مفهوم الفتوَّة عند طه عبد الرحمن؛فتيان فلسطين نموذجًا
مقدِّمة :
اتَّسمت القضيَّة الفلسطينيَّة بالديمومة والحركة، والتذبذب والتراوح، تارة تصمت وتخفت بفعل تستُّر الشأن الإعلامي وتكتُّم الرأي العام العربي والعالمي، وتارة تهيج وتفور نتيجة المقاومة الفلسطينيَّة التي يقودها صناديد يمسكون جمرة العزِّ والسؤدد في أيديهم مدافعين عن كرامتهم المتجذِّرة في وطنهم بنخوة وأنفة، وإذا شئنا أن نبحث عن جوهر القضيَّة الفلسطينيَّة فلن ننبش في زحمة التحوُّلات والتغيُّرات السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة التي تطرأ عليها، بل سننقِّب في أعماق القضيَّة عمَّا بقي سالمًا من كل تغيُّر، نسمِّيه جوهرًا، لأنَّه يبقى ” هو هو ” رغم كل التحوُّلات التي تتعاقب عليه وتخترق نسيجه ولا تمزِّقه، فماذا به يكون هذا الجوهر؟
1. فتيان الحجارة: الجوهر الذي لا يذبل
إنَّنا إذا بحثنا في وسائل الإعلام العربيَّة والعالميَّة عن المقاومة الفلسطينيَّة سنجد أنَّها تتحدَّث بشكل كبير عمَّا يسمَّى بـ ” فتيان الحجارة ” أو ” فتيان المقاومة “، وقد ارتبطت القضيَّة الفلسطينيَّة بهؤلاء الفتيان، إذ يذكرون وكأنَّهم أبطال يرتدون وشاحًا ولا تردعهم قوَّة ويستعملون الحجارة كسلاح للرجم والرشق، هؤلاء الفتيان أصبحوا رمزًا للشهامة والشجاعة، والجرأة والبسالة، ليس فقط في المواجهة المباشرة مع العدو، بل كذلك في مجابهتهم للمجتمع الدولي الذي ما فتئ يتواطأ مع المجازر والمذابح اللاإنسانيَّة في حقِّ الفلسطينيِّين.
لذلك أعلن الفلسطينيُّون موت الإنسان الذي يحمل في جوهره العقل والضمير والأخلاق والقيم الإنسانيَّة، وفي المقابل بعثوا إلى الوجود نموذجًا يتسنَّم إلى أعلى درجات التقدُّم والتحضُّر، وهو نموذج ” الفتى ” الذي ينطوي في جوهره على دلالات المقاومة والجسارة والدماثة والكبرياء والكرامة، وهي الدلالات التي تضمر أكثر ما تظهر، فقد ترى ” الفتى ” يرشق الاحتلال بالحجارة وترى أنَّ ذلك ينمُّ عن جسارة، لكن، الأمر ليس كذلك فقط.
إذا حلَّلنا فعل الرشق هذا لن نستشفَّ منه الجسارة فحسب، بل سنفهم منه أنَّه فعل مدفوع بعدَّة معاني مبطَّنة ترتبط بفوران المشاعر والأحاسيس وغليان الوعي والضمير أكثر ممَّا ترتبط بأسطورة العقل، فإذا تعلَّق الأمر بالوطن، فإنَّ فعل الرشق الذي نفهم منه جرأة الفعل ينضوي تحت معنى الكرامة، فالمساس بالكرامة الغائرة في الوطن لا يمكن أن ينتج عنه إلا المقاومة المسوقة بجسارة الفتيان، إذن فالجوهر الذي لم يلحقه أي تغيُّر هو الكرامة، وهو مغروس في لباب الفتى الفلسطيني يفعمه بروح الشجاعة والجسارة كصفات للجوهر، ومنه، فإذا مزجنا بين الجوهر والصفات فإنَّنا سنتوصَّل إلى مفهوم ” الفتوَّة “، وهو المفهوم الذي ما أحوجنا إلى ترسيخه وتدعيمه وإرسائه كمفهوم مأصول ومبتكر في الثقافة العربيَّة الأصيلة، وذلك عبر التربية الأسريَّة والمدرسيَّة، معوضين به مفهوم الإنسان كمفهوم منقول إلى الثقافة العربيَّة، لا سيما وأنَّه أصبح على حافة الاندثار وعلى شفا حفرة من الأفول. فما هي الفتوَّة؟ وما هي التربية على الفتوَّة؟ وكيف يمكن أن تتم؟
2. حول مفهوم الفتوَّة: إبداع عربي لدواء خسَّة الهمَّة في الأمَّة
تعني الفتوَّة في اللغة العربيَّة الشباب، والفتى في الأصل هو الشاب، فالفتوَّة هي القوَّة، وهذا يدلُّ على أن الفتى لا بد أن يكون قويًّا شجاعًا يتَّصف بالعزم والإصرار.
وارتبط مفهوم الفتوَّة أشدّ ارتباط بالثقافة العربيَّة، وفي ذلك قيل “إنّ نظام الفتوَّة من الأعلاق النفيسة التي خلَّفها أسلافنا العرب الأماجد، ومن الفضائل التي حازوا فيها قصب السبق، وحملوا فيها لواء الفضل، على من اقتدى بهم في هذا المضمار من الأمم والشعوب (… ) ومن آكد الواجبات على أبناء العرب الناهضين في هذا الزمان أن يحيوا مآثر أسلافهم، وينفضوا ما علق بها من الغبار، وينشروا لواءها، في جميع الأقطار، ليهتدي بها السالك على آثارهم، وتكون شهابا قامعا لمن يجحد فضلهم من أندادهم “.
والحق إنَّ فتيان فلسطين لم يصقلوا فقط مفهوم الفتوَّة نظريًّا، بل جسَّدوها في أسمى تجلّياتها في الطوفان الأخير واقعيًّا، وهذا ممَّا لم تشهده الأمَّة العربيَّة منذ الصدر الأول، وهي الأمَّة التي باتت تتخبَّط في متاهات التخلُّف والفداحة دياجي الجهل والفضاحة، في الوقت الذي يجب أن تتَّحد ضدّ الورم الذي مزَّق شرايينها والشأفة التي جثمت على عزيمتها وثبَّطتها، فتجعَّدت ملامحها وأصبحت كهلة بدل أن تكون فتيَّة، والمؤسف هنا هو أنَّ الأمَّة باتت تعيش حالة من الانصياع والخنوع والانبطاح، ما أخمد فيها شرارة الفتوَّة وأطفأ فيها شعلة النخوة، فأرداها عليلة سقيمة مشلولة لا تقوى على الحراك، وما أصاب الأمَّة قد أصاب شبَّانها، فبدل أن تذكى فيهم روح العزة والأنفة، وتوقد فيهم نار الفتوَّة سيرًا على هدي فتيان فلسطين راحوا ينشغلون بهموم مزيَّفة خارجة عن ذواتهم وقضايا مجتمعهم ومشاكلهم القوميَّة.
3. التربية الخلقيَّة على الفتوَّة: من الانخفاض إلى الانتفاض
لا ينحصر معنى الفتوَّة في القوَّة والنخوة فحسب، بل يمتدّ ليشمل مجال الأخلاق، فالفتوَّة خلق وتخلُّق، وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن وقال في ذلك: ” أصبح اسم الفتى يدلُّ اصطلاحيًّا على معنى أخلاقي صريح منذ زمن بعيد، ومن ثم تكون الفتوَّة عبارة عن تخلق”. وهي أشرف ما يمكن أن يبلغه المرء في التخلُّق، إذ هي الدرجة العليا التي تتشامخ على معاني الإنسان والرجولة والمروءة، وهي معاني التصقت بمفهوم الفتوَّة في الثقافة العربيَّة وفي الاصطلاح العربي، ويمكن أن ندرجها ضمن المترادفات، لكن هذا الترادف لا يصحّ إذا دقَّقنا في ثلاثة معطيات فجَّرها طه عبد الرحمن من معين الاختلاف الأخلاقي بين الفتوَّة من جهة والإنسان والرجولة والمروءة من جهة ثانية.
* يختلف الفتى عن الإنسان في كمال التديُّن الذي يعني الآثار الخلقيَّة التي يخلِّفها الدين فيه، فالفتى يعتبر التديُّن ضروريًّا ويلتزم بممارسته، وهو ما يمنحه تزكية في الأخلاق والهويَّة.
* يتميَّز الفتى عن الرجل بكمال القوَّة، فهو يعتبر أنَّ القوَّة صفة أصيلة فيه، وأمَّا الضعف والوهن والخمول والفتور فهي صفات لا تقترن بجوهره، فمن لا قوَّة له لا فتوَّة معه كما يقول المتصوِّف ابن عربي، وطبقًا لذلك، فلا فتوّة إلا مع وجود القوَّة التي لا تضاهى، وهو ما يمنحه ترسيخ الأخلاق والهويَّة.
* يتميَّز الفتى عن المرء بكمال العمل، إذ إنَّ أعماله تتَّجه إلى خدمة الغير، فيتحصَّل لديه خلق الإيثار والإخلاص، وهو ما يمنحه اتِّساع الأخلاق والهويَّة.
وتأسيسًا عليه، فإنَّ طائفة الإنسان هي الطائفة التي اختارت التطبيع مع العدو الصهيوني بذريعة مطالبتها بالسلام، فهذه الطائفة ليس في العقول أفسد من عقلهم، ولا في الهمَّات أخسّ من همّتهم، ولا في الهويَّات أدنس من هويّتهم، لذلك قرَّرنا منذ الأوَّل أنَّ نموذج الإنسان آفل نجمه وخافت نوره.
وأمَّا طائفة الرجولة فهي التي اختارت مقاطعة العدو الصهيوني لكنَّهم من جانب آخر يسلمون بوجوده من حيث يدرون أو لا يدرون.
وأمَّا طائفة المروءة فهي التي ترفض وجود العدو الصهيوني وتعترض على وحشيته، وتتصدَّى للأمر الواقع رغم مرارته فلا تقبله ولا تستمرئ الارتكان إليه ولا تستسيغ الخذلان الذي ينشأ من الاستسلام والتسليم، وتؤمن أنَّ الواقع يجوز أن يتغيَّر متَّى ما تغيَّر ما في النفوس من خوف وتوجّس وضعف.
أمَّا طائفة الفتوَّة أو الفتيان فهي التي اختارت ثم قرَّرت ورفضت ثم انتفضت ضدّ الكيان الصهيوني، إذ تحوَّل رفضها للواقع إلى طوفان بدل خذلان، وتحصل لدى الفتيان في سبيل الانتفاض والمقاومة في النزاع دحر أخلاق الانخفاض واستتباب المداومة في الصراع، فكانت هذه الطائفة رمزًا للشجاعة والشهامة كأخلاق قوّة، وإيثار وإخلاص وكبرياء وكرامة كأخلاق نخوة، مناهضين للهمم الخسيسة والنفوس العليلة بالذل والنذالة، والسفول والمهانة.
خاتمة:
إذن فالتربية الخلقيَّة على الفتوَّة هي تربية على الانتفاض على جهتين: جهة النقد بالتصريح والمواجهة المباشرة مع العدو في الأرض المقدَّسة لصونها من التدنيس، وجهة النقد بالتلميح والمجابهة غير المباشرة مع الغريم الصهيوني بالرغبة الجامحة في مناهضة الاحتلال والاستيلاء دفاعًا عن الكرامة. وما عدا هاتين الجهتين فهو من ضروب الانبطاح والانخفاض لا من ضروب الفتوَّة والانتفاض.
________
المصادر والمراجع:
1. عمر الدسوقي، الفتوَّة عند العرب أو أحاديث الفروسيَّة والمثل العليا، مكتبة نهضة مصر بالفجالة، ط 3، بدون تاريخ
2. الشيخ أبي عبد الله محمد بن أبي المكارم ( المعروف بالحنبلي )، كتاب الفتوَّة، مطبعة شفيق، ط 1، 1958
3. د. طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثانيَّة، 2006
______
*إبراهيم ماين: طالب باحث في المدرسة العليا للأساتذة بجامعة محمد الخامس بالرباط، المغرب.
*المصدر: التنويري.