هابرماس ومريدوه؛ محامون يرافعون دعمًا لمحرقة غزَّة! في كشف التزييف الثقافي الغربي
بعدما كان أملنا كييرًا في نخبة الغرب، وخصوصا الفنَّانين والمفكّرين، للصدح بصيحة زولا Emile Zola الشهيرة: أنا أتهم J’accuse التي كانت بمثابة الولادة الحقيقيَّة للمثقَّف L’intellectuel كحامل للمعرفة وملتزم بقضايا الإنسان. خاب هذا الأمل، أخيرًا، واكتشفنا، متأخّرين، حجم الوهم (الفلسفي) الذي طالما سكننا، ونحن نلوك الشعارات الجوفاء المزيَّفة التي يروِّجها الغرب لتنويمنا مغناطيسيًّا قصد إجراء عمليّاته الاستعماريَّة/الاستيطانيَّة بهدوء وأمان ونجاح.
الحقيقة المرَّة التي طالما واريناها بمساحيق حداثويَّة/أنوارويَّة زائفة اكتشفناها، أخيرا، فلاسفة الغرب وفنانوه وعلماؤه ورجال دينه… لا يختلفون عن جنوده، جميعهم آلة حربيَّة مدمِّرة تمارس هواية القتل، كل بطريقته ماديًّا أو رمزيًّا، والقتيل دائما هو الإنسان العربي-المسلم الذي صنعه المتخيّل الاستشراقي على مقاس الحروب الصليبيَّة، خصما/عدوا يجب استئصاله من ذاكرة التاريخ ومن خارطة العالم.
ندرك، جيدا، أنَّ الاستعمار الكلاسيكي قبل أن يكون عسكريًّا كان ثقافيًّا، والتجربة الفرنسيَّة تقدِّم نموذجًا على توظيف المثقفين في الحملات الاستعماريَّة، وهذا ينطبق على كل الدول الاستعماريَّة الغربيَّة، فقد كانت السوسيولوجيا الكولونياليَّة بمثابة حصان طروادة لدك الحصون الرمزيَّة للدول المستعمَرة، وذلك عبر إنجاز الدراسات الاستقصائيَّة، وجمع المعطيات السوسيولوجيَّة… كل هذا من أجل ترسيم الخطط وتمهيد الطرق أمام دبابات العسكر الاستعماري.
لذلك، كنا على وعي بأن المعركة معركتنا وحدنا، ولا يمكن التعويل على الصوت الثقافي من داخل المجتمعات الغربيَّة لأنَّه مختطف على يد عصابة المستشرقين، وهذا ما كان يلومنا عليه بعض درارينا المستلبين الذين اغتروا بالشعارات الحداثويَّة/الأنوارويَّة الجوفاء واعتبروها مبادئ ثابتة !!!
البيان/الموقف الذي أصدره هابرماس فيلسوف العقلانيَّة التواصليَّة! بمعيَّة ثلة من مريديه ( نيكول ديتلهوف، راينر فورست، كلاوس غونتر ) عن المحرقة الصهيونيَّة الجارية في غزة الفلسطينيَّة، يعتبر فضيحة بالمعيار السياسي قبل الأخلاقي، فضيحة يتحفَّظ على اقترافها العتاة من سياسيي اليمين المتطرِّف حفاظًا على ما تبقى لديهم من حياء! فما بالك بـــ (فيلسوف) يقدِّم نفسه مجدِّدا وناقدا للعقلانيَّة الأداتيَّة، ومقترحا للعقلانيَّة التواصليَّة كمخرج من مأزق رسملة الأفكار والقيم وتسليع الإنسان!
يقف المحلِّل الثقافي حائرًا، حقا، أمام حالة التطرُّف بوجهي عملته (مع#ضد) الذي ميَّز الفكر الألماني في علاقته بالمسألة اليهوديَّة. التيَّار النازي عبَّر عن نزوع يهود-فوبي عنيف وترجم ذلك، عمليًّا، عبر طرد اليهود من ألمانيا، وحرق من تبقَّى منهم في مشهد رعب لم يحدث إلا في (العالم الجديد) مع الهنود الحمر. لكن، في المقابل ظهر تيَّار متعصِّب لليهود داخل ألمانيا، وصل إلى حدِّ ربط الفلسفة الألمانيَّة بالدين اليهودي، معتبرًا أنَّ المنجز الفلسفي الألماني يهودي النزوع، وبما أنَّ الفسلفة هي تجسيد لرؤية العالم، بتعبير لوسيان جولدمان، فإنَّ العقليَّة الألمانيَّة يهوديَّة في جوهرها !
هذا التطرُّف، السياسي والفكري، لم يحسم مع الحرب العالميَّة الثانية وسقوط النازيَّة، بل تطوَّر إلى تطرُّفٍ أعنف حينما تمكَّنت النخبة اليهوديَّة المتحكّمة في صناعة القرار المالي والسياسي، في أوروبا وأمريكا، من استثمار المحرقة النازيَّة وفرض مواطنة خاصَّة لليهودي مؤطَّرة، تشريعيًّا، بقانون معاداة الساميَّة بتأويله الفضفاض الذي يضمن لليهودي مواطنة عالميَّة تتمتَّع بالحقوق على حساب الواجبات.
هذه الصورة المصغَّرة للمواطن اليهودي (العالمي) تمَّ تعميمها لتنتقل إلى الكيان اليهودي/إسرائيل، الذي يمثِّل بؤرة استعماريَّة غربيَّة على الأراضي الفلسطينيَّة المحتلَّة، حيث تمَّ فرض موقع سياسي خاص للكيان خارج حدود منطق القانون الدولي، فكل دول العالم تخضع لقرارات الأمم المتَّحدة باستثناء الكيان اليهود-صهيوني الذي يتمتَّع بحقوق خاصَّة ككيان مدلَّل يتمتَّع بكامل الحقوق ولا يلتزم بالواجبات.
لا يمكن فهم موقف/بيان هابرماس ومريديه ( نيكول ديتلهوف، راينر فورست، كلاوس غونتر ) الداعم للمحرقة، الصهيونيَّة في غزة الفلسطينيَّة، خارج منطق التطرُّف الألماني تجاه المسألة اليهوديَّة، وخصوصا وجه التطرُّف الداعم بلا حدود/بلا شروط للمواطن/الكيان اليهودي، وفي هذا الصدد لا يختلف هابرماس- الفيلسوف عن المستشار الألماني-السياسي، فقد رضعا معا من نفس الثدي حليب التطرُّف، وهما معا مرتزقان في صفوف المرتزقة الصهاينة الذين يذبحون ويحرقون الأطفال والشيوخ والنساء.. ليس بمنطق الواجب ولكن بمنطق العاهات النفسيَّة التي فضحها فريدريك نيتشه لمَّا هشَّم زجاجها العازل بمطرقته الجينيالوج-أركيولوجيَّة .
______
*د. إدريس جنداري- باحث في سوسيولوجيا الثقافة .
*المصدر: التنويري.