ميكيافلي: من الأسلحة الجيّدة إلى القوانين الجيّدة أو الحرب كأفق للسياسة
تعريب: الحسين أخدوش[1]
عندما لا توجد قوانين جيّدة، لا تحصل أسلحة جيّدة، وحيثما وجدت أسلحة جيّدة حصلت قوانين جيّدة أيضا. فكلّما وجدت الأسلحة الجيدة، لزم منه حصول تشريعات جيدة كذلك. فلنترك الكلام عن القوانين جانبا الآن، لصالح الحديث حول الأسلحة.
تظهر فكرة ترابط القوانين والحرب، السلم والقوَّة، كيف تقتضي فكرة المواطن بأن يصبح الفرد مجنّدا ومتأهبا لا رغبة في الحرب، لكن لأجل حبّ الوطن. تعتبر هذه الفكرة أكثر تبصّرا وأكثر راهنيَّة لدى ميكيافلي، فكان لها آذان صاغية في عصره، حيث استبطنت فكرة القوَّة وامتزجت مع فكرة الحقّ رغم الهزائم البيّنة التي لاقتها إيطاليا ذلك الوقت. وقد كتب ميكيافلي بمرارة، وسخرية أحيانا، خاصَّة في السطور الأخيرة من الأمير عن “فنّ الحرب”، معتبرا أمراء إيطاليا ظلُّوا يرتكبون الخطأ نفسه ويعيشون في نفس الاضطراب، وذلك لأنّهم غير قادرين على فهم الربط الضروري بين السياسة والحرب.
لقد كان تأمُّل هذا الرابط عنصرا أساسيا في كتاب “الأمير”. لذلك، ففي الفصل الرابع والعشرين منه حيث يوضّح سبب فقدان أمراء إيطاليا لولاياتهم، اعتبر ميكيافلي أنّه ما كان ينبغي للإيطاليين أن يتّهموا الثروة فيما لحقهم من انتكاسات وإنّما الأمر يعود، بالأحرى، إلى ما يسمّيه عندهم ميكيافلي بـ “اللامبالاة” التي لم تكن سوى نتاج خطيئة الكسل (يدل هذا المصطلح باللاتينية على الجبن وهو أسوأ خطيئة للجندي). ولذلك، ليس مفاجئًا تحذيره، أثناء تحرير إيطاليا، من البرابرة في الفصل الأخير من كتابه هذا، حيث كانت تحدوه رغبة في أن يوجد ذلك الإنسان المخلّص القادر على تجاوز أخطاء الأمراء المتمثّلة في عدم معرفتهم كيفيَّة التفكير وقيادة الحرب واستعمال الأسلحة. ستكون مهمّة هذا المخلص، في إيطاليا، محدَّدة من الناحية العسكرية، حيث سيكون عليه أن يعرف كيف ينهي هزائم الجيوش الإيطالية باستخدام الأسلحة الخاصَّة؛ لكن لا يمكن أن يكون الجنود أكثر إخلاصا ولا أفضل دائما.
تعتبر «الأسلحة الخاصَّة»، بالإضافة إلى دور مشاة الجيش الأساسي، مسألة أساسيَّة بالنسبة لتحليل ميكيافلي لعلاقة القوَّة بالقيم. لذا، فلئن كانت إيطاليا قد تمّ طوافها من طرف شارل الثامن ونهبها من طرف لويس الثامن عشر وإجبارها من طرف «فرناند» وإذلالها والإساءة إليها من طرف السويسريين، فإنّ السبب في ذلك راجع إلى أنّ الأمراء قاموا بتفويض إدارة الحرب إلى قادة مرتزقة، بعد ما فقدوا ثقتهم في تقديراتهم للأمر. يستخلص ميكيافلي من هذا المعطى أنّه من الضروري الاعتماد على “الأسلحة الخاصّة”، حيث يشير في الفصل الثالث عشر من “الأمير” إلى أنّ هذه «الأسلحة الخاصة» هي التي تتشكّل من الرعايا والمواطنين ومنجزات الأمير، والباقي ثانوي.
يبرز ميكيافلي بشكل واضح، في الفصل الرابع عشر، أنّه لا ينبغي أن يكون للأمير شغل آخر، ولا التفكير في شيء آخر؛ كما لا يجب أن يختار أيّ شيء فنّا له ما عدا فن الحرب، الأوامر والانضباط، باعتبارها الفنّ الوحيد الذي يناسب شخص الحاكم. تعتبر معرفة هذا الفنّ-المَهَمّة نقطة انطلاق ضرورية لكسب الدولة والمحافظة عليها، وهي بمثابة القدرة على تأكيد حرية إيطاليا والولايات التي تكونها، خاصّة إمارة فلورنسا. نجد هذه الرؤية إلى الحرب تتكرّر بقوة في مختلف مؤلفات ميكيافلي: كتاب “الأمير”، “فن الحرب”، “الحوارات”، وفي حكايات وقصص تاريخ فلورنسا المختلفة.
تعتبر «الأسلحة الخاصَّة»، بالإضافة إلى دور مشاة الجيش الأساسي، مسألة أساسيَّة بالنسبة لتحليل ميكيافلي لعلاقة القوَّة بالقيم. لذا، فلئن كانت إيطاليا قد تمّ طوافها من طرف شارل الثامن ونهبها من طرف لويس الثامن عشر وإجبارها من طرف «فرناند» وإذلالها والإساءة إليها من طرف السويسريين، فإنّ السبب في ذلك راجع إلى أنّ الأمراء قاموا بتفويض إدارة الحرب إلى قادة مرتزقة، بعد ما فقدوا ثقتهم في تقديراتهم للأمر. يستخلص ميكيافلي من هذا المعطى أنّه من الضروري الاعتماد على “الأسلحة الخاصّة”، حيث يشير في الفصل الثالث عشر من “الأمير” إلى أنّ هذه «الأسلحة الخاصة» هي التي تتشكّل من الرعايا والمواطنين ومنجزات الأمير، والباقي ثانوي.
تستند هذه الرؤية لديه إلى قراءة واسعة بالتاريخ الإيطالي، وخاصة للدور السلبي الذي كانت تلعبه الكنيسة في هذه العملية، الأمر الذي دفع الإيطاليين إلى دفع أجور للأجانب. لقد استقى ميكيافلي فهمه بهذا التاريخ من تجربته الخاصة كدبلوماسي ومنظم عسكري؛ وقد تعلم في مهامه في إيطاليا وفرنسا وألمانيا أن إمارة فلورنس لا تساوي شيئا لدى الفرنسيين (كما أفاد في إحدى رسائله) حيث لا وزن عسكري لها لديهم، وهو الشيء الذي كان يخافه «سيزار بورجيا» الذي كان يملك “أسلحة خاصّة”. لذا، تم العمل برأيه وانتصرت وجهة نظره، في فلورنسا خاصّة، حول المزايا النسبيَّة لسلاح للأسلحة الخاصّ. وقد دعاه أمير فلورنسا إلى إنشاء جيش دائم من المشاة المُعَيَّنِين ضمن رعاياه، وذلك تحت إشراف وتدريب ضباط فلورنسا. انتهت “عشريته” بما يقارب عقد من الزمن بين 1494 و 1504، وكانت المشورة في يناير 1506م.
لقد تمّ نشر “العشرية” في الوقت ذاته الذي بدأ فيه ميكيافلي سكرتيرا في وزارة العدل، كما تمَّ رفع عدد مشاة فلورنسا. في 15 فبراير 1506، قامت الكتائب الأولى بموكب بعدما أصبحت تعمل مكان «لاسينيوري». بعد إنشاء هذه القوات، جاءت النصوص التي تلخِّص الأسباب التي من أجلها كان من الضروري إنشاء هذه الميليشيا والأشكال التي يجب أن تتخذها. وأخيرا، في ديسمبر 1506، تم تعيين القضاء – تسعة ضباط للنظام والميليشية الفلورنسية والذي تم فيه تعيين ميكيافلي كمستشار في 12 يناير 1507. وفي النصّين اللذين كتبهما هذا الأخير، يظهر الرابط بين القوانين والأسلحة؛ وتتكرَّر لديه هذه النقطة المركزيَّة، خاصّة في الفصل الثاني عشر من كتاب الأمير، حيث “الأسس الرئيسيَّة التي ينبغي أن تكون لدى جميع الدول القديمة منها، أو الجديدة، أو حتى المختلطة، هي القوانين الجيّدة والأسلحة الجيّدة. وإذا تقرَّر لديه أنّه لا وجود لقوانين جيّدة بلا أسلحة جيّدة، تقرّر أيضا أنّ حيازة أسلحة جيدّة يفضي إلى إيجاد قوانين جيّدة.
ترك ميكيافلي الحديث جانبا عن القوانين هنا، متحدّثا عن الأسلحة ودورها في استدامة الكيان السياسي للإمارة. يشير إلى الفقرات الأولى من مقدمة كتاب «مؤسّسات جيستنيان» التي كانت تعتبر واحدة من أسس الثقافة القانونية والسياسية في العصور الوسطى وعصر النهضة، حيث إنّ الإمبراطورية العظمى تستند على القوانين والأسلحة. وقد اكتسب هذا الموقع المشترك قوة خاصّة في ضوء التجربة التاريخية التي مرّت منها فلورنسا منذ عام 1494 نتيجة ملاحظة الضعف العسكري لهذه الإمارة الإيطالية ضد جيوش الممالك الوطنية العظيمة. لم يكن مستغربا، إذاً، بعد وضع أسس كل ولاية، أن يشرح ميكيافلي، حينها، أنّ حدثته سينصب على الأسلحة وليس القوانين. هناك تحليل ضمني يمكننا الاستعانة به: في عصره، كانت الحرب تحدد الخيارات التي يجب اتخاذها، كما يعد التفكير في الحرب وطرق قيادتها أهم من أيّ شيء آخر، بل إنّه المهمة ذات الأولوية في هذه اللحظة.
لقد كان مؤكّدا أن الرومان هم المثل الذي ينبغي يتحدى به بالنسبة لميكيافلي، خاصّة في المسائل العسكرية. فالتفكير في فنّ الحرب، كما لا يتوقف «فابريزو كواونا» المتحدث بلسان ميكيافلي، ذاك ما تحاول “الحوارات” إبرازه بعرض طرق الرومان في شنّها. يضاف إلى ذلك، أنّ أولائك الذين يعتبرهم مثالا سلبيا، بالضبط عندما يتخلون عن “الأسلحة الخاصة”، هم عادة الذين يوكلون أمور جيشهم إلى جنود محترفين يتألفون من الأجانب والمرتزقة. نجد هذا الخطأ بارزا في الفصل الثالث عشر من “الأمير”، حيث كان السبب في خراب الإمبراطورية الرومانية.
وبالاعتماد على مثال الرومان وعلى التجربة المعيشة في حروب إيطاليا، فسّر ميكيافلي كيف ترتبط القوة التي يمتلكها جيش ما بشعور الحب الذي يكنّه الجنود لرؤسائهم، قد لا يكون هؤلاء جنودا محترفين لكنّه فعالين في الحرب. ذاك ما يشرحه في بداية “فن الحرب”، حيث الملوك والأمراء، وأيضا بنفس القدر الجمهوريات، “ينبغي أن يكون عندهم مشاة من الرجال الذين عندما يحين وقت شن الحرب يذهبون إليها عن طيب خاطر حبا فيها، وأيضا عندما يعود السلام يرجعون إلى بيوتهم وهم أكثر سرورا.
إن السجال الذي عُقد بحماس ضد أسلحة المرتزقة لا يؤتي ثماره على الفور؛ إلاّ أنّ تمجيده للأسلحة الخاصة التي تعتبر، على الرغم من وضوحها، القوة التي يمكن أن تنجم عن العلاقة بين المواطنين الجنود والوطن، كلّ ذلك يعد بلا شك أحد أسباب نجاح ميكيافلي المستمر عبر القرون، باعتباره المفكّر الذي فكّر في الحرب كأفق ضروري للسياسة.
*المصدر: التنويري.