نحن من اختارنا الله ليمنحنا الإرادة
“كيلوج” واحد من علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) المعروفين، وقد اشترك مع زوجته في عدة أبحاث مهمة، إلا أن تجربتهما الأشهر هي تلك التجربة التي قاما بها باستخدام طفلهما حديث الولادة.
فمع ولادة الطفل، أحضر “كيلوج” وزوجته، أنثى شمبانزي حديثة الولادة أيضا، وقررا أن يربيا الوليدين معا. وبالفعل وفر الرجل وزوجته كافة أشكال العناية للمولودين بالتساوي قدر المستطاع، فنفس الأوقات كانا يقضيانها مع كل من الوليدين، ونفس الألعاب كانا يلعبانها معهما أيضا، وكذلك الملابس نفسها، والطعام… إلخ.
كانت أهم ملاحظات كيلوج أن القردة الشمبانزي كانت متفوقة على الطفل البشري في معظم الأنشطة، خاصة تلك الأنشطة الحركية التي تتطلب توافقاً عضليا عصبيا وذلك حتى مرحلة معينة، ثم بعد ذلك تفوق الطفل بشكل ملحوظ وبدأت مهاراته في الزيادة، بشك مطرد، بينما توقفت مهارات القردة الشمبانزي عن التطور عند ذلك الحد.
كانت النقطة الفاصلة والتي جعلت الطفل البشري ينمو بهذا الشكل الكبير هي تعلم “اللغة”، فبمجرد أن بدأ الطفل في تعلم اللغة حتى بدأ في التعامل مع الوسط المحيط بشكلٍ أكثر نشاطا وإبداعا وبدأ في زيادة قاموسه اللغوي باكتشاف الأشياء، وإطلاق “الأسماء” عليها، وبدأ في استخدام هذه الأسماء/ الرموز في التواصل ونقل المعاني بينه وبين الآخرين من حوله، وعن طريق التواصل مع الآخرين بهذه الطريقة بدأ الطفل في اكتشاف معانٍ جديدة للأشياء وإطلاق أسماء/ رموز جديدة بينما توقفت القردة الشمبانزي عند استخدام عدد محدود من الرموز والإشارات ولم تضف إلى هذه الرموز أي رمز جديد لم يعلمه لها أحد.
وكأن تعلم الإنسان “اللغة” كان إشارة الميلاد لإنسانية الإنسان، ونقطة التحول التي انتقل عندها الإنسان من كونه كائنا بيولوجيا يستجيب بشكل حتمي لضغط مادته، وضغط البيئة المحيطة، إلى ذلك الكائن الذي يتفاعل مع البيئة الطبيعية بشكل مبدع، ويتمرد عليها، بل ويؤثر فيها ويسخرها لخدمته في أحيان كثيرة، من مخلوق مسير لا يملك إلا الإذعان والدوران في دوائر أبدية حتمية ككل مخلوقات الكون، إلى مخلوق مخيَّر يملك الاختيار والإرادة، ويملك حقّ الرفض والقبول.
وذلك التفاعل المستمر بين الإنسان وبيئته، وذلك الإنتاج المتجدد للغة / الرموز هو الذي نشأ عنه ما نسميه الثقافة وهي ذلك الكل المركب المتداخل من القيم والمعاني والرموز والأفكار، وهي تلك السمة التي تميز الإنسان عن غيره، فصحيح أنه ليس الإنسان بمفرده من يملك اللغة، وعلى من يعتقد غير ذلك أن يستمع إلى التسجيلات الصوتية للحيتان أو يتأمل عواء الذئاب ليلا، أو يستمع إلى مواء قطة فقدت رضيعها.
لكن الإنسان-والإنسان فقط هو من يعاني ليكسب هذه الأشياء أسمائها، والإنسان فقط هو من يملك القدرة على التجربة والتفاعل مع البيئة بشكل مختلف كل مرة، حتى تتراكم لديه الخبرة التي نسميها اليوم “العلم”… والإنسان فقط هو من يستطيع أن يكسب اللفظة الواحدة عشرات المعاني، وأن يجدد رموزه/ لغته كلما تجددت خبرته.. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يخترع الثقافة.
(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *) البقرة 31/32. يقفز إلى ذهنك مباشرة هذا النص من سورة البقرة، والذي يؤكد لك ذات المعنى، إن نقطة البداية للبشرية كانت في تعلم الأسماء/ اللغة والتي جعلت هذا الكائن آدم/ الإنسان متمايزاً عن غيره من الكائنات الملائكة.
وإن كنت قارئا أكثر مرونة، فبإمكانك- بعد أن تتخلى مؤقتا عن التأويلات الجامدة- أن تتأمل معي ذات المعنى في نص إنجيلي من إنجيل يوحنا الذي يقول: “في البدء” كانت الكلمة، والكلمة عند الله، وكانت الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان أو يغيره لم يكن شيئا مما كان. فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه”/ إنجيل يوحنا إصحاح 1 مزمور 5:1.
يمكنك النظر إلى هذا النص في سياق التفسير العقدي، الذي يتكامل مع فكرة التثليث في العقيدة المسيحية، والذي- بالطبع- كمسلم لا أقبله. لكن يمكنك أيضا أن تنظر إلى النص بتجريد رمزي- أكثر تصوفا وفلسفية- فيظهر لك منه ذات المعنى الذي تجده في النص القرآني، لكنه هنا يستخدم الكلمة للدلالة على اللغة عوضا من الأسماء في النص القرآني. وسواء اتفقت أو اختلفت على تلك الرؤية للنص الإنجيلي، فهو على كل حال لا يضيف جديدا في سياقنا سوى بعض التأكيد على ذات المعنى.
وبالعودة إلى النص القرآني، فلنا أن نتساءل بداية: ما معنى علم؟ ولماذا اختار القرآن هذه اللفظة تحديدا للدلالة على نقل المعرفة/ اللغة/ الأسماء/ لآدم؟ وأيضا، ما هو الإعجاز في أن يردد آدم أمام الملائكة ما أخبره به الله؟ هل الميزة التي منحها الله لآدم هي قوة الذاكرة مثلا؟ لم أستطع يوما أن أقتنع بهذه الفكرة.
باتباع منهج تدبر النص القرآني، نجد أن القرآن يستخدم عدة ألفاظ ليشير إلى عملية نقل المعرفة فنجده أحيانا يستخدم لفظة:
“أوحي” مثل قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ) القصص7. ونجده أيضا يستخدم لفظة: “أنبأ” مثل قوله (قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) التحريم 3. وكذلك يستخدم لفظة: “قص” مثل قوله (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) يوسف/3.
وفي الآية التي نتناولها هنا يستخدم لفظة: “علَّم” إذ يقول (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ) البقرة 31.
فما هو الفرق إذن بين هذه الألفاظ؟ وما الذي يجعل لفظة “علَّم” ذات دلالة خاصة في هذا السياق؟
في التفسير الكبير المسمّى “البحر المحيط” لأثير الدين محمد بن يوسف الأندلسي، نجده يذكر أن رأي الجمهور في “علَّم آدم”: ( على أن الله علم آدم “التسميات” أي علمه أن يسمي الأشياء وليس الأسماء ذاتها) ونجده أيضا يقول معلقا على “ثم عرضهم” أن “ثم” حرف تراخٍ ومهلة، أي علَّم آدم ثم أمهله من الوقت إلى أن قال: “أنبئهم بأسمائهم” ليتقرر ذلك في قلبه ويتحقق المعلوم- والنص لابن يوسف الأندلسي- وأما الملائكة فقال لهم على وجه التعقيب دون مهلة “أنبئوني بأسماء هؤلاء..”. بينما نجده يعلق على قوله تعالى “وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه” بقوله” إيحاء الله إلى أم موسى: إلهام وقذف في القلب..”
وهذا الفرق بين اللفظين هو ما نريد أن نوضحه هنا. أن جمهور المسلمين عادة ما يتصورون تعليم الله لآدم على أنه كان شيئا شبيها بالوحي، أي أنه كان آنيا- في ذات اللحظة دون استغراق زمن- وأنه كان على سبيل الإلهام أو القذف في القلب مثلا، أو كأنه الخبر الواحد، أخبر الله به آدم جملة واحدة.
لكن في الحقيقة النص لم يستخدم أيا من هذه الألفاظ التي يتصورها عامة المسلمون، فالقرآن استخدم لفظة “أنبأ” حين أراد الإشارة إلى الخبر الواحد يخبر به الله أحدا من خلقه (كما في سورة التحريم) واستخدم لفظة “أوحي” حين أراد الإشارة إلى الإلهام يلقيه في قلب أحد عباده، نبيا كان أو غير نبي (كأم موسى مثلا) بينما استخدم لفظة “علَّم” للإشارة إلى عملية “ممتدة” تستغرق زمنا، وتوحي بالعناء والمكابدة، واكتساب المهارة بالمحاولة المتكررة. فلم تكن عملية تعليم آدم بالعملية “الإيحائية” أو العملية “الخبرية” بل كانت عملية تفاعلية بين آدم والبيئة المحيطة به، أو كما ورد في نص التفسير، أنه علمه القدرة على “تسمية الأشياء” ثم أمهله من الوقت (والنص هنا- لغة- يحتمل أن يكون الوقت أياما أو عشرات الآلاف من السنين) ليمارس فيها آدم مهارة إطلاق الأسماء وتسمية الأشياء والتفاعل مع بيئته المحيطة واكتساب الخبرات، حتى إذا سأل الله هذا الكائن عن اسم أي شيء حوله، وجده أطلق لكل شيء اسما، بينما الكائنات الأخرى التي ليس لها مهارة “التسمية توقفت عند ما علمها إياها الله، ولم تستطع أن تنتج أي رموز/ أسماء جديدة.
(قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) البقرة 32. إن هذا المعنى الذي يطل واضحا من الآية الكريمة، هو ذات المعنى الذي نقرؤه من نتائج تجربة كيلوج الشهيرة. والتي تسلط الضوء واضحا على أحد أهم معاني “الإنسانية” والذي يبدو أيضا من الآية الكريمة. إنها المعاناة من أجل اكتساب المعرفة، ومكابدة احتمالات الخطأ، وتحمل عناء التصحيح وتكرار المحاولة.. والتطور المطرد.
وعلى ذكر التطور، فالنظرة التقليدية إلى النص، هي التي جعلت جمهور المسلمين يرفض فكرة تطور الكائن البشري من كائنات سابقة، أو على الأقل تطور القدرات الجسدية والمعرفية للبشر بشكل تراكمي عبر آلاف السنين، متمترسين خلف التفسير السطحي لذات الآية، يجعلك تدرك أن النظرة البشرية لأبي البشر، أكثر تكريما وأكثر شرفا من النظرة الميتافيزقية، التي تخلع عنه صفة البشرية والنسبية، وتجرده من إنسانيته.
وأنا هنا لا أدافع عن استنباط الحقائق العلمية من القرآن الكريم، فلست من أنصار هذا المنهج، لكني أقول هنا لجمهور المسلمين أن النص لم يتعارض يوما مع هذه النظرية العلمية، صدقت أو كذبت، فالنص القرآني أكثر رحابة وروعة من أن نحبسه في تحيز علمي ضيق لهذه النظرية أو تلك.
لكن، وكما قلت، أدافع دائما عن النظرة البشرية للبشر، وأدافع عن إنسانية الإنسان، التي تبدو جلية ومضيئة ورائعة في التعبير القرآني في هذه الآية. فكأنك حين تنظر إلى النص من هذه الزاوية، ينكشف لك نورا هائلا، وتشعر في داخلك فجأة بهذا الشرف الذي منحه الله لكل ولد آدم.
نحن من تشرفنا بالمعاناة، والمكابدة، والمحاولة المضنية.. نحن- على عكس كل الكائنات- منحنا الله القدرة على التعلم، وتركنا نتعلم بأنفسنا كل شيء.. كل شيء “الأسماء كلها”. نحن من نجرب لنخطئ، ونعاند ونتجبر وننكسر، ونخضع ونتعلم. نحن من اختارنا الله ليمنحنا الإرادة.. نحن من بأيدينا نكسب الأشياء معنى.. نحن من استحققنا لقب “الخليفة” ويا له من تكريم من الله للإنسان.
*المصدر: التنويري.