في سابقة فريدة من نوعها صدر في القاهرة موسوعة ستكون مرجعا لا غنى عنه لسنوات، الموسوعة المعنونة (موسوعة القرافة.. التوثيق قبل الاندثار) صدر منها ستة أجزاء وسيصدر إضافة لها قريبا ثلاثة مجلدات أخرى، والقارئ سيظن أنَّ وزارة الثقافة أو إحدى مؤسَّساتها أو وزارة الآثار وراء هذا المشروع البحثي العملاق، الذي يوثِّق جانبًا مهمًّا من التراث الوطني، لكن الحقيقة المؤلمة أنَّ الوزارتين لم يحرِّكا ساكنًا في ظلِّ هدم كنوز القرافة في مصر.
مؤلِّفا الموسوعة هما الأستاذ حسني جعفر وهو من أبرز عشَّاق التراث في مصر والأستاذة آية إبراهيم وهي مرشدة سياحيَّة، وبالتالي هما من خارج القطاع الأكاديمي ككليَّة الآثار في جامعة القاهرة وكليَّة الآثار في جامعة عين شمس وكلتاهما في صمت مطبق إزاء ما يحدث في القرافة.
القرافة هي ذلك المكان الممتد من مصر القديمة حتى العباسيَّة، اختار القائمون على الموسوعة التركيز على المنطقة من ميدان القلعة إلى مصر القديمة، وصحب كل مدفن أو حوش أو قبَّة خريطة تحدد موقعة وصور دقيقة توثِّق كل كبيرة وصغيرة، وممَّا تضمّه الموسوعة حصر دقيق فمثلا نرى مدفن قاسم أمين وإلى جواره روز اليوسف، لنرى غيرهم عدد من العائلات المصرية التي شيدت لها أحواش وألحق ببعضها استراحات مجهزة لراحة زوار الحوش، وزود بعضها بأسبلة لتوفير المياه لزوار القرافة ولكسب الثواب على غرار السبيل الملحق بحوش الأمير حسين بك الشماشيرجي.
إنَّ من المثير في الموسوعة هو نجاح المؤلِّفين في بناء علاقات القرابة بين المدفونين في هذه الأحواش، فالحوش الواحد يضم أجيالًا متعاقبة من الأسرة الواحدة، فكانت الكتابات على شواهد القبور تكشف الزواج من سيِّدة من عائلة أخرى، حتي أصبح من الممكن اكتشاف التداخل العائلي، فعبد الخالق باشا ثروت الذي رأس وزراء مصر وتوفي فجأة في عام 1928 هو ابن اسماعيل عبد الخالق ابن المرحوم عبد الخالق أفندي من أصل أناضولي، ووالدة عبد الخالق ثروت من أصل تركي هي الأخرى، حوش عائلة عبد الخالق يضمّ العديد من الشواهد لكننا سنقف لنقرأ الفاتحة لعبد الخالق ثروت ونقرأ المكتوب على شاهد قبره كما يلي:
هو الحي الباقي
هذا قبر ساكن الجنان
حضرة صاحب الدولة عبد الخالق ثروت باشا
ولد سنة 1873 وتوفي سنة 1928
لكن أيضا تكشف القرافة عن عدد من القبائل العربية الممتدَّة من الأردن وفلسطين فمصر فليبيا إلى المغرب ومنهم عائلة نوفل، ومنهم شهاب الدين بن نوفل الذي صار من كبار أعيان الغربيَّة، يضمّ حوشه مجموعة من التراكيب الرخاميَّة التي تعكس تقدُّمًا في فنون الرخام في مصر، وإبداعًا في الزخارف يجعل الواقف في المكان مذهولًا من جمالها.
تكشف الموسوعة وجود أحواش لعدد من نوابغ مصر منهم حوش الدكتور حسن محمود باشا الذي توفي سنة 1906، والذي عمل في القصر العيني وألَّف 26 كتابًا في حمى الدنج، وفي أمراض الكوليرا وفي الأمراض الجلديَّة، وكان عنيدًا للقصر العيني، ومن شهرته في العالم شارك بأبحاثه في مؤتمرات دوليَّة، ونال عضويَّة العديد من الجمعيَّات العلميَّة في العالم حتي صار عضوًا في أكاديميَّة البرازيل.
إنَّ من المثير أنَّ قرافة القاهرة بشواهد قبورها، وروعة الخطوط العربيَّة بها تكشف أنَّ مصر في القرن 19 عادت لها الريادة في فن الخط العربي الذي غاب عنها منذ دخول العثمانيِّين مصر، فنجد شواهد قبور بخطوط مشاهير مثل سيد إبراهيم ويوسف كمال الذي أحيى الخط الكوفي ومحمد أفندي، وإذا احتفظنا بها فهي تعطي مصر قصب السبق في تطوير الخط العربي، وتؤكِّد أنَّ هذا البلد بلد مبدع حقا.
إنَّ هذه الموسوعة جهد أن يقدّر وأن يكرِّم المؤلِّفين فقد أنجزا ما عجزت وتخاذلت عنه مؤسَّسات وعلماء تخلّوا عن مسؤوليَّاتهم.
*المصدر: التنويري.