المقالاتفكر وفلسفة

هرمينوطيقا الاجتهاد والتجديد

التجديد

إذا كانت مصادر المعرفة النقدية تشير إلى مصطلح الهرمينوطيقا  Hermeneutics  بوصفه مجالا معرفيا يقوم على مجموعة من القواعد التي تحكم تفسير النصوص الدينية، فإن هذا يجعل مهمتها الأصيلة الكشف عن حدود النص غير المحدود، وذلك يدفع الباحث المجتهد والمجدد إلى الأخذ بالاجتهاد التأويلي السديد وليس الاستغراق في التأمل وتوصيف الظنون فحسب. ولا شك أن جامعاتنا كذبت كثيرا على طلابها منذ عقود بعيدة حينما ادعت أنها تستهدف إلى إعمال العقل والاجتهاد لطلابها، لأنها باختصار شديد لا تزال تقف عند تخوم الطرح الفكري لابن رشد وما فجره من تكوين عقلي وإبداع في صنع المفاهيم دون دعوة الطلاب إلى مشاكلة ومماثلة هذا الصنيع الجميل. 

فضلا عن أن التعليم العربي يجد نفسه مضطرا إلى الابتعاد عن التجديد الفكري والفقهي الذي أحدثه المجدد العظيم الشيخ محمد عبده، رغم أن الأخير عاب على زمنه وليس زماننا وكأنه يقصد عوالمنا المعاشة التمسك الحرفي بما جاء في كتب القدماء والسلف بغير تأويل أو اجتهاد أو إعمال للعقل، لذا فإن الشيخ محمد عبده يظل عدوا لدى الكثير من الراديكاليين الذين يرفضون التجديد والتطوير في الفكر مع استمرائهم الشديد للتقليد ومحاكاة القديم. 

 وحينما نتحدث عن التجديد وأهميته نجد من يهاجم الفكرة بقدر ما يهاجم أصحابها، وحينما نؤكد القول بأن هناك ثوابت وأصول وركائز لا يمكن الفكاك منها ونحن بصدد التجديد نجد أهل التنوير أنفسهم يصوبون سهامهم غير المسمومة صوب أقلامنا وأفواهنا، حتى صرنا وغيرنا راديكاليين تارة، وعلمانيين تارة أخرى، وإن شئت أيضا تنويريين في المحاولة الثالثة لاجتهادنا. ووقتما نرشد الشباب بأن الأمة تأخرت ولم تعد قادرة لعقود طويلة بل لقرون أطول على توجيه أحداث التاريخ بسبب ضعف الاجتهاد وفقر التجديد نجد هؤلاء الشباب بالجامعة في حيرة من التصديق وخصوصا أن سدنة وكهنة الفكر الظلامي وأتباع التيارات التي تدعي المسحة الدينية يضيقون عليهم دوائر التفكير وإعمال العقل، لذا فإن مهمة التجديد التي قد نراها أقرب إلى تصويب وتصحيح المسار مهمة مستحيلة تحتاج إلى جهود متواترة وتكاتف كافة العوامل التي تسهم في إنجاح هذا التجديد. 

وفي هذا الصدد أستدعي ما كتبه الأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء في كتابة صغير الحجم عظيم الفائدة ” هوامش على أزمة الفكر الإسلامي المعاصر ” بأن هناك معركة مزمنة بين الاجتهاد والتقليد وفقه الواقع، وأن هناك ثمة قضايا هي بحق بحاجة ضرورية ومستدامة إلى اجتهاد جديد، وكان مرجعه في ذلك ومرتكزه أن النصوص التي يرجع إليها الفقهاء محدودة، ولكن وقائع الحياة ومستجدات كل عصر لا تنتهي، ويشير في الفصل الثاني من كتابه إلى أن إنزال النصوص على واقع الحياة يتطلب عقلا راجحا وأفقا واسعا وفقها واعيا، وهو كنه التجديد ومفاد التصويب والتصحيح لمسار فكري معقد. 

هذه الافتتاحية باتت ضرورية لاسيما وأن مصر في أيامها المنصرمة الفائتة قد شهدت حدثين مهمين أعتقد أنهما من الأحداث الاستثنائية التي تمر بهذا الوطن العظيم ؛ أما الأولى الحادث الإرهابي الذي تعرض له بعض الأقباط المسيحيين في محافظة المنيا على أيدي بعض المسلحين تحت دعاوى دينية وهم باتجاههم لتأدية الصلوات الكنسية بأحد أديرة صعيد مصر، الأمر الذي يتزامن بالضرورة مع فعاليات منتدى شباب العالم الذي احتضن خمسة آلاف شاب من كافة بقاع الكرة الأرضية، ظنا من هؤلاء أنهم يسعون لتقويض الاحتفال والاحتفاء العالمي الذي أقيم بمدينة شرم الشيخ مدينة السلام. 

وهذا الحادث الأليم  وإن كنت قد حضرت مراسم تشييع ضحاياه كوني أنتمي لمحافظة المنيا التي وقعت فيها الحادثة، لا يعد سوى حلقة من حلقات الإرهاب المنظم الذي تداعى منذ انتفاضة يناير 2011 ومحاولات التيارات والكيانات التي تصاعدت بعد المد الشعبي في يناير إلى استقطاب واستلاب السلطة والشعب على السواء، وكان من الأحرى منذ هذا الاشتعال أن يتم التعامل مع هذه التيارات والجماعات التي توصف أحيانا بأنها دينية وأخرى فكرية وأخيرا إرهابية بالفكر والحوار والمناقشة وعدم الاكتفاء بالحلول الأمنية والعسكرية فحسب وإن كانت الحلول الأمنية ضرورية وحازمة، لكن هذا التعامل يكتفي بالقضاء على الإرهابيين دون الإرهاب، وبالتخلص من التكفيريين دونما التكفير، وإنهاء حياة المتطرفين بغير التطرف نفسه. 

وربما تعود بنا هذه الحادثة إلى اجترار الحديث عن المواطنة وشراكة الوطن الواحد داخل مصر،  وسعي بعض الجهات الخارجية إلى إشعال فتنة طائفية متجددة على أرض مصر، كل هذا بات عظيما يمكن تداوله في المنتديات والكتب والمؤتمرات وصفحات التواصل الاجتماعي الإلكتروني، لكن الموضوع يجب أن يتجاوز تلك المعالجات التقليدية الباهتة، بل والبليدة في ظني، هذا التجاوز ينبغي أن يجتاح كل مناطق وقطاعات الفكر لدى الشباب، والتأكيد على خطورة التطرف والإرهاب لا الوقوف النظري عند توصيف المتطرف والإرهابي أو الحديث عن جماعات متطرفة بعينها مثل تنظيم داعش وغيره، بل بتبصير الشباب بمغبة الانسياق وراء أفكار من شأنها تهديد استقرار الوطن بل وضياعه أيضا لا قدر الله. 

وفي لقاءات تلفازية كثيرة طالبت بضرورة المعالجة الثقافية للتطرف والإرهاب وأن مصر بحاجة إلى قوافل توعوية تنتشر في ربوع المحروسة لتصل إلى أصغر قرية بها وأصغر طفل ببويتها ومنازلها. لقد علم أقباط مصر من المسيحيين أن الدين الإسلامي لا يحض على التطرف والإرهاب بحقهم لأنهم أصبحوا على وعي شديد بما يحاك لمصر وطنا وشعبا وقيادة من مؤامرات خبيثة ودنيئة، وأن الإسلام بطبيعته دين عالمي يدعو للرحمة وللتسامح والتعايش المشترك، لكن رغم هذا الاعتقاد الذي يشارف اليقين لديهم بل لدى الوسطيين من أقباط مصر إلا أن هناك ثمة عقول تجد نفسها في حرب مستمرة ضد كل ما يتصل بالتجديد والاجتهاد، وهؤلاء استسهلوا الأخذ بنصوص قديمة لفقهاء ينتمون للعصر الأيوبي ولثقافة دولة المماليك في مصر، وكارثة هؤلاء الحقيقية أنهم وفقا لزعم الدكتور محمود حمدي زقزوق ترجع إلى افتقاد الشعور بالثقة وهيمنة التقليد للسابقين وانعدام تحكيم العقل وسوء الظن بالآخرين. 

وهذا يجعلنا بصدد جعل مسألة الاجتهاد والتجديد والتصويب للخطاب الديني، وأن هذا التجديد لن يتم إلا في ضوء معايير محددة وثوابت أصيلة وأيضا أهداف ومجالات متعددة. وهذا الدفع الإيجابي يأخذنا إلى الحديث عن الطرح الفكري الأصيل والمتجدد لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب في كلمته التاريخية في الاحتفاء بذكرى مولد الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتحذيره من فكرة استبعاد السنة النبوية، وهذا التحذير وإن صادف بعض التوجس لدى كثيرين إلا أن التحذير يشمل التأكيد على قاعدة أصيلة في التجديد والتصويب وتصحيح المسار، وهذه الكلمة هي الحادثة الثانية التي اجتاحت معظم الفضائيات المصرية والعربية على السواء. 

فأغلب الذين تم اتصافهم بالتطرف والراديكالية هم من اقتصروا في فهمهم الديني على القرآن الكريم فحسب، وصار تفسيرهم للنص الديني المقدس وفق أهواء وظنون قاصرة بل ومسكينة أيضا، في الوقت الذي ينبغي علي وعلى غيري من الذين يحبون هذا الوطن الإشارة إلى أن فهم الدين والقرآن بوصفه المصدر الأساسي والأول للإسلام لن يتم إلا في ضوء ما فصله وفسره الرسول في سنته وسيرته. لذا أرى أن ما أشار إليه فضيلة الإمام من التأكيد على الأخذ بالسنة والسيرة النبوية أمر ضروري للاجتهاد والتجديد والفهم أيضا.

وإذا كنا نتحدث عن التجديد الديني فإن هذا الهدف لن يتحقق إلا وفق اهتمام أوسع بالتجديد في قطاعات أخرى كتجديد الخطاب التعليمي، وتجديد الخطاب الإعلامي. إن معظم ما نعانيه في وطننا العربي الكبير ليس مفاده الخطاب الديني التقليدي، فهذا عامل واحد فحسب، لكن التعليم في الوطن العربي يتسم بظواهر كارثية ونحن بمنأى عن معالجتها بقوة وحزم كالأخذ بالتفكير الناقد والقراءة التأويلية والإبداعية لنصوص القراءة العربية، والبعد عن وظيفية العلوم المعاصرة كالذكاء الاصطناعي وعلوم المستقبل. فقط نهتم بالتعليم كمبنى مدرسي أو كتدريب للمعلمين أو تغيير فصول الكتاب المعرفي الرسمي الذي يتداوله الطلاب بصورة مكرورة بشكل سنوي، لكن أن نجدد في الخطاب التعليمي بدءا من السياسات العامة المنظمة له مرورا بالمعلم وانتهاء بالمعرفة والمتعلم فهيهات هيهات لهذا الاقتراب.

وبنفس الدرجة فإن الإعلام بحاجة قوية وماسة إلى التجديد، تجديد في الوجوه والأقلام والأصوات والرؤى، وملامح الطرح هذا إن كنا بحق أن نكون أمة قوية. 

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات