هل تسبب «أبو حامد الغزالي» في تخلف العالم الإسلامي بسبب نقده للفلسفة؟
انتشر في مواقع التواصل الاجتماعيّ، فيديو لعالم الفيزياء الكونيّة الشهير نيل ديغراس تايسون، يتحدّث فيه عن الحضارة العربيّة وانحدارها، إذ يصف عاصمة الخلافة العبّاسية بغداد باعتبارها عاصمة العلم في تلك الفترة التاريخيّة وكيف أنّ الكثير من الإنجازات العلميّة يرجع الفضل في اكتشافها إلى العلماء المسلمين، كالأرقام العربيّة وأسماء النجوم التي أغلبها بأسماء عربيّة وتقدّمهم في عدّة علوم كالهندسة والطب والبيولوجيا والرياضيات والفلك.
ويُرجع تايسون هذه الإنجازات إلى أنّ بغداد كانت متفتّحة على جميع المذاهب الدينية والفكريّة وحتى للملحدين ليتبادلوا بينهم الأفكار والنقاشات، ثم يأتي القرن 12 وتظهر شخصية «أبو حامد الغزالي» -يستطرد نيل ديغراس تايسون- الذي يعتبر الرياضيّات «رجسًا من عمل الشيطان» وهو ما أسّس لما هو عليه الإسلام اليوم من خلال أفكار الغزالي، ولم يتعافَ من أفكاره إلى اليوم من مُعاداة العلوم العقليّة حسب تايسون، ويستدلّ على ذلك بعدد جوائز نوبل التي حاز عليها المسلمون مقارنة بغيرهم، كاليهود مثلاً.
ويكتسب أبو حامد الغزالي مكانة كبيرة في العالم الإسلاميّ باعتباره أحد أكبر العلماء في القرن الخامس الهجري (القرن 11 ميلادي)، ويلقّب بـ«حجّة الإسلام» وله عدّة كتب ومؤلّفات دينيّة لا زالت تدرّس إلى اليوم، لعلّ أهمّها كتابه «إحياء علوم الدين».
وفي كتابه المعنون بـ«فلسفة الغزالي الدينيّة»، يردّ الدكتور فرانك غريفل، أستاذ العلوم الإسلاميّة في جامعة «ييل» على هذا الطرح، بعد دراسة مؤلّفات أبو حامد الغزالي ومحاولة فهم فلسفته ونظرته إلى الكون، من خلال تركيزه على مآخذ الغزالي على الفلاسفة في كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة»، ويعرّج على عدّة مسائل أثارها الغزالي وطريقة تناوله لها، أبرزها نظرة الغزالي لمبدأ السببيّة، واختلافه مع فلسفة ابن سينا والفارابي.
هل انهارت الفلسفة في العالم الإسلامي أم أخذت أشكالاً مختلفة؟
يُرجع الكثير من المؤرّخين تطوّر الغرب ونهضته العلميّة الحاليّة إلى محرّكين رئيسيين: اهتمامه بالفلسفة، واعتماده على التفكير العقلاني، في حين يرى المؤرّخون الغربيّون أنّه في ذات الفترة الزمنيّة (أي بعد القرن 12) تراجعت الفلسفة في العالم الإسلامي وبدل ذلك ازدهرت الدراسات الدينية والفقه، وهو ما أدّى حسب هذا الطرح إلى انهيار النهضة العلميّة في العالم الإسلاميّ.
يحكي المؤلّف قصّة ازدهار العلوم العقليّة في البلاد الإسلاميّة ويرجع إلى القرن التاسع الميلادي، حين بدأت حركة الترجمة في العالم الإسلامي وتُرجمت أعمال الفلاسفة اليونانييّن القدماء كأرسطو وغيره، وانطلق من خلال هذه التراجم تيّار الفلسفة، وقد رافق الفلاسفة انتقاداتٌ شرسة من طرف التيارات الدينية، رغم ذلك عاش المنتقِدون والفلاسفة جنبًا إلى جنب في مجتمع واحد في ظلّ تسامح ملحوظ شهده العالم الإسلامي حسب المؤلّف.
يشير المؤلّف إلى أن الرأي السائد في العالم الأكاديمي الغربي أن الفلسفة والمنطق وباقي العلوم العقلية شهدت انحدارًا أو تدهورًا في العالم الاسلاميّ انطلاقًا من القرن 11 ميلادي، وذلك بعد صدور كتاب أبو حامد الغزالي «تهافت الفلاسفة»، الذي ردّ فيه على 20 مسألة من أقوال الفلاسفة، من بينها ثلاثةٌ كفّرهم فيها. ويقول سلمون مانك عن كتاب «التهافت» أن الغزالي «وجّه ضربة موجعة للفلسفة، ولم تتعافَ منها في الشرق».
لكن هل فعلاً حدث انحدار في الفلسفة والعلوم العقليّة بعد القرن 12 كما يرى الأكاديميّون؟ هذه النظرة القائلة بأنّ الغزالي قضى على تطوّر الفلسفة والعلوم العقليّة في العالم الإسلامي ممّا أدّى إلى انحدار الحضارة الإسلاميّة، ليست محلّ إجماع في الأوساط العلميّة الغربيّة حسب د.غريفل، إذ يختلف شلومو بينز مع هذه النظرة، ويرى بأنّه لم يكن هنالك أصلاً انحدار في العلوم العقليّة بعد الغزالي، بل جرى فقط الانتقال من إطار فكريّ معيّن (الفلسفة) إلى أُطر أخرى.
يقول بينز: «لم يكن هنالك فقر في الأفكار الجديدة في ظلّ الإسلام، رغم أنّ الاتجاه العام للحفاظ على الأنظمة الفكريّة القديمة واستقرار البيئة العلميّة أدّى إلى تطوّر تصاعدي للأفكار، أكثر من أوروبا حيث كانت المفاهيم الرئيسية تُراجع بشكل دوريّ والتخلّص منها أحيانًا، بينما ضمّت العلوم في ظلّ الإسلام عدّة عناصر ذات جذور مختلفة، ذات أصل شرقي وفارسي وهندي ويوناني».
وينقل د.غريفل عن أكاديميين يرون أنّ الفلسفة بعد ذلك القرن لم تختف تمامًا، وإنّما أخذت إطارًا فكريًّا مختلفًا متمثّلاً في التوفيق بين المعتقدات المختلفة كالفلسفة وعلم الكلام والصوفية، ولم تحدث قطيعة مُطلقة معها، وذلك من خلال تبنّيها في عِلم الكلام الذي أنشأه المُعتزلة من أجل عقلنة العلوم الدينيّة، وبالتالي أصبحت الفلسفة جزءًا لا يتجزّأ من النقاش الفكري والديني في الإسلام، وهو ما يُشبه إلى حدّ كبير ما حدث للفلسفة في السياق المسيحي الأوروبي خلال العصور الوسطى، إذ لم تكن هنالك تفرِقة بين دراسة الفلسفة ودراسة الدين المسيحيّ. ولذلك فإن شخصيّات من أمثال الرازي والطوسي يعتبرون فلاسفة تمامًا كما يعتبرون علماء دين، فقد بنوا أفكارهم على كتابات الفلاسفة المسلمين الأوائل كابن سينا وأضافوا تعليقاتهم على أعمالهم، والبعض الآخر أنشأ مذاهب خاصة به كالسهروردي ومُلا صدرا الشيرازي.
ولكن ما محل الغزالي من كلّ هذا؟ فبما أنّه ردّ على 20 مسألة من مسائل الفلسفة وكفّرهم في ثلاثة منها، هل يمكن القول أنّ تبنيّ الفلسفة في الفكر الإسلامي بعدها (من خلال عِلم الكلام) قد جرى رغمًا عن الغزالي، أم أنّه في الحقيقة قد ساهم مساهمة كبيرة -من خلال نقده للفلسفة- في عمليّة دمجها داخل عالم الفكر الإسلامي؟
يرى المؤلّف أن الغزالي كان يدعو إلى تبنّي الفلسفة الأرسطيّة في شقّها المنطقي، دونًا عن شقّها الأنطولوجيّ (الغيبي) الذي يتعارض مع الإسلام، ويرى بأنه من خلال استبعاد الغزالي للمسائل الثلاثة في كتابه، فقد فتح المجال للمسائل الفلسفيّة العديدة لدخول المجال الفكري الإسلامي بدل استبعادها. وقد شاع في السابق في الأوساط الأكاديمية أن الغزالي قد غيّر آراءه تجاه الفلسفة في فترات متأخّرة من حياته، خصوصًا بعد التحوّل الذي حدث في حياته واتجاهه إلى التصوّف بعد تركه لبغداد، لكن المؤلّف لا يجد أي أدلّة تدعم هذا القول، بل يرى أن موقف الغزالي بقي ثابتًا بالنسبة للفلسفة.
وبسبب استخدامه لبعض المصطلحات والتعابير الفلسفية في كُتُبه، مثل كتاب «مشكاة الأنوار»، شكّك بعض الأكاديميين الغربيّين في أن يكون هذا الكتاب فعلاً من تأليف الغزالي، أو على الأقل بعض الفصول منه، وذلك بسبب موقف الغزالي السابق من الفلسفة خصوصًا في كتاب «التهافت»، إلاّ أن المؤلّف يختلف معهم في هذه النظرة، فكُتُب أبو حامد الغزالي كانت تخضع للتدقيق والمراجعة من طرف تلاميذه وأتباعه بعد ذلك.
وهناك من رأى أن الغزالي غيّر نظرته تجاه القوانين الكونيّة، فبعد أن كان يؤمن أن الله يخلق كل شيء، بما في ذلك الأفعال والأحداث بصورة فوريّة؛ تحوّل فيما بعد إلى النظرة القائلة بأنّ الله أودع في الكائنات من خلال سلسلة من التفاعلات بين الأسباب الوسيطة الثانويّة، وهي النظرة القريبة من فلسفة ابن سينا، لكن المؤلّف يرى بأنّه لا توجد أدلّة تدعم هذه النظرة، إذ لا تعدو أن تكون تفسيرات متناقضة لذات النصوص.
وعلى عكس ما يتوقّعه القائلون بأنّ الغزالي كان أحد الأصوات المعادية للعلم والفلسفة والعقلانيّة، يرى المؤلّف أنّ آراءه واجتهاداته كانت تحمل الكثير من العقلانيّة في طيّاتها. يستخدم المؤلّف لفظ «كوزمولوجيا» (cosmology) ليشير إلى نظرة الغزالي إلى الوجود وقوانينه السارية، ورغم أنّ «عِلم الكون» أصبح فرعًا من فروع الفيزياء الحديثة، والذي يعنى بدراسة بدايات نشأة الكون وحادثة الانفجار الكبير (البيج بانج) والذي هو السبب في كلّ التطوّرات الحاصلة بعده، من نشأة الكواكب والنجوم والأجرام السماويّة وحتى المخلوقات الحيّة كالبشر والحيوانات، باعتبارها كلها من تبِعات هذا الانفجار الكبير، فإن المؤلّف يرى أن الغزالي لم يكن ليعترضَ على هذه النظريّة، إذ يشير إلى أنّه كعالم دين، لم يكن اعتقاده حينها يختلف عن هذا التفسير العلمي، ففي ذلك الوقت كان المقابل للانفجار الكبير الذي نعرفه حاليًّا هو ما يسمّى «فلك الأفلاك» أو العِلّة الأولى، ورغم هذا التفسير العلميّ يبقى اعتقاد الغزالي راسخًا بأنّ الله هو الخالق الوحيد وهو المسبّب الأوحد في الكون، ويُرجع إليه كلّ حدث مهما كان ضئيلاً، حتى لو كان مجرّد سقوط ورقة، ولذلك فإن الفكريْن الأكثر تأثيرًا في نظرة الغزالي إلى موضوع حريّة الإرادة البشريّة والقضاء والقدر، هما فكرا الأشعري وابن سينا، وقد حاول أبو حامد الغزالي التوفيق بينهما.
ولعلّ أبرز كُتُب أبو حامد الغزالي إثارة للجدل هو «تهافت الفلاسفة»، الذي ردّ فيه على 20 مسألة من مسائلهم، لكن المؤلّف يرى أنّ الكتاب لا يُعدّ قطيعة مع الفسلفة كما فهمه الكثيرون، كما أنّ الكتاب ليس إثباتًا لخطأ كل المسائل الفلسفيّة أو أغلبيّتها، بل إنّ الغزالي يحاول من خلاله التركيز على عجز الفلاسفة عن إثبات الآراء التي يدافعون عنها في أقوالهم، ولذلك فقد استخدم في عنوانه مصطح «تهافت الفلاسفة» بدل «الردّ على الفلاسفة» مثلاً، إذ أراد أن يُثبت أنّ أقوال الفارابي وابن سينا في الغيبيّات (الإلهيات) لا تثبت علميًّا، وليست مستندة على أدلّة ثابتة.
لكن هذا ليس السبب الرئيسي لرفض الغزالي لهذه المسائل، إذ من الممكن أن تكون المسألة غير مُثبتة علميًّا وتظلّ صحيحة رغم ذلك (فقد يتطوّر العلم ويأتي الإثبات فيما بعد)، ولذلك فإن المعيار الآخر الذي اعتمده أبو حامد الغزالي هو الوحيّ، فإذا كانت غير مُثبتة علميًّا ومُخالفة للوحي، فإن المسألة تُرفض عنده.
وكدليل على أنّ الغزالي لم يسع لإثبات خطأ آراء الفلاسفة بقدر إثبات خطأ منهجيّتهم، أنّه وافقهم في قولهم في مسألة أنّ الله لا جِسم له، ورغم ذلك فقد انتقد حُججهم في «المسألة التاسعة» في كتاب «التهافت» التي عنوانها: «في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأوّل ليس بجسم» بمعنى أنّه يرى بأنّهم عاجزون عن إقامة الدليل، وليس يختلف معهم بالضرورة في النتيجة التي وصلوا إليها، إذ يرى الغزالي أنّ الناس تعرف هذه الحقيقة (أنّ الله ليس له جسم) ولكن ليس من خلال حُجج الفلاسفة التي يُثبت تهافتها في كتابه، بل من خلال الوحي. ويستخدم الغزالي في ردّه على الفلاسفة تقنيات عِلم الكلام، إذ يقتصد في ذِكر أقوال الفلاسفة في بضع جُمل قصيرة ثم يردّ عليها بصيغة مطوّلة، ثم يحاول تبنّي وجهة نظر الفلاسفة والردّ على حُججه بلسانه، ليعود ويردّ عليهم.
ويعتبر أبو حامد الغزالي في كلامه أنّ حُجج الفلاسفة لا تستوفي الشروط العلميّة الصارمة التي يرتضيها الفلاسفة لأنفسهم، بل إنّها تستند فقط إلى شروط ومعايير خاصّة وضعها الفلاسفة لأنفسهم، وليست مقبولة عقليًّا ومنطقيًا.
يرى د. غريفل أنّ الغزالي سعى إلى التوفيق بين الوحي والعقل من خلال «قانون التأويل»، بمعنى الوصول إلى فهم آخر غير الفهم الحرفيّ الظاهريّ للوحيّ، ويعتبر أنّ السماح بقراءة تأويليّة مُغايرة للقراءة الحرفيّة الظاهرية ينبغي أنّ تكون من خلال الإتيان ببُرهان على أنّ التأويل الظاهري مستحيل (استحالة الظاهر)، وبذلك ينتقل الفهم في هذه المسألة في «مراتب الوجود» من الوجود الذاتي إلى الوجود الحسّي.
ومراتب الوجود عند الغزالي خمسة: الوجود الذاتي (الحقيقي)، ثم الوجود الحسّي، ثم الخيالي، ثم العقليّ، ثم الشبهيّ (المجازي)، وهو يتعامل -مع تأويل- بالانتقال في مراتب الوجود من الأوّل إلى الذي يليه شرط وجود «بُرهان» على استحالة الفهم في تلك المرتبة؛ هذا التأويل هو أحد نقاط الاختلاف بين منهجه وبين الحنابلة مثلاً الذين يرفضون التأويل ويرون الإيمان بظاهر النصّ.
«المسألة 17».. هل أنكر أبو حامد الغزالي مبدأ السببيّة؟
إحدى النقاط الرئيسيّة التي يرى د. غريفل أنّ الأكاديميين لم يفهموا أبو حامد الغزالي بدقّة هي رأيه في قانون السببيّة، أو «المسألة 17» في كتاب التهافت التي يقول في بدايتها:
«الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سببًا، وبين ما يعتقد مسبّبًا، ليس ضروريًا عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمّنًا لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمنًا لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما، وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما، عدم الآخر، مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجزّ الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن… فإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه، بخلقها على التساوق لا لكونه ضروريًّا في نفسه، غير قابل للفوت، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة».
واختلف المؤلّف مع الكثير من الأكاديميّين في قولهم بأنّ الغزالي من خلال هذا القول قد نفى وجود السببيّة في العالم، وشكّك فيها وبالتالي يكون قد نفى أحد أهمّ قوانين الطبيعة، وبذلك تسبّب في تخلف العلوم وتراجع العقل الإسلامي بإنكاره قانونًا بديهيًّا كقانون السببيّة، لكن المؤلّف يرى أنّ التعمّق في نظرة الغزالي إلى هذا القانون تكشف أنّه لا ينكره إطلاقًا، ولا ينفي أن السببيّة تفسّر التغيّرات الفيزيائيّة المختلفة، إنما فقط يعترض على كون السببيّة مبدأ إبستيمولوجيًّا للعلوم الطبيعيّة، كما يعترض على فكرة الحتميّة عند ابن سينا، الذي يرى أنّ كل الأحداث في العالم تحدث حتميًّا، وهي محدّدة بدقّة ولا يمكن أن تكون إلاّ كما هي.
مهما نسبتَ الكلام وأسندتَه إلى قائل حسُن فيه اعتقادهم قبِلوه وإن كان باطلًا، وإن أسندته إلى قائلٍ ساء فيه اعتقادهم ردّوه وإن كان حقًا، فأبدًا يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق، وهو غاية الضلال. *أبو حامد محمد الغزالي
ويحاول الغزالي إقناع الفلاسفة أنّ الأحداث التي يعتبرونها مستحيلة كمعجزات الأنبياء، التي من بينها إحياء الموتى أو تحويل العصى إلى ثعبان هي في الحقيقة تندرج في نطاق الممكن، وبالتالي فإنّ الغزالي عند حديثه عن السببيّة هنا، ليس في موضع إنكار لها، بل في موضع نقاش مع فلاسفة مسلمين حول ما يمكن لله أن يخلق، وأنّه بالرّغم من قانون السببيّة، «فإنّ الله قادر على كلّ شيء».
عندما يقول الغزالي بأنّ الروابط السببيّة ليست حتميّة، فهو يترك بابًا لاحتماليّة عدم تحقّقها، إذ يعتبر أنّ العلاقة بين السبب والنتيجة هي علاقة «إمكانيّة» (أيّ أنها ممكنة) وليست حتميّة، فيرى بما أنّه يمكن تخيّل وجود عالم لا يحترق فيه القطن بفِعل النار، فإنّ هنالك احتماليّة لوجود هذا العالم، ولعلّ ما يأتي إلى الأذهان عند قراءة مثل هذه الأحاديث هي فرضيّة «الأكوان المتوازيّة» في الفيزياء الكونيّة.
وفي هذه النظرة، هنالك أكاديميّون احتفوا بنقد أبو حامد الغزالي لبعض أفكار ابن سينا، من بينهم أوبرمان الذي اعتبر نقد الغزالي لإبستيمولوجيا الواقعيّة لابن سينا سابقًا لأفكار الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، كما اعتبره إنجازًا فلسفيًّا عظيمًا للغزالي.
هل حرّم أبو حامد الغزالي الرياضيّات حقًّا؟
تمامًا كما فعل نيل ديغراس تايسون -في الفيديو المنشور في أوّل التقرير- فإنّ الكثيرين يتّهمون الغزالي بتحريمه الرياضيّات، وما ينجرّ عن ذلك من مسؤوليّة عن تخلّف العلوم العقليّة الأخرى بسبب هذه الفتوى، لكن المتتبّع لآراء الغزالي وكتبه المتعدّدة يكتشف مواقف مركّبة لا يمكن اختصارها في القول بأنّه حرّم هذه العلوم، يظهر ذلك في قوله في كتابه «المنقذ من الضلال»: إن علوم الفلسفة ستّة أقسام هي: الرياضيات والمنطق والطبيعيات والإلهيات والسياسيات والخلقيّات. أمّا الرياضيّات فتشمل الحساب والهندسة وعلم الهيئة، وهي عِلم بُرهاني لا سبيل إلى جحده، ولا علاقة لها بالدين».
وبعد أن وصفه بـ«العلم الذي لا سبيل إلى جحده» يعقّب بعد ذلك على انتقاد ما يمكن وصفُه بانطباعات العوام على الرياضيات، وليس انتقادًا للرياضيات نفسها، إذ يرى بأنّ إعجاب البعض بدقّتها المتناهية قد تؤدّي لتصديق معتقدات الفلاسفة في أصناف العلوم الأخرى كالإلهيات، وهو ما سيؤدي إلى ترك الدين.
أمّا مأخذه الثاني فهو اعتبار بعض المتشدّدين أن نُصرة الدين تقوم بإنكار كل ما نُسب إلى الفلاسفة من علوم بشكل مُطلق «ولو كانت يقينية» كالرياضيات حسب قوله، ما سيؤدّي إلى اعتبار الناس أن الإسلام مبنيّ على الجهل ونبذ العلم، ممّا قد يؤدّي بهم إلى الكُفر. وفي مواضع أُخرى نجد أنّ أبو حامد الغزالي قد أثنى عليها واعتبرها عِلمًا محمودًا في كتاب «إحياء علوم الدين» في قوله: «فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح. فالمحمود: ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب».
*المصدر: ساسة بوست.
*المصدر: التنويري.