هواجس المؤامرة وبنية العقل الأسطوري
تنتعش مَرويَّات المؤامرة في أوقات النكبات، وتزدهر في زمن الحروب والكوارث، وتستمد قوتها من الشعور بوجود قوًى خفية، تقف وراء المشكلات التي يواجهها الفرد أو المجتمع. فتحفز تلك الهواجسُ المخيِّلةَ على صياغة مَرويّات مفبركة، تخاطب عواطف الجماهير، وتزعم تفسير ما لا يمكن تفسيره، إذ تقديم إجابة وهمية ترضي الجماهير، أفضل عندها من البقاء دون إجابة! وهنا، نلمس التشابه بين التفكير التآمري والفكر الأسطوري، الذي كان يفسر كسوف الشمس بأنه ناتج من ابتلاع تِنِّين كبير للشمس، ولا يقبل الاعتراف بجهل أسباب الكسوف.
ليست هواجس المؤامرة محصورة في أتباع إثنيَّة أو ثقافة بعينها، إذْ هي ظاهرة رافقت الإنسان في مختلف العصور. وفي القرون الوسطى، عندما قام بعض المترجمين اليهود بترجمة بعض كتب ابن رشد وابن سينا وغيرهم من فلاسفة المسلمين، شاع في الغرب اعتقاد وجود مؤامرة يهودية لتدمير العقيدة المسيحية، من خلال تلك الكتب. ولا يختلف ذلك كثيرًا عن موقف بعض الاتجاهات الدينية، التي رأت في ترجمة الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية منذ عصر المأمون، اختراقًا للعقيدة الإسلامية، وتقويضًا لها.
أيضًا تتمثل هواجس المؤامرة باعتقاد كثير من الناس، أن نشأة المذاهب والاتجاهات الفلسفية والسياسية في الإسلام، أنما كانت نتاج مؤامرات خارجية، حاكتها شخصيات يهودية أو مسيحية أو مجوسية. فالتشيع عندهم اخترعه عبد الله بن سبأ اليهودي، والجبرية ابتكرها بيان بن سمعان اليهودي، والقدرية هي من منتجات سوسن النصراني العراقي. ولا ننسى أن بعض أجزاء كتاب “الملل والنحل”، نظرت إلى العقيدة المسيحية باعتبارها جزءًا من مؤامرة يهودية، قام بها بولس (شاؤول اليهودي). وذلك لا يختلف كثيرًا عن محاولات بعض المستشرقين، الذين نسبوا الإسلام إلى بَحِيرَا الراهب، أو وَرَقة بن نَوفَل.
من نماذج تلك المَرويّات، ما يسمى “بروتوكولات حكماء صهيون”. وهي وثيقة مزيفة وضعتها المخابرات القيصرية في روسيا، وجرى استلهامُها من كتاب “حوار في الجحيم بين مونتسكيو وميكافيلي”، للمؤلف موريس چولي. وتشير “البروتوكولات” إلى سعي اليهود للسيطرة على العالم، والتحكم في السياسة والتعليم والصحافة والفكر، ونشر الفوضى والإلحاد، وتقويض السلطة الدينية… إلخ. وقد انتشرت في العالم العربي انتشار النار في الهشيم، منذ ترجمتها في أوائل الخمسينيات. وعلى الرغم من رفضها من قِبل مثقفين كبار درسوا الصهيونية والفكر اليهودي بعناية، أمثال: الدكتور عبد الوهاب المسيري، فإن كثيرًا من الناس ما زالوا يعتبرونها مصدرًا موثوقًا به، لفهم الديانة اليهودية والمشروع الصهيوني، بل لفهم ما يحدث في العالم كله!
نعم، هناك مؤامرات حقيقية، كما هو الحال في “وعد بلفور”، ومِن قَبله “مؤتمر بال”، حيث التخطيط والعمل الدؤوب على إقامة كيان استعماري، يخدم المشروع الاستعماري، ويعمق الانقسام والتبعية في العالم العربي. لكن مواجهة مؤامرات كهذه، لا تكون بتهويل “المؤامرة” وتضخيمها، أو بالعيش على الْتِقاط بعض مخلفاتها الأيديولوجية؛ وإنما تكون بالعمل على دراسة المشاريع الاستعمارية دراسة علمية موضوعية.
ما زال العقل البشري المعاصر، يحتفظ بِبُنية العقل الأسطوري القديم ووظيفته. فاعتقاد أن العالم ليس سوى مسرح لرهان قديم بين قوًى خفية، لن ينفع البشرية شيئًا؛ وإنما من شأنه أن يُشعر الإنسان بالعجز، وبأنه ليس أكثر من دُمْية تحركها خيوط خفية. فمثلًا: يعتقد الكثيرون أن فيروس “كورونا” هو جزء من حرب بيولوجية بين الولايات المتحدة والصين، وأن فيروس نقص المناعة المكتسَبة “الأيدز” كان قد صُنع في مختبرات غربية، وأن علاج السرطان قد جرى اكتشافه، لكن مصالح شركات الأدوية حالت دون استعماله، إلى غير ذلك من الهواجس التي لا تغيِّر في الواقع شيئًا!
يتسم التفكير المؤامراتي باشتماله على مفارقات وتناقضات، يَصعب اكتشافها من داخل المنظومة ذاتها. وعندما يَألَف الإنسان أوهامَه، فإنها تصبح جزءًا من شخصيته. وهنا، تغدو محاولة إقناعه بما يخالف نظرته، تعدِّيًا مباشرًا عليه. فالأشخاص الذين يعتقدون أنهم يعرفون خفايا الأمور، وأنهم يملكون من الذكاء ما لا يملكه غيرهم، لا يستمعون لأحد.
تستطيع هواجس التفكير المؤامراتي أن تحوِّل الفيروسات إلى بكتيريا، أو تُنْكر صعود الإنسان إلى القمر، أو تجعل الأرض مسطَّحة ولا تدور حول الشمس؛ لكن هذه الهواجس لم تُسْعفنا باكتشاف حقيقة علمية جديدة، أو إنتاج علاج لوباء يَعصف بالبشرية.
*المصدر: تعدّديَّة.
*المصدر: التنويري.