“من شكاوى المبدعين” مجموعة قصصيَّة للكاتبة ميسون أسدي
الكاتبة الألقة ميسون أسدي تطل علينا من جديد بمجموعتها القصصية “من شكاوى المبدعين” بعد أن أبعدتها الرواية عن هذا الفن الجميل، فجاءت مجموعتها الجديدة في 216 صفحة من القطع المتوسط وثلاث وعشرون نصا قصصيا سبقها توطئة باللهجة المحكية، وتقديم من الأستاذ نبيه القاسم أعطى فكرة عن المجموعة على عجالة، وصدرت المجموعة عن دار الرعاة في رام الله ودار جسور في عمَّان، ولوحة غلاف معبرة لطفلة تمارس اللعب بإغماضة عينين وكأنها تحلم بالغد بين الطيور والعصافير على الغلافين الأمامي والخلفي مع اضافة فقرة من التقديم على الغلاف الخلفي، وهي للفنانة عقيلة رياض من القاهرة والتي تولت اللوحات الداخلية في الكتاب أيضا، وقد أسعدتني الكاتبة والتي تقطن حيفا بإرسال الكتاب إلى قريتي جيوس حيث أقيم هذه الفترة، في رحلتي السنوية التي تمتد قرابة نصف العام وأسميها رحلة الشتاء.
الكاتبة في مجموعتها هذه أرادت أن تبحث في قضايا تخص المبدعين وخاصة الكُتاب منهم، فمن رفض الأهل لفكرة أن يصبح ابنهم كاتبا إلى الدعوات التي تأتي للكتاب والشعراء من العديد من المؤسسات والمدارس دون أي تغطية لتكاليف السفر والتعطل عن العمل، إلى المعاملة غير اللطيفة من الداعين تجاه من يطلب تكاليف السفر أو من يرون نفسهم أهم من المحاضرين والكُتاب، ومن يستلمون مواقع وخاصة كمدراء مكتبات ويسيئون سلطتهم، الإساءة بين الكُتاب لبعضهم البعض، وقلة شراء الكتاب من الكاتب فالقارئ يريده هدية مجانية، ومشكلة القارئ الذي يظن أن الكاتب هو نفسه بطل القصة أو الرواية ويلغي بالتالي الجانب الإبداعي في خيال الكاتب، ومعاناة الكاتب حين يتوقف قلمه عن الكتابة، وأيضا مشكلة الكاتب في بيع نسخ من كتابه في محاولة لاسترجاع بعض من كلفة الطباعة، وأيضا انخفاض عدد القراء والمتابعين، ومشكلة الكتاب مع النقاد سلبا وإيجابا، ومشكلة الرفض من الآخرين.
في القصة الأولى “شحاذون يا بلدنا” كانت تهدف لإيصال ما يحدث مع المبدع من حيث رفض الأهل فكرة بأن “يفكر الطالب بأن يصبح كاتبا أو شاعرا أو فنانا” ويقبلونها كهواية فقط، فهذه المهن برأيهم “دونية المكانة والمركز ولا تطعم خبزا”، ولو صدف أن اشتهر شخص في هذه المجالات يبدأ الأهل بالتفاخر بدون تذكر وقفتهم المضادة سابقا وهذا الوضع نجده أيضا في النص الثاني “مع الاعتذار للجمهور”، لتنقلنا الكاتبة إلى الحوار القصصي الفعلي في النصف الآخر من النص الأول حيث تطرح ما يحصل مع الكُتاب من دعواتهم لمحاضرات وندوات وأمسيات ولا يتم تغطية مبلغ ولو بسيط بدل تكاليف السفر من مدينة لمدينة مضافا إليه تعب المبدع وتعطله عن عمله الذي يعيش من خلاله، وهذا النص طغى عليه السرد في البداية فأبعده عن فن القصة في النصف الأول، لتعود الكاتبة من مسك زمام فن القصة في النصف الثاني.
بينما في النص الثالث “وما أدراك ما دور النشر” نجد الكاتبة تعود الى الإطالة السردية في نصف القصة على شكل أقرب للمقال عن معاناة الكُتاب مع دور النشر، لتكون القصة في النصف الثاني وهي عن المعاناة للكاتب الذي يتعرض للخداع من الناشر، وفي نصها الرابع “إذا كان حبيبك عسل..” تطرح موضوعة المبدع إن طلب ولو مبلغا بسيطا مصروفات الطريق والتعطل عن العمل واعتذر عن التطوع المجاني، ونرى كيف جرى التعامل مع الأستاذة بدونية وكأنها ارتكبت جريمة، وفي هذا النص نجد الكاتبة أمسكت زمام القصة جيدا من حيث المقدمة والذروة والنهاية، بينما في قصتها “إللي بلاش كثر منه” نراها تبحث نفس المعاناة من تحمل المبدع كل التكاليف وزيادة بدون تقدير لجهده، وفي مرة أخرى يعلن موقفه ولا يذهب لمثل هذه الدعوات ويقول ردا على الاتصال ليكيل الصاع صاعين: “على الرحب والسعة، ولكني اتقاضى أجر المحاضرة، لمدة خمس وأربعين دقيقة، ألفا وخمسمئة دولار” وعدم التقدير للجهد نجده أيضا في قصة “الطبالة والراقصون”، وأحب أن أشير لمسألة مهمة وهي أن أصحاب الدعوة هم من يحتاجون المبدع وليس هو من يحتاجهم، فكيف يقبل المبدع أي تعامل غير لائق يمس كرامته ولا ينسحب فورا؟ فالكتاب والشعراء ليسوا بالمتسولين للأمسيات واللقاءات حتى يقبلوا معاملة غير لائقة.
في قصتها “وراء رفوف المكتبة” نجد القاصة تنتقل الى معاناة أخرى ومختلفة وهي التحريض ضدها من كاتبة أخرى لمشرفات تربويات خلال مشاركتها في قراءة قصص للأطفال، وبكل أسف هذا السلوك نجده بين العديد من الكُتاب والشعراء وبالتأكيد ليس بين الجميع، بينما في قصتها “قلة أدب” نجدها تتناول قضيتين مهمتين للكاتب، الأولى أن “معظم القراء تعتقد أن بطل القصة هو الكاتب نفسه”، والثانية “لا أحد يشتري كتبا في هذه الأيام ولا أحد يقرأ، وإن كان هناك من يقرأ فهو يطلب الكتاب هدية، مجانا لوجه الله”، وتنهي القصة بملاحظة موجهة للقارئ الذي يظن أن القصة حقيقية وترى في ذلك الغاء للجانب الابداعي للكاتب، بينما في قصتها “النفس الحية” تجدها تتطرق لمعاناة الكاتب حين يتوقف قلمه عن الكتابة ويبحث عن طريقة تعيد لقلمه اشراقة اللحظة، وهذا الموضوع يتكرر في قصتها “على دروب القصة” وإن كانت القصة هنا تحمل نهايتها مفاجئة للقارئ كما لبطلة القصة، بينما في قصتها “ك.. ك..كتاب” تبحث وبأسلوب ساخر وقصة مضحكة عن مشكلة الكاتب في بيع الحد الأدنى من كتابه في محاولة لاسترجاع بعض من كلفة الطباعة وليس الربح، وفي قصة “قراء الموضة” تعالج مشكلة أخرى يعاني منها الكتاب وهي انخفاض عدد القراء ووجود قراء يقرأون بشكل سطحي وبدون فهم ولا وعي ولا ثقافة، وهذا يتكرر في قصة “لمن تكتب الكلمات” وفي قصة “رأس فوق رأسي”.
قصة “الناقد والمنقود والكاتب بينهما” وهو عنوان ذكرني بتعريف الشطيرة وهو “الشاطر والمشطور والكامخ بينهما”، وقد استعرضت فيها مشكلة الكُتاب مع بعض أدعياء النقد وليس النقاد الحقيقيين، وهو استعراض جيد ولكن عانت القصة من الاستغراق السردي حتى أنها أصبحت أقرب لمقال بصيغة أدبية وابتعدت عن أسلوب القصة، بينما في قصتها “مجرد فضول” تحدثت عن نماذج من النقاد وسلوكهم مع الكُتاب وخاصة مع النساء الكاتبات، وهذه القصة سبق وأن نشرتها الكاتبة وأثارت ضجة ولكن هذه المرة أجرت عليها تعديلات عديدة واكتفت بعرض ثلاثة نماذج بين الناقد المادي والناقد الشهواني والناقد المتغطرس.
وفي قصة “أبو رابوص” أوردت أنموذج لمدير مكتبة في مدرسة يمتاز بالأنانية وابعاد الطلاب عن المكتبة فلا يدخلوها ولا يسمح لهم بإستعارة الكتب، وأعتقد أنه كان هناك تضخيم لسلبيات هذا المدير بشكل مبالغ فيه، ولو وجد حقيقة فلما لا يتم الشكوى للوزارة أو لإدارة المكتبة من المحاضرين؟ وكيف توجه هذه الشخصية السلبية الدعوة لعقد دورات بالكتابة الابداعية للطلاب في المرحلة الابتدائية ولا يسمح للطلاب باستعارة الكتب ولا يعطي المحاضر الوقت الكافي لمحاضراته؟، وفي قصة “قهقهة الحمار” نرى الكاتبة تستخدم أنموذجا لمديرة مكتبة تتسربل بالدين والثقافة ومدعومة من قريبها رئيس البلدية وتمنع الطلاب من دخول المكتبة وخاصة في الشتاء حتى لا تتسخ، وكل نشاطات المكتبة تستغلها لأقاربها فقط.
بينما في قصتها “بليص” تعود لمشكلة الكاتب في ترويج وبيع كتبه وهنا الكاتب يقع تحت عملية احتيال من رئيس مجلس محلي يستلم واحد وعشرين كتاب من الكاتب الذي أتاه من مكان بعيد يحتاج ساعتين بالسيارة، واعدا اياه أنه سيشتري منه الكتب، ليدس في جيب الكاتب مبلغ بالكاد يبلغ ثمن كتابين، والعنوان كلمة عربية تعني المحتال وهو عنوان وصف رئيس المجلس بدقة والقصة أخذت طابع الحوار لأكثر من ثلثي صفحاتها والسرد أقل من ثلثها.
في بعض القصص الأخيرة من الكتاب نرى الكاتبة خرجت عن شكاوي المبدعين الى مشكلات إجتماعية، فنرى في قصتها “ممن” أنها تطرقت لمعاناة شاعرة مع أصدقائها وشعورها أنها مرفوضة منهم ولا يقبلون مجالستها فتقسم “الا تبحث عن الحب بين الأصدقاء”، ورغم أن هذه القصة تبحث في مشكلة اجتماعية قد تحصل مع الكُتاب والشعراء وغيرهم، إلا أنها مشكلة عامة وأعتقد أن الخلل في سوء الإختيار لدى الشاعرة، بينما في قصتها “عناق القديسات” وهي قصة في غاية الجمال والسرد القصصي لتروي لنا حكايتين حصلتا مع سمير في يوم واحد، وهو محترف مهنة “الحكواتي” وكاتب لقصص الأطفال، والقصة الأولى مع طفلة التقاها والثانية مع والدته، وفي قصة “مزق في الفستان الأحمر” والتي وردت في الفهرس بكلمة “ثقب في الفستان الأحمر”، فصاحبة الثوب الأحمر تعمل بالتدريس ولكنها مهتمة بالفقراء ومعاونتهم وفعل الخير فيحصل مزق بثوبها في بيت عجوز فقيرة من مسمار بكنبة متهالكة، لكن المجتمع المحيط يهاجمها ويتهمها انها تعمل على اغراء واثارة الطلاب وغيرهم رغم أن هذا المزق صغير جدا ولا يكشف من جسم المدرسة شيئا، حتى تأتي العجوز الفقيرة لمديرة المدرسة وتكشف الحقيقة بقولها: “ما المزق في فستانها إلا من فعل مسمار في أثاث بيتنا القديم البالي، فهلا كففتم عن ظلمها بضلالكم؟” لتفاجأ المديرة وترد: “أثاثك ليس وحده البالي الذي أكل الدهر عليه وشرب ولم يعد صالحا لزماننا”.
ورغم أن الكاتبة أشارت في الصفحة الثالثة وإن كان بخط صغير بالكاد يظهر: “كل تشابه بين الشخصيات أو الأحداث في هذه القصص والأحداث والشخصيات على أرض الواقع هو محض صدفة لا غير”، إلا أننا سنجد أن المجموعة القصصية كتبتها الكاتبة في ظل حالة غير مريحة في الأجواء الثقافية التي سادت مؤخرا وخرجت عن الأجواء الثقافية التي عشناها في السابق نحن الجيل الذي تقدم به العمر، اضافة أن من يقرأ القصص يجدها تحت تأثيرات زمن نفسي محدد، وأن الشخصية الرئيسة في معظم القصص والراوية للقصة تتكرر باستمرار بحيث أعطت انطباع وكأن الكاتبة تروي أحداثا واقعية سواء معها ككاتبة أو مع غيرها وسمعت بها أو شاهدتها، مما جعل الكاتبة تضيف هذه الملاحظة.
وهذا يدفعنا للحديث عن فن القصة وهو فن سردي متميز وقديم، فالقصة قد تكون طويلة أو متوسطة أو قصيرة أو ما اصطلح عليه متأخرا لتصنيف جديد هو القصة القصيرة جدا، والقصة تعتمد على عناصر أساسية هي المقدمة والذروة والنهاية سواء كانت نهاية مفتوحة تاركا القاص فيها النهاية لتوقعات وخيال القارئ أو غير ذلك حين تكون نهاية القصة مغلقة وغير مفتوحة، والقصة عبارة عن سرد نثري تقدم للقارئ حدث واحد يتحدث عن جانب من الحياة والمجتمع وهو محور القصة في فترة زمنية محددة ومكان محدد وشخصيات محددة من الحياة التي نعيشها سواء واقعية أم من خيال الكاتب، وفي السابق كانت القصص عبارة عن حكايات في التراث الا في حالات نادرة سبق أن أشرت لها في مقال سابق في قرائتي النقدية عن المجموعة القصصية “سكاكين جاهزة وبالخدمة” للكاتبة د. مرام أبو النادي، ونجاح القصة يعتمد على قدرتها على اثارة خيال القارئ وابراز الفكرة فيها ووصولها إلى المتلقي، والحبكة في القصة مهمة جدا حتى تعطي القصة هذا التصنيف وتبعدها عن الخاطرة أو غيرها.
والخلاصة أن الكاتبة بمعظم مجموعتها القصصية “من شكاوي المبدعين” تمكنت من التحدث عن العديد من المشكلات التي يواجهونها، ولكن في نفس الوقت وكما أشرت في البداية فالكاتبة تأثرت بفن الرواية الذي اتجهت له فترة زمنية ليست بالقصيرة، فنجد بعض القصص أغرقت بالسرد وكان يمكن اختصارها حتى لا تكون بداية القصة وكأنها أشبه بخطاب أو مواعظ أو مقال، وفي نفس الوقت اهتمت الكاتبة باللغة والفكرة وإيصالها للمتلقي، وإن بالغت في وصف بعض الشخصيات وبعض شكاوي المبدعين بحيث أظهرتهم في بعض الحالات وكأنهم يتسولون، ونجحت في التنقل بين هذه المشكلات التي يندر أن لا يعاني منها كاتب في عالمنا العربي، داعية بشكل غير مباشر إلى ضرورة احترام حقوق الكُتاب وخاصة تكاليف سفرهم للمشاركة في الندوات والمحاضرات والمؤتمرات، ففعليا يندر أن نجد كاتبا يدخل اليه مردود مادي من خلال كتبه أو مقالاته، وأي كاتب إن لم يكن له عمل يعتاش منه فالبتأكيد سيعيش بحياة معاناة.
“جيوس 12/3/2023”
*المصدر: التنويري.