مدخل إلى تهويد القدس
التهويد هو عمليَّة نزع الطابع الإسلامي والمسيحي عن القدس وفرض الطابع الذي يسمَّى “يهوديًا” عليها. وتهويد القدس جزء من عمليَّة تهويد فلسطين ككل، ابتداءً من تغيير اسمها إلى (إرتس يسرائيل)، مرورًا بتزييف تاريخها، وانتهاءً بهدم القرى العربيَّة وإقامة المستوطنات ودعوة اليهود للاستيطان في فلسطين.
وقد بدأت عمليَّة التهويد منذ عام 1948م، وزادت حدّتها واتَّسع نطاقها منذ يونيو 1967م. وقد ارتكزت السياسة الإسرائيليَّة على محاولة تغيير طابع المدينة السكاني والمعماري بشكل بنيوي فاستولت السلطات الإسرائيليَّة على معظم الأبنية الكبيرة في المدينة، واتبعت أسلوب نسف المنشآت وإزالتها لتحل محلّها أخرى يهوديَّة، كما قامت بالاستيلاء على الأراضي التي يمتلكها عرب وطردهم وتوطين صهاينة بدلاً منهم.
يعدُّ التهويد الثقافي والإعلامي أحد المحاور المهمَّة في مخطَّطات تهويد القدس، ويمسّ هذا التهويد تراث المدينة بدرجة كبيرة ذلك لأنَّه التعبير الحيّ عن هويِّتها، لذا بات التراث هاجسًا يمسّ بصورة يوميَّة المقولات اليهوديَّة الدارجة حول المدينة، بل تحوَّل مؤخّرًا إلى قلق دائم لدى اليهود. وهم يحاولون من آنٍ لآخر الإجابة على التساؤلات المطروحة أمامهم حول تاريخ القدس وتراثها ومدى يهوديّتها. وللتهويد الثقافي والإعلامي صور شتَّى، منها التربوي، ومنها ما يمسّ مفاهيم ماهيَّة القدس وحدودها، ومنها ما يتعلَّق بتزييف الحقائق التاريخيَّة حول مدى قدسيَّة القدس لدى اليهود ومنها ما يمسّ حقيقة الهيكل وهل له مكان ثابت مقدَّس يجب أن يبنى فيه؟
تعتبر التربية عاملاً حيويًا في بثِّ الأفكار والمعتقدات لدى الشعوب. لذا كان اليهود حريصين على بثِّ ما يؤيِّد ادّعاءاتهم في القدس وفلسطين من خلال المناهج الدراسيَّة وقصص الأطفال ومن ذلك ما يروى في قصة (ديفيد الصغير) بصورة تغرس أصالة الوجود اليهودي حيث تروى القصة كما يلي (في ذلك العام، في أورشليم ـ القدس ـ كان ديفيد صغيرًا جدًا، عندما هدم الرومان وأحرقوا هيكل سليمان الرائع. بناءً على أوامر الإمبراطور تيتوس، قام الرومان بالقتل والنهب. وقطع جنودهم بسيوفهم القويَّة رؤوس الأطفال الصغار، ولم يتركوا إلا بعض الحجارة المنضدة والتي نسميها حائط البراق) وبما أن ديفيد الصغير يركض سريعًا، وهو كذلك يتمتَّع بالدهاء، فقد أفلت من الجلادين الرومان. ابتدأ اليهود الذين خرجوا أحياء بالانتشار في العالم، وهذا الهرب في كل يسمى الدياسبورا). (هاهم اليهود دون وطن، لكن ديفيد الصغير يقول العام القادم في أور شليم). (وبعد الرومان جاء الغزاة البيزنطيون، ثم الفرس، ثم الصليبيون الذين هم فرنسيون وإنجليز وألمان، وقالوا بأنهم هنا لتخليص قبر المسيح. كانوا يحملون صلبانا على صدورهم وعلى سيوفهم، كانوا رهيبين، فقتلوا كثيرا من اليهود. وليبرِّروا عملهم احتجُّوا بأنَّهم لم يميِّزوا بينهم وبين العرب. ولمدَّة طويلة جدًا كان الاحتلال التركي، وترك الباشاوات اليهود يقبلون حائط البراق، كما بنوا سورًا جميلاً حول أورشاليم، وما زال ديفيد الصغير دون وطن، لكنه يقول العام القادم في أورشاليم).
ولكن هناك بُعد آخر وهو إكساب الرؤية اليهوديَّة لمدينة القدس طابعًا علميًّا، وهذا يبدو من خلال نشاط الجامعات والمؤسّسات الإسرائيليَّة، فبالرغم من تسليم الأثريين اليهود بفشلهم في العثور على حجر واحد من أيَّة بناية تنسبها التوراة إلى النبي سليمان على الرغم من مرور عشرات السنوات من التنقيبات الأثريَّة الإسرائيليَّة المكثَّفة في العديد من المواقع بالقدس، إلا أنه لم يعثر على شيء ذي بال يؤكِّد يهوديَّة المدينة، وينسب اليهود حجرًا عثر عليه بالقدس، نقشت عليه أسماء الشهور بالحروف العبريَّة القديمة المشتقَّة من الأبجديَّة الفينيقيَّة إلى عصر النبي سليمان وحجر آخر تدلُّ نقوشه على نسبته للنبي حزقيا في قناة مياه خارج القدس. وقد أدَّت نتائج الحفائر إلى جوار الحرم القدسي عن الكشف عن ثلاثة قصور أمويَّة كانت مخصَّصة لإقامة الأمراء الأمويين الذين حكموا المدينة وهو ما مثَّل خيبة أمل كبيرة لدائرة الآثار الإسرائيليَّة التي تخضع لها المنطقة حاليًا فضلاً عن خيبة الجامعة العبريَّة وجمعيَّة كشف إسرائيل التي قامت بالحفائر. وكانت الجمعيَّة السابق ذكرها دعمت برنامج بنيامين مازار الأستاذ في الجامعة العبريَّة والذي وضع مشروعًا للكشف عن الطبقات الدنيا من الهيكل في موضع الحرم القدسي الشريف وبالقرب منه، وهو ما أدَّى إلى هدم العديد من الآثار الإسلاميَّة في مناطق الحفر، ولم يعثر اليهود على أي أثرٍ يعتدُّ به يعود إلى عصر الهيكل المزعوم.
هكذا أتيحت لليهود وللباحثين عن الآثار وفقًا لما جاء في التوراة فرصة ذهبيَّة للبحث عن مملكة إسرائيل في القدس من خلال التنقيبات الأثريَّة، ولكن نتائج حفائرهم لم تؤدِّ إلى شيء ذي بال. بالرغم من هذا فهم يعطون مشروع إعادة بناء الهيكل اليهودي بعدًا علميًّا، فقد أصدرت الجمعيَّة الجغرافيَّة الإسرائيليَّة عددًا خاصًا من مجلتها العلميَّة سنة 1996 عن إعادة بناء الهيكل تضمن مقابلة مع مهندس يهودي حول عمارة الهيكل، وأبحاث عن الهيكل الأول والهيكل الثاني، وكذلك النماذج المعاصرة التي وضعت لبناء الهيكل في موضع قبَّة الصخرة، ودراسة أثريَّة مقارنة بين تصور هيكل هيرود وما هو موجود اليوم في الحرم القدسي وينسبه اليهود إلى عمارة هيكل هيرود مثل الأقصى القديم وهو سلسلة من عقود تمثِّل قبوًا أسفل المسجد الأقصى فضلاً عن حائط البراق. وصدور هذا العدد من مجلة علميَّة معترف بها في الغرب يوحي بجديَّة وأصالة الإدعاءات الإسرائيليَّة، بل ويستخدم هذا العدد كمرجع للمقالات الصحفيَّة والبرامج التليفزيونيَّة.
بل وامتدَّ الأمر إلى إقامة معارض أثريَّة تضمَّنت بعض ما نتج عن حفريات القدس ونسب إلى اليهود بطريق لي ذراع النتائج العلميَّة، وتسويق هذه المعارض سياحيًّا يصاحبها أدلَّة بلغات عديدة، وهو نوع من الدعاية الإعلاميَّة التي تأخذ صبغة علميَّة.
استعان اليهود بعلم الآثار كوسيلة لتدعيم تصوّراتهم حول القدس فاكتشاف الماضي يوفِّر عاملًا حاسمًا في بناء الهويَّة السياسيَّة أو تأكيد الحاضر، وهو ما يوفِّره علم الآثار لليهود، ولذا نراهم يحرصون على أن تكون جميع الرموز الوطنيَّة الإسرائيليَّة مستمدَّة من عناصر ذات طبيعة تراثيَّة، مثل شعار الدولة، والأوسمة والنياشين، وطوابع البريد والنقود.
على الجانب الآخر ما زال العرب مغيبين في مجال الدراسات الأثريَّة التي تتعلَّق بفلسطين خاصَّة في عصور ما قبل التاريخ التي يركِّز عليها اليهود حاليًا لإثبات وجودهم في فلسطين بصفة عامَّة والقدس بصفة خاصَّة. بل إن التركيز على تراث المدينة الإسلامي لم يخرج عن الحرم القدسي، ولذا بات من الملح الاهتمام بهذا المجال كجزء من الخطاب السياسي الإسلامي والعربي الخاصّ بالقدس، فوضع خريطة طبوغرافيَّة لتطوُّر عمران القدس من عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحديث أمر حيوي، خاصَّة إذا أردنا الحديث عن ملكيات الأوقاف الإسلاميَّة في المدينة التي استولت عليها إسرائيل. ومع توافر الوقفيَّات الأيوبيَّة والمملوكيَّة والعثمانيَّة التي توضِّح بالتفصيل الدقيق عمران المدينة في هذه العصور وملكيات الأراضي والمباني بها وبالمناطق المحيطة بها والتي أصبحت اليوم جزءًا لا يتجزأ من المدينة. إنَّ هذا العمل لا شك سيكون مفيدًا للباحثين وللسياسيين حين حديثهم عن المدينة كجزء من مقدَّسات وأملاك المسلمين التي لا يجوز التنازل عنها.
إننا نستطيع من خلال وثائق القدس وآثارها المعماريَّة الإسلاميَّة والمسيحيَّة التي ما زالت باقية إلى اليوم رسم صورة متكاملة للقدس في العصور المختلفة، وتحديد ملكيَّة أراضيها خاصَّة ما يقع في ملكيَّة الأوقاف منها. ومما يساعد على ذلك أن الوقفيّات وسجلات محكمة القدس الشرعيَّة تحدِّد حدود كل منشأه وأبعادها والطرق التي تقع عليها ومكوناتها والأراضي التي وقفت عليها إن كانت منشأه دينيَّة أو خيريَّة أو منشأه اقتصاديَّة تدرُّ ريعًا. إنَّ هذه الخريطة الطبوغرافيَّة التاريخيَّة ستساعد بلا أدنى شك في استرداد الأراضي التي استولت عليها سلطات الاحتلال الإسرائيلي. سواء في القدس أو في باقي أراضى فلسطين المحتلَّة . لقد فهم اليهود أهميَّة وثائق القدس فقاموا في 18 نوفمبر 1991م بالاستيلاء على بعضها من مبنى المحكمة الشرعيَّة في المدينة.
إنَّ التصوّر الإسرائيلي يطرح القدس وكأنها مدينة خالية من البشر والعمران، إحدى دور النشر الغربيَّة عكست هذا التصوّر حين نشرت كتاب ديفيد روبرت (الأرض المقدسة) وديفيد رحَّالة إسكتلندي رسم العديد من اللوحات لمصر وفلسطين بين عامي 1838 و 1839 وسجل مع هذه اللوحات انطباعاته عن الأماكن التي مرَّ بها. وإلى هذا الحدّ الأمر ليس فيه ما يثير أي تساؤل إلا أنَّ دار النشر التي أعادت نشر اللوحات عام 1990م وتعليقاتها تمرُّ دون أن ترفق بها سرد تاريخي للأب كروللي لا يمت لعلم الآثار بصلة قدر ما يمت بصلة قويَّة إلى الرائج من روايات وخرافات العصور الوسطى، ففي وصفه لا وجود للعرب وإنما هناك التسمية الخطأ التي يتعمَّد بعض الأوربيون استخدامها وهي (السرسيون) نسبة إلى السيدة سارة، ولا يرد ذكرهم إلا في سياق أنهم سبب معاناة المدينة المقدسة -القدس- تلك التي لا ترتفع معاناتها إلا مع سيطرة الصليبين عليها!
ويستند وصف الأمكنة إلى مخيلة كروللي المستمدَّة من روايات التوراة على الرغم من إثبات الدراسات الأثريَّة حديثًا شكوكًا واسعة حول صحَّة روايات التوراة حتَّى أنَّ العديد من علماء الآثار الغربيين بدؤوا يصرفون النظر عن اعتماد التوراة كمرجع للأبحاث الأثريَّة في فلسطين لتناقض ما جاء بها مع المكتشفات الأثريَّة الحديثة.
تصوّر لوحات ديفيد روبرت مشاهد من خارج المدن ولا تصوُّر الحياة داخلها، وغالبًا حين يصور البشر يصورهم في حالة استرخاء، وتظهر بلوحاته الأرض حول القدس على سبيل المثال وكأنها صحراء جرداء خالية من العمران والبشر، هنا تتقدَّم دار النشر لتقدِّم لعبة ذكيَّة لخدمة مقولة الأرض الخالية التي روَّجت لها الصهيونيَّة. بأن أرفقوا مع كل لوحة من لوحات ديفيد صورة فوتوغرافيَّة حديثة للموقع نفسه. وبالمقارنة يظهر الفرق الشاسع بين موقع يكاد يكون صحراويًا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وبين الموقع نفسه المحتشد بالعمران في أواخر القرن العشرين. توحي هذه المقارنة بالأيدي البيضاء للصهيونيَّة على فلسطين بصفة عامَّة والقدس بصفة خاصَّة.
الكتاب بهذا المعنى صورة أعيدت صياغتها لتلائم أغراض الحاضر الصيهوني كما يذكر الكاتب الفلسطيني محمد الأسعد، ليس لأن شروحات كروللي تشير إلى (أرض إسرائيل) قبل قيام دولة بهذا الاسم فقط، بل لأن المنحنى كله يود أن يقول أن الأرض الخالية التي شاهدها روبرت لم تعد خالية. وربما لهذا السبب عمد ناشرو الكتاب إلى تصديره بكلمة لعمدة القدس المحتلة تيدي كوليك، وإلى وضع خرائط للأرض المقدَّسة تطابق بين الجغرافيَّة الخياليَّة للتوراة والجغرافيا الطبيعيَّة لفلسطين. هذا الكتاب يمثِّل واحدًا من عشرات الكتب التي يتم بها تغذية الوجدان الثقافي الغربي، وهو نموذج صافي لنظرة ثقافيَّة غربيَّة لا ترى في المشهد الثقافي العربي غير مسار التاريخ التوراتي.
الصورة هنا صورة قدس جديدة رأى اليهود أن تشيع في العالم سواء من خلال الكتاب الذي يقدِّم مسار رحلة الحجّ التاريخيَّة إلى مسيحي العالم كما رآها رحَّالة في القرن 19، وكما رأتها دار النشر في القرن العشرين، هذه الصورة هي للقدس عاصمة إسرائيل الأبديَّة، التي سعى اليهود إلى تكريسها حتى أصبحنا نحن العرب نتقبَّل جانب من هذه المقولات كحقيقة صادقة لا تقبل النقاش، فالقول بوجود قدسين شرقيَّة وغربيَّة، أشبه بالهراء، إذ لا توجد سوى قدس واحدة، هي المدينة القديمة وضواحيها، التي هي عاصمة فلسطين المحتلَّة، ومنشأ شيوع هذا الخطأ السياسيَّين ووسائل الإعلام، إذ كانت القدس حتى عام 1917، ومنذ ذلك التاريخ بدأت الهويَّة العربيَّة للقدس في التغيُّر خلال فترة الانتداب البريطاني الذي منحته عصبة الأمم لبريطانيا في عام 1922 على فلسطين، وترتَّب على ذلك زيادة هجرة اليهود لفلسطين، وبدأت ديموغرافيَّة القدس في التغيُّر، وتضاعف عدد اليهود فيها في الفترة من 1917 إلى 1948 ليقفز من ثلاثين ألفا إلى حوالي مائة ألف بنهاية فترة الانتداب. اغتصب اليهود القدس على مرحلتين في المرحلة الأولى عام 1948 استولوا على القدس الجديدة وضمُّوا إليها المدن العربيَّة المحيطة بها، كان يسكن هذه المدينة فلسطينيون عرب ويهود، وقد سكنت الأغلبيَّة من أهالي القدس العرب في خمس عشرة ضاحية سكنيَّة في القدس الجديدة وامتلكت ثلاثة أرباع أراضيها ومبانيها، وكانت المناطق العربيَّة تفتقر إلى الحماية ولذا احتلَّت إسرائيل ثلاث عشر ضاحية منها وبذلك يكون من الخطأ أن نتصوَّر أنَّ اليهود في 1948 استولوا على الجزء الغربي اليهودي من المدينة بينما فرض العرب سيادتهم على الجزء العربي.
يرى اليهود في القدس مدينة مقدَّسة بالنسبة لهم، وواقع التراث اليهودي ينفي ذلك، فمن المعروف أن أسفار موسى الخمس لم يرد بها أي ذكر للقدس كمدينة مقدسة لدى اليهود، ولم تذكر القدس سوى في أربعة أسفار سفري صموئيل الأول والثاني وسفري الملوك الأول والثاني، ومن الواضح أنَّ استشهادات اليهود الحاليَّة جاءت من سفري صموئيل. وأكَّد علماء الديانة اليهوديَّة بأن هذين السفرين من تأليف النبي صموئيل نفسه والذي يعتبر آخر قضاة بني إسرائيل. ويوجد في السفرين ما يناقض فكرة كتابة صموئيل للسفرين المنسوبين إليه ففي الإصحاح 25 من سفر صموئيل الأول: (مات صموئيل فاجتمع جميع إسرائيل وندبوه ودفنوه في بيته) والمعروف أنَّ قصَّة بناء القدس ذكرت في السفر الثاني، فإذا كان صموئيل قد مات قبل أن يكمل السفر الأول فالسؤال الآن من أكمل السفر الأول وكتب الثاني بأكمله؟
وإجابة السؤال هي أن السفرين إضافات لاحقة أضيفت فيما بعد لخدمة الأغراض السياسيَّة القوميَّة لليهود، خاصَّة أن كتبهم المقدَّسة لعنت القدس كمدينة في مواضع عديدة.
كان اليهود قبائل من البدو الرحل وبالتالي لم يكن لديهم فكرة الاستقرار في مكان محدَّد وتشييد حضارة خاصَّة بهم فيه. ولم يعرفوا الاستقرار إلا عند دخولهم مصر، ولكن من الواضح أنَّهم احتفظوا بترابطهم القبلي في أثناء وجودهم في مصر، وعند خروجهم منها لم يخرجوا بمفردهم بل خرج معهم من آمنَ من المصريِّين بدعوة موسى عليه السلام، وخرجوا وهم محمّلين بالتأثيرات الحضاريَّة المصريَّة، وأثبتت الاكتشافات الأثريَّة أنَّ كتب اليهود تأثَّرت بشدَّة بالموروث القصصي والعقدي السابق لها سواء في مصر أو العراق.
هنا يجب أن نتوقَّف عند فكرة الهيكل لدى اليهود وهوبيت الإله ومكان العبادة الأساسي لديهم، فباعتراف اليهود البدو الرحل أنه لم يكن لديهم مكان عبادة مقدَّس ثابت منذ عصر موسى إلى عصر النبي سليمان عليه السلام. بل كانت لوحات الوصايا العشر توضع في تابوت كان يعرف باسم تابوت العهد، هذا التابوت خصّصت له خيمة عرفت بخيمة الاجتماع، ترحل مع اليهود أينما رحلوا، فأين القداسة هنا لأي بيت أسّس في القدس كما يرى اليهود. بل جاء تأسيس الهيكل ليكون المكان المفضَّل لوضع تابوت العهد وليكون بيتًا لرب اليهود نتيجة لتأثُّر اليهود بالحياة الحضريَّة في مدينة القدس. شيَّد سليمان الهيكل على قطعة أرض غير معلومة في القدس، بل حينما شيد الهيكل الثاني لا يوجد دليل قاطع على تشييده في موضع الهيكل الأول، وتاريخ بناء الهيكل في القدس هو تاريخ تحوُّل عبادة يسرائل البدويَّة المتجولة إلى العبادة القربانيَّة المركزيَّة. وهنا يجب أن نلاحظ أن اليهود أثناء السبي البابلي صاغوا العديد من الثوابت التي يؤمنون بها اليوم كأرض الميعاد، وقدسيَّة مكان الهيكل في محاولة منهم لمقاومة الذوبان في أرض المنفى في العراق.
بل إنَّ الهيكل تعرَّض للإهمال وصار موضع ازدراء من اليهود في مراحل تاريخيَّة لاحقة. تعرَّضت القدس للهدم مرَّات عديدة في التاريخ ممَّا يجعل من الصعب تحديد موضع الهيكل اليهودي بها. بل طرأ تغيير على العهد القديم في خلال فترة السبي البابلي يجعلنا نشكّ في كثير من المسلّمات اليهوديَّة اليوم. أثبتها عالم الآثار الأكادي فريدريك ديليتش من خلال سلسلة من المؤلّفات حول بابل والكتاب المقدَّس، انتهى فيها إلى اعتماد العهد القديم إلى حدّ ما على العقائد البابليَّة.
تعدّ إعادة بناء الهيكل واحدة من أهم القضايا الخلافيَّة بين اليهود الذين ينقسمون إلى صهاينة وغير صهاينة، فغير الصهاينة يعارضون فكرة العودة وبالتالي إعادة بناء الهيكل، أما الصهاينة فقضيَّة إعادة بناء الهيكل قضيَّة محوريَّة لديهم والمتطرّفون من الصهاينة يولون هذه القضيَّة أولويَّة شديدة، بحيث جعلت المنظّمات الصهيونيَّة هدم الآثار الإسلاميَّة الموجودة في هذا الموقع من أهمّ أهدافها.
وقد قامت عدَّة محاولات من جانب الجماعات الصهيونيَّة تستهدف تفجير الأماكن المقدَّسة الإسلاميَّة في القدس، أو حرقها، بل ضبطت محاولة لإلقاء قنبلة عليها من الجو، وهناك منظَّمة يهوديَّة تسمَّى (أمناء جبل الهيكل) التي يمولها المليونير الأمريكي المسيحي الأصول تري رازنهوفر، جعلت بناء الهيكل الثلث هدفها الأساسي. وقد أسَّست مدرستان تلموديتان عاليتان بالقرب من حائط البراق لتدريب مئتي طالب على شعائر العبادة القربانيَّة وهي الشعائر الخاصة بالهيكل. وإحدى هذه المدارس، معهد الهيكل (يشيفات هبايت)، وظيفتها الأساسيَّة محاولة التعجيل ببناء الهيكل. وقد بدأت هذه المدرسة في إعداد أدوات العبادة القربانيَّة التي يبلغ عددها 103، وضعت الأدوات التي تمَّ الانتهاء منها في متحف. وقد عقد في سنة 1990 مؤتمر يضمّ اليهود الذين يعتقدون أنهم من نسل كهنة الهيكل. ويوجد في فندق الهيكل في القدس مجسّم صغير للهيكل. وينوون أن يبنوا مجسّمًا آخر أكبر حجمًا يتكلَّف مليون دولار يتمّ جمعها حاليًّا من يهود العالم.
وقد قامت جماعة أمناء الهيكل بوضع حجر الأساس للهيكل الثالث في احتفال تحت إشراف رئيس الجماعة المدعو جرشوم سالمون. وقد حضر الاحتفال الذي جرى في منتصف شهر أكتوبر عام 1989، كاهن يرتدي ملابس كهنوتيَّة خاصَّة مصنوعة من الكتان المغزول باليد من ستة خيوط مجدولة تمّ إعدادها في معهد الهيكل. وقد استخدموا في الاحتفال بعض الأواني الشعائريَّة، وبوق الشوفار، وأدوات موسيقيَّة مثل الأوكورديون، أما حجر الأساس نفسه فحجمه متر مكعب، وقد قام حفاران يهوديان من القدس بإعداده دون استخدام أيَّة أدوات حديديَّة (كما تتطلب الشعائر) وقد حاولوا الوصول بالحجر إلى ساحة حائط البراق عند حائط البراق، ولكن الشرطة الإسرائيليَّة تصدّت لهم فحمل الحجر إلى مخزن الحفارين وأودع فيه. وتتجه النيَّة على زراعة حديقة حوله. ويساند جماعة أمناء جبل الهيكل بعض أعضاء المؤسَّسة الدينيَّة في إسرائيل.
ورغم هذا الانقسام بشأن إعادة بناء الهيكل فإنَّنا نجد أن بعض الأطروحات التي صنّفت في الماضي باعتبارها دينيَّة مهووسة ومتطرّفة، صارت مقبولة بل أصبحت جزءًا من الخطاب السياسي الصهيوني، أو ضمن برامج الأحزاب المعتدلة! ولذا فليس من المستبعد أن نجد جميع الصهاينة (الأقليَّة المتدينة والأغلبيَّة الملحدة) تؤيِّد كلها بعد قليل إعادة بناء الهيكل باعتباره أمرًا أساسيًّا للعقيدة الصهيونيَّة لا تكتمل بدونه. ويرى المسيحيُّون الأصوليُّون أنَّ بناء الهيكل هو الشرط الأساسي للعودة الثانية للمسيح. وهم ينظرون إلى قيام إسرائيل عام 1948 تأكيدًا لنبوءات التوراة حول نهاية العالم وإحلال مملكة جديدة مع المجيء الثاني للمسيح بعد عودة اليهود إلى الأرض المقدسة. وانتظرت المسيحيَّة الصهيونيَّة اكتمال خطة الرب بعد تأسيس إسرائيل، وبالتالي كان انتصار إسرائيل في حرب يونية 1967، واحتلالها لبقيَّة أرض فلسطين وبخاصة القدس، إضافة إلى أراض عربيَّة أخرى، تأكيدًا على أنَّ خطَّة الرب تكتمل وأن النبوءات التوراتيَّة تتحقَّق وأن نهاية التاريخ أصبحت قريبة وأنتجت المنظمة الأصوليَّة الأمريكيَّة العديد من الأفلام والبرامج التي تروج لهذه الرؤية. أبرزها ما رعى إنتاجه القس والواعظ الأمريكي التليفزيوني مايك إيفانز، ففي برنامجه الاستعراضي (إسرائيل: مفتاح أمريكا للبقاء) الذي كان يبث في 50 محطة تليفزيونيَّة عبر 25 ولايَّة، لمدة ساعة يوميًا، عام 1983، تحدَّث إيفانز عن أن الرب أمره بوضوح برعايَّة إسرائيل، ولذا قام بإنتاج هذا البرنامج الخاصّ بإسرائيل، وقال: “إنَّ إسرائيل تلعب دورًا حاسمًا في المصير الروحي والسياسي لأمريكا، كما أن تخلي إسرائيل عن الضفة الغربيَّة سوف يجرّ الدمار على إسرائيل وعلى الولايات المتّحدة من بعدها” ونشر إيفانز في ديسمبر عام 1983، إعلانًا في صفحة كاملة في صحيفة (نيويورك تايمز) جاء فيه “إن بقاء إسرائيل حيوي لبقائنا، وإن الإيمان بإسرائيل يعزِّز موقف الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة”. وأنتج فيلم عنوانه (القدس عاصمة داود) ربط فيه بين أمريكا وعاصمتها واشنطن والقدس.
إنَّ البعد الإعلامي الذي يحمل خطابًا حضاريًا نفتقده اليوم في مخاطبة الآخرين للتعريف بقضيتنا، بالرغم من إجادة أجدادنا استخدام هذا الخطاب في المدينة المقدَّسة القدس، فقد نجح عبد الملك بن مروان في ظل الصراع الدولي بينه وبين الدولة البيزنطيَّة من خلال اهتمامه بالمقدَّسات الإسلاميَّة في القدس في إيصال رسالة إعلاميَّة وحضاريَّة وتراثيَّة إلى الدولة البيزنطيَّة. ومازلنا إلى اليوم نستفيد من هذه الرسالة. ولكن لم ننجح في استيعاب الدرس الخاص بها. جاءت هذه الرسالة ضمن مخطَّط عبد الملك إعمار الحرم القدسي الشريف.
تعدّ قبّة الصخرة والحرم القدسي الشريف حولها أبرز العمائر التي تحمل مضامين حضاريَّة. يعود تشييد القبّة إلى العصر الأموي، الذي شهد نزاعًا حضاريًا بين الدولة الأمويَّة والدولة البيزنطيَّة على السيطرة على العالم القديم. واتَّخذ هذا النزاع صورًا متعدِّدة. منها تعريب طراز أوراق البردي التي كانت تصنع في مصر وتعريب للنقود في إطار سياسة رسمها عبد الملك بن مروان الهدف منها إرضاء الشعور الديني والسياسي للمسلمين، ورغبته في إعادة حقّ ضرب النقود إلى الخلافة في شخص الخليفة كمظهر من مظاهر الملك والسلطان بعد أن انتزع حقّ ضرب النقود كثير من الولاة والثائرين فكان الإصلاح النقدي سببًا هامًا في القضاء على الفوضى السائدة تحقيقًا للاستقرار السياسي، فضلاً عن أن النقد العربي الخالص يعبِّر عن سيادة الدولة وخروجها من تحت عباءة النفوذ الاقتصادي البيزنطي، لذا اتَّجه عبد الملك إلى الاستقلال الاقتصادي بتعريب النقود، فضلا عمَّا يتيحه هذا من توحيد النظام النقدي في دولة تمتدّ عبر مساحات شاسعة من الأراضي.
اتّجه عبد الملك بن مروان في إطار هذا المخطّط الشامل إلى العمارة التي ترمز إلى سيادة الدولة واتِّجاهها الفكري، ففي القدس تبنَّى مشروعًا ذا طابع سياسي ديني حضاري، يرتكز على الاهتمام بعمارة الحرم القدسي الشريف خاصَّة قبّة الصخرة والمسجد الأقصى، لارتباط هذا الحرم بالعقيدة الإسلاميَّة فهو أول القبلتين، وفيه صلى الرسول بالأنبياء وإليه كان إسرائه ومنه كان معراجه. ولما كانت عمارة الحرم آنذاك بسيطة لا تتناسب مع ما حولها من كنائس، خاصّة كنيسة القيامة المقدَّسة لدى المسيحيّين، ومع ما قد تحدثه عمارة الكنائس في نفوس بعض المسلمين، ورغبة عبد الملك في إثبات الهويَّة الحضاريَّة الجديدة للمدينة تبنَّى مشروع عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى.
ويلفت الانتباه من هذا المشروع قبّة الصخرة، أبرز آثار الحرم، فهي تعدّ أول عمل معماري واع لعظمته بل متباه بها، انتهى من بنائها عام 72هـ/692م. وهي ترى من مسافات بعيدة، وهي مبنيَّة فوق صخرة مقدّسة، حولها ممرين يدوران حولها بمسقط مثمن، شامخة في الهواء في مركز الحرم القدسي على تل من تلال القدس. وهذه القبة ذات التصميم الهندسي الذي يصل لحد الكمال والروعة كانت مزخرفة بالفسيفساء على كل سطوحها داخلاً وخارجًا، وكانت ومازالت تبهر الرائين حتى أنَّ كثيرًا منهم لم يملكوا أنفسهم من إضفاء كل صفات البريق واللمعان عليها، مهملين في الوقت نفسه، للأسف أن يخبرونا ماذا كانت تلك اللوحات الفسيفسائيَّة تمثِّل، ولا نستطيع أن نحكم على موضوعات فسيفساء القبَّة حكمًا كليًا لأن جزءًا كبيرًا من الفسيفساء الأمويَّة فقد، ولكننا نملك بعض الشواهد على هذه الموضوعات من فسيفساء الرواق المثمن الداخلي، يمكن عند ربطها بدقَّة بعمارة القبّة الانتهاء إلى الرمزيَّة السياسيَّة لها.
مخطَّط القبّة ليس غريبًا بالدرجة التي يبدو بها اليوم، يرى بعض المستشرقين وعلماء الآثار العرب أن تخطيط قبة الصخرة ذا أصل روماني يعرف بمخطط ضريح الشهيد، وهو عبارة الطواف حوله، وظيفته إذًا طقوسيَّة طوافيَّة. وهو لهذا السبب استعمل في الفترة المسيحيَّة المبكرة في بلاد الشام، وفي مجمل الأراضي البيزنطيَّة، في عمارة العديد من الكاتدرائيات المهمَّة، ككاتدرائيَّة بصرى في حوران التي ما تزال بقاياها قائمة إلى اليوم، وكنيسة القيامة في القدس نفسها، وهما الاثنتان تعودان إلى فترة الحكم البيزنطي في عهد جستنيان (حكم 527-565م). ولكن قبَّة الصخرة أكثر هذه المخطّطات توازنًا هندسيًا، وهي من دون أي شك قد قصد بها التمايز والتنافس مع قبّة قبر المسيح في كنيسة القيامة التي تطلّ عليها من أعلى جبل مورياه. ويرى الدكتور فريد شافعي أن تخطيط قبّة الصخرة لا يطابق أي تخطيط لنماذج العمائر البيزنطيَّة في منطقة بلاد الشام أو غيرها. بل هو تحوير واقتباس منها ليتفق مع الغرض الذي شيد من أجله البناء وهو أن يحيط بالصخرة، وهي البقعة المباركة التي عرج منها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء حين أسرى به ربه من مكة المكرمة إليها. ولذا فقد روعي في التخطيط أن يوفر غرض تعيين تلك البقعة، ثم غرض الطواف حولها للتبرك بها. وهو أمر يختلف تمام عن الذي شيدت من أجله تلك العمائر الدينيَّة البيزنطيَّة ذات التخطيطات المشابهة، التي عادة ما توجه نحو الحنيَّة، ولا تتعد فيها المداخل كما تعدَّدت في قبّة الصخرة، ومهما يكن من أمر، فإنّ تخطيطات تلك العمائر البيزنطيَّة ليست ابتكارات بيزنطيَّة أو سوريَّة، بل كانت في الأصل تخطيطات رومانيَّة دينيَّة سابقة، أخذت بدورها من أصول إغريقيَّة.
وتعدّ فسيفساء قبّة الصخرة من الناحية الحرفيَّة امتدادًا للفسيفساء البيزنطيَّة في بلاد الشام والدولة البيزنطيَّة، ولها العديد من الأمثلة في كنائس بلاد الشام والعاصمة القسطنطينيَّة، وأشهرها آيا صوفيا، وكنائس سالونيكا الإغريقيَّة، غير أن فسيفساء قبّة الصخرة ذات مواضيع معقّدة في أصولها وكيفيَّة اختيارها على المواضيع اللاتمثيليَّة، وتحصرها بالكتابات القرآنيَّة والتسجيليَّة وبالتوريق والزخارف النباتيَّة، بعض الأشكال الغامضة اليوم، والتي ربما تكون تحويرًا لتيجان ملوك ومستلزمات وظيفتهم من صولجونات ومجوهرات وما شابهها.
________
*الدكتور خالد عزب.
*المصدر: التنويري.