منتدى الفكر العربي؛ الاستمراريَّة والاستشراف
يصعب على المرء، خاصَّة مَنْ هو في وضعي، الحديث عن منتدى الفكر العربي من دون تحيُّز، ودون أن تكون شهادته مجروحة. غير أنني على يقين من أنَّ القرّاء الكرام، خاصَّة من أعضاء المنتدى، يتوقَّعون هذا التحيُّز، وربما يشيدون به كموقفٍ أخلاقي، بل ويوافقون عليه ويتبنّونه، تقديراً على رؤيتهم هم لهذه المؤسَّسة العربيَّة الفكريَّة الفريدة، وموقفهم المؤيد والداعم لها. إذ أن المنتدى، ومنذ تأسيسه في عام 1981، مثَّل ريادة فكريَّة في العالم العربي، وظلَّت مهمّته هي رصد الإيجابيات واكتشافها وتعزيزها، في مجالات الفكر والثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وملاحقة كل التطوّرات المماثلة والمتغيّرة في الحياة العربيَّة. ينشط في الحياة العامَّة بكل مجالاتها وأبعادها؛ يدير الحوار، ويرسِّخ القواسم المشتركة، ويعظِّم المنافع والفرص، ويجابه التحدّيات، ويحاول أن يدرأ بالفكرة المخاطر.
ورغم اختصاصه بقضايا الفكر، إلا أنَّ المنتدى لم يكن في يوم من الأيام برجاً عاجياً، أو محفلاً مغلقاً على صفوة أعضائه، أو نادياً موقوفاً على مشتركيه ومرتاديه، بل ظلَّ المنتدى بحقّ منبراً حُرّا للحوار المفضي إلى بلورة فكر عربيّ معاصر موجّه لحركة الحياة، وركّز في كل أعماله وأنشطته على تنظيم مصلحة الأمَّة الحاضرة والمستقبليَّة، وتمَّ تصميم أهدافه بحيث تراعي مطلوبات كل مرحلة وحكمة التدرُّج في ابتداع وسائل التأثير على السياسات العربيَّة الكليَّة. وإن كانت نشاطاته نخبويَّة جداً في البداية، فما القصد الأول إلا “الإسهام في تكوين الفكر العربي المعاصر وتطويره ونشره وترسيخ الوعي والاهتمام به”، وتلك لعمري من صميم واجابات النُّخب. فقد كان هنا التركيز على مجموعة من المفكِّرين العرب الذين يشكّلون بأعمالهم فكر النهضة العربيَّة، “لا سيما ما يتَّصل منه بقضايا الوطن العربيّ الأساسيَّة، والمهمَّات القوميَّة المشتركة، في إطار ربط وثيق بين الأصالة والمعاصرة.”
وكانت هناك ثلاث مجالات جديرة بالدراسة والبحث، تجلَّت فى آفاق العلاقات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، التي ينشغل بها المفكِّرون العرب. فوضعت في شكل محاور، تحرَّك فيها المنتدى جميعا، ولم يهمل أي منها في مسيرة عمله الماضية، وذلك لترابطها الذي لا ينفصم. وقد رتَّبت هذه المحاور في شكل قضايا تعلَّقت بالوحدة، والتنمية، والأمن القومي، والتحرُّر، والتقدُّم، التي يندرج تحت كل منها جملة من العناوين، والتي أمكن معاينتها، أو معالجتها، من خلال مؤتمرات وندوات وسمنارات وحوارات وبحوث ودراسات، ليس في الوطن العربي وحده، وإنما تمَّ تدارسها مع مجموعات الدول الأخرى، لا سيما الدول الإسلاميَّة والدول النامية؛ تعزيزاً للحوار وتنشيطاً للتعاون. وهي موضوعات متّفق عليها ولا خلاف بشأنها، تخدم المصالح المتبادلة، وإن تحدَّدت في نطاقات جغرافيَّة بعينها. وقد عمد المنتدى للتعاون بشكل وثيق مع كل المؤسَّسات، التي لديه معها اتّفاقيات، أو التي تواصل معها، في الوطن العربي وخارجه، بما في ذلك المنظّمات الإقليميَّة، لخدمة كل هذه المحاور وما يتَّصل بها من موضوعات.
بيد أن الشمول الذي سعت إلى تحصيله أهداف المنتدى، ضمن أجواء موضوعيَّة علميَّة منفتحة، قادها إلى السعي الجاد لـ”الإسهام في تكوين نظرة عربيَّة علميَّة نحو مشكلات التنمية التي تعالجها المنتديات والمؤسَّسات الدوليَّة”، رغبة في العمل المشترك وتبادل الآراء وتلاقح الأفكار، الذي ينتج النضج ويحقِّق التكامل، ويمدّ الجميع بعناصر القوَّة وإثارة الطاقات وتحريك الهمم نحو الاستجابة الفاعلة لمطلوبات صياغة النظام العالمي الجديد، ووضع العَلاقات الدوليَّة على أسس عادلة ومتكافئة.
وهذا لا يتأتَّى إلا بالبدء ببحث الحالة الراهنة في الوطن العربيّ وتشخيصها، كما ثبت في تعريف المنتدى، وأن يسعى المفكِّرون، عبر المنتدى وغيره من مؤسَّسات البحث العربيَّة، إلى صياغة الحلول العمليَّة وطرح الخيارات الممكنة والتركيز على استشراف المستقبل. فالعناية بالدراسات المستقبليَّة المتعلقة بشؤون أقطار الوطن العربي وعَلاقاتها الدوليَّة، هو أمر في غاية الأهميَّة، خاصَّة في ظل المتغّيرات والتحوّلات الماثلة اليوم. وإذا كان الاهتمام به قد تأثّر في السابق ببعض الظروف الموضوعيَّة التي مرَّ بها الوطن العربيّ والمنتدى، ما جعله يبدو كأنه أمر متروك، فإنَّ إعمال النظر فيه والعمل به اليوم ضرورة لا محيد عنها، بل ينبغي أن يكون الاستشراف هو قوَّة الدفع الأساسيَّة لنشاط المنتدى، الذي من شأنه أن يسهم في فهم متغيرات وتحولات مستقبلنا كأمَّة تصارع عوامل البقاء في عالم تتنوَّع وتتكاثف فيه التحدّيات؛ من مسائل الاجتماع والاقتصاد، إلى البيئة الطبيعيَّة، إلى أقضية الحكم والديمقراطيَّة، والمواثيق المطلوبة لتسوية الفضاء الاجتماعي، وضمان شروط العدالة فيه.
الاستشراف هو مدخل التخطيط الاستراتيجي، الذي قصد إليه المنتدى في أوَّل عهد إنشائه، ووضعه ضمن أهدافه، وهو يشمل مجموعة واسعة من المناهج التي تجمع بين التنبّؤ، والتفكير إلى الأمام، وإدارة التوقّعات، والتخطيط والتحليل الاستراتيجي، وتحديد الأولويات، والمشاركة، والربط بين العناصر المتشابهة، واستداراك العلاقات الجدليَّة بينها، واستخدام كل الأدوات ورصد التوجّهات. وذلك في تنظيم منهجي يُمكِّن من الاستفادة من أساليب وبرامج الاستبصار العلمي واسعة النطاق، والاعتماد على تقاليد العمل المرعيَّة في التخطيط على المدى الطويل، والتخطيط الاستراتيجي، ووضع السياسات والتخطيط الأفقي والرأسي، مستعينين بالمسوحات، وحلقات العصف الذهني، وعمل السيناريوهات المتعدِّدة، التي تشكِّل خطوة مرحليَّة على الطريق إلى خلق ما يمكن أن يعرف باسم الرؤى الإيجابيَّة للنجاح.
لقد أصبح مصطلح الاستشراف يُسْتَخْدَم على نطاق واسع في الدراسات المستقبليَّة لوصف أنشطة التفكير النقدي والإبداعي، فيما يتعلَّق بالتطوّرات على المدى البعيد، وجديَّة الجهد المبذول وإيجابيته لخلق حوار أوسع حول الديمقراطيَّة القائمة على المشاركة، والإسهام الفاعل في تشكيل المستقبل، خاصَّة من خلال التأثير على السياسة العامَّة، في كل قطر عربي على حدة، وإضافة إلى ذلك، ينبغي التركيز ضرورة استخدام معارف ووسائل الاستشراف أكثر وأكثر في التخطيط الإقليمي ومساعدة عمليَّة صنع القرار في الوطن العربي لدعم الإدارة الاستراتيجيَّة للمشروعات المشتركة، وتحديد مجالات عمل وتعاون عربي جديدة، وزيادة القدرة على الابتكار والإبداع، ومن ثم النهضة الشاملة المرجوَّة.
ونعلم أن الاستشراف هو مدخل التخطيط الاستراتيجي، الذي قصد إليه المنتدى في أوَّل عهد إنشائه، ووضعه ضمن أهدافه، وهو يشمل مجموعة واسعة من المناهج التي تجمع بين التنبّؤ، والتفكير إلى الأمام، وإدارة التوقّعات، والتخطيط والتحليل الاستراتيجي، وتحديد الأولويات، والمشاركة، والربط بين العناصر المتشابهة، واستداراك العلاقات الجدليَّة بينها، واستخدام كل الأدوات ورصد التوجّهات. وذلك في تنظيم منهجي يُمكِّن من الاستفادة من أساليب وبرامج الاستبصار العلمي واسعة النطاق، والاعتماد على تقاليد العمل المرعيَّة في التخطيط على المدى الطويل، والتخطيط الاستراتيجي، ووضع السياسات والتخطيط الأفقي والرأسي، مستعينين بالمسوحات، وحلقات العصف الذهني، وعمل السيناريوهات المتعدِّدة، التي تشكِّل خطوة مرحليَّة على الطريق إلى خلق ما يمكن أن يعرف باسم الرؤى الإيجابيَّة للنجاح.
وإن كان من أمر يشغلني، في بداية مرحلة قيادتي للأمانة العامَّة لمنتدى الفكر العربي، فهو تطوير خطَّة، بمشاركة كل المعنيين في الأمانة العامَّة ولجنة الإدارة ومجلس الأمناء وأعضاء الهيئة العموميَّة، نعيد بها صياغة الأهداف الأساسيَّة للمنتدى، بتحديد الآليات والوسائل في شكل مبادرات وأنشطة وفعاليات من أجل تنفيذ الرؤيَّة الاستراتيجيَّة الجديدة للمنتدى القائمة على فكرة المشروع النهضوي العربي.
ويقيني أن “بناء الجسور بين قادة الفكر وصانعي القرار في الوطن العربي”، هو هدف قائم ولازم، وبات أكثر إلحاحاً الآن أكثر من أي وقت مضى، لأن التعاون المقصود بينهم فيه خدمة صناعة القرار ودعم لرسم السياسات العامَّة، وتأكيد وتأمين للمشاركة الشعبيَّة في تنفيذها، خاصَّة بعد الثورات العربيَّة، التي جعلت من شعارات المشاركة مطلباً رئيسياً في توجّهاتها نحو التغيير وديمقراطيَّة الحكم. ولتتأكَّد بها كذلك رغبة صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال، رئيس المنتدى وراعيه، في ضرورة بذل جهد مضاعف لاستواء العلاقة بين المفكّرين وصانعي القرار العرب، وتوظيفها لخدمة الأهداف الكليَّة للأمَّة.
ورب سائل يتساءل ما هي الكيفيَّة التي يتمّ بها ذلك، والمنتدى قليل العدد محدود الإمكانات، ولكي يتَّضح القصد لا بد من وعي ناضج بضرورات التغيير، ونحن في المنتدى نعي ذلك ونتطلَّع إلى تحقيقه، بتحفيز وشحذ همم المفكرين والمثقّفين وصُناّع القرار ومشاركة الجميع، لأن المرحلة الراهنة، وما نستشرفه من مستقبل، لا بد أن ينبني على هذه الرؤى الإيجابيَّة، لأنَّ الهدف هو حاضر جديد، وجماهير جديدة، وحكومات عربيَّة عصريَّة، ومستقبل مشرق.
والله نسأل التوفيق والسداد.
(*) الأمين العام لمنتدى الفكر العربي
15 أغسطس 2013
*المصدر: التنويري.