف من هذا النقاش هو الحصول على فهم أفضل للدور الحالي، الذي  يلعبه الانقسام الديني العلماني في المنافسة الحزبية في العالم الغربي.

مؤلف وكتاب:

يقدم الدكتور لوكا أوزانو، الأستاذ المساعد للعلوم السياسية بجامعة تورينو، بإيطاليا، ورئيس مجموعات الدين والسياسة في الجمعية الأوربية للبحث السياسي ECPR، والجمعية العالمية للعلوم السياسية IPSA، دليلاً تجريبياً على أن الدين اكتسب مؤخراً مكانة بارزة في المنافسة الحزبية، وذلك من خلال إجراء تحليل كمي للمحتوى؛ قائم على الكمبيوتر جزئياً، لواحد وسبعين بياناً انتخابياً، في خمس دول، منذ الثمانينيات. ويكشف أوزانو في كتابه: “أقنعة الإله السياسي: الدين والأحزاب السياسية في الديمقراطيات المعاصرة”، أن الغرب، على وجه الخصوص، يشهد تطوراً لانقسامٍ دينيٍ جديدٍ ناشئٍ عن محاولة استبعاد الإسلام، ويدفع باتجاه تأكيد الجذور والقيم المسيحية، وتعزيز الاستخدام الاستراتيجي للحجج العلمانية من قبل اليمين المتطرف. وتشير النتائج كذلك إلى أن الأحزاب الرئيسة قد استجابت لهذه الخطابات الدينية من خلال دمج المفردات الدينية في بياناتها الانتخابية.

لقد اشتمل جدول محتويات الكتاب على تصدير، ومقدمة، وتسعة فصول، إضافة إلى الخاتمة، إذ عالج الفصل الأول؛ الدين والديمقراطية والأحزاب السياسية، وتناول الثاني؛ الانقسامات والدين والأحزاب؛ وذهب الثالث إلى؛ تصنيف للأحزاب ذات التوجه الديني، وتحدث الرابع حول؛ الهند بين علمانية الدولة والكراهية الطائفية، وأثار الخامس سؤال؛ دولة يهودية أم علمانية؟ المعضلة الإسرائيلية، وكشف السادس رحلة؛ إيطاليا من الديمقراطية المسيحية إلى الشعبوية، وناقش السابع مسائل؛ الإسلام والعلمانية والديمقراطية في تركيا، وأوضح الثامن حقيقة؛ الدور المتغير للدين في الولايات المتحدة، أخذ التاسع؛ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والإسلام والديمقراطية: حالة تونس، بينما تكفلت الخاتمة باستنتاجات المؤلف حول؛ أقنعة الإله السياسي.

إن الكتاب يستند إلى النقاط النظرية، التي طرحها أوزانو بالفعل في محاضراته حول العلوم السياسية والدين، منذ العام 2013، إلى جانب ما قدمه في كتابيه السابقين: “أجنحة الثقافة الأوروبية والحالة الإيطالية: في أي جانب أنت؟”، 2015، و”الأحزاب ذات التوجه الديني والدمقرطة”، 2014. فقد رفض المفهوم الثنائي للحزب الديني مقابل العلماني لتبني المفهوم الأكثر دقة “للحزب ذي التوجه الديني”، وحدد خمسة أنواع مختلفة من الأحزاب ذات التوجه الديني؛ بسمات أيديولوجية وتنظيمية مختلفة، التي منها: المحافظ، والتقدمي. والقومي والأصولي وأنواع التيارات، أو ما اصطلح عليه بـ”المعسكرات”. وبإجراء تحليل معمق لخمس حالات، هي: الهند، وإسرائيل، وإيطاليا، وتركيا، والولايات المتحدة، على مدى يقارب الأربعين عاماً؛ بين 1980 إلى 2019. ويصل الكتاب إلى بعض الاستنتاجات النظرية الهامة حول دور الأحزاب ذات التوجه الديني في الديمقراطيات المعاصرة. بينما يدحض، فيما يتعلق بالعلاقة بين الدين والدمقرطة، أي تفسير جوهري لدور الأديان، من خلال إظهار أن التقليد الديني نفسه مرتبط، في منظور متعدد الأصوات، بتنوع شديد، وبأنواع مختلفة من الأحزاب السياسية، ذات المواقف المتباينة تجاه الديمقراطية والتعددية.

الاعتدال بالتضمين:

يطرح المؤلف، فيما يتعلق بعمليات التغيير الحزبي، تساؤلات حول أطروحة “الاعتدال بالتضمين”، من خلال إظهار أن إدراج الأحزاب المتطرفة في النظم الديمقراطية، خاصة عندما تظهر توجهاً قومياً، نادراً ما يؤدي إلى الاعتدال. على العكس من ذلك، يمكن أن يؤدي إدراجهم إلى تفضيل عمليات استقطاب حاد للنظام السياسي بأكمله. يسلط الكتاب، وعلى نطاق أوسع، الضوء على الارتباط المتزايد للدين بالمواقف السياسية اليمينية والقومية، كعلامة هوية في المنظور الحضاري، الذي هو عملية مرتبطة بتسييس الانقسام الجديد بين وجهات النظر العالمية التحررية – الكونية – والتقليدية – الجماعية، بدلاً من الانقسام الديني “التقليدي”، والذي  أصبح واضحاً تماماً مع الانتعاش العالمي الأخير للأحزاب والقادة الشعبويين اليمينيين. ومع ذلك، فإن العلاقة بين هذه العملية والعلمنة ليست واضحة، لأنه في بعض الحالات يبدو أن الأحزاب اليمينية، على الرغم من توجهها الديني الواضح، لها تأثير علماني، على الأقل من حيث الانفصال عن المؤسسات الدينية وفقدان أهمية الدين.

وعلى عكس معظم الأعمال المتعلقة بالدين والأحزاب، لا يأخذ هذا المؤلف في الحسبان الأحزاب “الدينية” الرسمية فحسب، بل جميع “الأحزاب ذات التوجه الديني”؛ مع تأثير الدين على بيانات الحزب و/ أو الدوائر الانتخابية و/ أو الفصائل، حتى لو كانت رسمياً علمانية. لذا، هدف الكتاب إلى مراجعة وتطوير الوضع الحالي للبحوث في مجال الدين والسياسة، وأيضاً من خلال تعزيز الحوار ودمج النتائج عبر التخصصات الفرعية للعلوم السياسية، أي؛ دراسة الدمقرطة، ودراسة الأحزاب السياسية، والحركات السياسية، السياسة والتحليل والعلاقات الدولية، وما إلى ذلك. وفي العقود الماضية، بعد ما يسمى بـ”انتقام الله”، ازداد دور الدين في السياسة الأوروبية والعالمية باطراد. من ناحية، بسبب عمليات الهجرة والعولمة، ودور الأديان في السياسة المحلية والدولية، الذي أصبحت معه الشؤون العامة أكثر أهمية وأكثر تعقيداً؛ ومن ناحية أخرى، صار الدين عاملاً مهماً في المجالات، التي لم يتم أخذها في الاعتبار من قبل. إنه وضع متناقض تماماً، بالنظر إلى أنه في نفس الوقت؛ خاصة في العالم المتقدم، غالباً ما قللت عمليات العلمنة المستمرة من دور الإيمان في حياة الناس اليومية وسلطة المؤسسات الدينية.

لهذا، سعى المؤلف إلى إلقاء الضوء على هذه التناقضات الواضحة من خلال النظر في البحث الحالي حول العلاقات بين الدين والسياسة، على المستويين: الدولي والمحلي، وبالتالي عبر مختلف التخصصات الفرعية في العلوم السياسية. على المستوى الدولي، ركز على دور الأديان في النظام الدولي الحالي، كمصدر للصراع وظاهرة عدم التسامح، وكعامل إيجابي في عمليات بناء السلام، والتكامل فوق الوطني، وتطوير المجتمع المدني. فيما يتعلق بالمجال المحلي، وحاول فهم الدور، الذي  يلعبه الدين في السياسة الانتخابية والحزبية؛ على سبيل المثال مع تحليل الأحزاب ذات التوجه الديني، بما في ذلك العائلات الحزبية الجديدة مثل الشعبوية اليمينية؛، أو تحليل أنماط التصويت الديني، والمجتمع السياسي، سواء في الديمقراطيات الكاملة، أو في السياقات، التي تميزت بالانتحال الاستبدادي. علاوة على ذلك، وحلل التشابكات المتزايدة التعقيد بين الأديان في صنع السياسات، ليس فقط في المجالات المرتبطة تقليدياً بالقيم الدينية مثل دور الدين في المجال العام، والأخلاقيات الحيوية، وحقوق الأقليات والهجرة؛ ولكن أيضاً في مجالات جديدة، مثل حماية البيئة على سبيل المثال. وقد جري التناول على المستوى النظري، من خلال التركيز على التحليل النقدي وإعادة التفكير في الفئات الرئيسة والأطروحات، التي يتم تبنيها بشكل عام لفهم العلاقات بين الدين والسياسة؛ ومن خلال التركيز على التحليل التجريبي والمقارنة بين الظواهر والحالات المختلفة.

مؤتمر وكتاب:

لقد كانت مسودة كتاب أوزانو: “أقنعة الإله السياسي: الدين والأحزاب السياسية في الديمقراطيات المعاصرة”، الذي صدرت طبعته الأولى في 31 أغسطس 2020، هي البحث الأفضل، الذي تمحور حوله الجزء الأخير من المؤتمر العام الافتراضي لـ”الجمعية الأوربية للبحث السياسي ECPR”، الذي عُقِدَ في 24- 28 أغسطس 2020. أي أن صدوره جاء بعد يومين فقط من نهاية مداولات ذلك المؤتمر الفريد، والذي صادف انعقاده مناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي للجمعية. وشارك فيه باحثون من جميع أنحاء العالم، وعرضوا أوراقاً حول أفضل البحوث الجديدة، التي تناولت جملة من قضايا الساعة المُلِحَّة في أوربا والعالم، ومن بينها الدين والسياسة. قد استمر المؤتمر على مدار خمسة أيام متصلة، وشارك فيه 2210 من الاختصاصيين في العلوم السياسية، وعُرِضَ فيه برنامج أكاديمي كامل احتوى على 72 قسماً، و443 لوحة عرض، و1800 ورقة علمية. وتناول الجزء الخاص بالدين والسياسة، في اليوم الأخير للمؤتمر، أوراقاً مهمة، عُرِضَت في أربع موائد مستديرة، عالجت الموضوعات الرئيسة للقضية المطروحة في هذا الكتاب.

ويلزمنا أن نُشير، في الختام، إلى أننا تعودنا أن نشهد مؤتمراً علمياً ينتظم، وتُحَرَّر أوراقه، لتصدر في كتاب، ولكن فرصة تبني نهج جديد في واقع مستجد، وتحويل حدث رائد بحجم هذا المؤتمر إلى بيئة رقمية بالكامل، يجعل مثل هذا الحدث في حد ذاته مبتكراً وفريداً. وبالنظر إلى الاستجابة الإيجابية الكبيرة من مجتمع الأكاديميين والباحثين والمهتمين بالعلوم السياسية، نتمنى أن نرى مثل هذا المشروع المثير والمثمر يتكرر في مؤسساتنا البحثية العربية، وجامعاتنا وجمعياتنا العلمية، التي كثيراً ما تنشر كتباً وبحوثاً مهمة ولا تأتمر حولها، أو تُخضعها للمناقشة والمداولات المستفيضة، والتي تُعَظَّم الفائدة من انتاجها.

الكتاب: أقنعة الإله السياسي: الدين والأحزاب السياسية في الديمقراطيات المعاصرة 

المؤلف: لوكا أوزانو

الناشر:  مطبعة الجمعية الأوربية للبحث السياسيECPR 

تاريخ النشر: 31 أغسطس 2020

عدد الصفحات: 276

اللغة: الإنجليزية.

__________
*الصادق الفقيه:  دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن

السبت، 6 فبراير 2021

القاهرة، جمهورية مصر العربية

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات