نقد عـلمنة الـديـن
(العَلمانية نِتاج سياق غربي لا ينطبق على المجتمعات العربية والإسلامية)
كما نعلم أن الحداثة*، مشروع غربي، استهدف القطيعة، مع أسس المجتمع الأوروبي القائمة على: الدين الكنسي، والأعراف والتقاليد التي سادت في القرون الوسطى، وبناء أسس جديدة تُدخل أوروبا التاريخ من جديد. وفي حقيقة الأمر تستمد هذه الفلسفة جذورها من فكر الأنوار في القرن الثامن عشر، حيث قرر فلاسفة الأنوار أن للبشرية تطوراً مرحلياً يصبغ تاريخها الطويل مؤكدين – حسب رأيهم – أن تحررها وانعتاقها سوف يكونان نتيجة أساسية لاستعمال العقل البشري من حيث إنه إقرار للشك المنطقي ورفض لكل حكم مسبق ولكل سلطان مهمين([1]).
تم ذلك، عندما استكمل الفكر العلمي الحديث سيادته في مختلف المجالات، سواء أكان في علوم الطبيعة أم في العلوم الاجتماعية، بالترافق مع ما يسمى بعصر التنوير، الذي قام على التحرّر من سلطة الدين وتغليب العقل على الإيمان في المجال السياسي كما في مجال المعرفة الوضعية. وقد تقدّمت الثورة العلمية لدى الأوربيين بدءاً من عصر النهضة لديهم، أي بدءاً من القرن السادس عشر الميلادي، بالتوازي مع النقد الديمقراطي للحكم الملَكي المطلق الذي كان يدّعي الاستناد إلى حق إلهي ([2]).
ومع أن العلمنة انتصرت على امتداد القارة الأوروبية ومستعمراتها الاستيطانية، لم يختف الدين في تلك المناطق، بل استمر في شكل إيمان حر طوعي حل محل التدين القسري الذي كان سائداً من قبل. ليس هذا فحسب، بل إن تحرر المجتمع والدولة والعلوم والتعليم من هيمنة الدين قد وجد نظيراً له في تحرر الدين ذاته من هيمنة الدولة، بعد أن كان الحكم الملكي في كل دولة من دول أوروبا قد فرض هيمنته على المؤسسة الدينية (الكنيسة) وحوّلها إلى أداة سياسية من أدوات سلطته. فأصبحت بذلك العلمانية شرطاً أساسياً للحداثة ولا تقدم بدونها ([3]).
وفي هذا السياق نستخدم كلمة العَلمانية* بمعنى اللا دينية، أو الدنيوية، أو العصر الراهن والوقائع الجارية في هذا العالم مقابل الأبدية والعالم الآخر. والاستخدام الأعم من ذلك يشير إلى أي شيء يرتبط بهذا العالم، والعلماني يعني الشيء المتعلق بهذا العصر أو هذا العالم. ينقسم العالم في الأدبيات الفلسفية والعقلية إلى حيزين أو مرتبتين: الأولى مرتبة اللازمان أو فوق الزمان التي لا يوجد فيها زمان أساساً، بل هي أعلى من مرتبة الزمان، أي أن المرتبة التي تنحصر في عالم المجردات والأرواح ([4]).
أما المرتبة الثانية فهي مرتبة الزمان أو العالم الخاضع لسيطرة الزمان، ولا شك في أن عالم المادة من أوسع عناصر هذا العالم، فالزمان وليد الحركة، والحركة مصاحبة دوماً للمادة. من هنا كان عالم المادة وعالم الزمان متساوتين ومتطابقين دائماً. وهكذا فإن العلمانية خلافاً للعلمنة التي تشير إلى تيار واقعي محدد واجتماعي، ضرب من المعرفة والرؤية الكونية ترتبط بالعالم الحالي ودنيا المادة ([5]).
وبعبارة أخرى تشير العلمنة إلى عملية يفقد فيها الضمير الديني والأنشطة الدينية والمؤسسات الدينية اعتبارها وأهميتها الاجتماعية، وهذا معناه تهميش الدين في أنشطة النظام الاجتماعي، وعقلية الأعمال السياسية في الأداء الاجتماعي عن طريق الخروج عن دائرة نفوذ وإشراف العوامل المهتمة خصوصاً بما وراء الطبيعة([6]). بهذا المعنى تشير علمنة الدين إلى المساس بثوابته الكبرى، ومعظم ما يرتبط بالمصطلح ومقاصده ليتناول أهم المسلمات التي تُعرف من الدين بالضرورة ([7]).
وعلى العموم، ترى العلمانية حسبما يتم الترويج لها أن الإنسان غنياً عن القيم الإلهية، والأخلاقية، والمعنوية، والفضائل الدينية، وتعاليم الوحي. يستند إلى مبدأ يحاول تنظيم السلوك البشري بتوجيه من مجموعة الأصول والقواعد التي تقوم على أساس المعرفة العقلانية والتجربة البشرية، لا على الإلهيات أو الأمور فوق الطبيعية. ولكن المضمون الغربي لمفهوم العلمانية لا ينطبق على كل السياقات الدينية، وإنما على دين محدد ضمن جملة من الأسباب والعوامل والمتغيرات التي أنتجت مفهوم العلمانية وروجت لظهوره.
في حقيقة الأمر، يدلنا تتبع السياق التاريخي لبروز مفهوم العلمانية في العالم الغربي أن الدين والعلم في مفهوم الإنسان الغربي متضادان متعارضان، فما يكون دينياً لا يكون علمياً، وما يكون علمياً لا يكون دينياً. فالعلم والعقل يقعان في مقابل الدين، والعلمانية والعقلانية، في الصف المضاد للدين.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا ما هي مبررات ظهور العلمانية في الغرب المسيحي؟ لقد كان لظهور العلمانية في الغرب مبرراتها الدينية، والفكرية، والنفسية، والتاريخية، والواقعية، وهي مبررات خاصة بالعالم الغربي، لا تنطبق على العالم الإسلامي، وهي كالآتي:
1- الأسباب الدينية: تنحصر تلك الأسباب بمجموعة من الأسس النظرية والمنهجية، التي تشكل جوهر الديانة المسيحية في توجيه وتأطير حياتها الاجتماعية وسلطتها الدينية، وهي كالآتي:
أ- المسيحية تقبل قسمة الحياة بين الله وبين قيصر: إن المسيحية – نفسها – تحتوى من النصوص ما يؤيد فكرة العلمانية، أي الفصل بين الدين والدولة، أو بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية.
وفي حقيقة الأمر تعترف المسيحية بهذه الثنائية للحياة، بحيث تقسمها قسمين: الأول: لقيصر وهو الجانب، الذي يخضع للسلطة الزمنية، سلطة الدولة. أما الثاني: فهو لله، وهو يخضع للسلطة الروحية، أي سلطة الكنيسة. وهذا واضح في قول المسيح u، كما يرويه الإنجيل: ] وأعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله [([8]). ونستدل من تتبع تاريخ الفكر الغربي، أنه لم يعرف الله، الذي نعرفه نحن المسلمين، محيطاً بكل شيء، منيراً لكل أمر، لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عن علمه ذرة، في السموات ولا في الأرض، وسع كل شيء، رحمةً وعلماً، وأحصى كل شيء عدداً، وجعل لكل شيء قدراً، بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق، ليحكموا بين الناس، فيما اختلفوا فيه ([9]).
ب- عدم وجود تشريع لشؤون الحياة في الديانة المسيحية: بمعنى آخر لا تملك المسيحية تشريعاً مفصلاً لشؤون الحياة، يضبط معاملاتها، وينظم علاقاتها، ويضع الأصول والموازين القسط لتصرفاتها. إنما هي روحانيات وأخلاقيات، تضمنتها مواعظ الإنجيل، وكلمات المسيح u فيه. على خلاف الدين الإسلامي، الذي جاء عقيدة وشريعة، ووضع الأصول لحياة الإنسان من المهد الى اللحد. قال تعالى ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ ([10]). ولهذا شمل التشريع الإسلامي الحلال والحرام في حياة الفرد، كما نظم الحقوق والواجبات في دائرة الأسرة، ونظم شؤون المبادلات والمعاملات في المجتمع بين الناس بعضهم وبعض، كما عنى بشؤون الإدارة والمال والسياسة الشرعية، وكل ما يتعلق بحقوق الحاكم والشعب، وكذلك بالعلاقات الدولية بين الأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم مسالمين ومحاربين وهذا ما تضمنه، الفقه الإسلامي، الذي يضم في جنباته، كل ما يتعلق بحياة الفرد المسلم والمجتمع المسلم، إلى بناء الدولة أما المسيحي، فليس عنده مثل هذا التشريع، يرجع إليه ويحكم به، أو يحتكم إليه.
وهنا يجب أن نشير إلى أن تطبيق هذا النظام (أي علمنة الدين)* على الدين الإسلامي، معناه القضاء على الإسلام، كعقيدة حيّة مزدهرة، ورسالة إنسانية خالدة، ذلك أن المجتمع من السلطة الدينية ومن صبغة الدين مع العلم بأنه لا يوجد في المجتمع الإسلامي من يمثل هذه السلطة. كما في الديانة المسيحية ([11]).
ج– ليس للإسلام سلطة دينية بابوية: على أن العلمانية، إذا فصلت دين المسيحي عن دولته، أو دولته عن دينه، لا يضيع دينه، ولا تزول سلطاته، لأن لدينه سلطة بالفعل قائمة، لها قوتها، وخطرها، ومالها، ورجالها. فهناك سلطتان بالفعل في المسيحية السلطة الدينية، ويمثلها البابا، ورجال الإكليروس. والسلطة الدنيوية، ويمثلها الملك أو رئيس الجمهورية، ورجال حكومته، وأعوان سلطته فإذا انفصلت الدولة عن الدين هناك، بقي الدين قائماً، في ظل سلطته القوية الغنية المتمكنة، وبقيت جيوشها ” من الرهبان والراهبات والمبشرين والمبشرات ” تعمل في مجالاتها المختلفة، دون أن يكون للدولة عليهم سلطان بخلاف ما لو فعلت ذلك دولة إسلامية، فإن النتيجة أن يبقى الدين بغير سلطان يؤيده، ولا قوة تسنده، حيث لا بابوية له ولا كهنوت ولا إكليروس ([12]).
2- الأسباب المجتمعية: الثورة على الأوضاع والمعتقدات في البلدان الغربية نتيجة الاستبداد باسم الدين وانتشار الفوضى والظلم والاستغلال وغياب العدالة الاجتماعية وفقدان الأمل بدور وفاعلية القيم الدينية والمُثل الاجتماعية في إصلاح المجتمع ([13]).
3- الأسباب الخفية: تعود إلى أمور سياسية تنحصر في إحكام السيطرة والتوسع وبسط النفوذ (الاستعمار)* خارجياً. أما داخلياً الرغبة في الانفلات من كل القيود التي كانت قائمة في ظل حكم رجال الدين المسيحي، فكانت ردة فعل للطغيان الكنسي، وفرضه سلطاناً مذلاً على كاهل الناس ([14]).وتاريخ الكنيسة يشهد بذلك، أما عن موقف الكنيسة من العلم والفكر والحرية، فقد كان موقفاً سلبياً مخوفاً، حيث وقفت الكنيسة مع الجهل ضد العلم، ومع الخرافة ضد الفكر، ومع الاستبداد ضد الحرية ومع الملوك والإقطاعيين ضد الشعب حتى ثارت الجماهير عليها، وتحرروا من الحكم المباشر لرجالها، واعتبروا عزل الدين عن الدولة، كسباً للشعوب ضد جلاديها. وهذا يعني أن تاريخ الكنيسة في ذهن الإنسان الغربي المسيحي، يعني الاضطهاد والقتل ومحاكم التفتيش، والمذابح المستمرة بين الطوائف المتنازعة بعضها وبعض، وعودة السلطة إليها، تعني عودة هذه المآسي، فلا غرو أن ينفر الإنسان الغربي منها، ويقف في سبيل حكمها وتسلطها ([15]).
ثم السعي إلى ملأ الفراغ الذي أحس به المجتمع الغربي بعد إقصاء الدين ورجاله، وتقديم البديل لأفراد المجتمع. وهذه نتيجة منطيقة لسوء الأحوال في الحياة الأوروبية المتمثلة في الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية التي كان يعيش الأوروبيون في عهود سيطرة رجال الكنيسة من عداوات وتنافر ومن انتشار الجهل والخرافات الجاهلية والبُعد عن الدين الصحيح ([16]).
4- الأسباب الفكرية (تقديس الفردية): كما نعلم أن الحضارة الغربية في جوهرها قائمة على مبدأ الفردية، أي اهتمام الفرد بنفسه والمحافظة على ذاته واستقلاله وكيانه، وفيها يتم تقديس الفرد وتقديم حقوقه على حقوق المجتمع ومؤسساته.
وهذا يعني أن قيمة الفرد أعلى من قيمة المؤسسات المحيطة به، لأن الفرد هو الغاية من أجلها وجدت الدولة. ويقوم المذهب الفردي على أساس إبراز كيان الفرد حتى يجعله مقدساً ويُحرم على المجتمع المساس بحريته، وليس له الحق أن يقول له هذا خطأ وهذا صواب. وعلى العموم نتج هذا المفهوم في الحضارة الغربية بسبب عدة عوامل، وهي كالآتي ([17]):
– رد فعل لاستبداد الاقطاعيين بالأفراد وسلبهم حقوقهم وحرياتهم.
– الانقلاب (الثورة) الصناعي الذي حدث في عصر النهضة الأوروبية والذي أحدث تغيراً كاملاً في صورة المجتمع، حيث قدم العمال (البروليتاريا) فرادى من الريف، يسعى كل منهم إلى تحقيق ذاته، ونفع نفسه.
– تشجيع الرأسمالية للمذهب الفردي، لقيامها على أساسه ودفاعها عنه دفاعاً عنيفاً، وكان شعارهم الذي رفعوه “ دعه يعمل دعه يسير ” أي دع الفرد يعمل ما يشاء بلا حواجز وقيود، دعه يمر بلا عوائق، حتى لو كانت المصلحة الفردية ضد مصلحة الأغلبية وعلى حسب حقوقهم.
ربطاً مع ما تقدم نشير أن أول ظهور للعلمانية كممارسة سياسية كان في القرن الثالث عشر في أوروبا للفصل بين السلطة الزمنية والروحية (الكنيسة) – والمطالبة باستقلال الملك عن الكنيسة وإنهاء صراع الباباوات وبخاصة في فرنسا. وبعد قرنين من الصراع العنيف حدث الصلح بين المفكرين وعلماء اللاهوت ولا سيما أن انخراط الكنيسة في السياسة كان بمخالفة بالإعلان الإنجيلي. وتم الاقتناع بأن فصل السلطة عن الدين هو الأساس وهو الأصح. وبدء العودة للأصل الذي قبله المسيح في وجوده على الأرض وهو (أن إدارة الدول من رجال السياسة من خلال القوانين الوضعية هي الأساس، وما الالتزام بالوصايا الروحية هي مسؤولية شخصية تختص بعلاقة الإنسان بالله، وهي لا تتعارض مع النظم الأرضية ولا تسبب أي اضطرابات اجتماعية). إن الفصل بين الدين والدولة وصياغة المصالحة بينهما وعدم الاصطدام والتوافق هو الإبداع المعُجزي الذي قدمه العهد الجديد لتكون رسالة الإيمان المسيحي ليست في عداوة مع النظم الأرضية والإدارات السياسة.
وللتوضيح أكثر يشرح لنا اللاهوتي البروتستانتي فريدريك غوغارتن* حقيقة موقف المسيحية من العلمنة في أن العلمنة تجد جذورها في الإيمان المسيحي نفسه، فهي بالتالي ظاهرة لاحقة للمسيحية، أو بالأحرى منبثقة بتأثير مسيحي فالإيمان بأن الله، هو الذي خلق العالم يجعل الإنسان في يقين بأنه جُعِلَ (ما بين الله والعالم) ([18]).
والمسيح ( حسب رأيه ) أصبح الإنسان ابناً أي وريثاً، فالله إذا أوكل إليه مهمة جعل العالم مجالاً لسيطرته، وبهذا المعنى يقول بولس للمسيحيين ” أن كل شيء مباح “، ويرى غوغارتن في هذا الكلام المفتاح الأساسي للاهوت العلمنة، فهذا القول ينشئ ” دنيوية العالم ” ويستبعد فكرة وجود مجال يكون إلى جانب الآخر، يعتبر مقدساً، لكن اللاهوت لا ينسى تكملة الآية المذكورة أعلاه ” ولكن ليس كل شيء ينفع “، فعلى الإنسان أن يميز بين الأمور، والتمييز هو الذي يجريه بواسطة عقله، العقل بالتالي هو الوسيلة التي بها يسيطر على العالم، وعليه ألا يتخلى أبداً عنها، فإن فعل خان دعوته، والإيمان هو الذي يعطيه القناعة بأنه مسؤول أمام الله في كيفية استخدام هذه الوسيلة، وهكذا فإن استقلالية العقل (العقل الذي هو مبدأ العلم والتقنية الذين يحولان العالم)، تُستنتج من العالم المسيحي([19]).
إذن لاهوت العلمنة يرتكز على إجراء تمييز واضح ما بين الله والإنسان، ما بين الإيمان والعالم، وعلاقة الإنسان مع العالم بإخضاعه الطبيعة هما علاقتان مرتبطتان الواحدة بالأخرى ارتباطاً وثيقاً، ومن الممكن أن يؤدي فك الارتباط ما بينهما إلى إحداث اختلال في التوازن الأمثل، فعلى الإنسان أن يحافظ على طهارة الإيمان وعلى دنيوية العالم، ولله وحده ملكية المعنى الأخير، ولله وحده ملكية وحدة التاريخ، أما الإنسان فعليه أن يبقى في تساؤل غير منقطع، لأنه إذا انقطع الإيمان عن التساؤل وتحول إلى دين يبني العالم مسيحياً، نتج عن ذلك خطيئة، تشبه ما فعلته المسيحية التاريخية على مرّ العصور حينما لم تعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله وما للعقل للعقل([20]).
أما اللاهوتي هارفي كوكس* يرى في كتابه ” المدينة العلمانية The Secular City ” 1965 م أن المسيحية تعتبر علمنة الدين أمراً حتمياً لا يمكن رفضه أبداً على اعتبار أن العلمنة هي نتيجة منطقية لاعتقادات الإنجيل ([21]).
وبعبارة أخرى، فإن العلمنة في رأي كوكس هي تحرير الإنسان من الرعاية الدينية الغيبية، ونقل انتباهه من البحث في العوالم (الغيبية) الأخرى إلى حصر ذهنه في الحياة الدنيوية. لأنه صار أمراً إلزامياً، على حد قوله، ومن هنا لم يكن جديراً بالمسيحية أن ترفض العلمنة، لأن العلمنة تمثل نتيجة حقيقية لاعتقادات الإنجيل. وعليه فإن من واجب كل مسيحي أن يقبل العلمنة ويحافظ عليها وبدلاً من أن يتخذ المسيحيون موقفاً عدائياً، فإن العلمنة تمثل فكراً أصيلاً من الإيمان بالإنجيل، وعلى العكس من ذلك معارضتها، فكان من واجب المسيحيين أن يدعموا العلمنة ويعملوا على تنميتها ([22]).
وفي النهاية نستنتج أن مفهوم التحرير العلماني، الذي يلغي سلطة الدين على المجتمع، هو مفهوم قد يتفق مع بعض الأديان وليس جميعها، فعلى سبيل المثال يعتبر الدين الإسلامي الحنيف الدنيا والآخرة والدين والحياة سياقات متواصلة، أي أن الإسلام يواجهها بشموله لكل جوانب الحياة الإنسانية: مادية ومعنوية، فردية واجتماعية، لكن العلمانية لا تسلم له بهذا الشمول، فلا مفر من الصدام بينهما. وإذا كانت المسيحية – كما ذكرنا سابقاً- قد تقبل قسمة الحياة والإنسان إلى شطرين: شطر للدين، وشطر للدولة، أو بتعبير الإنجيل: شطر لله وشطر لقيصر، فتعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
أما الإسلام، فيرى الحياة وحدة لا تتجزأ، ويرى الإنسان كياناً واحداً لا ينفصم، ويرى أن الله عز وجل هو رب الحياة كلها، ورب الإنسان كله، فلا يقبل قيصر شريكاً لله، فــ لله ما في السموات وما في الأرض، وهذا يعني أنه لا يجوز أن يستولي على جزء من الحياة، ويوجهها، بعيداً عن هدى الله تعالى.
فكما يجد الإنسان في الإسلام ما يشبع شوقه الروحي عن طريق الإيمان بالله تعالى والتعبد له بالصوم والصلاة والزكاة والحج، كذلك يجد فيه نظاماً من القيم الأخلاقية والشرائع المدنية التي تعطي أجوبة مفصلة عما يعترضه من مشكلات في المعاملات اليومية.
وهنا يجب أن نشير أن الإسلام لا يعرف الكهانة، ولا توجد فيه طبقة كهنوتية، تحتكر الدين وتتحكم في الضمائر، وتغلق على الناس باب الله، إلا عن طريقها، عنها تصدر قرارات الحرمان، أو صكوك الغفران. إنما كل الناس في الإسلام رجال لدينهم، ولا يحتاج المرء فيه إلى واسطة بينه وبين ربه، فهو أقرب إليه من حبل الوريد. وعلماء الدين ليسوا إلا خبراء في اختصاصهم، يرجع إليهم كما يرجع إلى كل ذي علم في علمه، ] وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [([23]) ] فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [([24]).
فمن حق كل مسلم – إذا شاء – أن يصبح عالماً دينياً، بالدراسة والتخصص، لا بالوراثة، ولا باللقب، ولا بالزي، ولا احتكار في هذا ولا تحجير، فالإسلام يرفض التقسيم المستورد للناس والمؤسسات إلى ما هو ديني، وما هو غير ديني، فلا انقسام للناس ولا للتعليم ولا للقوانين ولا للمؤسسات، فكلها يجب أن تكون في خدمة الإسلام.
وهذا يعني بكل وضوح أن مفهوم العلمنة مفهوم نابع من وجهة نظر السياق الغربي – المسيحي استوردها ونشرها بعض المفكرين المسلمين في مجتمعاتهم بغير إدراك جيد للأسس التاريخية والفلسفية واللاهوتية والسوسيولوجية لهذه الفكرة. فالدين لا يبتعد عن الشأن العام، ولكن تقاس درجة علمنة المجتمعات بمدى تقلّص وزنه السياسي.
من أجل هذا لا يمكننا تصور أن علمنة الدين الإسلامي ستنجح لأنها عملية فاشلة ومناقضة لطبيعة الدين الإسلامي، كما أن الراسخون في العلم يدركون جيداً أن الفكرة الإسلامية شاملة لا تتجزأ، وكاملة غير منقوصة، إذ تهتم بكل المجالات التي ترتبط بالإنسان وواقعه، إما تأصيلاً أو تفصيلاً باعتبار الإسلام نظام اجتماعي ومشروع حضاري متكامل فهو دين شامل لكل ما فيه الخير للإنسان، وهو رسالة عامة للإنسان أينما كان، ووقتما كان، فكما هو شامل وعام، فهو صالح لكل مكان وزمان.
ويستمد الإسلام صلاحيته وعالميته من قدرته على أنه يقدم الحل الناجع للإنسانية، من القلق والضياع والخوف على المصير، كما يعطى نموذجاً للحياة الاجتماعية الأفضل، وفي هذا الصدد تقول الباحثة الإيطالية لورافيشيا فاغليري* ” إن الناس بحاجة إلى دين يتفق وحاجاتهم ومصالحهم الدنيوية، ولا يكون قاصراً على إرضاء مشاعرهم وإحساساتهم، ويريدون أن يكون هذا الدين وسيلة لأمنهم وطمأنينتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وليس هناك دين تتوفر فيه هذه المزايا كلها بشكل رائع سوى الإسلام، إذ أنه ليس مجرد دين فحسب ( فلسفة حياة )، إنه يعمل التفكير الصائب، والعمل الصالح، والكلام الصادق، ولهذه الأسباب يتخذ سبيله إلى عقل الإنسان وقلبه في غير عُسْر “([25]).
د. حسام الدين فياض
* يقوم مجمل مفهوم الحداثة لغةً واصطلاحاً أنها في جوهرها إعادة النظر في كل ما هي موروث ومنقول، فالحداثة هي خطوة ناقلة من القديم إلى الجديد، فتحاول الحداثة أن تتخلص مما تسميه بنظام التبعية والانقياد وراء عادات فرضتها ظروف وعصور وحضارات مختلفة، تنهض الحداثة بالعقل وتجعله يرفض الرضوخ إلى فكر عائلة أو الموالاة للقبيلة أو تقاليد موروثة، إن الحداثة لا ترفضها وتنكرها تماماً، بل هي تعترف بها ولكنها ترفض البقاء على أطلالها، ومن أهم المقومات التي تدعي الفرد للحداثة هو أنه بذلك يُكوّن هوية خاصة به لا يشاركه فيها أحد، هذه الهوية المتفردة والتي بها يتطور الإبداع والتمييز. بذلك نعرّف الحداثة بأنها عبارة عن مقاطعة للماضي وأساليبه وتصوراته، فهي انفصال للحديث عن القديم، فالحديث الآن هو قديم غداً، وكل حديث يرتبط باللحظة الزمنية الحالية، فبُعد الزمن هو الذي يساعد في تشكل مفهوم الحداثة، إذن كل حديث سيعود قديماً، وكل قديم كان ذات زمن حديثًا بالقياس إلى ما قبل.
([1]) عبد الوهاب المسيري، فتحي التكريكي: الحداثة وما بعد الحداثة، حوارات لقرن جديد، دار الفكر، دمشق، 2003، ص (209).
([2]) جلبير الأشقر: العلمانية شرط الحداثة ولا تقدّم بدونها، مجلة الفيصل، العددان: 491- 492، ذي الحجة 1428- محرم 1439/ سبتمبر – أكتوبر 2017، ص (21).
([3]) المرجع السابق نفسه، ص (21).
* يعرفها الدكتور محمد عمارة بقوله: ” هي عزل السماء عن الأرض، وتحرير العلم والإنسان والاجتماع الإنساني من التدبير الإلهي ومن حاكمية السماء، بدعوى أن العالم مكتف بذاته، وأن الإنسان هو سيد هذا الكون، يدير حياته بالعقل والتجربة دونما حاجة إلى رعاية أو تكبير من وراء الطبيعة وخارج العالم الذي يعيش فيه “. ومن أشهر من تناول دراسة العلمانية بالتحليل الفلسفي العميق، هو الدكتور عبد الوهاب المسيري، ولذا فهو يرى أن هناك نوعين من العلمانية: والعلمانية الجزئية: وهي رؤية جزئية للواقع (إجرائية) لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائية المعرفية، ومن ثم لا تتسم بالشمول، وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، وربما بعض الجوانب الأخرى من الحياة العامة، وهو ما يعبر عنه أحياناً بعبارة ( فصل الدين عن الدولة ). أما العلمانية الشاملة: رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي (كلي ونهائي) تحاول بكل صرامة تحديد العلاقة بين الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة، وهي رؤية عقلانية مادية، تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية، التي ترى أن مركز الكون كامن فيه، غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم بأسره مكون أساساً من مادة واحدة، ليست لها أية قداسة ولا تحوي أية أسرار.
([4]) مجموعة من المؤلفين: العلمانية مذهباً: دراسات نقدية في الأسس والمرتكزات، ترجمة: حيدر نجف، مركز الحضارة لتنمية الفكر، الإسلامي، بيروت، ط1، 2014، ص (113).
([5]) المرجع السابق نفسه، ص (113- 114).
([6]) المرجع السابق نفسه، ص(114).
([7]) نبيل شبيب: علمنة الإسلاميين أو أسلمة العلمانيين، موقع الجزيرة نت، تاريخ الدخول إلى الموقع، 8/12/2019.
– https://www.aljazeera.net/knowledgegate
([8]) إنجيل متى: الآية: (22:21).
([9]) يوسف القرضاوي: الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه، مكتبة وهبة، القاهرة، ط7، 1997، ص (47).
([10]) القرآن الكريم: سورة النحل، الآية:( 89).
* علمنة الدين: هي تحول مجتمع ذو هوية وثيقة الصلة مع القيم والمؤسسات الدينية نحو القيم غير الدينية والمؤسسات العلمانية. تشير أطروحة العلمنة إلى الاعتقاد بأن مع تقدم المجتمعات، لاسيما من خلال التحديث أو الترشيد، يفقد الدين سلطته في جميع جوانب الحياة الاجتماعية والحكم الرشيد. قد يرد مصطلح العلمنة في سياق رفع القيود الرهبانية عن أحد رجال الدين. تتضمن العلمنة العملية التاريخية التي يفقد فيها الدين الأهمية الاجتماعية والثقافية. يصبح دور الدين في المجتمعات الحديثة محدوداً كنتيجة للعلمنة. في المجتمعات العلمانية، يفقد الإيمان سلطته الثقافية، والقوة الاجتماعية للمنظمات الدينية ضعيفة.
([11]) يوسف القرضاوي: الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه، مرجع سبق ذكره، ص (48).
([12]) المرجع السابق نفسه، ص (49).
([13]) مجموعة من الباحثين: موسوعة المذاهب الفكرية المعاصرة، إشراف: علوي بن عبد القادر السقاف، موقع الدرر السنة، https://dorar.net/
* يعني مفهوم الاستعمار لغوياً التعمير والإعمار، وكلمة استعمار تفترض وجود فراغ أو تأخر في منطقة أو بقعة ما من العالم، فيجد المستعمر من هذه الحجج ذرائع للقدوم إلى هذه المواقع الجغرافية واحتلالها بدعوى (إعمارها) وبحجة تحويل التأخر التي يقبع فيها أهل هذه المنطقة أو تلك إلى وضع أفضل من خلال مشاريع البناء والإعمار التحديث. ولكن المرء ليعجب أيما عجب للاختلاف الشاسع بين مفهوم لفظ الاستعمار، وبين مدلوله المألوف: فلفظ الاستعمار من أصل اشتقاقها كلمة عمر الخراب، فهو عامر، أي معمور. ولكن الاستعمار كما عرفناه وعرفه الناس جميعاً، إذا ما تسلل إلى بلد ما، فقد حل به الخراب، ونزل به الدمار. على الرغم من أن دعوى الاستعمار قائمة على “رسالة الرجل الأبيض” أو الأمانة التي اضطلعت بها الحضارة الأوروبية لإصلاح أمم العالم. لمزيد من القراءة والاطلاع انظر: حسام الدين محمود فياض: الانثروبولوجيا بين الأكاديمية والأداتية (دراسة تحليلية- نقدية لطبيعة العلاقة بين الانثروبولوجيا والاستعمار)، المجلة العربية للعلوم ونشر الأبحاث (مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية)، مجلة علمية محكمة دولية، فلسطين، المجلد: 5، العدد: 5، 2021، ص (64).
([15]) مجموعة من مؤلفين: الإسلام وقضايا العصر (الأزهر والعَلمانية)، إعداد ودراسة وتقديم: محمد عمارة، روابط للنشر وتقنية المعلومات، القاهرة، 2018، ص (113-114).
([16]) مجموعة من الباحثين: موسوعة المذاهب الفكرية المعاصرة، مرجع سبق ذكره.
([17]) أبو زيد بن محمد مكي: ظاهرة الصراع في الفكر الغربي بين الفردية والجماعية، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، دراسات نقدية (1)، 2008، ص (13-14).
* يعتبر فريدريش غوغارتن (1887- 1667) لاهوتياً لوثرياً، مؤسساً مشاركاً للاهوت الديالكتيكي في ألمانيا في أوائل القرن العشرين.
([18]) حنان خياطي: كيف واجهت الكنيسة تحديات العلمانية، شبكة الآلوكة، بدون تاريخ، ص (5).
([19]) المرجع السابق نفسه، ص (5-6).
([20]) المرجع السابق نفسه، ص (6).
* هارفي كوكس عالم عقيدة وكاتب وفيلسوف أمريكي، ولد 19 مايو 1929 في Malvern في الولايات المتحدة الأمريكية.
([21]) حمدان مغربي: العلمنة والعلاقة بين الدين والدولة في إندونيسيا: موقف نور خالص مجيد نموذجاً (دراسة تحليلية)، مجلة القدس الدولية للدراسات الإسلامية، المجلد: 4، العدد: 1، فبراير 2016، ص (117).
([22]) المرجع السابق نفسه، ص (117).
([23]) القرآن الكريم: سورة فاطر، الآية:(14).
([24]) القرآن الكريم: سورةالنحل، الآية:(43).
* مستشرقة إيطالية (1883- 1989)، كانت أستاذة اللغة العربية في جامعة نابولي، لها عدد من المصنفات منها كتاب “ قواعد العربية ” في جزأين، ومن آثارها التي نقلت للعربي: ” محاسن الإسلام ” – نقله من الإيطالية طه فوزي. مصر: مطبعة الجامعة الإسلامية (1353 هـ / 1934 م). ” دفاع عن الإسلام ” – نقله إلى العربية منير البعلبكي. لبنان: دار العلم للملايين (1981 م).
([25]) لورا فيشيا فاغليرى: دفاع عن الإسلام، ترجمة: منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، ط5، 1981، ص (90).
__________
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.
*المصدر: التنويري.