ملاحظات حول آفاق استقبال توماس هوبز في ألمانيا
لقد أثار الإرث النظري، سواء السياسي أو المعرفي لتوماس هوبز العديد من الإشكاليات. وقد تمثلت أوجه الإشكالات التي طرحها عمل هوبز في طبيعة المباحث والقضايا الكامنة في نسقه الفكري، بحيث يمكننا اعتباره شخصية متفردة على عدة مستويات. وتظهر فرادته في التأسيس لما سمي بالفلسفة السياسية على نحو علمي، إذ استنبط مبادئ العلوم الرياضية والميكانيكة، وحاول من خلالها النسج على منوال استدلالها بغية إقامة فلسفة سياسية ذات طابع برهاني مقابل التصورات الأيديولوجية التي طبعت بصفة عامة تاريخ الفكر السياسي. كما أن هوبز أحدث نقلة نوعية في الفلسفة، وهو ما يدل عليه مشروعه الرامي إلى بناء الفلسفة وفق مبادئ علمية، وقد أثمر عمله علما مدنيا يهم الدولة.
سنحاول في هذه الدراسة مناقشة أحد المستويات التي خلفها عمل هوبز، وذلك بالوقوف عند مظاهر التأثير التي مارسها هذا الفكر في معاصريه أو في لاحقيه، سواء كانوا من شيعه أو من معارضيه، فما يعنينا هنا هو رسم حدود هذا الفكر والوقوف عند رهاناته. ومن ثمة رأينا الخوض في تجربة تحليل مقومات استقبال فكر هوبز والتعرض إلى أبعاد حضوره في السياقات الثقافية والسياسية المختلفة.
ومن هذه الزاوية نرى بأن قضية استقبال هوبز في الثقافة الألمانية قد اتخذت منحى متميزا. وهذا ما سيسمح للدراسات الخاصة بهوبز أن تنحت مسارا متفردا، الذي انعكس بشكل إيجابي على ميراث الرجل من حيث الغنى والتجدد في تأويل أعماله. نشير بأن علاقة ألمانيا بهوبز غالبا ما ترجع إلى زمن مبكر، وبصورة أخص مع هيغل Hegel. وقد أظهر هيغل نوعا من التقدير لبعض الأفكار المثبتة في مصنفي المواطن De Cive والليفياتان Leviathan. بالمقابل، لربما وجهت أحكامه لاحقا مسار دراسة فكر هوبز في ألمانيا، حيث أشار فيها إلى غياب البعد التأملي والفلسفي الصرف عنده،[1] وهذا ما يمكن أن يفسر انطفاء بريق جاذبية الاهتمام بهوبز في ألمانيا لردح من الزمن.
وفي هذا السياق، يمكن أن نحيل لمظاهر اهتمام هيغل Hegel بهوبز، من خلال استحضار قصة الصراع من أجل الاعتراف عند هيغل، بالخصوص في كتاباته التي دونها في مرحلة يينا Jena. وتتشابك هذه اللحظة، مثلما بين ذلك لودفيغ سييب [2]Ludwig Siep، مع نظرية حالة الطبيعة عند هوبز.
ضمن هذا الإطار، من شأن حكم هيغل تفسير هذه الحقيقة الفارقة، في كون طبيعة الدراسات الهوبزية داخل ألمانيا، قد تصدرها باحثون ينتمون إلى ميادين غير فلسفية! ومن رواد هذه الجماعة، عالم الاجتماع فردناند تونيز Ferdinand Tخerdinand TOاع ير فلسفية.؟,ة.؟,’داخل 07, p.طبيعة عند هوبزönnies، وكارل شميت Carl Schmitt المتخصص في القانون العام، وعالم الاجتماع هيلموت شيلسكي Helmut Schelsky. وعرفت سنة 1961 تنظيم ندوة مهمة، جمعت ثلة من الباحثين بمدينة بوخوم/نوردكيرشن Bochum/Nordkirchen، تحت إشراف ر. شنور R. Schnur، المتخصص في القانون العام، بالاشتراك مع المؤرخ ر. كوزيليك R. Koselleck.[3]
ونستطيع المجازفة من خلال القول بنشأة تقليد راسخ القواعد، عن الأبحاث الهوبزية في ألمانيا. يعتبر تونيز من رواده، إذ يمثل قطبا مهما في البحث الدولي المعاصر حول هوبز، وهو ما شهد عليه نشاط النشر الذي تولى الإشراف على إنجازه. ومثلما قال في حقه هاينز إلتنغ Heinz Ilting سنة 1971، بأنه قارب تقريبا كل القضايا، التي أضحت مدار اهتمام الباحثين اللاحقين على المستوى العالمي.[4]
وفي سياق خاص، اتسم بالصراع الإيديولوجي، وبروز الفاشية داخل العالم المعاصر، تأتي صلة كارل شميت بهوبز. استلهم شميت من قراءته لهوبز، دور الليفياتان في الانتصار على الحروب الأهلية الدينية، وتوخ من ذلك تفسير هوبز داخل سياقه التاريخي. وحذا المؤرخ ر. كوزيليك R. Koselleck حذو شميت، داخل النقد والأزمة Kritik und Krise، في 1959. ويعتبر هذا العمل بمثابة نقطة انطلاق لكل البحوث حول هوبز في ألمانيا، بحيث تظهر قيمته الحقيقية، فيما يصطلح عليه بالتأويل القاري لهوبز، بدل التوجه الأنجلوسكسوني، الذي طغى لردح من الزمن في الدراسات عن هوبز. ودشن هذا التأويل تصورا مغايرا حول مفهوم الدولة.[5]
ومن مظاهر استقبال هوبز في ألمانيا، تخصيص مجلة الدولة Der Staat لتقرير في عددها الأول الصادر سنة 1962، يحيط بميلاد الدراسات الدولية عن هوبز في ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية. وقد دأبت هذه المجلة، على نشر تقرير دوري، يهم وضعية البحث الدولي حول هوبز.
كما اتسم وضع استقبال هوبز في ألمانيا، بنشأة مدرسة ألمانية مختصة في فكر هوبز. وقد وطدت دراستين نشرتا داخل ألمانيا سنة 1970، دعائم البحث في هوبز. ترجع الدراسة الأولى إلى برنارد ويلمز Bernard Willms الموسومة بجواب الليفياتان Die Antwort des Leviathan، والثانية لكلاوس ميخائيل كودال Klaus—Michael Kodalle، تحت عنوان توماس هوبز—منطق الحكم ومبرر السلام Thomas Hobbes—Logik der Herrschaft und Vernunft des Friedens. يدين منهج ويلمز في دراسة Die Antwort بالكثير إلى ماكفرسون C. B. Macpherson. في حين، اتخذ تأويل كودال منحى لاهوتيا، وحققت دراسته صدى عالميا، إذ وقع اختيار النقاد الدوليين على هذه الدراسة من بين الدراسات المنجزة عن هوبز في ألمانيا.[6] وتظهر أصالة كودال في كونه اعتبر النظرية السياسية الماثلة في مصنف الليفياتان بكونها تشكل تفكيرا عميقا حول الإنجيل.[7]
وضعت بعض الدراسات، اليد على جوانب مستحدثة في تفكير هوبز. وتعتبر أعمال أرنو باروزي Arno Baruzzi وأولريخ فايس Ulrich Weiß أصيلة من ناحية المقاربة. فقد عمد أرنو باروزي إلى تقديم تصور مثير للاهتمام، حيث استند على نموذج السبرنيطيقا cybernétique في قراءة هوبز، وقدر بأن «هوبز تقريبا كان سبرنيتيقي cybernéticien قبل الأوان».[8]
[1] Collier Peter et Willms Bernard, Hobbes en Allemagne, traduction Philippe Vigier, archives de philosophie, Vol. 51, No. 2 (avril- juin 1988), p.240- 241.
[2] Siep Ludwig, Der kampf um Anerkennung.Zu Hegels Auseinandersetzung mit Hobbes in den Jeanaer Schriften, Hegel-Studien 9 (1974), in Hegel’s Philosophy of Right. Subjectivity and Ethical Life, by James David, Continuum International Publishing, 2007, p. 6.
[3] Collier Peter et Willms Bernard, Hobbes en Allemagne, Op. Cit., p. 241.
[4] Collier Peter et Willms Bernard, Hobbes en Allemagne, Op. Cit., p. 241.
[5] Collier Peter et Willms Bernard, Hobbes en Allemagne, Op. Cit., p. 243.
[6] Collier Peter et Willms Bernard, Hobbes en Allemagne, Op. Cit., p. 244-245.
[7] Julien Freund, review de Klaus-Michael Kodalle, Thomas Hobbes, Logik der Herrschaft und Vernunft des Friedens, Munich, Verlag Beck, 1972, 210 p., t. 20 de la collection « Münchener Studien zur Politik », in La REPRÉSENTATION, les études philosophiques, N. 1, (Janvier-Mars 1974), p. 119.
[8] Collier Peter et Willms Bernard, Hobbes en Allemagne, Op. Cit., p. 246.
*المصدر: التنويري.