يقوم علم الاجتماع في مناهجه الميدانيَّة – وهو الشق العملي التطبيقي من علم الاجتماع- على دراسة الاجتماع الإنساني في كافة أنشطته ومجالات حراكه في بيئتها الطبيعية، كما هي في واقعها. وبذلك الجهد يؤدي أدوارًا غاية في الأهمية، وشديدة التنوع في نفسها أو على صعيد توظيفها فيما بعد. ولمعرفة شيء عن دور هذا العلم -وعلم الاجتماع كليةً-، يقول د/ قباري محمد إسماعيل، في كتابه المميز “مقدمة في علم الاجتماع” (صـ 23، طـ 1971، دار الكتب الجامعية): “إن المنهج السُّوسيولوجي (الاجتماعي) العلمي هو مشاهدة وتصنيف وتفسير. أيْ أن نظرية البحث السُّوسيولوجي إنما تبدأ أولًا بالوصف الدقيق، ثم التصنيف المُحكَم، وعقد المقارنات المضبوطة، ثم تحليل الظاهرات وتفسيرها، والتعبير عنها بلغة العلم والقياس، التي هي لغة الرياضة”.
وأرى أن مُخرجات علم الاجتماع -خاصةً في شقه الميداني- شديدة الإفادة في المنظور البَعْدِيّ؛ لأنها تمثل جانب الاستقراء -وإنْ كان الاستقراءَ الناقصَ-، أيْ أنها تمثل الاستدلال الصاعد، الذي يبدأ من ملاحظة ورصد ومشاهدة الظاهرة عن كثب في أرض الواقع، عن طرائق عدة؛ لتُقدِّم نتائج يستطيع رجل الفكر والفلسفة أن يعتمد عليها كعينات للتأمُّل الخالص، وصولًا إلى تكييف المجتمع الخاص، والاجتماع الإنساني العام، في تكامُل معرفي منسجم. فمتى أراد رجل الفكر أن يتأمل ما حوله، فلا بد أن يقف على ما حوله وقوفًا صحيحًا صادقًا -أو أقرب للصدق- أولًا.
ولعلَّ تتبُّعَ حركة المجتمع والخُلُوصَ إلى رؤية شاملة عميقة له؛ تقتضي الوقوف على أحوال الوحدة المجتمعية العُظمى؛ الأسرة. فهي محل دورة المجتمع، ومركزه في بنيته العميقة الأساسية (على خلاف مراكز أخرى مُلوَّنة بلون: مثل العمل والتعليم والترفيه، وغيرها من مناشط المجتمع). وفي هذا الصدد، طالعتُ بحثًا قيِّمًا استلفت انتباهي، تحت عنوان “التحولات الاجتماعية والاقتصادية، والمخاطر الاجتماعية الجديدة في الأسرة المصرية”، المنشور في مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، العدد 97، عام 2019م. للباحثة أ.د/ سحر حسَّاني بربري، عميد معهد “الأفروأسيوي”، في جامعة “قناة السويس”، بمصر.
البحث دراسة على عينة مجتمعية، اختارتها الباحثة في مدينة الإسماعيلية، منطقة “قنطرة شرق”. وقد اختارت هذه المنطقة خاصةً؛ لأنها تضمُّ الواقعين المجتمعيين: الحضري والريفي، ولا شك أن كثيرًا منها “حضريفي”. فكانت محلًا جيدًا لنقاش هذا الموضوع الهام، بما تحمله المنطقة من تنوع في صنوف الاجتماع البشري. وقد اختارت الباحثة 378 أسرة، لتمثل عينتها المجتمعية، تستطلع آراءهم وتستوفي أحوالهم من خلال استبيان. ثم عمَّقتْ البحث باختيار “جماعة بُؤريَّة” (جماعة مختارة يمثلون محلًّا خاصًّا للبحث والنقاش المستفيض)، تغوص معهم في أحوالهم في حوار مُسجل صوتًا، تستقصي أدق أغوارهم في الموضوع محل النقاش والبحث. ثم حلَّلتْ الباحثة نتاج العينة إحصائيًّا لتصل إلى نتائج غاية في الخطورة.
وقبل الولوج إلى النتائج، أنوه إلى أن البحث قد دار في أُفُق مفهومي يكشف عن طبيعته التفسيرية. ففي البحوث الاجتماعية، لا يتكامل البحث الميداني إلا بإطار نظري تفسيري، من دونه يظل البحث الميداني محض معلومات مبثوثة حُشدتْ في حيز واحد، تحت عمل إحصائي وحسب. وفي هذا البحث، دارت الأطر التنظيرية حول مفهومين. هما: “التحوُّل الاجتماعي” (هو التغيير العميق في بنية وهيكل المجتمع اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا…). والمفهوم الآخر هو “المخاطر الاجتماعية” التي نوَّهت إلى تغيرها المفاهيمي عن القديم. فقد كانت كلمة مخاطر تعني قديمًا الزلازل والبراكين والمجاعات، وغيرها من الأخطار الداهمة؛ ثم صارت -مع مجتمع العولمة- تتمحور حول المجتمع نفسه، وأحواله الاقتصادية والمعيشية؛ التي مثَّلَتْ لُبَّ المخاطر التي يتجشَّم الإنسان تبعاتها (مثل مخاطر المجتمع الصناعي، والبطالة، وانقطاع الدخل، وقصور التأمين الاجتماعي، وغيرها)، خلاف المخاطر الاجتماعية الجديدة في المجتمع ما بعد الصناعي (مثل خروج المرأة للعمل بكثافة، وتقلص أدوار الدولة مع التوسع في أدوار القطاع الخاص). خاصةً مع طغيان العولمة ورخاوة الدولة القومية.
كما استدعتْ الباحثة حال المجتمع أُسريًّا قبل حلول التحول الاجتماعي؛ فقد كانت الأسرة تتمع بمركزها الطبيعي في المجتمع، من كونها البنيةَ الاجتماعيةَ الأساسيةَ، وكانت محل الاحترام والتقدير. وقد امتازت بيئة العائلة التقليدية بعاملَيْ: توفُّر الموارد الاقتصادية، وبساطة الحياة. كما امتازت العائلة التقليدية بالتدرُّج العائلي المعروف، ووضوح المهام المُوزَّعة على الأسرة (رب الأسرة يعمل ويجلب دخلًا، الأم ترعى البيت وتُنشِّئ الصغار، الأبناء يسعون في اكتساب كل جديد في حياتهم). لكنَّ التحولَ الاجتماعيَّ (الذي تمثل في التغير السريع للمجتمع اقتصاديًّا وفكريًّا وثقافيًّا وقيميًّا) الحادَّ الذي تعرضت له الأسرة أدى إلى انقلاب أحوالها رأسًا على عقب، وتبدُّل كثير من النظرات المستقرة.
فما هي المخاطر التي أدَّتْ إليها أو جلبتها تبعات هذا التحول الاجتماعي؟
نجد نوعًا من المخاطر أصاب فكرة تشكيل وتكوين الأسرة في صُلبها وأساسها. فقد رصدت الباحثة تغيرًا في الرغبة في الزواج عند كثير من الشباب؛ نتيجة انخفاض الدخل، والظروف الاقتصادية الصعبة، وتنامي البطالة، وواكَبَ هذه الظروفَ تغيُّرُ ثقافةِ الأفراد التي نأتْ عن تكوين الأسرة. كما رصدت تغيرًا في متوسط سن الزواج، وتغيرًا ثقافيًّا في وسيط التعارُف بين الزوجين برز فيه استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. كما رصدتْ التغير في معايير اختيار الشريك، وتعاظم المعيار المادي في نظر كل طرف يُقبل على الزواج، يليه معيارُ الشكل والمظهر.
ثم نجد نوعًا من المخاطر أصاب شكل الأسرة ووظائفها. فقد رصدت الباحثة تراجع نمط الأسرة المُمتدة (الأسرة الكبيرة، وبيت العائلة، والترابط الضخم الذي في مخيلتنا من لفظ أسرة)، مع بروز نمط الأسرة النوويَّة أو الأسرة النواة (أسرة مكونة من زوجين وأبناء فقط)، وكذا نمط الأسرة ذات العائل الواحد (أسرة ذات أب دون أم، أو أم دون أب). كذا أكَّدتْ العينة المُختارة أن التغير الضخم في الوظائف الاقتصادية (بخروج الزوجة للعمل، وخروج الأبناء الكبار للعمل) أدى إلى تغيير في مسألة صناعة واتخاذ القرار -التي كانت حِكرًا على رب الأسرة في الصورة النهائية-. كما أدى عملُ الأبوين إلى تقلُّص دوريهما في التنشئة الاجتماعية للأبناء. كما أصاب التغيير علاقة الآباء بالأبناء.
ثم مخاطر أخرى أصابت قيم الأسرة وميثاقها؛ فتغيرت الكثير من القيم الأسرية (مثل تقديس الأسرة، واحترام الكبير، والطاعة، والشرف، والترابط الأسري). وهنا أوضِّحُ ربط الباحثة بين بروز هذه التغيرات القيمية وزيادة التقدم التكنولوجي في المجتمع -في حالتنا زيادة استيراد التقدم التكنولوجي-، والمُشكلات الاقتصادية الطاحنة التي تواجهها مجتمعاتنا.
وأخيرًا تأتي المخاطر التي ستواجهها الأسرة في المستقبل، وتمحورت حول مشكلات غاية في الخطورة؛ من مثل إشباع الغرائز خارج إطار الأسرة والزواج، وتزايد أشكال الأسر الشاذة، والصراع بين الأزواج، وكذا بين الآباء والأبناء، وانتشار الأسر ذات العائل الواحد، وتزايد معدلات الطلاق، والانخفاض العام في معدلات الأُسر لعزوف الشباب عن تكوينها.
وليس أصدق في التعبير عن هذه المخاطر والتحوُّلات الاجتماعية من قول أحد الأفراد في “الجماعة البؤرية” (وقد فصَّحتُ الحديث، فقد كان يتحدث بالدارجة المصرية): “الأخلاق والقيم والعادات هي أشد الوجوه تغيُّرًا. كل فرد الآن يفعل ما يحلو له، العيب والغلط والصواب والحلال والحرام معايير اختلطت بشدة. ساعاتٍ أفكر في مصير هذا المجتمع. لم يعد صغير يحترم كبيرًا، الابن يضرب أباه، والأب يقتل ابنه، الزوج يخون زوجته، كثُر الطلاق، وتشرَّد الأطفال. وإنْ استمر الحال فلن نجد أسرًا متماسكة”. ويا لها من نفثة مهموم صادق!
وقد عضَّدتْ الباحثة النتائج الإحصائية للعينة بكثير من النظريات الاجتماعية، والدراسات الاجتماعية، وبعض التقارير والبحوث المتعلقة بعينات بحثية أخرى، وبعض الأفكار والأطر الفلسفية، وبعض تفسيراتها الخاصة. مُركِّزةً على دور التغير الثقافي الذي أحدثته الثقافات الوافدة وعصر سيولة المعلومات، والذي غذى النفوس بالروح الاستهلاكية، ونمَّى لديهم المكاسب المادية على غيرها، مع تراجع ضخم لدور الدين والمفاهيم الطيبة التي تمتاز بها ثقافتنا الأصيلة، مثل مفهوم الجيرة والقرابة، وأواصرهما.
وهذا البحث يطلق صيحة نذير في المجتمع العربي (أقول المجتمع العربي لأن المجتمعات العربية روحها وكيانها واحد، بسبب وحدة المُشكِّلات، ووحدة التاريخ، ووحدة اللغة، ووحدة المصير)؛ صيحة تحذر من انهيار المجتمع كليةً، وخوائه الداخلي بانهيار وحدته البنائية الأولى والأهم “الأسرة”. علمًا بأن البحث قد أقيم على عينةٍ، الأصلُ أنها من المجتمع المُحافظ؛ فما بالنا بالعينات في القاهرة -مثلًا-! التي تتضاعف فيها المخاطر مراتٍ عن العينة المُختارة.
وإنْ طالعنا ما واجَهَنا به البحثُ من حقائق مريرة؛ سنجد أنها حصاد طبيعي للأُطُر الفلسفية التي أُدخل فيها المجتمع العربي عامةً منذ عقود. ولعلَّ أول إجراء أدخل هذا التغير الضخم فيها كان الانفتاح الاقتصادي، الذي تلتْه موجات عنيفة من التغيير الرُّوحي للمجتمع، حاولتْ أن تواكبَ الرأسماليةَ الشرسةَ خطوةً بخطوة، معتقدةً أنها طريق التقدم المجتمعي.
ومن حيث الفلسفة المحضة، فنرى من العينات آثارًا طافحة لتلك “النزعة الفَردانيَّة” التي تسرَّبتْ إلى المجتمع العربي مما تسرَّب إليه، كما نتلمَّس جميع آثار ما بعد الحداثة، من شيوع مجتمع القلق، وتصاعد الهوامش على المركز، وتوغُّل النظرة المُوحشة للاجتماع البشري، وتمحور حال الاجتماع البشري حول مبدأ المنفعة، والتحكم الكامل للنظريات الرأسمالية بإطارها الغربي الخالص في تدبير شئون مجتمعاتنا العربية.
ولا يمكن تحميل التأثير الخارجي كامل المسئولية، فإن هذه التأثيرات الضخمة صاحبها ضعف داخلي شديد، ساعد على أن تعصف بكل ثوابت المجتمع العربي، أيْ أننا سمحنا -لأسباب كثيرة- للآخر أن يؤثر فينا بهذا الضعف والتشتت وغياب الوعي الجمعي في المجتمع العربي.
إنَّنا نعيش مأساةً حقيقية في مجتمعاتنا؛ حيث نشهد مع الغرب في مرحلتنا الحالية، آثارَ كاملِ التجربةِ الغربية، مع أننا لم نحيَها معه، ولم نشهد كامل تجربته، بل صرنا نعاني ما يعانيه الغربيون دون أن نتنعَّم بما تنعموا فيه، ونَصْلَىْ تلك الآثارَ الكاسحة التي تأكله داخليًّا، ولم نذق رغده الذي ذاقه. إننا نعيش -رغمًا عنا- حصادَ ما زرعه وعاشه وتقلَّب في وجوهه إلى أن وصل به الحال إلى تلك الهيئة، فصرنا نتجرَّع سُمًّا لم نخلط حابله بنابله إلى أن تحول سمًّا، لكننا نتجرعه!
وبدلًا من أن نوالي تلك الرؤية الأصيلة لدينا -مثلًا في موضوع الأسرة المطروح للبحث-؛ والتي تخبرنا أن الزواج من أسرار المسيحية، وهو رباطها المقدس، وأن الزواج هو الميثاق الغليظ في الإسلام (وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) -النساء 21-، وأن الأسرة محلُّ السكينة والهدوء والثمرة الصالحة للمجتمع؛ أقنعنا أنفسنا بما اقتنع به بعض الغربيين، وبما قاله مفكر هنا وفيلسوف هناك، وبما طبقته بعض الأنظمة الغربية. في اتباع غريب لا ينم عن أقل درجات الاحتياط العلمي والفكري، ولا يتسم إلا بالجهالة والنقل الأعمى.
وأخيرًا، أقول إن من محاسن هذا البحث هو رُكُونُه إلى معطيات الثقافة الأصيلة للمُجتمع المُعالَج، واستدعاؤه تلك المركزية الذاتية، مع تخفف من الاتباع الأعمى لبعض نظريات اجتماعية أخرى. فرغم أن البحث وصفي في الإجراء؛ إلا أنه استبطن المعيارية في أقاصيه وأعماقه. كما أتوجه بالشكر للباحثة أ.د/ سحر حساني بربري على بحوثها التي تمتاز بمواكبة حركة المجتمع، والتعاطي المباشر مع القضايا الجديدة، والاقتراب من أي فاعل اجتماعي حادث. وأدعو إلى مواصلة تلك الجهود من غيرها من باحثي الاجتماع العرب، خُلُوصًا إلى علم اجتماع عربي، لا علم اجتماع يبدو عربيًّا وهو غربي محض.
*المصدر: التنويري.