يمكن القول إن فلسفة نيتشه تحتمل مرحلتين متميزتين، يفصل بينهما كتاب ((هكذا تكلم زراديشت)). المرحلة الأولى قبل هدا الكتاب ((زرادشت)) يمكن أن نصفها بالقسم البناء في الفلسفة، أما أعماله الأخيرة ــ أي التي ألفت في المرحلة الثانية ــ فتعبر عن القسم الهدام، وهي مرحلة تعبر عن فترة من الشك والريبة حيال تاريخ الغرب، ومرحلة يعلو فيها صوت النقد والرفض لكل الأوهام الفكرية التي يروجها فلاسفة هدا الغرب، إنها مرحلة يعلو فيها صوت ضربات المطرقة: أعني مطرقة نيتشه[1].
نيتشه يعارض في هده المرحلة ــ أي مرحلة الهدم ــ الدين والفلسفة والأخلاق لأنها أكاذيب أو أقنعة فكرية، انه يخلع أقنعة أرباب الدين ويزعم أنهم أشر الناس، ويضرب بعرض الحائط فلاسفة الأخلاق الذين سبقوه ويزعم أنهم أناس يحركهم الانتقام.
يمكن القول وبدون مبالغة إن أكبر أثر خلفه نيتشه في الفلسفة كان في ميدان الأخلاق، إن نيتشه مفكر أخلاقي قبل كونه ناقدا فنيا أو فيلسوفا له مواقفه في المعرفة أو حتى باحثا فيلولوجيا.
لقد كانت أكثر أفكاره جرأة وأصالة في ميدان الأخلاق، وبطبيعة الحال الميدان الذي تعرض فيه إلى أقوى الانتقادات. إن قوة أخلاقية كانت دافعا له طوال حياته الفكرية، وطوال مراحل صراعه مع عصره: “إن مشكل أصل الشر قد شغلني وأنا في الثالثة عشر صبيا…”[2].
من المؤكد أن أي قارئ لفلسفة نيتشه وعلى وجه الخصوص موقفه من الأخلاق، لن يسلم من الوقوع في متاهة من الحيرة، لأنه (نيتشه) من جهة يعطي أهمية كبيرة للأخلاق ويرد إليها ظواهر عديدة ربما قد لا تنتمي إلى مجالها، حيت إن العديد من الدوافع الإنسانية والتي ينظر إليها على أنها خالصة، في نظر نيتشه كلها ترجع إلى أصول أخلاقية. ومن جهة أخرى فإن نيتشه يعتبر أكبر ناقد في مجال الأخلاق، وربما كان موقفه النقدي أكبر وأعنف حملة تعرضت لها الأخلاق داخل تاريخ التفكير الإنساني.
إن هدا التناقض الظاهر، يمكن أن نرجعه إلى الفهم السطحي للفكر النتشوي، فكلما توجهنا نحوا الأعماق كلما وضحت الرؤيا، فلا يمكننا معرفة نوع المرجان الذي يقبع في أعماق البحر ونحن نطفو فوق السطح. بل يجب النزول إلى أعمق نقطة، إلى أن نلمسه بأيدينا، وفي هده الحالة إلى أن نلمسه بعقولنا.
ولفك طلاميس هذا التناقض، يجب تحديد ودراسة المقصود من كلمة الأخلاق في موقفه النقدي، حتى يتبين لنا المعنى الذي يقصده نيتشه حين ينتقد الأخلاق تارة، ويجعلها ظاهرة تشمل كل أوجه النشاط الإنساني تارة أخرى.
إن نيتشه في نقده للأخلاق لا يتحدث عن الأخلاق كمفهوم في كليته، ــ أي باعتبارها مجموعة من المبادئ، وقواعد يؤسس عليها السلوك البشري ــ. وإنما يتحدث عن تمثل هذه الأخلاق في ثقافتنا، بمعنى انه ينتقد الأخلاق السائدة: أي ذاك الموروث الأخلاقي الذي أخذت به المجتمعات إلى هذا الحين، والذي يبدو راسخا فيها.
فربما بهذا التأويل قد يزول شيءٌ من طابع الحيرة عن موقف نيتشه حول الأخلاق ــ أعني التناقض الذي تسقط فيه الأذهان حينما يعطي نيتشه أهمية كبيرة للأخلاق، وفي نفس الوقت يقدم أعنف نقد لها ــ. فعن الأمر الأول، فهو يتحدث عن (( مفهوم الأخلاق )) أما في الأمر الثاني فهو يتحدث عن (( تمثل الأخلاق )).
ولكي يتبين لنا الأمر أكثر من ذي قبل تجدر الإشارة إلى نقطة مهم. وهي أن المعجم النيتشوي يتخذ طابعا خاصا ومختلفا عن المعاني الكلاسيكية للمفاهيم، فكثيرا ما نجد في كتابات نيتشه تنبيهات من هذا القبيل: ” حتى استعمل لغتي الخاصة…”[3] أو ” حتى أقول ذلك في لغتي…”[4]. إن كل مفهوم بل كل لفض جاء من رحم قلم نيتشه، هو ثمرة جهد مرير ومقتدر لنقل اللغة من معجم رد الفعل (( القوى الارتكاسية )) إلى معجم الفعل (( القوى الفاعلة )).
يقول فتحي المسكيني في مقدمة الكتاب انه علينا أن نحترس من أي فهم “اخلاقوي” لكتابات نيتشه: مثلا أن نعتبره معارضا يائسا للأنوار أو داعيا خطيرا إلى البربرية…[5]، وهذا ما نلتمسه في مفهوم “اللاأخلاقية”[6] عند نيتشه، ــ وهو مفهوم مهم في خضم بحثنا في نقد نيتشه للأخلاق ــ. حيث أن المعنى الكلاسيكي لهذا المفهوم يحيل على التخلي عن المبادئ والأسس الأخلاقية، أي الهمجية والبربرية في العلاقات الإنسانية. لكن تحث قلم نيتشه لا يجب أن ننظر إلى مفهوم اللاأخلاقية من خلال هذا المعنى.
إن نيتشه عندما يقول: “…ما أراده مبدئي القبل مني؟ هذا القبلي الجديد، غير الأخلاقي[7]، أو على الأقل اللاأخلاقوي[8]،…”[9]، فهوا يقصد انه لا يعترف أصلا بالقيم الأخلاقية السائدة، إذن هو ليس عاصيا ولا منحرفا، وإنما خارج عن نطاق تلك القيم السائدة أي مستقل عن هذه الأخلاق. “إذ أن الناقد الصحيح للأخلاق لا يمكن أن يكون غير أخلاقي، بمعنى الوقوف من الأخلاق السائدة موقف المخالف العاصي”[10]. لان هذا الطرح يحمل في ذاته اعترافا بالقيم والأخلاق، ومحاولة لتمرد عليها. أي هنالك اعترافا بقيم الخير والشر كما هنالك عصيان لهذه القيم. عكس الناقد الذي ــ كما قلنا ــ لا يعترف أصلا بها.
إن نيتشه يضع القيم الأخلاقية موضع الشك، وينظر إليها بنضرة حيادية ليختبر مدى صلاحيتها، انه كسائح يريد أن يعرف بنفسه مدى ارتفاع أبراج المدينة: وهدا يقتضي الخروج من المدينة: اعني الخروج من الأخلاق. ” ولكي لا تكون الأفكار عن الأحكام الأخلاقية المسبقة مجددا أحكاما مسبقة على أحكام مسبقة فإنها تفترض وضعا خارج الأخلاق، تفترض ما وراء الخير والشر “[11].
يبدو أن هذا الطرح أمر ليس بالسهل، فخروج الإنسان عن القيم السائدة في عصره يكاد يكون مستحيل، ولكي نبين مدى صعوبة الأمر، يمكن القول انه أشبه بتخلي الإنسان عن وسائل التواصل الحديثة ــ في عصرنا الحالي ــ والعودة إلى استخدام الحمام الزاجل مثلا.
هذا يضعنا أمام إشكال مدى إمكانية تحقق هذا المطلب الذي وضعه نيتشه لنفسه. لكن وغم ذلك لا يكن إنكار أن نيتشه كان يصارع خصم قويا وعنيدا، انه تَجَدُّرْ القيم السائدة في الإنسان.
إذا ــ كما قلنا ــ أن الفهم الأول الذي يجب أن نقرأ به النقد النتشوي للأخلاق، هو معنى الاستقلالية عن القيم الأخلاقية السائدة، وليس الانحراف عنها ومخالفتها. أي أن موقف نيتشه يكمن في النضال العنيف ضد ذلك الموروث الأخلاقي الذي تتوارثه المجتمعات حتى ذلك الحين، ذلك الإرث الراسخ المتأصل فيها.
ينظر نيتشه للأخلاق السائدة على أنها أخلاق بالية لا تصلح، حيث يسود فيا نمط أخلاقي معين، يطلق عليه اسم ((أخلاق العبيد)) ، ضد أخلاق السادة. فما سر هذا التقابل؟.
يميز نيتشه بين نوعين من الأخلاق يقول عنهما: “أثناء تجوالي بين أنماط الأخلاق العديدة… ، عثرت على سمات معينة اقترنت بعضا ببعض وترددت بصورة منتظمة، حتى انكشف لي، في النهاية، نمطان أصليان انبرى بينهما فارق أساسي. هناك أخلاق للسادة وأخلاق للعبيد”[12].
نيتشه باستخدامه للمنهج الجنيالوجي، ذهب إلى نقد وتفكيك المعاير الأخلاقية، أي البحث والتنقيب وراء هذه الثملات. فوجد أن الأخلاق قامت لتفصل بين الشعوب والطبقات، هذه الشعوب قام نيتشه بحصرها في طبقتين تعبران عن نوعين من السيكلوجيا ونوعين من الأخلاق هما طبقة السادة وطبقة العبيد، كل طبقة منهم تحاول عن طريق القيم الأخلاقية أن تفصل نفسها عن الطبقة الثانية. فأخلاق السادة تعبر عن الاستقلال والقوة والاعتماد على النفس وما شبه ذلك، اعني جميع الصفات والفضائل التي يتصف بها الإنسان ذو ((الروح العظيمة))[13]، يقول فؤاد زكريا: ” إن أخلاق السادة تتصف قبل كل شيء بأنها أخلاق الأقوياء، ففها دائما ما يشعرنا بالقوة والوفرة، وبالسمو الناشئ من الإحساس بالامتلاء”[14].
هذه الأخلاق، إن ما يميزها هو كونها لا تعبا بالمفاهيم الأخلاقية، اعني الخير والشر، لان المقياس الذي يحدد أخلاقية الفعل لديهم هو: “روح القوة التي يستشعرها المرء في ذاته”[15].
في المقابل توجد أخلاق العبيد أو أخلاق القطيع ــ كما يسميها نيتشه ــ فهي تقوم على مبدأ مختلف تماما، كنوع من الاستسلام الشامل، وفقدان للقوة والعزم، على حين أنها تندد بتلك الصفات التي يتصف بها السادة، ولا ترها سوء أخلاق بل تنضر لها على أنها شر. إنها طبقة تكونت باختيارهم إذ قبلوا أخلاق الانحطاط والضعف”[16].
نيتشه يذهب إلى ابعد من ذلك عن طريق التساؤل عن الأساس التي تقوم عليه هذه الطبقات في خلق القيم، أو بعبارة أخرى، من أين تستمد كل طبقة منهم معيارها الأخلاقي؟.
يقول جمال مفرج أن: “هذين النوعي من الأخلاق يفصل بينما فارق قائم منذ أزمنة سحيقة، وهو في الحقيقة فارق بين نوعين من التقويم”[17]. يعني أن لكل طبقة نظام تقويمي يختلف عن الأخر. يرى نيتشه أن السادة لديهم نضام التقويم الفروسي: الذي يقوم على أن هذه الحياة هي الأصل، وبالتالي فالشيء الذي يزود الحياة قوةً هو الشيء الجيد، والشيء الذي يضعف من هذه الحياة ويضعف الإنسان هو الرديء.
أما ((العبيد))[18] أو الضعفاء فلديهم نضام التقويم الكهنوتي، الذي يقوم على بؤس المستضعفون الذين جارت عليهم الحياة، أي المعذبين والمهزولين العاجزين عن مواجهة الحياة.
يمكن أن نلخص جوهر فكرة التميز بين أخلاق السادة وأخلاق العبيد، في أن السيد ينظر إلى الآخرين من خلال كماله وبالتالي فانه يضع القيم من خلال هذا الكمال، فأي قيمة يضعها السيد تكون تمجد القوة. في المقابل فان العبد ينظر من خلال النقصان والضعف، وبالتالي فالقيم التي يضعها تكون قيم ناقصة تشوه الحياة. كما أن معيار التقويم أو الطريقة التي يضعون بها الأخلاق، بالنسبة للسيد فانه يضع بمعيار الجيد والرديء ( معيار دنيوي ارضي)، بينما العبد فهو يستعمل معيار مطلق مفارق للوجد مثل الخير والشر.
نيتشه لم يقف عند هذا الحد بل واصل بحثه ليجد أن هذه الأخلاق ـ أخلاق السادة وأخلاق العبيد ــ كان بينهم خلال مئات السنين، صراع لا هوادة فيه حول من هو صاحب أعلى مرتبة. بدا بتمرد العبيد بدافع من الحقد على النبلاء، ورغبتهم في الانتقام منهم. هذا التمرد هو ما اسماه نيتشه قلب القيم : ” إن كل ما تم فعله على الأرض ضد النبلاء…لا يستحق الذكر متى قورن بما فعله اليهود[19] ضدهم: اليهود، هذا الشعب الكهنوتي الذي لم يظفر في أخر المطاف بشيء يرضيه ضد أعدائه والمتسلطين عليه إلا من خلال قلب جدري لقيمهم“[20]. يصف نيتشه اليهود بالشعب الكهنوتي، ولكي ينتصر هذا الشعب في صراعه مع أعدائه ــ الذين لا يستطيع أن يواجههم بطريقة مباشرة ــ قام بعملية يسميها نيتشه ((ثار روحاني)) مضمونها هو قلب القيم. فما معنى قلب القيم؟.
انه قلب معادلة القيم الارسطقراطية ، بمعنى أن ((الطيب)) الذي يساوي الشجاع والنبيل والقوي والسعيد. بفعل اليهود بات ((الطيب)) يعني الضعيف والبأس والوضيع بمعني أن المساكين هم الطيبون أما النبلاء فهم طغاة وأشرار وهمجيون. وهكذا انتصر اليهود بالحكم بالتقوى بعد عجزهم الانتصار بالسيف. ولكي يقربنا نيتشه من المعنى يقدم لنا صورة لتاريخ هذا الصراع: اعني العصر الروماني الذي سادت فيه أخلاق السادة والتقويم النبيل، لكن صرعان ما تفوقت قيم العبيد على يد اليهودية، “وان رمز هذا الصراع…اسمه روما ضد يهودا، يهوده ضد روما”[21].
وفي النهاية يمكن القول أن نيتشه، باستعمال المنهج الجنيالوجي كشف لنا عن المصادر الخفية التي تؤخذ منها الأخلاق، وهو بهذا الطرح سيصطدم بمدارس فلسفية كبيرة، وهم على وجه التحديد المدرسة الإنسانية بزعامة كانط والمدرسة النفعية بزعامة جريمي بنتام.
رأينا، فيما سبق، أن نيتشه له موقف منفرد من الأخلاق، موقف جعله يقلب كل التصورات الأخلاقية السابقة، موقف جعله يصطدم ليس بفيلسوف بل بمدارس فلسفية ضخمة. نيتشه بتوظيفه للمنهج الجنيالوجي، وجد أن الإنسان هو خالق القيم الأخلاقية عن طريق شروط فيزيولوجيا اجتماعية ودينية. وهذا ما يبرر نسبية هذه القيم. وعلى هذا الأساس يقدم نيتشه نقده للفلسفات الأخلاقية الكلاسيكية.
أ) المدرسة النفعية.
في المقال الأول من كتاب جنيالوجيا الأخلاق، يطرح نيتشه موقف علماء الأخلاق الانجليز من الأخلاق ويعتبرها تحتل الصدارة على غرار الأبحاث والدراسات الأخلاقية الأخرى، ألانهم استطاعوا تجاوز الطابع التجريدي في مقابل الطابع العلمي الذي حررهم من الأحكام المسبقة الدينية، وفي مكان هذه الأحكام تجلت مبادئ تفسيرية اكتر وضوحا كالمنفعة. إن فضل هؤلاء الانجليز يتمثل حسب نيتشه في “المحاولة…من اجل الظفر بشيء عن تاريخ نشأة الأخلاق“[22]. باستعمالهم منهجا ربما شبه جنيالوجي، سعى إلى البحث عن مصدر القيم الأخلاقية وتطورها، في منطقة “حيث الكبرياء الفكرية للإنسان”[23] لا تسمح بالتنقيب فيها.
يقوم موقف هؤلاء الانجليز في البحث عن أصل قيمة ((الطيب))، على أن الفعل الخير أو الطيب كان هو الفعل الذي يؤدي إلى منفعة أي أن الطيبوبة فعل مرتبط بمدى منفعتها، لكن مع مرور الزمان نسي الناس تدريجيا هدا الأصل وبداءُ باعتبار تلك الأفعال طيبة في ذاتها بدلا من كونها خيرة بسبب نتائجها.
لكن نيتشه يرى في ذلك إرجاعا للأشياء والقيم إلى غير أصولها الحقيقية، إنهم ــ اعني علماء الانجليز ــ لم يسيرون بهذا البحث إلى مداه الأقصى. وعلى عكس هذا الموقف يرجع نيتشه ــ كما سبقا الذكر ــ قيمة ((الطيب)) إلى الشعور بالسمو وتقدير الذات والهمة العالية، هذا هو شعور النبلاء ومن خلاله “استباحوا لأنفسهم الحق في أن يخلقوا القيم، وان يسكوا للقيم أسماء: ما شانهم والمنفعة“[24].
إن الشعور بالمسافة أي الإحساس بالسيطرة والكمال، الذي يتجلى في نوع أعلى في علاقته بنوع أدنى، هو أصل التضاد بين الكريم واللئيم. إن السادة هم من يعطون أسماء لكل شيء وكل حدث، أي أن لفض الطيب لا يتعلق ضرورة بمنفعة تم نسيانها. فكيف لنسيان أن يكون ممكنا؟، “أي إذا كان أصل الفعل الطيب يتحدد بفائدته ونفعه، فان هذا الانتفاع يجب أن يكون دائما ومستمرا“[25] لكن الأمر ليس كذلك.
ب) المدرسة الإنسانية / كانط.
إن نيتشه في مستهل نقده السابق يقف كذلك أمام موفق كانط الأخلاقي، القائل أن الأخلاق شيء فطري في الإنسان، الإنسان وجد فعرف الأخلاق، هذه الأخلاق تتواجد بناء على قانون داخلي أي أن كانط “افترض وجود قوانين أخلاقية محضة“[26] داخل كل إنسان، وبالتالي من هذا المنطلق فالأخلاق شيء مطلق، القانون يوجد داخل كل إنسان، ولكن الإنسان هو الذي يراوغ حول هذه الحقيقة، لكن طبقا لكانط “إن الحكم العملي لرجل الخير هو في غنى عن كل معرفة“[27]. أي أن كل شخص يعلم حقيقة مطلقة عن الأخلاق، وما على فيلسوف الأخلاق سوى أن يتخذ من ذلك نقطة بداية حتى يستخلص منه مفهوم فلسفي للأخلاق.
نيتشه يرفض هذه التسوية التي أقامها كانط بين العقل والأخلاق، والتي تعطي للعقل طابعه العملي، إن هذه الملكة، اعني العقل العملي، ليست سوى حاجة نفسية إلى ((علة))، لكي يقنع الإنسان نفسه انه يتصرف بمقتضى المنطق العقلي. إن الواجبات الأخلاقية غرائز وعادات اجتماعية أصابها الوهن، تحولت إلى أوامر عندما كفت أن تكون تلقائية. كما يقول نيتشه “ليست أنماط الأخلاق هي الآخرة، سوا لغة علائم الاشاعير“[28]، وهو يقصد بذلك أن الأخلاق لغة رمزية للانفعالات.
إذا فمن خلال المنهج الجنيالوجي وصل نيتشه إلى فكرة تعارض كل التصورات الأخلاقية السابقة وهي ((نسبية الأخلاق))، إن القيم الأخلاقية ليست مطلقة كما أن الإنسان هو خالق هذه القيم ــ كما رأينا فيما سبق.
لكن هل هذا الموقف أعني موقف نيتشه من الأخلاق ، يمكن عده دعوة إلى التخلي عن الأخلاق بصفة عامة. بطبيعة الحال هذا فهم خاطئ للموقف النتشوي، لان التخلي عن الأخلاق يعني التخلي عن الحياة، وهذا ما يناقض فكر نيتشه. انه لا يرفض الأخلاق بشكل
كلي، بل يطالب بأخلاق طبيعية. أخلاق تناهض كل ما يرفع من شان النوع البشري، أخلاق غير مستقلة ولا مقدسة، بل تنتمي في أصلها إلى لاأخلاقيتها الطبيعية. وهي أخلاق تتأسس على الارادة.
. هنا إشارة إلى العنوان الفرعي لكتابه غسق الأوثان “أو كيف نتعاط الفلسفة قرعا بالمطرقة” ( 1988).[1]
[2] . فريدريتش نيتشه، في جنيالوجيا الأخلاق، ترجمة فتحي المسكيني،ط1،تونس 2010، ص.33
[3] . فريدريتش نيتشه، في جنيالوجيا الأخلاق، مصدر سابق، ص.46.
[4] . نفس المصدر، ص.40.
[5] . نفس المصدر، ص.10.
[6] .Unmoral.
[7] .Unmoralisch.
[8] .Immoralistisch.
[9] . نفس المصدر،ص.34.
[10] . فؤاد زكريا، نيتشه، دار المعرفة بمصر، ط2، ص.83.
[11] . فريدريتش نيتشه، العلم المرح، ترجمة، حسان بورقية – محمد الناجي، أفريقيا الشرق، ط1، 1993، ص.246
[12] . فريدريتش نيتشه، ما وراء الخير والشر، ترجمة، جيزيلا فالور حجار، دار الفارابي،ط1، لبنان، 2003، ص.247.
[13] .جوناثا رى وج.ارمسون، الموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة، فؤاد كامل…، المركز القومي للترجمة،ط1،القاهرة،2013،ص.377.
[14] . فؤاد زكريا، نيتشه، مرجع سابق،ص.92-93.
[15] .المرجع نفسه، نفس الصفحة.
[16] . مجاهد عبد المنعم مجاهد، مدخل إلى الفلسفة، دار الثقافة لنشر والتوزيع، القاهرة،ص.216.
[17] . جمال مفرج، نيتشه الفيلسوف الثائر، ص.59.
[18] . العبد ليس بالمعنى الكلاسيكي أي الشخص المقيد بالأغلال، بل صاحب السيكولوجية الضعيفة.
[19] . موقف نيتشه من اليهود ليس عنصريا أو عرقيا أو معاديا بل هو موقف تأويلي، إن اليهود استعاضوا عن شعب من الأحرار بشعب من الكهان.
[20] . فريدريتش نيتشه، جنيالوجيا الأخلاق، مصدر سابق، ص. 54 ـ 55.
[21] . المصدر نفسه، ص.76.
[22] . فريدريتش نيتشه، جنيالوجيا الأخلاق، مصدر سابق، ص.43.
[23] . المصدر نفسه، نفس الصفحة.
[24] . المصدر نفسه،ص.45-46.
[25] . محمد أندلسي، نيتشه وسياسة الفلسفة، دار تبقال للنشر، ط1،ص.109.
[26] . زكريا ايبراهيم، كانت أو الفلسفة النقدية، دار مصير للطباعة، القاهرة،1972، ص.132,
[27] . المرجع نفسه، نفس الصفحة.
[28] . فريدريتش نيتشه، ما وراء الخير والشر،ص.130.
*المصدر: التنويري.