مراكز التفكير.. الواقع لا يتغيَّر بالمعرفة وحدها
في العالم العربي باتت مراكز البحوث أداة سياسية أو أداة للسياسيين يوجهونها حيث ما يبتغون تماما كما هو حال كثير من وسائل الإعلام العربية التي باتت تفتقد القدرة على الالتزام بالبعد المهني في كتابة الخبر ونشره في منافحتها عن الخط السياسي المرسوم لها.
لكن حتى في الغرب، فإن مزاجاً سياسياً ما يطبع أداء مراكز البحوث والتفكير Think Tank، التي باتت وسيطاً بين المعرفة والسلطة، كما يعرفها البعض، بيد أن ذلك يصعب أن يغيب بعدها الأكاديمي والتقني وانحيازها المعرفي عموما.
الإشكالية إذا لا تتعلق بالرغبة في إقصاء مراكز التفكير عن الحياة العامة بدعوى الحياد والاستقلال، ذلك أن هذين المصطلحين طالما استخدما وما زالا، كي تستقيل المؤسسات الأكاديمية من الشأن العام، وتتحوّل إلى مؤسسات إنتاج بيروقراطية، ويتحوّل باحثوها إلى موظفين معزولين، لا يلامس عملهم “الشارع” ولا يقترب من الرأي العام.
الفارق الجوهري بين مراكز البحوث العربية الكلاسيكية، وتلك التي تشتغل على الطريقة الأميركية “ثنك تانك” لا يتمثّل في بعدها عن السياسة/ السلطة/ الحزب/ رأس المال/ اللوبيات. فكلاهما (مراكز البحوث الكلاسيكية والثنك تانك) منخرط في الترويج لأفكار محدّدة، لكن بينما تسيّر السياسة الفاقعة المؤسّسات الكلاسيكية، فإن تبادلاً مدهشاً للمواقع والتأثير يتمّ بين السياسة والثنك تانك تجعل من المعرفة مساهماً في السلطة، ناقداً لها، مغذّياً لشرايينها، ومغيّراً لخرائط عملها وأجندتها وأولوياتها.
إنَّ الفرق كبير بين أن تقود المعرفة العمل العام وتساهم فيه، أو أن تقود السياسة المعرفة، حينها يبدو الفكر تابعاً والمنتج فاقعاً صفقاً، لأنّه يتوجّب أن تكون السياسات الحكوميَّة مقدّسة بنظر المركز البحثي الذي عليه الدفاع عن الوضع القائم، على علاته، بدل أن يكون مرآه الصادقة.
على أنّ فارقاً جوهريّاً آخر يمكن ملاحظته بين مراكز البحوث التقليدية العربية والثنك تانك يتمثّل في كون عمل الأولى ينتهي بمجرد نشر الكتاب الذي أعدّه باحث أو مجموعة من الباحثين.
أمّا في الثنك تانك، فيسبق نشر الكتاب/ ورقة العمل/ المقال وتعقبه سيرورة طويلة من العمل، تشمل الترويج والتسويق للأفكار التي يتضمّنها الكتاب/ المنتج عبر وسائل الإعلام والندوات والمؤتمرات والاجتماعات المفتوحة والمغلقة مع راسمي السياسات وصنّاع القرار.
من هنا تجد العلاقة وثيقة بين العاملين في مراكز التفكير الغربية ووسائل الإعلام، إذ تغذي الأولى الثانية بالمعارف والخبراء والمحللين كما أن هذه المراكز على صلة وثيقة بصانع القرار، إذا علمنا بأن 60% من مساعدي وزراء الخارجية الأميركان كانوا يعملون في مراكز تفكير.
في نظر الثنك تانك، فإنَّ المعرفة تعطي معناها إذا وجدت لها حقلاً تطبيقياً. ويغيّر هذا الاعتقاد، في العمق، ذهنيَّة وآليات الإنتاج البحثي، فيتمّ اختيار قضايا ذات طابع حيوي ومقاربتها عملياً. وفي أطر من النقاش الخاصّ والعام، وتسويقها كمنتج متميِّز يمكن أن يبدّل مساراً ويخلق فارقاً، ويتغيّر تبعاً لذلك طبيعة عمل الباحث، الذي يصبح أيضاً إعلامياً ومحللاً وموظّف علاقات عامّة وتسويق للأفكار البحثيَّة، فيما إدارات الثنك تانك لا بد وأن تضمّ قسماً خاصّاً للقيام بأدوار التأثير/ اللوبي، ترصد له ميزانيَّة مهمَّة.
في الواقع، لا يبحث العالم عن مؤسّسات بحثيَّة محايدة بالضرورة، لكنّه يتطلّع إلى مؤسّسات رصينة ومهنيَّة، تؤمن بأن الواقع لا يمكن تغييره بالمعرفة وحدها.
*المصدر: التنويري.