منطق العلم وإشكاليَّة البحث عن الحقيقة
مدخل:
تعلّمنا في دروس الفلسفة أن الشرق القديم اهتمّ كثيراً بالحقيقة المتعالية، وأبحر فلاسفته للغوص في أعماق الأديان، ومخروا عباب كريم المعتقدات، ليتصيّدوا هذه الحقيقة في علوم الوحي، ومظان الميتافيزيقيا، وزهد التصوّف، وبواطن التأمُّل، ورقائق الإلهام، ولطائف العرفان، وحكمة الإشراق، وقليلاً ما عمدوا إلى العلم والتجربة كمرشد عليها. وإن كان الاستثناء هو الحالة الصينيَّة، وبعض علماء المسلمين الأوائل، الذين نُسِبَ إليهم الفضل في إشاعة روح البحث والتقصِّي العلمي لبلوغ موثوقيَّة الحقيقة المعرفيَّة. هذا، بينما انشغل فلاسفة الغرب، منذ عصر التنوير، بالحديث عن الحقيقة والعلم، واقترانهما الحتمي بالمعرفة الموضوعيَّة القائمة على الافتراض والملاحظة والبحث المنهجي، الذي يستهدي بمحاورة الواقع والتجربة. فلا غرو إذن أنَّ الواقع المادّي هو مسرح النشاط، وكانت النظريّات الفيزيائيَّة هي نقطة الانطلاق، تساندها تصوّرات مراسلة الحقيقة؛ بما فيها، الحقيقة الذاتيَّة، والاستنتاجيَّة، والاستقرائيَّة، والاستقلاليَّة، والعلميَّة. ولكن الاعتماد المطلق على هذا الواقع المادِّي لم يكن بلا أخطاء، وبعضها قاتل، إلا أن الثورة الصناعيَّة، وما أعقبها من تطوّرات مادّيَّة، أعطى للتجربة الموضوعيَّة الكثير من الموثوقيَّة، ومن ثمّ هيمنة الحقيقة العلميَّة على المعرفة الإنسانيَّة.
إنَّ هذا المقال لا يسعى للمقارنة لما أسَّس له الشرقيُّون من طرائق النظر القاصد لإدراك هذه الحقيقة، وتكيفيات الإدراك الإنساني للواقع المادِّي، وإنما يركِّز بشكل خاصّ على التجربة الغربيَّة بالتساؤل عن ماهيَّة الحقيقة العلميَّة؟ وكيف اجتهد الفلاسفة الغربيُّون في طلب هذه الحقيقة بمناهج بحث واقعيَّة موضوعيَّة. ويتطلَّب فهمها استخلاص إجابات على العديد من الأسئلة النسبيَّة؛ مثل، هل الحقيقة العلميَّة ثابتة أم قابلة للتغيير؟ وهل الحقيقة العلميَّة هي كل ما يقاس بالتجربة؟ وهل تتلاقى الحقيقة العلميَّة مع الحقيقة الدينيَّة؟ وهل الحقيقة هي كل ما نؤمن به، أم ما نشعر به من خلال حواسنا؟ وإلى أي مدى يهتمّ العلم بحقيقة مستقلَّة عن أنشطة العلماء، وإلى أي مدى هي مجرد “بناء اجتماعي”، يتكوَّن من أنشطة ثقافة معيَّنة؟ ولا شكّ أنَّ هذه الأسئلة هي الشاغل الأساس لهذا المقال، مدفوعاً إلى حدٍّ كبير بالقلق إزاء مزاعم علماء الاجتماع، الذين دافعوا عن وجهة نظر البناء الاجتماعي. فالمعرفة العلميَّة مجرَّدة، خاصَّة في حالة الفيزياء، وترتبط فقط بشكل غير مباشر بالعالم، الذي ندركه بالحواس في واقعنا الاجتماعي.
إنَّ هذا المقال لا يسعى للمقارنة لما أسَّس له الشرقيُّون من طرائق النظر القاصد لإدراك هذه الحقيقة، وتكيفيات الإدراك الإنساني للواقع المادِّي، وإنما يركِّز بشكل خاصّ على التجربة الغربيَّة بالتساؤل عن ماهيَّة الحقيقة العلميَّة؟
نسبيَّة الحقيقة:
لقد نُسِبَ إلى الفيلسوف النمساوي “لودفيج فيتجنشتاين”، الذي يعتبره البعض أحد أكبر فلاسفة القرن العشرين، لِمَا كان لأفكاره من أثر حاسم على كل من الوضعيَّة المنطقيَّة وفلسفة التحليل، القول إنَّ “الحقيقة ليست مطلقة ولا خالدة، لكن السعي وراءها يظل في قلب المسعى العلمي.”[1] وتُرشد كل مناهج البحث العلمي إلى ضوابط هذا المسعى العلمي، الذي تذرع به فيتجنشتاين في مقولاته الفلسفيَّة. فيما لاحظت واستحضرت “ميشيلا ماسيمي”، أستاذ فلسفة العلوم في جامعة أدنبره في اسكتلندا، قوله الذي شاع في الأوساط العلميَّة العالميَّة “لا تكمن قوة الخيط في حقيقة أنَّ بعض الألياف تمتدّ عبر طوله، ولكن في تراكب العديد من الألياف.”[2] وقد جاءت ملاحظة “ماسيمي” هذه ضمن أطروحة كتبتها عن مشروع بحث تلقَّى تمويلاً من مجلس الأبحاث الأوروبي، في إطار برنامج البحث والابتكار الخاصّ بالاتِّحاد الأوروبي لعام 2020، حول “واقعيَّة التصوّرات: العلم والمعرفة والحقيقة”، أو ما يتعلَّق منها بـ”نقطة الفضل البشري” في استنتاج المعرفة بالحقيقة.
وتدعونا هاتان المقولتان العميقتان إلى التفكُّر في عدد السيناريوهات، التي تهمّ الحقيقة في العلوم الطبيعيَّة، كما العلوم الاجتماعيَّة. فنحن، بالإضافة إلى معاينتنا اليوميَّة للظواهر الاجتماعيَّة، معنيُّون بمعرفة ما إذا كانت زيادة مستويات انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون تسبِّب تغيُّر المناخ، وبسرعة تجعلنا نتفاعل مع ما يقال عن ثقب الأوزون، والاحتباس الحراري، والزيادة المحسوسة في سخونة الأرض، وتقلّبات المناخ. وبذات القدر، نحرص على معرفة ما إذا كان تدخين التبغ يزيد من خطر الإصابة بسرطان الرئة، أم لا، ودالة الآثار القاتلة لا تخطئها العين. كما أنَّ الكثيرين مهتمّون لمعرفة ما إذا كان سوء التغذية يعرض الأطفال لخطر الإصابة بالسمنة، أو ما إذا كانت توقّعات النمو الاقتصادي صحيحة في كل الأحوال. هذا مع إدراكنا أن الحقيقة في العلم ليست مقصورة على فئة معينة، أو مساق علمي دون غيره، بل هي تشكّل أساس علم المناخ، والطب، والصحَّة العامَّة، والاقتصاد، والعديد من المساعي الدنيويَّة الأخرى، التي نجتهد ليل نهار في محاولة فهمها لمجابهة تحدّياتها.
لقد عاش فيتجنشتاين في فيينا، إلا أنها كحاضرة نمساويَّة، لم تكن، كما يقول الكاتب جوشوا هوجيجو،[3] في العام 1919، على علو فكره، بل كانت مدينة خائفة بسبب الحرب، ومنكسرة بسبب ضياع الإمبراطوريَّة؛ تحدِّق بخجل إلى وسطها “السرة”، وكلها غضب من الأفكار الجديدة لسيغموند فرويد عن اللاوعي والتحليل النفسي، وكيف يمكن لأي شخص أن يثبت صحتها، عندما يكون اللاوعي غير مدرك؟ وسرعان ما تخلَّى عَالِمٌ شاب مثل كارل بوبر[4] عن صناعة الخزانة، التي كان يجتهد في اتمامها، من أجل تحقيق هدف أعلى. وذلك بمحاولة إيجاد طريقة لترسيم مثل أفكار فرويد، التي اعتبرها نوعاً حقيقيّاً من المعرفة، أو الحقيقة العلميَّة. رغم إدراكه أنه لا يمكن للعلم الاعتماد على الاستنتاج المنطقي وحده، أو بناء المعرفة البحتة من الحقائق، التي لا جدال فيها.[5]
إن أهمّيَّة هذا الفهم للحقيقة بالنسبة للعلم لا يكاد يشكل خبراً لوسائل إعلام؛ تقتات من الإثارة، لأنها لا تحفل كثيراً بعمق الأشياء. فقد كان الناس، لفترة طويلة، يتطلّعون إلى العلم من أجل كشف الحقائق حول العالم، لأنهم يدركون أن الثورة العلميَّة لا تمثِّل شيئاً إن لم يكن جِماع جهدها انتصارٌ لحقيقة غاليليو العلميَّة،[6] التي اكتسبها بالمثابرة المضنية من خلال ملاحظاته التلسكوبيَّة، منهياً بذلك قروناً من الاعتقاد حول نظام مركزيَّة الأرض. إذ كان نظام الفلك البطلمي،[7] في ظل هيكليته الخاصَّة بالدراجات الهوائيَّة والمتحركة، في وقت واحد، متطوّراً في زمانه، غير أنه كاذب في الحقيقة. رغم أنه خدم، في أفضل الأحوال، ولبعض الوقت، “حفظ المظاهر” العامَّة حول كيفيَّة تحرّك الكواكب في السماء. إلا أنه لم يقل الحقيقة كاملة عن حركة الكواكب إلا بعد اكتشاف التفسير الكوبرنيكي،[8] أو النظر في الثورة الكيميائيَّة في نهاية القرن الثامن عشر. والآن، لم يعد العلماء، بعد كل الاكتشافات العلميَّة الحديثة، يؤمنون بما كان يُعرف قديماً بـ”الفلوجستون”،[9] أو “السوائل الخياليَّة”، التي لا يمكن تصديقها، والتي يعتقد جورج إرنست ستال،[10] وجوز بريستلي،[11] وفلاسفة طبيعيّون آخرون، عاشوا في ذلك الوقت، أنهم يعملون في ظواهر الاحتراق والتكليس. فقد سادت اليوم حقيقة أنطوان لافوازييه[12] العلميَّة حول الأكسجين على المعتقدات الخاطئة حول الفلوجستون.
إن الجهات الفاعلة الرئيسة في هذه الثورات العلميَّة غالباً ما عزَّزت طريقة التفكير هذه في العلم كبحث استقصائي يؤدِّي إلى انتصار حتمي للحقيقة على أخطاء الماضي. إذ إنه بعد قرنين من دفاع جاليليو الناجح عن نظام مركزيَّة الشمس، استمرَّت فكرة مسار الحقيقة العلميَّة في إلهام الفلاسفة. ففي كتابه “دورة الفلسفة الإيجابيَّة”، الصادر عام 1830، رأى عالِم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي “أوغست كونت” تطوّر المعرفة البشريَّة في ثلاث مراحل رئيسة، هي: “اللاهوتيَّة، أو الخياليَّة”؛ الميتافيزيقيَّة، أو المجرّدة؛ والعلميَّة، أو الإيجابيَّة”. في المرحلة “الإيجابيَّة”، أي المرحلة الثالثة والأخيرة، قدَّم شرحاً للحقائق هو ببساطة إنشاء علاقة بين الظواهر الفرديَّة وبعض الحقائق العامَّة، التي يتناقص عددها باستمرار مع تقدّم العلم.
وبالنظر إلى هذا المعطى، نجد أنه سرعان ما تحوّلت نظريَّة كونت الوضعيَّة الإيجابيَّة عن السياق الاجتماعي إلى المسار السياسي؛ وهذا يُعزى إلى أن كوّنت بدأ مسيرته المهنيَّة في العمل مع المنظر الاجتماعي هنري دي سان سيمون، وكانت الفكرة الإيجابيَّة لديه مستوحاة من الثورة الصناعيَّة. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر انبثقت هذه النظريَّة الوضعيَّة الإيجابيَّة للوجود، وتجلَّى ظهورها في أوائل القرن العشرين، الذي ينبغي أن تُفرد لها مساحة للمناقشة الجادَّة بين علماء الاجتماع والسياسة في عالمنا العربي، خاصَّة وأن كلمة “الوضعيَّة” أصبحت في آذان الكثيرين مرادفة لتفاؤل لا ينفك في قوة العلم والتكنولوجيا، وتقدّمهما المطرد نحو الحقيقة؛ وإن خالفها وعارضها بعض المتديّنين بحجج لا ترقى لمستوى الحوار العلمي.
ففي بعض الأوساط العلميَّة، تظل فكرة كونّت حول كيفيَّة تطور العلم وتقدّمه هي العملة الشائعة. لكن فلاسفة العلم، على مدى نصف القرن الماضي، تحوّلوا، كما المتدينون، ضدّ فكرة تمثيل العلم كمسيرة مستمرّة إلى الأمام نحو الحقيقة. ليس فقط مسألة كيف يعمل العلم، وكيف يتحرَّك عبر التاريخ، وكيف يحلق في وجه الفوارق التاريخيَّة الدقيقة والمثيرة، وإنما حول كيفيَّة حدوث الثورات العلميَّة في الواقع. إن هذا يجعلنا لا نستوعب كيف أن بعضاً من أعظم العقول العلميَّة تتمسَّك بشدَّة ببعض المعتقدات الخاطئة، وتتجاهل عمداً الأصوات العديدة والححج والخلافات، التي غالباً ما تطوّرت بها المعرفة العلميَّة، وتقدّمت مسيرتها بمرور الوقت. إذ يفترض الفهم السطحي لسرديات العلوم أن التقدُّم يتَّسم ببعض الاستحواذ التراكمي لـ “معتقدات أكثر واقعيَّة”، الذي قد يبدو صحيحاً بالنظر لبعض الحالات، ولكنه بالقطع ليس كذلك بقياسات المعرفة العلميَّة للحقيقة.
ومع ذلك، فإنَّ الكثير من الانتقادات، والمشروعة في حدِّ ذاتها، ضدّ هذه النظرة الساذجة للعلم ارتكبت خطأً مشابهاً. إذ عرض أصحابها صورة للعلوم تعفي من أي التزام بالحقيقة، لأنهم يرون الحقيقة على أنها ميزة غير ملائمة، ويمكن التخلّص منها بالعلم. ويدعون أن المثابرة المثاليَّة والسعي وراء الحقيقة لا يتّسقان مع الميول الملوّثة، التي من الصعب محاولة تطهيرها. فقد كانت مغالطة الفلسفة الوضعيَّة هي التفكير في العلم على أنه يأتي في مراحل من نوع ما، أو يتبع مساراً معيناً، أو دورات تاريخيَّة متعاقبة. ولكن علمتنا التجربة أن الاتجاه المعادي للحقيقة في فلسفة العلم غالباً ما ينتهي بتكرار هذا الخطأ ذاته. لذا، أصبح من المهم تجاوز الانقسام العقيم بين النظرة القديمة “الوضعيَّة” للحقيقة في العلم والاتّجاه المناهض للحقيقة في العقود الأخيرة.
أسئلة تأسيسيَّة:
ولو أردنا التوضيح أكثر، دعونا نبدأ ببعض الأسئلة الفلسفيَّة الموضوعيَّة عن الحقيقة في العلم. وهنا ثلاثة منها، هي: 1) هل يهدف العلم إلى الحقيقة؟ 2) هل يخبرنا العلم بالحقيقة؟ 3) هل نتوقَّع أن يخبرنا العلم بالحقيقة؟ ففي كل من هذه الأسئلة، يعد “العلم” عنصراً نائباً عاماً لأي نظام علمي نرغب في استجوابه. ومن الوهلة الأولى قد نرى أن السؤال الأول يضرّ بنا إذا اعتبرناه تكراراً لمقولات عديمة القيمة، ولكنه في الواقع أثار أحد أكثر النقاشات حيويَّة خلال الأربعين سنة الماضيَّة. لقد أطلق باس فان فراسين[13] هذا الجدل حول ما إذا كان العلم يهدف إلى الحقيقة مع كتابه الرائد “الصورة العلميَّة”، الصادر عام 1980. فهل يهدف العلم إلى إخبارنا قصَّة حقيقيَّة عن الطبيعة؟ أم أنه لا يهدف إلا إلى إنقاذ الظواهر، التي يمكن ملاحظتها، أي تقديم حساب له معنى حول ما يمكن أن نلاحظه، دون أن نتوقَّع منه أن يكون الحساب الحقيقي عن الطبيعة؟
إنَّ الجواب الإيجابي على السؤال الأول يحدِّد الموقف الفلسفي المعروف بـ “الواقعيَّة العلميَّة”. ويؤكِّد الواقعيّون العلميّون أن أفضل النظريات العلميَّة تهدف إلى الحقيقة كغايتهم النهائيَّة. لكن فان فراسين، متقفيّاً آثار الفيلسوف الفرنسي بيير دوهيم،[14] أشار إلى أنه غالباً ما لا تكون هناك حاجة للحقيقة في العلوم، وإنما يكفي “إنقاذ الظواهر”، أو “المظاهر”؛ على سبيل المثال، يمكن لعلم الفلك، في فهم بطليموس، أن يُفسّر ظهور الكواكب المتحرّكة في حلقات في السماء على مدار أشهر. كان هذا، فيما مضى، يسمَّى “الحركة الارتداديَّة”، التي استوعبتها نظريَّة بطليموس من خلال إدخال سلسلة من التناسق الهندسي للدرجات والدوائر، والتي كان من المفترض أن تتحرَّك الكواكب حولها. إلا أنه، في الواقع، لا توجد درجات، أو دوائر كهذه، والحركة الرجعيَّة مجرَّد وهم تسبّبه السرعات النسبيَّة للكواكب، التي تدور حول الشمس. كما أدرك علم الفلك الكوبرنيكي في وقت لاحق، أي بعد عدة قرون، أنَّ علم الفلك البطلمي كان زائفاً، على الرغم من نجاحه النسبي، الذي دام قرناً في تفسير “إنقاذ الظواهر”، التي يمكن ملاحظتها.
جاء في كتاب “حقيقة العلم: النظريات الفيزيائيَّة والواقع”، لمؤلفه آر جي نيوتن، والصادر عن مطبعة جامعة هارفارد، عام 1997، سؤال عما الذي يدور حول “الحقائق” العلميَّة، علاوة على العمليّات الاجتماعيَّة، التي تجعلنا نعتبرها حقيقيَّة؟ إذ تجاهل اسحق نيوتن فكرة أن التأكيدات العلميَّة هي ببساطة “تأكيدات على كيف تسير الأمور”. لذلك، هناك حاجة إلى بديل يؤكِّد على التماسك، أو الاتساق العام، لمجموعة كبيرة ومعقّدة من المعارف العلميَّة. وكدليل على هذا التماسك المتمثِّل في حقيقة عدم وجود محرِّك يعمل بدون مدخلات الطاقة، فإنه يؤكِّد أنه عندما تشير نظريَّة موثقة جيداً إلى أن هذه الظاهرة لم تحدث أبداً، فإنها لن تحدث، في الواقع. ويبدو أن قوانين الكيمياء كلها تؤكِّد بأنه لا يمكن نقل العناصر، في حين يبدو أن فيزياء الماضي تشير إلى أن الفضاء والوقت كانا مطلقين. والمعنى الذي يجب استخلاصه هو أنه بغض النظر عن مدى اتِّساق النظام العلمي، فلا يوجد ضمان بأن الحقائق، التي لا تتوافق مع ذلك لن تظهر في المستقبل. في النهاية، يعترف نيوتن بذلك، وينتقل إلى فكرة أن العلم، “رغم كوهن”، يحرز تقدّماً، ويعالج الحقيقة بشكل أوثق عبر الزمن.
إنَّ الإشارة إلى توماس كوهن[15] هي إشارة إلى بيان له بأن العلم لا يتحرَّك نحو أي شيء مثل الحقيقة، ولكنه يتطوَّر ببساطة، أي أن الفكرة الكاملة للحقيقة العلميَّة تبدو مزعجة لدرجة أنه من الأفضل تجنبها، ومناقشة طبيعة التقدُّم العلمي بدلاً من ذلك. إذن، ماذا عن الفكرة التي يبدو أن نيوتن يكرهها، وهي أن العلم هو “محاولة لبناء الواقع”؟ إذ لا يمكن للمرء أن يجادل مع الفكرة نفسها؛ الاعتراض هو فكرة أن هذا هو كل ما في العلم تذكّرنا أن نيوتن يريد أن يكون هناك شيء مستقلّ عن العالم، الذي تقوم عليه نتيجة هذه المساعي، لكن ليس من الواضح أن النسبيَّة في حدِّ ذاتها تستبعد هذا الاحتمال. فإذا وقفت على جبل، سأرى أشياء لها وجود مستقلّ عن نفسي، ومع ذلك، إن ما يمكن لي رؤيته يعتمد على المكان، الذي أقف فيه. ويبدو أن نيوتن يفكِّر في حالة خاطر علم النفس بتبنيها، وهي بأن “عدم توافقه مع بقيَّة العلوم المقبولة”[16] هو سبب وجيه لتجاهل الأدلَّة التجريبيَّة.
ويوجد اليوم فلاسفة يتبنُّون وجهة النظر القائلة إنَّ العلم لا يحتاج إلى أن يكون صحيحاً حتى يكون جيّداً. إنهم يجادلون بأن طلب الحقيقة أمر محفوف بالمخاطر، لأنه يلتزم بالاعتقاد بالأشياء؛ سواء أكانت دراجات هوائيَّة، أو فلوجستون، أو أثير، أو أي شيء آخر، قد يكون زائفاً في المستقبل. ومن وجهة نظرهم، فإنَّ النظريّات “المناسبة تجريبيّاً”، هي النظريّات، التي “تحفظ الظواهر، التي يمكن ملاحظتها”، وهذه ستكون جيِّدة بما فيه الكفايَّة لخدمة العلم. على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يأخذ النموذج القياسي في فيزياء الطاقة العالية؛ ليس كهدف للحقيقة حول ما إذا كان العالم محفوراً حقاً على الكواركات، والبتونات، وحاملات القوَّة؛ أو ما إذا كانت هذه الكيانات تمتلك بالفعل الخصائص، التي يقول النموذج القياسي أنها تمتلكها؛ وما إلى ذلك، وهلم جرا، وإنما بكفايتها التجريبيَّة. فالنهج الأكثر حكمة يهدف إلى هذه الكفاية التجريبيَّة، بقدر ما يحفظ النموذج القياسي جميع الظواهر، التي يمكن ملاحظتها، والتي لا تتعلَّق بالجزيئات غير المرئيَّة. بالطبع، في الحالات، التي يمكن النظر إليها من خلال الرؤية المجهريَّة، وتلك التي يمكننا رؤيتها بالعين المجرَّدة، فإنَّ النموذج يكون كافياً تجريبياً؛ فلماذا يسأل الناس عن المزيد إذن؟
عندما يتعلَّق الأمر بالسؤال الثاني؛ هل يقول لنا العلم الحقيقة؟ فقد ناقش العلماء الواقعيُّون والمناهضون للواقعيّين من مختلف المشارب هذا السؤال. فماذا لو تركنا جانباً هدف العلم، ودعونا إلى التركيز على سجل مساره بدلاً من ذلك، هل أخبرنا العلم بالحقيقة؟ وبالنظر إلى تاريخ العلم، هل يصل إلى قصة مقنعة عن الحقيقة المتراكمة على مرِّ القرون؟ نحن نعلم أن كل الفلاسفة والمؤرِّخين وعلماء الاجتماع وعلماء الدراسات العلميَّة قد طعنوا في الإجابة الإيجابيَّة البسيطة على هذا السؤال. لقد تحدّوا بشكل خاصّ فكرة الحقيقة الواقعيَّة في السؤال، وأخذوا في مناقشاتهم مجموعة محدّدة من الحقائق حول الطبيعة، كمسؤولين عن جعل الادّعاءات العلميَّة صحيحة، أو خاطئة، مدركين أن التقدُّم العلمي يتمثَّل في كشف المزيد من هذه الحقائق، ويتطوَّر حتى يتمّ الكشف عنها جميعاً.
وللتدليل على ذلك، يمكن العثور على رأي واضح مُثَبَّت في معاهدة المنطق الفلسفي 1922، حيث أعلن لودفيج فيتجنشتاين في البداية: “إن العالم هو مجمل الحقائق”، و”يحدِّد مجموع الحقائق كلاً من الحالة، وعكسها”. وبهذا، أعطى فيتجنشتاين نظرة يسيرة؛ قد تبدو مضلِّلة، عن كيفيَّة رسم خرائط اللغة للواقع، والأهم من ذلك، على ما أسماه “الحقائق الذريَّة”. ولعقود من الزمن، دعت التوجهات المعاديَّة للواقع في فلسفة العلم، دون اتِّخاذ فيتجنشتاين كهدف مباشر، أو كمحاور في هذا النقاش الخاصّ بالعلوم، إلى التشكيك في إمكانيَّة الوقائع الذريَّة وقدرتها على جعل الادّعاءات العلميَّة صحيحة، أو خاطئة. إذ يعتقد الكثيرون أنَّ هذه الأمور البسيطة، على ما يبدو، تواجه بعض التحدّيات الهائلة.
يبد أن هذا الاتّجاه، الذي يمتدّ لعقود طويلة، وهو متعدِّد الجوانب، قد أوجد خيبة أمل في الحقيقة المرتبطة بفلسفة العلم، وذلك برفض فكرة وجود حقائق حول الطبيعة تجعل من مطالبنا العلميَّة صحيحة، أو خاطئة. مثلاً، فإن الحقيقة البنائيَّة ليست سوى جانب واحد من هذا الاتّجاه المتعدِّد، الذي يخلط الوهم مع الحقيقة. وقد يبدو هذا الأمر غريباً، إذ يدّعي المدافعون عنه أنه لا توجد طريقة واحدة وموضوعيَّة لفهم العالم. فهناك الكثير من الأوصاف المختلفة و”الحقيقيَّة على حدٍّ سواء” لهذا العالم، وحقيقتهم هي المعيار الوحيد لإخلاصهم، على حدّ تعبير الفيلسوف نيلسون غودمان،[17] الذي ادَّعى أننا نصنع الحقائق، ولكن ليس، على سبيل المثال، مثل خباز يصنع الخبز، أو نحات يصنع تمثالاً. في رأي غودمان، فإنّنا نضع الحقائق في أي وقت نبني فيه، ما أطلق عليه، “نسخة” من العالم؛ من خلال الأعمال الفنيَّة، أو الموسيقى، أو الشعر، أو العلوم. وكمثال آخر، ابتكر كاميلي سان ساينز[18] نسخة من العالم من خلال تأليف سمّاعه الكمان، والتي ألهمت بدورها مارسيل بروست[19] لتخيل سوناتا “فينتويل”، في المجلد الأول من روايته “البحث عن الوقت الضائع”، التي نُشِرَت عام 1913. والآن، لا يستطيع أي شخص قرأ بروست المساعدة في التفكير في قصة حب أوديت وسوزان، التي تتكشَّف في صالون فيردورين عندما يسمعون أغنية سوناتا الكمان الرائعة.
وتوجد هناك طريقة أخرى لبناء نسخة من العالم، وذلك بتجميع الأشياء، وفقاً لشكل معين، ومنحها اسماً؛ فالناس يفعلون ذلك طوال الوقت، على سبيل المثال، مع النجوم والمجموعات النجميَّة. وكما عبّر عنها الفيلسوف هيلاري بوتنام: “في أيامنا هذه، هناك قارورة كبيرة في السماء”،[20] ونحن، إذا جاز لنا التعبير، وضعنا “القحط الأكبر” في السماء من خلال بناء ذلك الإصدار، فيصبح للعرض آثار خطيرة على الحقيقة في العلم. فقد كتب بوتنام يقول: “الحقيقة، أبعد ما تكون عن أن تكون سيداً مهيباً وشديداً، هي خادمة خاضعة ومطيعة”. فالعالِم الذي يفترض أنه متفانٍ بذاته للبحث عن الحقيقة يخدع نفسه … إنه بقدر المراسيم، التي يضعها لاكتشف القوانين، بقدر ما يميّز التصاميم، التي يحدِّدها. كما أن وجهة نظر غودمان مشابهة، في بعض النواحي ذات الصلة، للفيلسوف الفرنسي برونو لاتور. ففي “أمل البنادورا”، الصادر عام 1999، يجادل لاتور بأن الحقائق حول ما إذا كانت السافانا تتقدَّم؛ وتتراجع غابات الأمازون، هي نتيجة للممارسات المختبريَّة حول أخذ عيّنات من التربة، بدلاً من الحقائق المستقلَّة عن الطبيعة نفسها.
وقد تبدو الصيحة البنائيَّة متطرّفة للغاية، بالنسبة للكثير من الفلاسفة، وتُنَفِّر معظم العلماء. إذن، هنا مقاربة أخرى ضدّ الحقيقة الواقعيَّة، المعروفة بين فلاسفة العلم. وعلى مدى السنوات الأربعين الماضيَّة، أُنْتِجَت كميَّة غير عاديَّة من نماذج العمل في العلوم، وكان دور التجريد والمثل الأعلى في النماذج العلميَّة، هو الحفاظ على، وتشويه، جوانب النظام المستهدف ذي الصلة. على سبيل المثال، فإن نموذج كرة البلياردو للحركة البراونيَّة يمثِّل حركة الجزيئات، من خلال جعلها تبدو مثاليَّة ككرات بلياردو حقيقيَّة تماماً. علاوة على ذلك، يقوم النموذج باختصار، أو إزالة، جزيئات من بيئتها الفعليَّة، وهو ما يحدث بالطبع عند وقوع تصادمات بين هذه الجزيئات.
لقد دفعت دراسة ممارسات “النمذجة” في العلوم البعض إلى القول إنَّ العلم لا يخبر بالحقيقة، ولكنه يقدِّم فهماً عاماً غير واقعي لها. خذ مثلاً قانون الغاز في بويل،[21] الذي يربط العلاقة بين ضغط وحجم الغاز المثالي عند درجة حرارة ثابتة. ففي أفضل الأحوال، يكون قانون بويل صحيحاً، مع ثبات باقي العوامل، أي أن جميع الأمور الأخرى متساوية، في ظروف مثاليَّة ومُحسّنة. ببساطة، لا يوجد غاز مثالي يحتوي على جزيئات كرويَّة تماماً يتسنَّى لها أن تعرض “حقائق ذريَّة” تجعل قانون بويل صحيحاً. وعلى الرغم من عدم صدق أي شيء حقيقي، إلا أن نموذج كرة البلياردو للحركة البراونيَّة، وقانون الغاز المثالي في بويل، يوفران، مع ذلك، فهماً غير واقعي لسلوك الغازات الحقيقيَّة. لأنهما يسمحان للعلماء بفهم العلاقة بين تناقص الحجم وزيادة الضغط في أي غاز، حتى لو لم تكن هناك حقائق ذريَّة في الطبيعة عن جزيئات كرويَّة مثاليَّة، تتوافق مع مثل هذه المثاليَّة.
إنَّ المناهج المضادة للدوغماتيَّة، والمناهضة للعلم أيضاً، تطرّقت إلى تمييز القيمة، وكذلك الحقّ، من الحقيقة. فيما بدأ علماء دراسات العلوم، منذ ستينيات القرن العشرين، يرون كلمة “الحقيقة” على أنها تستحضر أيديولوجيَّة عقائديَّة ساذجة، رغم أنها غير معاديَّة، خاصَّة في أعقاب الحرب الفيتناميَّة، وما بعد الحداثة، التي أصبحت تُعرف فيما بعد باسم “الحروب العلميَّة”. إذ رأى كثيرون الفيزيائي توماس كوهن كمؤسِّس لتوجّه تاريخي جديد يفكّك ما اعتبروه وجهة النظر الساذجة، التي يستهدفها العلم، أو يتتبعها. فقد كان كوهن ينظر إلى نفسه على أنه “عاشق للواقع وطالب للحقيقة”. ومع ذلك، ففي الملاحظات النهائيَّة على كتابه الكلاسيكي “هيكل الثورات العلميَّة”، الذي نُشِرَ عام 1962، أصدر تحذيراً صارخاً، لا يخلو من شذوذ، قال فيه: “هل يساعد حقاً أن نتخيَّل وجود حساب واحد كامل وموضوعي وصحّي للطبيعة، وأنَّ المقياس الصحيح للإنجاز العلمي هو إلى أي مدى تقرّبنا من الهدف النهائي؟” إنه يقول إن المراحل المتعاقبة في تلك العمليَّة التنمويَّة تتميَّز بزيادة في التعبير والتخصّص. وقد تكون العمليَّة برمتها قد حدثت، كما نفترض الآن أن التطوّر البيولوجي قد أوجد، دون فائدة لهدف محدَّد، حقيقة علميَّة ثابتة دائمة، التي تمثِّل نموذجاً أفضل لكل مرحلة من مراحل تطوّر المعرفة العلميَّة.
بالنسبة لكوهن، الحقيقة ليست هدفاً شاملاً للعلم عبر الثورات العلميَّة. كما أن الثورات العلميَّة؛ على سبيل المثال، من بطليموس لعلم الفلك الكوبرنيكي، ليست هي المسار الأمثل للحقيقة أيضاً. إن ما يفعلونه، في أحسن الأحوال، هو زيادة قدرتنا على حلّ الحالات الشاذة، التي تكتنف النموذج السابق، كما حدث عندما اكتشف العلماء، في نهاية المطاف، أنَّ حركة التراجع كانت مجرّد وهم، وليست شيئاً يحتاج إلى استخدام الدراجات الهوائيَّة والأجواء، والتي تظهر في روح تحذير كوهن، وما يتبدَّى في مناقشات اليوم. فالحقيقة نفسها ليست كافيَّة لتسويَّة، أو حتى توجيه، المناقشات حول الخبرات والثقة والإجماع والمعارضة في العلوم.
لقد وصف فلاسفة العلوم دو ميلو مارتان[22] وكريستين إنتمان[23] الأمر بشكل جيِّد في كتابهما “الكفاح ضدّ الشكوك”، الصادر عام 2018، عندما يتعلَّق الموضوع بدور العلم في صنع السياسة. إذ إنَّ المفتاح هو “المشاركة في المناقشات مع جميع الأطراف المعنيَّة حول القيم المعنيَّة، بدلاً من حقيقة ادّعاءات علميَّة معيّنة”، التي تتضمَّن صناعة السياسة والقيم، و”لا يمكن، ولا ينبغي، أن يقرِّر الخلاف حول القيم من قبل العلماء وحدهم”، أو من خلال الأدلَّة العلميَّة فقط. وقد أكَّد ما رتان وإنتمان كذلك أنه حتى لو كانت الحقيقة هي هدف العلم، فإنّ الإجماع في مساق أدبي، أو مجال فرعي، لا يمكن أن يكون دائماً داعياً للحقيقة، وما إذا كان من الضروري تبنِّي سياسة عامَّة على هذا الأساس لا يزال موضع شك. ولتلخيص ذلك، فإنّه باستطاعتنا أن نقول إنَّ تاريخ العلم، وممارسة العلم، والسياسة العلميَّة، كلها توفِّر أسباباً لبعض الفشل، وليس مطلق النجاح، في الحصول على الحقيقة من العلم. ولهذا السبب، يميل فلاسفة العلم الذين يطلقون على أنفسهم الواقعيِّين، في عصرنا هذا، إلى إضافة بعض الصفات المؤهَّلة إلى كلمة “الواقعيَّة”؛ سواء كانت “هيكليَّة”، أو “انتقائيَّة”، أو “براغماتيَّة”، أو “منظوريَّة”، أو “محليَّة”. لذا، فقد تركت النتيجة الصافية للمناقشات الفلسفيَّة، حول “إزاحة الحقيقة” وطبيعتها، إلى الفلاسفة؛ فلاسفة اللغة والميتافيزيقيين، وليس فلاسفة العلم.
السؤال الثالث هو ما إذا كان ينبغي لنا أن نتوقع من العلم أن يخبرنا بالحقيقة، أم أن الحقيقة، أو على الأقل مفهوم الحقيقة، لم تترك المجال للمنطقيين والأخصائيين الميتافيزيقيين؟ ففي حين أن التحليلات النقديَّة للحقائق الواقعيَّة هي في الواقع أفضل تركها للباحثين المنطقيّين والعلماء الميتافيزيقيين، لا يجب على فلاسفة العلم التخلِّي عن مسؤوليتهم في الحديث عن الحقيقة العلميَّة. لقد أثبتت أسطورة الحقائق الذريَّة، مثل صانعي الحقيقة للادّعاءات العلميَّة، عدم كفاية خدش سطح الممارسات المعقَّدة في العلوم. لكن هذا ليس سبباً، أو ذريعة، لإجبارنا على التخلِّي عن الحقيقة تماماً. كما أنه ليس سبباً لاستنتاج أنه لا ينبغي أن يتوقعَّ من العلم أن يخبرنا بالحقيقة. إنَّ فلاسفة العلم يتحمَّلون مسؤوليَّة اجتماعيَّة للتحدُّث عن الحقيقة العلميَّة. ولا يمكن ترك الأسئلة حول الحقيقة دون توضيح، أو تفويض، أو أسوأ من ذلك، أن تقابل بالاستياء والشك. ومن أجل المشاركة الجادَّة في مناقشة موضوع الحقيقة العلميَّة؛ الشائك والصعب، كما قد يكون، يجب أن تكون نقطة البداية مع العلماء في المجتمعات الديمقراطيَّة المتسامحة والتعدديَّة.
الحقيقة البراغماتيَّة:
لكن يتجدَّد التساؤل؛ في هذه المجتمعات الديمقراطيَّة وغيرها، حول: حقيقة من؟ وبمنظار من؟ وقد يميل البعض في مرحلة الحوار الأولى إلى نظريَّة براغماتيَّة للحقيقة. إذ إنَّ البراغماتيَّة الأمريكيَّة وفَّرت تقليدياً طريقة بديلة للتفكير في الحقيقة، التي يرى بعض فلاسفة العلم أنها أكثر ملاءمة لالتقاط الفروق الدقيقة المعقَّدة والبِنْية القويَّة للممارسة العلميَّة. نعم، هناك اختلافات كبيرة ومهمة بين البراغماتيين أنفسهم، مثل: جون ديوي،[24] ووليام جيمس،[25] وتشارلز ساندرز بيرس[26]، عندما يتعلَّق الأمر بالحقيقة. وبكلمات جيمس: “إن الحقيقة … هي الطريقة الوحيدة في طريقة تفكيرنا، مثلما أن “الصِحَّة ليس سوى الوسيلة الوحيدة لتصرّفنا”، وقد جرّدت هذه العبارة من بلاغتها الخطابيَّة، لكي يكون جيمس صحيحاً في تقريبه الجيد للعمل بنجاح. فالنموذج العلمي صحيح، وفقاً لوجهة نظره الفضفاضة، إذا نجح في التسهيل والتمكين للأنشطة العقليَّة، سواء كانت إبيستولوجيَّة أم لا. وإذا كان نموذج كرة البلياردو من الحركة البراونيَّة يساعد العلماء على التنبؤ بسلوك جزيئات الغاز، على سبيل المثال، فإن النموذج يكون صحيحاً بشكل عملي، وأن زيف افتراض وجود جزيئات كرويَّة لا يهم. وهنا، يمكن التساؤل من جديد: هل هذا المفهوم للحقيقة أكثر ملاءمة للعلم، وأكثر ملاءمة للتعدّديَّة في المجتمعات الديمقراطيَّة؟
إنَّ الخطر، الذي يمثّله مفهوم “جيمس” المستوحى من الحقيقة، كما أراه، هو أنه مرن للغاية بحيث لا يستطيع مقاومة مدّ الوقت وجذره، وضغوط القوى الاجتماعيَّة، التي لا نهاية لها في العمل في مجال العلوم. بينما تتخلَّى رؤيَّة أخرى؛ مستوحاة من جيمس عن الحقيقة، في أن العلم يخبرنا بالحقيقة باسم نوع من النجاح غير مؤهَّل للممارسة العلميَّة. ولكن كيف يمكن التمييز بين الحالات، التي يتتبَّع فيها النجاح الحقيقة، من الحالات التي لا يحدث فيها ذلك؟ والأهم من ذلك، عندما يتعلَّق الأمر بمسائل مثل تغيّر المناخ، أو فائدة تطعيم الأطفال، أو التنبّؤات الاقتصاديَّة، يبدو أننا بحاجة إلى أكثر من مفهوم مخروطي للحقيقة من أجل التوصّل إلى قرارات علميَّة مستنيرة لا ترضخ للضغوط من جماعات الضغط القويَّة وأجندة الأنشطة السياسيَّة؛ باسم ما قد “يعمل”. ولكن قد يجيب أحدهم، كيف يمكن للحقيقة والتعدّديَّة أن تسيرا جنباً إلى جنب إن لم يكن من خلال اختيار مفهوم للحقيقة عن جيمس؛ إذا كنا نهتمّ حقاً بالحقيقة على الإطلاق؟
تعدّديَّة الحقيقة:
هناك طريقة أخرى للتفكير في الكيفيَّة، التي يمكن أن تسير بها الحقيقة والتعدّديَّة جنباً إلى جنب، دون التقليل من شأن الحقيقة بإخضاعها إلى حسابات ما هو جيّد بشكل عملي للمجتمعات، أو للأفراد، الذين يتشاركون في منظور علمي في وقت ما. أولاً، من الضروري فهم المصطلح الأساس المعروف بـ”المنظور العلمي” ومدى تأثيره على التعدّديَّة العلميَّة. في استخدامه الأصلي، كما قال به الفيلسوف رونالد جيري في عام 2006، فإنّ “المنظور العلمي” أقرب إلى مصفوفة كوهن التحكميَّة، أي أنها مجموعة من النماذج العلميَّة، بما في ذلك الأدوات التجريبيَّة ذات الصلة بجمع البيانات. ومن الناحية الأوسع، فالمنظور العلمي هو الممارسة التحكميَّة لمجتمع علمي حقيقي، في أي فترة تاريخيَّة محدّدة. وتشمل المعرفة، التي تنتجها، والموارد النظريَّة والتكنولوجيَّة والتجريبيَّة، والتي يستخدمونها، أو التي توجّه عملهم.
وهكذا، ففي الفيزياء، يمكن للمرء أن يتحدّث عن المنظور النيوتوني مقابل منظور أينشتاين، وفي الكيمياء، منظور بريستلي ضدّ لافوازييه، وفي الاقتصاد، الكنزيَّة مقابل المنظور النقدي، أو علم الوراثة الكلاسيكي مقابل منظور الوراثة الجزيئيَّة في علم الأحياء، وهكذا دواليك. إذن، ما الذي يمكن قوله عن مجموعة مزدهرة من المنظورات العلميَّة؟ الأمر الوحيد المؤكّد هو أن العلم يعمل من خلال إنتاج مجموعة من وجهات النظر. ومع مرور الوقت، يؤدِّي ذلك إلى تقدّم علمي، وهي عمليَّة وضع قبولها عن طريق التراكم في صورة أحاديَّة “للعلم الإيجابي”، لكن تعدّديَّة من المنظورات العلميَّة كهذه لا تحلّ مشكلة الحقيقة. على العكس من ذلك، فهي تدعو لبعث الأفكار المثيرة للقلق بأنَّ الحقيقة إمّا زائدة عن وجهات النظر العلميَّة، أو أسوأ من ذلك، نُسِبَت إلى وجهات النظر هذه، مما يستدعي أن يسأل المرء نفسه مرَّة أخرى: حقيقة من؟ وبمنظورات من؟
لقد حان الوقت، ربما، للدفاع عن الحقيقة العلميَّة. وهذا الدفاع يبدأ بالالتزام بإصلاح الأمور، التي هي في صميم البرنامج الواقعي، على الرغم من تصاعد التحدّيات الكوهنيَّة من تاريخ العلم، والاعتبارات حول النمذجة، والقيم في الممارسة العلميَّة المعاصرة. بالمعنى المختصر، فإن جعل المسائل صحيحة يعني أن كل الأمور، كما تقول النظريَّة العلميَّة ذات الصلة، أنها فعلاً كذلك. مثلاً، إن علم المناخ صحيح إذا كان ما يقوله عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وتأثيراتها على تغير المناخ، يتوافق مع الطريقة، التي تكون بها الأشياء في الطبيعة. ويمكن للمرء، من أجل مصالح اقتصاديَّة قويَّة، أو عواقب اجتماعيَّة سياسيَّة، أو ببساطة مبادئ اقتصاديَّة مختلفة، أن يحاول تخفيض، أو تخفيف، أو تعويض، أو تغافل، أو أن يتجاهل تماماً الطريقة، التي تكون بها هذه الأشياء في الواقع، لكن القيام بذلك هو التخلِّي عن الطبيعة القياسيَّة للالتزام الواقعي في العلوم.
إن العالم العلمي، كما رأينا، معقَّد للغايَّة، وفوضوي بدرجة كبيرة، بحيث لا يمكن تمثيله بأي صورة من صور الحقائق الذريَّة، ولا يمكن للصورة الساذجة للعلم الإيجابي لكونت أن تحقِّق العدالة. لكن الاعتراف بالتعقيدات والفروق التاريخيَّة لا يعطي أي سبب، أو مبرّر، لتجاوز الحقيقة تماماً. وهذا أقل بكثير مما نحتاجه لنتمكَّن من استنتاج أن العلم يتاجر في الأكاذيب بشكل ما. رغم أنه جزء من مسؤوليّتنا الاجتماعيَّة وضع الأمور في نصابها في مثل هذه الحالات الإشكاليَّة والفلسفيَّة.
إننا يجب أن نتوقَّع من العلم أن يخبرنا الحقيقة، لأن هذا ما يجب أن يفعله، من خلال التصوّرات الواقعيَّة للمعرفة. فالحقيقة كي تُفهم على أنها عمليَّة صحيحة، لأنها هدف العلم، ولأنها ما يجب أن تطمح إليه العلوم، أو أفضل العلماء، بافتراض أن الواحد منهم لديه ميول واقعيَّة. ومع ذلك، هذا ما يجب على العلم فعله بواسطة التصوّرات الواقعيَّة، التي تتقصَّد المعرفة عبر التجربة. وبالتالي، للحكم على النظريَّة، أو النموذج العلمي، كما هو صحيح، علينا أن نحكم عليه باعتباره “يأمرنا بالموافقة”. فالحقيقة، في النهاية، ليست مطمحاً ذاتياً، وإنما هي هدف مرغوب، ولكن ربما غير قابل للتحقيق، أو ربما هي نسج خيال في عقل العَالِم العامل، أو أسوأ من ذلك، كعبء غير قابل للدعم، ويمكن الاستغناء عنه في البحث العلمي. إذ إن الحقيقة، في نهاية المطاف، هي التزام معياري متأصِّل في المعرفة العلميَّة.
تُطْلِعُنَا القراءات المختلفة أنّ التجريبيين، والإيجابيين، والبراغماتيين، والنسبيين والبنّائيين، لا يتشاطرون نفس الالتزام، ولا يشاركون الواقعيَّة في أيَّة فكرة مناسبة عن “الصواب”. على سبيل المثال، قارن بين الالتزام المعياري لإصلاح الأمور من وجهة نظر الفيلسوف ريتشارد رورتي،[27] وبوتنام، ستجد أن الحقيقة، التي يلتزم بها بوتنام على أنها “ضمانة مبرَّرة للمثاليَّة” تتواضع إلى ما هو مقبول بالنسبة لنا كما نود أن نكون … “متعلّمين، متحرّرين، متسامحين، ليبراليين، مرنين، أي الناس الذين هم على استعداد دائماً لسماع الجانب الآخر، للتفكير في جميع الآثار”. إن وضع الأمور في نصابها الصحيح ليس معياراً لنا في أفضل حالاتنا، “كليبراليين ومتعلّمين، ومتحمّسين، ومتسامحين، ومرنين، إنه معيار متأصِّل في المعرفة العلميَّة. إنَّ المطالبة بتعلّم موضوع، أو مجال ما في العلوم، أو حول موضوع علمي، يتمثّل في المطالبة بصحَّة المعتقدات ذات الصلة حول هذا الموضوع، أو ذلك المجال. ولكن، قد يجيب أحد الناقدين على ذلك، بكيف يمكن لمعرفتنا، التي هي منظورة، ومتجذِّرة في ممارسات علميَّة محدّدة تاريخيّاً وثقافيّاً، أن تتبع مسار العالم؟ كيف يمكننا أن نتوقَّع بصدق الأشياء، التي نؤمن بها في العلم، على الرغم من كونها تقع في مجموعة من المنظورات العلميَّة؟ وبطريقة مختلفة، كيف يمكننا، نحن الوكلاء المعرفيين المعروفين تاريخياً وثقافياً، أن نبني بشكل موثوق المعرفة العلميَّة بمرور الوقت، على الرغم من الأخطاء المحتملة والخطوات الخاطئة للمنظورات العلميَّة الماضية والحاليَّة؟
بيد أن العلماء يطمئنّون إلى أن التفكير في الحقيقة كالتزام معياري متأصِّل في مفهوم المعرفة العلميَّة يجلب بعض الفوائد؛ إنه يتغلَّب على انقسام كاذب بين الحقائق الذريَّة والاستنتاجات غير الوقائعيَّة وغير الساذجة، ويجعل الواقعيَّة متوافقة مع المنظور. إن المجتمعات العلميَّة، التي تدعم وجهات النظر العلميَّة التاريخيَّة والثقافيَّة؛ سواء عبر تاريخ العلوم، أو في العلوم المعاصرة، عبر مختلف المجالات، أو البرامج العلميَّة المختلفة، تشترك، بل يجب عليها الالتزام المعياري لجعل الأمور صحيحة. هذا هو الحد الأدنى من المتطلبات لتمرير شريط ما نعتبره “المعرفة العلميَّة”. فقد كانت طريقة العلم، منذ القرن السادس عشر، هي محور النقاش المهمّ، وكان الأمل هو أن الأسلوب؛ إذا أمكن تحديده، يمكن أن يؤدِّي إلى استنتاجات ينبغي تقاسمها وتوصيلها والاتفاق عليها. لكننا تعلّمنا أنه لا توجد طريقة علميَّة واحدة، وبعض الوصفات السحريَّة صالحة دائماً، وفي كل مكان، عبر التخصّصات. بيد أن تعدّديَّة المنظورات العلميَّة ليست طريقاً مثالياً إلى نوع مثير للقلق من انصهار هذه المنظورات، وذلك بفضل الالتزام الواقعي المعياري، الذي يجب أن تتبنّاه منطلقاتها العلميَّة؛ وعادةً ما تتشارك في تعريفاته.
النتائج هي الدليل:
إنَّ العلماء يؤيّدون وجهات نظر علميَّة مختلفة، التي تؤكِّد على الصفة العلميَّة هنا، وذلك لتقويض أي تعبير محتمل يمكن أن يتداول غموض كلمة “منظور”، ولا يبني على حقائق التصوّرات، والتي قد يتطلَّب القيام بها بعض الاحتيال العلمي. ولكن، بدلاً من ذلك، يجب عليهم أن يتشاركوا في الالتزام بنفس النتائج المحكمة بالأدلَّة. وقد يعتمدون استراتيجيّات تجريبيَّة مختلفة، ونماذج متباينة، ونظريات متنوّعة، أو قد يؤيّدون قيماً متناقضة حول ما يهمّ حقاً في مجال معين. لكن النتائج المحكمة هي الدليل، الذي يجب عليهم في النهاية الاستجابة له. وذلك بالحصول على الأدلّة الصحيحة، التي يجري استنتاجها، في المقام الأول، عن طريق القياسات الدقيقة، والإجراءات السليمة، والاستراتيجيات القويَّة، والتي تحدّد أي برنامج بحث يستحقّ أن يسمِّى “علمي”. لذا، يجب أن يبدأ الالتزام الواقعي بإصلاح الأمور بشكل صحيح من خلال الحصول على الدليل الصحيح، إذ لا يوجد منظور يستحقّ أن يطلق عليه “علمي” يستبعد الأدلة، أو يقوم بغش، أو تغيير البيانات، أو تجاهل ما هو متوفّر من البراهين.
هذا مع العلم أن العلماء الذين يؤيّدون وجهات النظر العلميَّة المختلفة لا يلفّقون المعايير العلميَّة، التي يتمّ من خلالها تقييم ادعاءاتهم ومرونتها بمرور الوقت، لأن القيام بذلك من شأنه أن يؤدِّي إلى خطر التحيُّز، أو المناورة المتعمّدة. ومن هنا، فمن الواضح أن مفهوم “المعيار العلمي” معقّد ويجب على المرء أن يتعامل معه بحذر. ومع ذلك، وعلى العموم، وبدون أي افتراض بإنتاج قائمة شاملة من القياسات، يجب على العلماء أن يتشاركوا التزاماً بالمعايير العلميَّة الموحّدة. نعم، قد يختلفون حول ما يعتبر نظريَّة “أبسط”، على سبيل المثال، كإدخال بيانات جديدة مقابل تعديل قوانين الطبيعة، أو قد يضعون تركيزاً مختلفاً على دور الاتساق مقابل القوة التفسيريَّة، عندما يتعلّق الأمر بالنمذجة على مستويات مختلفة. ولكن يجب أن يتّفقوا على أن أي نظريَّة علميَّة قابلة للتطبيق يجب أن تكون قادرة على فهم الأدلَّة المتاحة على نطاق واسع، أي على غرار المعايير العلميَّة؛ ضمن العديد من القياسات العلميَّة الأخرى الممكنة.
لهذا، يجب على العلماء أن يتقاسموا القواعد العلميَّة من أجل التقييم عبر المنظورات، لأن معرفتنا تقع حيث مناط فهمنا للحقيقة، في حين أن المنظور لا يجعل الحقائق العلميَّة نسبيَّة إلى منظورات. وفي كثير من الأحيان، توفّر المنظورات العلميَّة نفسها قواعد للتقييم عبر غيرها من المنظورات. وهذه القواعد يمكن أن تكون بسيطة مثل ترجمة درجة الحرارة 10 مئويَّة سلزيوس إلى ما يعادل 50 درجة على مقياس فهرنهايت، أو يمكن أن تكون معقّدة مثل استرداد لزوجة سائل في الميكانيكا الإحصائيَّة، حيث يتمّ التعامل مع السوائل على أنها مجموعات إحصائيَّة لعدد كبير من الجزيئات المنفصلة. وفي أوقات أخرى، قد لا يمتلك العلماء بالضرورة قاعدة للمقاييس، إذا جاز التعبير، من أجل “ترجمة” ادّعاءات المعرفة من منظور علمي إلى منظور آخر. ففي هذه الحالات، نحتاج إلى شيء مثل ما أطلق عليه كوهن “ثنائيَّة اللغة”، بدلاً من الترجمة.
غير أننا تعلّمنا أنه حتى في الثورات العلميَّة الأصيلة، عندما تسقط التصنيفات القديمة، وتنتقل التصنيفات الجديدة غير المرغوب فيها، فإن الحقيقة ليست سلعة يمكن التخلّص منها بالنموذج العلمي القديم. إنّ نقاد كوهن، الذين شدَّدوا على الاستمراريَّة خلال فترات الأزمات والثورات العلميَّة، وأولوا الاهتمام بالفروق الدقيقة، التي تمرّ بها المفاهيم العلميَّة عبر القرون، لديهم نقطة هنا، أي أن التزامهم بإصلاح الأمور، عبر وجهات النظر، أو في الواقع، عبر الاضطرابات المفاهيميَّة الكبرى، التي تسمح للمجتمعات، قبل وبعد الثورة، بفهم بعضها البعض، والنمو في معارفها العلميَّة، بغض النظر عن مدى اختلاف وجهات النظر المحليَّة للعبارات الاصطلاحيَّة، التي يمكن فيها صياغة الادّعاءات العلميَّة.
لقد توصَّل غاليليو، في محاولة منه للهرب من محاكم التفتيش، إلى مفهوم جديد لثقافة الجاذبيَّة، التي في نهاية المطاف تقدَّمت المعجم الجديد من كوبرنيكيس على خلفيَّة الانتقادات، التي دامت قرن من الزمن لنظريَّة أرسطو في الحركة، والتي وضعها جان بوريدان[28] ونيكول أوريزم[29] في القرن الرابع عشر في باريس، وقَبِلَهَا من قَبل المعلقون العرب في العصور الوسطى على أرسطو، أو ما يسمى بـ”مدرسة بغداد”،[30] ودراسة الحركة المتسارعة.[31] وقد عرف أنطوان لافوازييه،[32] بالضحيَّة المأساويَّة للثورة الفرنسيَّة، كيف يستخدم مفهوم وزن الصيد القديم من أجل دفع نقده لنظريَّة اللاهندسة، وإدخال المفهوم الجديد للأكسجين، ودور جديد للكيمياء. لقد دخلت المعرفة الصينيَّة حول كيفيَّة استخدام الملح الصخري لصنع البارود أوروبا عبر طريق الحرير، وجعلت روبرت بويل وإسحاق نيوتن يتحقّقان من المحاولات التجريبيَّة المؤثرة للغاية حول “الهواء الدائم الحقيقي”، الذي يتمّ إطلاقه في الانفجارات، وقدّما برنامج بحث كامل لدراسة النار والكهرباء في الفلسفة البريطانيَّة والهولنديَّة الطبيعيَّة في القرن الثامن عشر، بالإضافة إلى استخدامه في فنون الألعاب الناريَّة. وكما جادلت ساندرا هاردينج في كتابها “الموضوعيَّة والتنوّع”، الصادر عام 2015، فإن المعرفة الميكرونيزيَّة حول أنظمة الملاحة لديها الكثير لتعلّمنا له اليوم.
خاتمة:
من هنا، يجب ألا يكون هناك أدنى شك في أن الحقيقة العلميَّة هي نتاج حصول البشريَّة، عبر تاريخها العلمي المتعدِّد الثقافات، على حقّ المعرفة. وبهذا، لا تُعدّ هذه الحقيقة العلميَّة امتيازاً للمنظورات الغربيَّة الخاصَّة بالانضباط المنهجي التجريبي، أو منظورنا الثقافي العربي بمساهماته النقديَّة المختلفة، بل هي نتاج تعدّد كل المنظورات العلميَّة المتمركزة تاريخياً وثقافياً في بقاع شتى من العالم، التي، على مدى آلاف السنين، أنتجت المعرفة بأدوات وموارد ومفاهيم صاعدة على التوالي، وأصبح نتاجها المعرفي متاح لكل واحد منا. والآن، تتعلَّم المجتمعات من العلماء وعبر وكلاء المعرفة، كيفيَّة تصحيح الأمور على مر الزمن، بالاطلاع وجهات النظر العلميَّة المتنوّعة والمتعدّدة؛ ليس لأن هناك حقائق كونيَّة صانعة للحقيقة في الافتراضات الذريَّة، ولكن لأن الطبيعة التصوّريَّة لمعرفتنا العلميَّة تشبه ما قاله فيتجنشتاين، وورد في مقدّمة هذا المقال، عن الخيط بقوله “نحن نلوي الألياف على الألياف. ولا تكمن قوَّة الخيط في حقيقة أن بعض الألياف تمتدّ عبر طولها، ولكن في تداخل العديد من الألياف”.
إنَّ العلم يحاول بناء معرفة حقيقيَّة بالنظر إلى كيفيَّة عمل العالم، لكن هناك أنواعاً أخرى من المعرفة، التي يطلق عليها الناس أيضاً مصطلح “الحقيقة” المتعالية. على سبيل المثال، يثق الكثيرون في الحقائق الروحيَّة، أو العرفانيَّة الميتافيزيقيَّة، أو الباطنيَّة الصوفيَّة، ولكن لا يمكن للعلم إجراء تجارب لفحص هذه الحقيقة على الإطلاق، أو حتى يخبرنا ما إذا كانت موجودة أم لا، ولكن يستقرّ في نفوس الناس عمق الإيمان بها. ويهتمّ آخرون بالحقائق الثقافيَّة، التي تعكس المعتقدات والقيم المشتركة لثقافة معيّنة، والتي لا يهدف العلم إلى بنائها، وإنما تُشكِّل اسقاطاته بعضا منها، وتثير اهتمام المختصّين فيها. وهذا الاهتمام لا يهدف لزيادة تعقيد الأمور، لأنه في بعض المجالات، قد تكون الحقيقة نسبيَّة، أو ذاتيَّة، ولكن الحقائق، التي يسعى العلم إلى بنائها، هي تلك العاكسة لطريقة عمل العَالَم الطبيعي فعلياً، بغض النظر عن وجهة نظر الفرد، الذي يرجو من العلم بناء معارف “دقيقة”، أو “موثوقة”.
ومع ذلك، وعندما يكون اختيار الحديث عن العلم، من المهم أن نتذكَّر أنه لكي يكون الإنسان مهتماً بالحقيقة العلميَّة، لا يتعيَّن عليه رفض مصادر أخرى للمعنى. إذ يرى العديد من العلماء والقادة الروحيّين والناس العاديّين، على حدٍّ سواء، معنى عميقاً في معتقداتهم الروحيَّة والعلميَّة. على سبيل المثال، كان فرانسيس كولينز،[33] عالم الأحياء المعروف والمدير السابق للمعهد القومي لبحوث الجينوم البشري الأمريكي، صريحاً بشأن توافق إيمانه في الأمور الروحيَّة ونظرته العلميَّة إلى العالم الطبيعي. وبالمثل، أكَّدت بعض المنظّمات الدينيَّة، مثل الفاتيكان، التي تستضيف مؤتمرات علميَّة لعلماء الفلك، وحتى تدير مرصدها الخاص، عدم وجود صراع بين العلم والدين، ويمكن أن تتعايش العلوم والقضايا الروحيَّة بسلام منتج. لهذا، فإن الحقائق العلميَّة هي النتيجة المرنة والقويَّة لتعدّديَّة المنظورات العلميَّة، التي، مع مرور الوقت، تتناغم مع بعضها البعض في التزامها المعياري الضمني، الذي غالباً ما يكون قادراً على التكيُّف في وجوده على قيد الحياة لإنتاج المزيد من المعرفة العلميَّة بشكل موثوق بالنسبة لنا نحن البشر. وهذا هو السبب في أن الحقيقة، بعيداً عن كونها عائقاً لا يمكن تحمله للتعدّديَّة العلميَّة، هي في الواقع تجد أفضل ضماناتها في مجتمعات متسامحة ومنفتحة وديمقراطيَّة ملتزمة حقاً بتقدُّم المعرفة العلميَّة في الوجوه الكثيرة، التي تواجهها الحياة الإنسانيَّة، ومطالبها، وتحدّياتها المختلفة.
السبت 25 مايو 2019، أديس أبابا، إثيوبيا.
* دبلوماسي، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، عمان، الأردن.
[1] ينظر فلاسفة النزعة العقليَّة والمثاليَّة؛ أمثال أفلاطون وديكارت، للحقيقة على اعتبارها تمتاز بالمطلقيَّة والثبات، لأن الحقيقة المطلقة هي المعرفة الشاملة والكاملة بالواقع، وهي مرادفة لما هو ثابت ومستقر، والحقيقة المطلقة هي أقصى ما يطمح الوصول إليه الفيلسوف، وأبلغ ما يستطيع بلوغه عن طريق العقل أو الحدس.
[2] يُعدّ لودفيج فتجنشتاين من أهم فلاسفة القرن العشرين؛ إذ إن فلسفتَيْه -المبكرة والمتأخرة – كانتا بمثابة تحوّل رئيسيّ في الفلسفة المعاصرة، أشبه بالثورة على الفلسفة التقليديَّة؛ حيث غيّرت من مفهومها ووظيفتها ومجالها، كما كان له بالغ الأثر على التيار الوضعي والتحليلي في القرن العشرين، ولو لم نُرد أن نقول إنه أعظم فلاسفة القرن العشرين، فهو على حد تعبير دكتور فتحي المسكيني: أعلى موجات التفكير في القرن العشرين.
[3] Joshua Howgego, Feature Editor, New Scientist, London, England. https://muckrack.com/joshua-howgego/articles
[4] كار ريموند كارل بوبر فيلسوف نمساوي حمل الجنسيَّة الإنجليزيَّة واختص في فلسفة العلوم، وهو واحد من بين أهم فلاسفة العلوم خلال القرن العشرين، كما كتب في الفلسفة الاجتماعيَّة والسياسيَّة على حد سواء.
[5] كيف تفكر في … المنطق؛ هل الجملة “هذه الجملة خاطئة” صحيحة أم خاطئة؟ إن الصعوبة التي تواجهها أدمغتنا هي التي تكمن في جوهر المنطق.
[6] ولد غاليليو غاليلي في 15 فباراي 1564، وتوفي في 8 يناير 1642، وهو عالِم فلكي وفيلسوف وفيزيائي إيطالي، ولد في بيزا في إيطاليا. أبوه هو “فينسينزو جاليلي” وأمه هي “جوليا دي كوزيمو أماناتي”، نشر نظريَّة كوبرنيكوس ودافع عنها بقوة على أسسفيزيائيَّة، فقام أولاً بإثبات خطأ نظريَّة أرسطو حول الحركة، وقام بذلك عن طريق الملاحظة والتجربة.
[7] نموذج مركزيَّة الأرض، والمعروف كذلك باسم المركزيَّة الأرضيَّة، أو النظام البطلمي، في علم الفلك هو عبارة عن وصف للكون حيث تكون الأرض عند المركز المداري لجميع الأجرام السماويَّة. وقد كان هذا النموذج هو النظام الكوني السائد والمسيطر في العديد من الحضارات القديمة، مثل اليونان القديمة. وبالتالي، فقد افترضت تلك الحضارات أن الشمس والقمر والنجوم والكواكب السيارة التي تُرى بالعين المجردة تدور حول الأرض، بما في ذلك الأنظمة الهامة، التي وضعها أرسطو.
[8] صدم نيكولا كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus عام 1543 الأرض والإنسانيَّة فيما يتعلق بمركز الكون المفترض حين لاحظ أنّ الأرض تدور حول الشمس وليس العكس. أفسحت عمليَّة الرصد تلك الطريق أمام ولادة المبدأ الكوبرنيكي (Copernican principle)، الذي ينص على عدم وجودنا في مكانٍ له خصوصيته في هذا الكون اللانهائي واللامركزي.
[9] “الفلوجستون” من المواضيع التي شغلت الكيميائيين أكثر من قرن من الزمان في القرنين السابع عشر والثامن عشر نظريَّة الفلوجستون، المليئة بالأوهام العلميَّة، والتي أخرت بعض فروع الكيمياء فترات زمنيَّة متفاوتة. وظهرت نظريَّة الفلوجستون لمحاولة تفسير عمليات الاحتراق والأكسدة في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر. وكان أول من تقدم بتفسير عمليات الإحتراق من الأوربيين هو يوهان يواكيم بيشر Johann Joachim Becher عام 1667 م، عندما أشار إلى أن الكثير من المواد التي تشتعل تحتوي على “عنصر موهوم من التربة القابلة للاحتراق Terra pingins”، ينطلق من المادة المحترقة عند الاحتراق تاركاً رماداً يدعى كالكس Calx. ثم جاء بعده العالم جورج إرنست شتال Georg Ernst Stahl فطور الفكرة وأسمى العنصر الموهوم بالفلوجستون Phlogiston ومعناه “اللهب المنطلق” في عام 1703. ونشير إلى أن العالم المسلم جابر بن حيان “أبو الكيمياء” هو أول من أطلق نظريَّة “علميَّة” عن اشتعال المواد الكيميائيَّة، أو احتراقها، قبل ذلك بنحو ثمانيَّة قرون، إذ قال أن جميع المواد المشتعلة تحتوى على “عنصر اشتعال”، ووصف عنصر الاشتعال بأنه صورة من صور الكبريت.
[10] جورج إرنست شتال، صيدلي وطبيب ألماني عاش بين 22 أكتوبر 1659، 24 مايو 1734. ولد شتال في مدينة آنسباخ، وبعد أن تخرج في الطب في جامعة يينا في 1683، أصبح الطبيب الشرعي ليوهان ارنست الثالث، دوق ساكس فايمر في 1687. من 1694-1716 شغل كرسي الطب في هاله، وعين بعد ذلك طبيب الملك فيلهلم الأول فريدريش بروسيا في برلين حيث توفي هناك.
عرف في مجال الكيمياء من خلال نظريَّة فلوجيستون. افترض ان كل مسألة لها قوة حيويَّة أو روحا من نوع ما. أحرق الخشب، وقام بعزو انخفاض كتلة رماد الخشب مقارنة بكتلة الخشب الأصليَّة إلى مغادرة القوة الحيويَّة، عند قتل الخشب في عمليَّة الحرق. استعيض عن هذه النظريَّة بنظريَّة لافوازييه انطوان. وقد انتقدت وجهة نظره تلك من قبل غوتفريد لايبنتز.
[11] بريستلي من بين عمالقة العلم عملاقاً بسببٍ كشفه الأكسجين. ولد جوزيف في 13 مارس عام 1733 في قريَّة صغيرة بجوار مدينة ليدز بإنجلترا . كان والده نسَّاجاً أو صوَّافاً فقيراً، توفي وترك ابنه يتيماً في السابعة، فكفلته عمته ونشَّأته في جوٍ من الفكر الحر، حيث كانت هي نفسها تنتمي إلى جماعة دينيَّة صغيرة تسمى “المنشقون”. أرسلته إلى أكاديميَّة معارضي الكنيسة الإنجليزيَّة؛ ليكون فيما بعد راعياً لكنيسة .وكان جوزيف دارساً كفئاً، أظهر براعة خاصة في اللغات، حيث أتقن – عدا لغة بلاده – الفرنسيَّة والإيطاليَّة والألمانيَّة والسريانيَّة، إلاّ أنه كان عيي اللسان على أيَّة حال.
[12] يعد أنطوان لافوازييه عالم كيمياء وفيلسوف كما عمل بالمحاماة في فرنسا كما له الكثير من الدراسات في علم الاقتصاد والإحصاء كما ينسب له تأسيسه لعلم الكيمياء الحديثة كما عمل على تطوير الكثي من النظريات وكان له تأثير مباشر على تطوير الكثير من النظريات في الكيمياء من خلال الرياضات.
[13] باس فان فراسين، عالم في الفلسفة العلميَّة في جامعة بريستون الأمريكيَّة.
[14] بيير دويم، هو عالم فرنسي عاش في الفترة ما بين 9 يونيو1861، و14 سبتمبر 1916. ويعد بيير دويم فيلسوفاً اختص في مجال فلسفة العلوم، إذ أنه أيضاً فيزيائي ورياضياتي ومؤرخ للعلوم. اشتهر دويم بأبحاثه في مدى لاحتميَّة الشروط التجريبيَّة، كما أنه درس التطور العلمي في العصور الوسطى، كما اشتهر أيضاً بكونه من أنصار مذهب الذرائعيَّة. لبيير دويم إنجازات أخرى في مجال جريان الموائع والمرونة والديناميكا الحراريَّة.
[15] توماس صاموئيل كوهن مفكر أمريكي أنتج بغزارة في تاريخ العلوم وفلسفة العلوم، كما أدخل إضافات وأفكار مهمة جديدة في فلسفة العلم. كان كوهن على قناعة أن العلم يتطور للأمام بشكل منتظم وتراكمي، لكن دراسته لتاريخ العلم سببت له ما يمكن أن نسميه “صدمة معرفيَّة”، حيث أن ما رآه عبر تاريخ العلم لم يكن بالتأكيد متوافقا مع تصوراتنا الساذجة عن تطوره. فتاريخ العلم مليء بالأخطاء والتناقضات والإشكالات المعرفيَّة، والأفكار التي تظل ثابتة على مدى زمني واسع ثم يتضح في النهايَّة أنها هراء كامل كالفلوجستون مثلا، كما أنه لا يتطور بشكل خطّي بسيط وإنما يشبه الأمر القفزات.
[16] آر جي نيوتن، “حقيقة العلم: النظريات الفيزيائيَّة والواقع”، مطبعة جامعة هارفارد، عام 1997، ص 83.
[17] تعد فلسفة نيلسون غودمان (1906 – 1998) في الفن، من أهم الفلسفات الجماليَّة في القرن العشرين، ويمكن اعتبار كتابه “لغة الفن”، الصادر عام 1976، من الكتب الرئيسة في التفكير الفني والجمالي وفي فلسفة الفن التحليليَّة. فهذا العمل النقدي والفلسفي يضع نفسه على مفترق الطرق من المسائل الأدبيَّة والتصويريَّة والموسيقيَّة، وينظر في الإنتاج الفني وفي آليات ترميزه: التمثيل، والتعبير، والتجسيد، الاقتباس، وما إلى ذلك.
[18] كامي سان صانز بالإنجليزيَّة Camille Saint-Saëns مؤلف موسيقي فرنسي وعازف أرغن ومايسترو وعازف بيانو من العصر الرومانسي.
[19] مارسيل بروست مؤلف روائي فرنسي يصنفه الكثيرون في خانة الروائيين العظماء خلال القرن العشرين. اشتهر بروست بأسلوبه السردي الذي أهمل فيه الحبكة الروائيَّة والأحداث لصالح شرح الراوي ووصفه لتجاربه في الحياة.
[20] وُلد هيلاري بوتنام في 31 يوليو 1926، في مدينة شيكاغو بولايَّة إلينوي الأميركيَّة، وهو أحد أبرز الفلاسفة في الغرب منذ ستينات القرن العشرين، وتتعلق أعماله بفلسفة الذهن وفلسفة اللغة وفلسفة العلوم.
[21] ولد العالم وليام بويل في أيرلندا عام 1627م، وبرع في عدّة مجالات كالفسلفة، والكيمياء، والفيزياء، وسجّل العديد من الاختراعات، ويعد من أبرز الذين عملوا في مجال دراسة الغازات وخصائصها، وهو أحد مؤسسي علم الكيمياء الحديث، وأهم روّاد الطريقة العلميَّة التجريبيَّة الحديثة، وقد ابتكر مضخّة هوائيَّة، ودرس العلاقة العكسيَّة بين ضغط الغازات المختلفة وحجمها عند ثبات درجة الحرارة في نظام معزول. ووضع أيضاً قانوناً يحمل اسمه، ويعد قانون بويل أهم الأعمال التي قام بها، بالإضافة إلى تعريف للعنصر بأنّه مادّة نقيَّة ولا يمكن تبسيطه إلى عناصر أصغر.
[22] أنتوني دو ميللو راهب وكاهن يسوعي هندي من مواليد مدينة بومباي 1931، درس الطب النفسي وعرف بمؤلفاته التي تتناول “الروحانيَّة”، وأمضى حياته، بعد انتهاء فترة تكوينه في الرهبانيَّة اليسوعيَّة، في إلقاء المحاضرات والرياضات الروحيَّة في العديد من بلدان العالم ولا سيما أمريكا التي أكثر من زياراته إليها في سنواته الأخيرة، وتميز عمله بمحاولته الجمع بين الثقافتين الغربيَّة والشرقيَّة.
[23] اشتغل الفيلسوف كريستيان إيتمان بفرع اللاهوت الذي يستخدم الأساليب الفلسفيَّة لتحليل المفاهيم اللاهوتيَّة، انظر اللاهوت الفلسفي . لفرع اللاهوت الذي يهدف إلى تقديم دفاع عقلاني عن الإيمان المسيحي، وغالبا ما تستخدم الأساليب الفلسفيَّة، راجع اعتذاري المسيحيَّة.
[24] جون ديوي (بالإنجليزيَّة: John Dewey) هو عالم نفس، ومُرَب، وفيلسوف أمريكي، من زُعماء الفلسفة البراجماتيَّة، ومن أوائل مؤسسي المدارس التجريبيَّة بأمريكا، ويُعد من أهم أعلام التربيَّة الحديثة عالميًا. وُلد في 20 أكتوبر سنة 1859 م بمدينة برلنجتون في ولايَّة فيرمونت، وتُوفي سنة 1952م.
[25] وليام جيمس William James (11 يناير 1842 – 26 أغسطس 1910) عالم نفسي وفيلسوف مثالي أمريكي من أصل أيرلندي، وشقيق الروائي الكبير هنري جيمس، وهو من الدعاة البارزين للذرائعيَّة[ر] (البراغماتيَّة) Pragmatism. تلقى العلم والفلسفة في معاهد وجامعات أمريكيَّة وإنكليزيَّة وفرنسيَّة وسويسريَّة وألمانيَّة حتى حصل على الدكتوراه في الطب من جامعة هارڤرد (1869)، وعيّن فيها أستاذاً للتشريح والفيزيولوجيَّة (1873)، ثم أستاذاً لعلم النفس (1875)، فأسس أول معمل لعلم النفس في أمريكة، ثم أستاذاً للفلسفة (1879) حتى استقالته عام 1907.
[26] شارل ساندز پيرس Charles Sanders Peirce سيميائياتي وفيلسوف أمريكي، عاش بين 10 سبتمبر 1839 و19 أبريل 1914. ويُعدّ مؤسس الفِعْلانيَّة، أو العَمَلانِيَّة، مع وليم جيمس. كما يُعتبر، إلى جانب فرديناند دي سوسير، أحد مؤسسي السيميائيات المعاصرة. وفي العقود الأخيرة، أعيد اكتشاف فكره بحيث صار أحد كبار المُجدِّدين، خصوصا في منهجيَّة البحث وفلسفة العلوم.
[27] ريتشارد رُورتي فيلسوف أمريكي. يُعدّ، إلى جانب هيلاري پوتنام، من أبرز مُمثِّلِي الفلسفة العمليَّة. كان له مسار طويل في أقسام التدريس المتنوعة: الآداب، والفلسفة، والأدب المقارن. انتمى في البدايَّة إلى تيار الفلسفة التحليليَّة، ثم نبذه فيما بعد. وأخصُّ ما تمتاز به فلسفة رورتي هو هذا التحوُّل الذي أحدثه في الفلسفة المعاصرة بعامة، والبراجماتيَّة بخاصة.
[28] ولد بورديان قرب آراس قبل عام 1300 وتلقى علومه ثم درس في جامعة باريس. وهو لم يعلل دوران الأرض اليومي حول الشمس فحسب بل إنه أسقط من علم الفلك المعارف الملائكيَّة التي نسب إليها أرسطو وأوكونياس مسار الأجرام السماويَّة وحركاتها وقال بورديان: “لا حاجة بنا بعد اليوم إلى تفسير حركاتها أكثر من أنها بدأت تتحرك أصلاً بإذن الله وبقانون قوة الدفع- أن أي جسم يتحرك يستمر في الحركة ما لم تمنعه قوة موجودة”. وهنا كان لبورديان فضل السبق على جاليليو وديكارت ونيوتن.
[29] استنتج نيكول أوريزم، الذي عاش حوالي ١٣٢٥–١٣٨، أن جميع الحركات نسبيَّة، وأنه من دون وجود نقطة مرجعيَّة يكون من المستحيل تحديد ما إذا كانت الأرض أم السماء تدور.
[30] نشأت المدرسة الفلسفيَّة في بغداد في أواخر القرن التاسع الميلادي، وازدهرت أعمالها في القرنَين العاشر والحادي عشر الميلاديَّين. وممَّا لا شكَّ فيه أَنَّ هذه المدرسة هي امتدادٌ لمدرسة الإسكندريَّة الفلسفيَّة. وقد انتقلت الرئاسة من تلميذَي المروزيّ أَبو بِشر متَّى بن يونس المتوفي عام 940 م ومحمَّد بن كرنيب إلى الفارابيّ ، المتوفي 951 م، ومنه إلى يحيى بن عديّ، الذي توفى 974م. وبعد وفاة يحيى انتقلت رئاسة المدرسة إلى تلميذ يحيى، أَبي سليمان السَّجستانيّ ، الذي توفى عام985م.
[31] تُعرف الحركة فيزيائياً على أنّها تغيّر يحدث لموقع الجسم من مكان إلى مكان آخر مختلف تماماً، وتقسم الحركة إلى ثلاثة أصناف أهمّها الحركة الدورانيَّة؛ التي تمثل دوران الأرض حول نفسها، والحركة الخطيَّة؛ التي تمثل حركة السيارة في طريق مستقيمة، والحركة التذبذبيَّة؛ التي يقوم بها النابض أو البندول، إضافةً إلى الحركة في اتجاه واحد؛ والتي تسمّى بالحركة المتجهة، وقد تكون بشكل أفقي أو عمودي أو إلى الجهة الشرقيَّة أو الغربيَّة، أمّا المسافة التي يقطعها الجسم خلال حركته فتُعرف بالإزاحة.
[32] كان أنطوان لافوازييه من أبرز عُلماء الكيمياء في القرن الثامن عشر بفرنسا، وقد اشتهر بمساهمته في اكتشاف أحد أهم العناصر الكيميائيَّة على الإطلاق، وهو الأُكْسِجين. كما تعرَّف على أهميَّة هذا الغاز ودوره في عمليَّة الاحتراق. ونتيجة لأعماله الاستثنائيَّة، قررت الحكومة الفرنسيَّة تعيينه للإشراف على إدارة الأسلحة والذخيرة، والعمل على إنتاج البارود تحديدًا. مع كل مجهوداته العلميَّة، إلا إنَّهُ خلال عهد الإرهاب الذي شهدته فرنسا عقب الثورة الفرنسيَّة، تم إدانة ثمانيَّة وعشرين فرنسيًا بجرائم ضد الدولة، وكان من ضمنهم لافوازييه الذي تم إعدامه، ثُمَّ تبرئته بعد موته.
[33] فرانسيس كولينز، طبيب وعالم الجينات الأمريكي المولود في 1950م. مسيرته ملأى بالأبحاث العلميَّة في مجال علم الوراثة والتي نال عليها عدد كبير من الجوائز المرموقة، بالإضافة إلى حصوله على شهادة الدكتوراه في الفلسفة.. وقد عرض فلسفته عن أصل الحياة في كتابه الشهير: لغة الله.
*المصدر: التنويري.