حاوره : إسماعيل الفقيه
يرى المفكّر اللبناني محمود حيدر أنَّ أهم ما يطرحه هذا الحادث الكوني(الجائحة)، هو ضرورة نقل النقاش بين النخب الفكريَّة والأكاديميَّة من دائرة الجدل السلبي إلى فضاء الحوار الخلاَّق. والمسألة هنا تتعلق بالكيفيَّة التي تتوافق فيه الإنسانيَّة على ميثاق يحفظ وجودها واستمرارها في الحياة، وهذا يشمل عالم الأفكار والسياسة والاقتصاد فضلاً عن النزاعات السياسيَّة والحروب. في لقاء فلسفيّ حول الجائحة مع المفكِّر محمود حيدر، كان هذا الحوار:
س: كتبت على صفحتك الألكترونيَّة سلسلة مقالات تحت عنوان “علم الجوائح”، وهي من وحي ما أدَّى اليه وباء كورونا من تداعيات.. ما الذي قصدت به من هذه المقالات، وما هو الرابط بين جائحة كورونا وما يقوم عليه بنيان الحضارة الإنسانيَّة المعاصرة؟
ج: تداعت لي فكرة الكتابة عن “علم الجوائح” بعدما صار وباء كورونا جائحة عالميَّة. ثم لمَّا عظُم الجدل حولها، وخصوصاً حول ما إنْ كان منشؤها من نفس الطبيعة أو من فعل بشر، تضاعف همّ الفكرة لديّْ. وممَّا استثار أسئلة غير مسبوقة أن دولاً ومجتمعات لم تقدر رغم حداثتها الفائضة على فِّك لغز الجائحة، أو احتواء تداعياتها المهلكة.. فقد وجدت هذه الدول والمجتمعات نفسها وجهاً لوجه مع كائن غير عادي فاجأها على غير توقّع من علمائها وفلاسفتها ومفكّريها. ابل أستطيع القول من وجهة نظر فلسفيَّة إن كوفيد 19 بدا وكأنه “كائن فوق ميتافيزيقي” لأنه جاء من خارج حسبان العقل العلمي، ثم تجاوزت آثاره إمكانات هذا العلم، حيث لم يعد أمام العلماء والسلطات الصحيَّة سوى التحايل عليه للإفلات من براثنه. زد على ذلك، أن أثر الكورونا يأخذ اليوم سعة كونيَّة على نحو لم تشهد البشريَّة مثيلاً له. لذا لا يقتصر علم الجوائح في زمن الحداثة الفائضة، على استقراء وتحليل ما ينطوي عليه نظام الطبيعة من حوادث لا تزال عصيَّة على فهم مواقيتها كالزلازل والأعاصير والأوبئة، بل هو محاولة معرفيَّة تشتمل على مراجعة كل ما أنجزه الإنسان من معارف وعلوم على مدى قرون طويلة.
س: وباء كورونا، على ما يبدو، حشر الجميع في ما يمكن أن نسمّيه الربع الساعة الأخيرة من عمر البشريَّة.. بات الجميع في حال نزاع مع البقاء.. والسؤال هل سيستفيد الإنسان من هذا الدرس الوبائي لتأسيس ولادة جديدة تقطع مع كل ما سبق وتعيد إنتاج وجودنا الآدمي وفق شروط جديدة؟
ج- حين يقف علم الكونيات/ على عظيم ما قدمه للبشريَّة/ مرعوباً من كائن لا مرئي يجتاحه بلا هوادة… تتبدَّل الأحوال جملة: يصير العالم الذي كنَّاه غير العالم الذي نحن فيه الآن، والناس -كل الناس- باتوا على انذهال ما كان قبله انذهال. حتى أن علماء الكونيات لم يعد أمامهم – على ما يبدو- سوى التساؤل عما لو أن يداً خفيَّة حطّت بغتة على وجه الأرض، وأخفت عن ساكنيها سرّ غزوتها… تلك هي الصورة التي يمكن أن تختصر الحالة الذهنيَّة والنفسيَّة للإنسانيَّة المسكونة بهلع وجودي لم تعهده في حياتها. بل يمكنني القول إنه ربما للمرَّة الأولى في تاريخها تجد البشريَّة نفسها أمام سؤال الفناء والبقاء. طبعاً هذا السؤال المثير، كانت سألته الحضارات عندما كانت تخوض حروبها العظمى، كما سألته الفلسفة والعلوم الإنسانيَّة كافة على مرِّ التاريخ، إلا أنه ظل سؤالاً افتراضياً. أما اليوم فقد أصبح سؤال البقاء واقعياً لأنه يداهم الفكر والجسد والنفس بلا هوادة. لذلك فإن الإجابة عليه أمر لا مفر منه. لو نظرنا إلى المشهد الذي تعيشه البشريَّة هذه الأيام، لبدا لنا كيف تحوَّلت حياتها الحضاريَّة وحَيَواتِ أفرادها، على نشأة غير معهودة. كل شيء توقَّفت سيرورته حتى أوشك العالم كله على المبيت داخل كهفه البيولوجي، ولا يعرف كيف سيكون الحال لو توقف الفكر البشري عن نشاطه، وصار يشعر كما لو أنه على قاب قوسين أو أدنى من حافة القبر. أما بخصوص السؤال عما إذا كان الإنسان الحديث سيستفيد من هذا الدرس القاسي، فمن البديهي أن هذه الجائحة أحدثت ما يشبه الاضطراب في التفكير بالمصائب. وما لا بد من الإلفات إليه هنا، أن اللحظة التي يجب أن يختلي فيها العقل بنفسه وتحديداً العقل الغربي هي لحظة لم تَحن بعد. ذلك أن المركزيَّة الغربيَّة بصيغها النيوليبراليَّة لا تنفك تستغرق في غفلتها وربما ستبقى كذلك حتى بعد اضمحلال الجائحة.
س: وباء كورونا، أتراه سيعيد النظر في سؤال العقل نفسه منذ أرسطو إلى اليوم؟ وهل نحن مقبلون على ما يمكن أن يؤشِّر إلى تغيير ميثولوجي بات حتمياً في المسارات السياسيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة والاستراتيجيَّة المتعلِّقة بكوكبنا الأرضي المنهك والمتهالك؟
ج: ما كنت أتصوَّر اللحظة التي يجدُ فيها العقل الحديث نفسَه في مرآة نفسِه كمثل هذه اللحظة. ربما للمرة الأولى مذ تسيّد هذا العقل عرش التنوير في أوروبا قبل نحو خمسة قرون راح اليوم يستشعر خوفاً غير مسبوق على المصير. لقد بدا كأن خطباً جللاً يدعوه إلى الوقوف على خلل جوهري في تكوينه. غالب الظن أن جائحة كورونا ستنبِّه كثيرين ممن سوَّقوا ونظَّروا للعقل المحض إلى الخلل الجوهري في أصل تكوينه الفلسفي عندما أشاح ببصره عن الأصل الذي جاءت منه الموجودات. لقد ظن هذا العقل أنه يستطيع بواسطة العلم أن يحيط بكل شيء فيه. وقد ظهر حينئذٍ، كما لو أنه يثلم نفسه بملء مشيئته، من أجل أن يأنس بأمان إلى دنيا الممكنات وسحر ألوانها المبهرة. ربما لم يكن يدري أنه بفعلته تلك، سوف يدفع نفسَه دفعاً إلى كهف العزلة. ولمَّا حسِبَ انه أفلح بالميثاق الأعظم الذي سيتيح له فك لغز الوجود من خلال ثورته العلميَّة، وقع في تيه الانانيَّة وجنون العظمة.. لقد اخذته العزَّة بـ “أناه” حتى ظن أنه الإله الفائق الذكاء، الذي لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلا وقف على سرًها.. أو أنه الكائن الفريد المكتفي بذاته، وليس له بعدئذٍ من حاجة إلى من يسد نقصه متى استشعر النقص، ولا إلى من يمده بالاغتناء متى استشعر الفقر… منذ جناية أرسطو الأولى إلى جنايات الوَرَثة المحدثين، من الذين استطابوا الاستراحة الابديَّة في دنيا المحسوسات اتَّخذت هجرة العقل دربة غلوائها حتى استحالت “جائحة” تجري على غير هدى وسط عالم مسكون بالهلع…وليس من شك أن العقل الحديث بهذه الصفات قد تحوَّل إلى مصدر ينتج التشاؤم والقلق أكثر مما يوفِّر للإنسان سعادته المنشودة.
س: حتى لا يُفهم من كلامكم أنكم ذهبتم إلى ذمِّ العقل، لا بد إذن من إيضاح ما تقصدونه حين اعتبرتم العقل جائحة حضاريَّة تتساوق مع جوائح الطبيعة؟
ج: أشكركم على هذا السؤال الاستدراكي لأجل بيان مقصودنا. بالتأكيد ليس توصيفي لمسارات العقل في التاريخ الحديث يعني إنقاصاً من جلال العقل وجمال ما يختزنه من الحكمة ومحاسن التدبير. ما قصدته على وجه الضبط – هو الكيفيَّة التي استُعمِل فيها العقل لإعمار الحضارة الحديثة. بطبيعة الحال، فإن نقد العقل الأداتي للحداثة ليس أمراً مستجداً. فما ذهبتُ إليه لتبيين المعاثر التي استحكمت بالعقل الغربي الحديث له ما يؤيِّده في التراث الفلسفي النقدي في الغرب. كثيرون كتبوا عن معايب العقل الحديث وعجزه عن إدراك حقائق الوجود. من هؤلاء فلاسفة وعلماء اجتماع مثل هنري برغسون وإتيان جلسون وهنري كوربان وبول تيليتش ومارتن هايدغر وسواهم الكثير. في هذا الإطار يمكنني أن أشير بشيء من التوسع الإجمالي إلى ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي برغسون لجهة تركيزه على محدوديَّة العقل وعدم قدرته على إدراك حقائق الوجود. فالعقل عنده يبقى قاصراً عن إدراك ما يحتجب من هذه الحقائق إن لم يتجاوز ذاته. وذلك على أساس ان المعرفة العقليَّة هي معرفة نسبيَّة؛ ولأنها كذلك، فلن يكون بإمكانها أن تصل إلى إدراك ما يكون عليه الشيء في الواقع.
وللمزيد من البيان أقول، إن العقل في أصل نشأته وعلَّةِ وجوده، هو أوَّل الموجودات وأشرفها. بل يبقى العقل الذي ينفرد به الكائن الآدمي، هو السرّ الذي لا ينفك مصدر حيَرة لحامِلهِ منذ أول الخلق.. لكن محل الإشكال هنا، هو بالتحديد ما رسمه العقل اليوناني، وبخاصةٍ ما وضعه أرسطو من تأسيسات دنيويَّة للميتافيزيقا، حيث شكلت الفلسفة الحديثة تتويجاً صارخاً لها. أستطيع القول بناء على المنعطف الأرسطي واستحواذه على نظام التفكير البشري أن الحضارة المعاصرة بلغت الآن نقطة النهاية في “ماراثون العقل المنفصل” الذي افتتحه الإغريق، وختمته الحداثة. لقد بذلت الفلسفة مذ ولدت، وإلى يومنا الحاضر ما لا حصر له من المكابدات. اختبرت النومين (الشيء في ذاته)، والفينومين (الشيء كما يظهر في الواقع).. لكنها ستنتهي إلى معضلة العجز عن الوصل بينهما باعتبارهما يعودان إلى أصل واحد.. كانت أن العقل قاصرٌ عن اجتياز دنيا المقولات العشر، ولا ينبغي لهذا العقل معرفة ما وراء عالم الحس، لأنها معرفة مستحيلة. وعلى هذا النحو كان لأهل الفلسفة الأولى وورثتها من الحداثيين، أن يريحوا العقل من الانشغال بالمبدأ المؤسِّس للوجود ثم ليستغرقوا في لجّة لا قاع لها من الانهمام والعنايَّة بالموجودات الفانيَّة… هذا ما نلقّاه الآن من معاثر الحضارة الحديثة، لمّا غزاها الكورونا وهي في ذروة استعلائها واعتزازها بذاتها. اننا بالفعل أمام خيبة كبرى تدعونا إلى وصف الحداثة الفائضة، بأنها المشهد الأخير لحضارة العقل الحسير ومعاثره الكبرى؟
س: ما الذي تقصده من عبارة العقل الحسير، كوصف للعقل الذي انصدم بالوباء ولا يزال يقود ما أسميته الحداثة الفائضة عن حدِّها؟
ج- أعني بالعقل الحسير عقل الحداثة وما بعد الحداثة الذي أشعرته جائحة كورونا بقصوره الشديد عن التصدّي السريع لداء قد يقتلعها من جذورها. بهذا المعنى يمكن القول إن العقل الحسير هو الذي يعيش الحسرة حيال حادث كوني لم يدخل في حساباته ولم يستطع احتواءه. لكن التمظهر الأشد قسوة لغفلة هذا العقل الذي استراحت إليه الحداثة قروناً طويلة، هو أن “دابَّة الارض” التي ظهرت على حين بغتة، سوف تغلب دابة العقل المكتفي بذكائه… أشير هنا إلى أن الحكماء والعرفاء يرون أن العقل الذي يستغرق في دنيا معاشه هو نفسه العقل الذي يتحسَّر على ما كان أعرض عنه. أي الشيء الذي يشكِّل جوهره ومعناه وعلةُ كماله كموجود ينبغي أن يكون خليفة لله وسيداً على الكون.
س: أنىَّ تكن النتائج المترتّبة على الحضارة المعاصرة بسبب مباغتة كورونا، فهي تبقى الحضارة التي أسَّست للعقلانيَّة التي مهّدت بدورها للتقدّم العلمي، كيف ترون إلى هذا الاحتجاج على ما ذكرتم؟
ج- من أظهر الجنايات التي اقترفها العقل الحديث، اختراعُه لمذهبٍ حمّله اسمه ليكون ولياً على حياة الإنسانيَّة المعاصرة ومرشداً لها. يدَّعي اصحاب العقلانيَّة أن لديهم حُزمة كاملة من الإجابات الكبرى، على حُزمةٍ كاملةٍ من الأسئلة الكبرى: من السؤال لماذا كان الوجود وليس العدم، إلى الاستفهام عن الكيفيات المناسبة لإدارة المجتمع والدولة وحركة التاريخ، وعليه فقد عُدّت النزعة العقلانيَّة وفق الصورة التي ظهرت بها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر في الغرب، نسَقاً ميتافيزيقياً ناجزاً، بل إنها عوملت في أكثر المواضع والأحيان، كبديل من الدين. وللإيضاح أكثر أقول إن من مفارقات العقلانيَّة أنها تعاملت مع العلم كموضوع من مواضيع نشاطها الفكري. وضمن هذا المنحى تم الاستيلاء على مقاليد الثورة العلميَّة وتوظيفها لخدمة ايديولوجيتها الحاكمة على حضارة الحداثة برمتها. على هذا الأساس سنرى كيف اسَّست العقلانيَّة لسيادتها عبر قاعدتين ستمهِّدان معاً لانكشاف العقل الحديث وانفضاح معاثره الكبرى:
*القاعدة الاولى: اعتقاد العقلانيَّة بأن العلم والتفكير العلمي قادران لوحدهما أن يحدِّدا ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. وأن كل شيء يجب أن يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، أو أي فرع آخر من فروع العلم.. أما أمور مثل الإيمان بالغيب والنزعات الروحيَّة، بل وحتى الشعور بالجمال والحدس والعاطفة والاخلاق، فقد اختزلتها النظرة العقلانيَّة إلى مجرد متغيِّرات في كيمياء الدماغ الذي يتفاعل مع مجموعة من القوانين الميكرو- بيولوجيَّة المرتبطة بتطوّر الكائن البشري…
* القاعدة الثانية: تقوم على الاعتقاد بأن الغاية من تحصيل المعارف هي التحكُّم بالعالم الخارجي والهيمنة المطلقة على الطبيعة. وبذلك يصبح همُّ الغرب مركوزاً في العثور على الطريق الأمثل لتحقيق هيمنته وإشباع جوعه الضاري للثروة والتكاثر.. ولو حلّ الفساد في سماء أهل الأرض، وفي بحرهم وبرِّهم وما تحت الثرى..
أعود إلى القول، نحواً من أربعة قرون مرَّت على تسيُّد المذهب العقلاني. إذن، لنرَ ونحن في لجَّة الجائحة، ما النتيجة التي ترتَّبت على هذه التسيُّد الذي طال زمانه واستطال..؟؟ الحاصل أن النزعة العقلانيَّة على الغرب، ووضعت كل منجزاته العلميَّة والمعرفيَّة والتقنيَّة تحت سطوة سلطانها…وكان من حصاد هذا الاستحواذ أن انحكمت الحضارة المعاصرة بعقيدة صمّاء لا ترى إلى الإنسان، ولا إلى الطبيعة إلا بوصفهما حقلَ رمايَّة لعقل بات أدنى إلى دابَّة هائمة، “تثير الأرض ولا تسقي الحرث” ولا تركن إلى محراب آمن …..
س: دعنا نعطي شاهداً تاريخياً على ما أسميته جائحة العقلانيَّة، والتي أدَّت إلى ما يشبه الانفصام في الشخصيَّة الغربيَّة، أي بين القيم التي تحدَّثت عنها ثورة التنوير، والسلوك التاريخي للدول والحكومات التي ورثتها؟
ج: أعتقد أن من أظهر الشواهد على بهتان وتهافت الأطروحة العقلانيَّة هي “العقلانيَّة الاستعماريَّة. تلك التي انطلقت من مبدأ يقول إن غاية العقل تكمن بدوره في جلب المنافع لأصحاب هذا المبدأ نفسه. وهذه برأيي عقلانيَّة تجرّدت من القيم الأخلاقيَّة مع بديهيات حقوق الإنسان. اسمح لي هنا أن أشرح لكم هذا الإشكال بشيءٍ من التأنِّي: في الفكر الاستعماري الذرائعي يُنظَر إلى كلِّ ممكنٍ وواقعيٍّ بوصفه أمراً عقلانيّاً. يحصل هذا حتى لو كان مقتضى الوصول إلى الهدف إيذاء الغير وانتهاك حياضه السياديَّة. في العقلانيَّة الاستعماريَّة التي ارتكنت إلى العلوم الطبيعيَّة كمعيارٍ أوحَدَ لحل مشكلات العالم، تتجرد الذات الإنسانيَّة من كلِّ محتوى أخلاقيٍّ وسياسيٍّ وجماليٍّ. وما ذاك إلا لأن المهمَّة الجوهريَّة لهذه العلوم تقتصر في مناهج التفكير الاستعماري على الملاحظة “المحضة” والقياس المحض. ذلك بأن تحديد “طبيعة الأشياء” وطبيعة المجتمع جرى على نحوٍ يبرِّر “عقلانيّاً” الاضطهاد والاستغلال. هكذا لم تكن خرافة “الحروب العادلة” التي تحوَّلت إلى مقولةٍ سائدةٍ في العقد الأخير من القرن الماضي، إلا الدليل البيّن على هذا الضَّرب من العقلانيَّة المبتورة. لم تدرك الحداثة بسببٍ من غفلتها ومَيْلها المحموم إلى السيطرة، أن المعرفة الحقّة والعقلَ الحقَّ يقتضيان السيطرة على غلواء الحواس، والتحرُّر من قهر الغير والسيطرة عليه. المفارقة في “العقلانيَّة” المابعد استعماريَّة، أنها حين تُقِرُّ بالقيم الانسانيَّة كسبيلٍ للعدل والسلام العالميَيْن، تعود لتؤكِّد ـ وبذريعة العقلانيَّة إياها ـ أن هذه القيم قابلةٌ لأن تتَّخذ مكانتها في أسمى منزلة (أخلاقيّاً وروحيّاً)، ولكنها لا تُعَدُّ حقائقَ واقعيَّة. تلك معادلةٌ أساسيَّة من معادلات فلسفة الاستعمار التي بناها العقل البراغماتي للحداثة. تقول هذه المعادلة صراحةً: إذا كانت قيم الخير والجمال والسلام والعدالة غير قابلةٍ للاستنباط من الشروط الأنطولوجيَّة أو العلميَّة، فلا مجال بالتالي لأن نطالب بتحقيقها. فهذه القيم في نظر العقلانيَّة العلميَّة ليست إلا مشكلاتٍ تتعلق بالتفضيل الشخصي. ولما كانت هذه الأفكار غيرَ علميَّة، فإنها لا تستطيع أن تواجه الواقع القائم إلا بمعارضةٍ ضعيفةٍ وواهنةٍ. أضيف أخيراً إن العقلانيَّة المنزوعة الأخلاق ـ بعدما استبدَّ بها جشع الاستيلاء والسيطرة ـ هي نفسها العقلانيَّة التي دفعت بالعالم المعاصر إلى الانزياح والضلال وعدم اليقين.
س: هل يعني هذا ان العقلانيَّة بصيغتها الليبراليَّة المستحدثة بلغت حدَّ “الجنون” حين جعلت العالم أرضاً منزوعة القيم. أفلا يدل ذلك على ان عقلانيَّة الحداثة باتت في عصر الجوائح الطبيعيَّة والمصطنعة تمر في زمن اللاَّعقلانيَّة؟
ج: هذا هو السؤال الذي طفق يشكل الهمُّ الأقصى لنقَّاد السلوك الليبرالي. المذاهب النقديَّة الغربيَّة تنبَّهت إلى مثل هذا المنعطف بصورةٍ مبكرةٍ. لذا أجابت في ما يشبه الفانتازيا الفلسفيَّة أنَّ اللاّعقلانيَّة غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها. ربما أدركت براغماتيات السيطرة في الغرب أنها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون هي عودةٌ إلى العقل بمخيلةٍ أخرى. وهذه السيرورة لا بد أن تنتج معرفةً على صورتها.. إلا أنها بدت صورة مضطربة ومشوَّهة كما أفصحت الذهنيَّة الغربيَّة المذهولة اليوم من هول الجائحة وتداعياتها.
س: أعود إلى سؤال سبق أن أشرت إليه بشأن الجائحة التي لم يتوصل العلم إلى احتوائها: برأيكم هل سيعترف الانسان بمحدوديته أمام الطبيعة وأسرارها ويكفّ عن العبث بها وبكائناتها كافة.. وكذلك بتوازناتها التي تهيّئ له البقاء السليم كنوع ومعه أيضاً سائر أنواع الكائنات التي تدبّ على أرض الكوكب؟
ج: لست متفائلاً بأن يتَّعظ العقل الانتفاعي الذي رسّخته الليبراليَّة ويعود إلى إجراء مراجعة عميقة للطريقة التي قاد فيها الحضارة المعاصرة. الذي سيحصل على الأرجح أن مراكز القوى الحاكمة في أوروبا وأميركا سوف تبدأ بخوض معركة كبرى لإعادة إقناع البشريَّة بثقافتها الليبراليَّة عن طريق سيطرتها الفائقة على الميديا بأشكال مختلفة. غير ان ما يطرحه هذا الحادث الكوني هو ضرورة نقل النقاش بين النخب الفكريَّة والأكاديميَّة من دائرة الجدل السلبي إلى فضاء الحوار الخلاَّق. والمسألة هنا تتعلق بالكيفيَّة التي تتوافق فيه الإنسانيَّة على ميثاق يحفظ وجودها واستمرارها في الحياة، وهذا يشمل عالم الأفكار والسياسة والاقتصاد فضلاً عن النزاعات السياسيَّة والحروب.
أعتقد أنك توافقني الرأي بأن القرن العشرين الممتلئ بالحروب والعداوات بين الشعوب والدول كان قرن الجدل السلبي بامتياز بين ايديولوجيتين دفعتا بالعالم غير مرة إلى حافة الهاويَّة. خذ مثلاً، الحربين العالميتين الأولى والثانية، ثم الحرب الباردة، ثم العولمة التي أعلنت نهاية التاريخ لتسود الليبراليَّة في أقصى مراتب وحشيتها. كل ذلك ما كان ليكون لو لم يكن الجدل الإقصائي هو الحاكم على منطق القوى السائدة. أريد هنا أن أقارب هذه المعضلة من منطقة الفكر الفلسفي من أجل أن نعيد تأسيس ميثاق جديد لمبادئ الحوار. إنني على يقين من أن الحقيقة لا تولد إلا عن لطف المناظرة. اللطف ُيخرِجُها من الرحم الودود التي هي فيه، نقيَّة لا يشوبها نقص ولا تعتري نقاءها شائبة. وهذا النوع من التناظر اللطيف لا يراه إلا العقل الذي ينسرح في امتداده إلى ما وراء الأفق المحكوم إلى المصالح والمنافع الضيقة.
س: ألا ترى ان التقنيات الهائلة التي أنتجتها الحداثة الصناعيَّة تنم عن حقيقة لا تقبل الشك وهي أن الغرب استطاع أن يتبوّأ عرش العالم لما انتصر للعقل والعلم؟
ج: تبدو الصورة في الظاهر على نحو ما أوردتم في السؤال. وهذا ما أخذت الأفكار الحديثة وصدّقته سواء في الغرب أو في بلادنا العربيَّة والاسلاميَّة. غير أن الحقيقة التي يمكن تدبّرها بالمعاينة هي أن الغرب ابتدأ بتقديس العقل، ثم انتهى إلى تقديس الشيء الذي صنّعه العقل. لنتصور اليوم أي مآل صارت إليه الأمور. إن الشيء الذي صنّعه العقل التقني راح ينفلت من عقاله، وينشر على الملأ كله فزعه الأكبر. ليس ثمة ما يدعو إلى الاستغراب، أن الحداثة انتقلت بلا رويَّة من تقديس العقل إلى تقديس الشيء الذي صنعه العقل. وهذه الفَرَضيَّة موصولة بالتساؤل عن حضارة استهلَّت رحلتها بعبادة العقل المحض، ثم هوت إلى عبادة الفرد، ثم لتنتهي إلى عبادة الآلة؟.. مفكرو الغرب من الذين آلَمَهُم المآل وشرعوا بنقد الذات، راحوا يكشفون عن رابط وطيد بين ثلاث صُوَر للإنسان الحديث: صورة الإنسان المفكر، وصورة الإنسان الصانع، وصورة الإنسان الاقتصادي. لنقرأ الصوَر الثلاث بشيء من التفصيل: الإنسان المفكر ذو الذهن العقلاني يمكن أن يكون في الوقت نفسه قادراً على الهذيان والحُمق. والإنسان الصانع، الذي يتقن صنع واستعمال الأدوات التقنيَّة، كان قادراً منذ بدايات الإنسانيَّة على إنتاج أساطير لا تحصى. أما الإنسان الاقتصادي الذي يُعرف انطلاقاً من مصلحته الخاصَّة، فهو إنسان الاستهلاك، أو إنسان اللعب والإنفاق والتبذير. هذه الخصائص المتناقضة تبدو متداخلة بين بعضها البعض. يحضرني في هذا الصدد ما يقوله المفكر الفرنسي إدغار موران في سياق مطالعاته النقديَّة لما سماه سلوكيات البربريَّة الأوروبيَّة. أن ترياق “الهذيان” و”الحمق” يمكث في أعماق العقل الحديث. هذا العقل الذي مضى إلى عقلنة ما هو غير منطقي وغير أخلاقي وغير معقول. وعليه صار بإمكان العقلنة برأيه أن تخدم الهوى، وتقود إلى الهذيان.
من هنا أستطيع القول إن مآلات الحداثة التقنيَّة في هذا السياق لا تبدو إلا كمحصول لعقلٍ استبد به الغلو، فانزاح عن غايته وانحدر صوب التشييئ المرِّوع للإنسانيَّة المعاصرة. هذا هو بالضبط ما أوْقَدَ حماسة هايدغر إلى نقد ما جَنَتْهُ التقنيَّة على الإنسان الحديث. لكن القضيَّة عنده تتعدَّى السخط على مظاهر التقنية وأعراضها لتطاول طبقاتها الخفيَّة والعميقة.
س: يقال إن الكورونا أطلقت رصاصة الرحمة على العولمة وما كانت تبشِّر به من تحويل العالم إلى قرية صغيرة وإزالة الحدود بين الدول، حيث مع الجائحة الجديدة تبدَّدت الصورة وأصبح العالم جزراً منعزلة ومنغلقة على ذاتها..
ج: نعم هذا صحيح ولا يدعو إلى الشك. لكن جائحة كورونا في الوقت الذي أقامت الحدّ على العولمة الليبراليَّة وزلزلت أركانها، أطلقت عولمة من نوع جديد. وهذا هو السؤال الذي أخذ يعصف بحلقات التفكير على نطاق العالم كله. لقد انتهت العولمة بصيغتها النيوليبراليَّة من قبل أن تحكم عليها جائحة كورونا بالسقوط المبرم. لكن اليوم تبدو البشريَّة أمام أفق مفتوح على تغير هائل تجد نفسها مجبورة عليه. وهذا أمرٌ عادي في قوانين فلسفة التاريخ. حيث نجد أن الطبيعة الصامتة أو الخفيَّة تتدخل أحياناً وعلى حين بغتة في المصير البشري، وتفرض على أهل الأرض نمط حياة ما كان ليخطر على بال إنسان.
من البيِّن أن الحداثة بنسختها النيوليبراليَّة عندما استشعرت مأزقها الأصلي، أي البحث الشاقّ عن بَدْءٍ جديد، راحت تحثُّ السير نحو انعطافة تمنحها القدرة على ترميم صدوعها، وإعادة تشكيل العالم الجديد طبقاً لأغراضها. وهكذا وجدت في “العولمة” ضالّتها الكبرى لتعثر على هذه الانعطافة. ألقت بجميع أثقالها داخل شبكة عنكبوتيَّة من الأنباء والمعلومات والصور والرموز، وحوَّلتها إلى منظومة للتحكم والسيطرة. استعملت النيوليبراليَّة منظومتها المستحدثة بغلوّ صارخٍ، وراحت تزيل الستر عن الأصل الذي جاءت منه، ثم لترمي به في العراء. الميديا العابرة لكل الحدود التي أطلقتها العولمة بقيادة أميركا الذي أطلقته الحداثة الفائضة، من أجل أن تهيمن على العقول والمشاعر، سيكون له ارتدادات انقلابيَّة على منبتها الأصلي. ظنَّت أنها بتوسيط الميديا تستطيع أن تبشِّر العالم كله بمشروعها الإنقاذي. ثم انبرت تقنع البشريَّة بأن روح الغرب هي روح التاريخ الانساني كله، وأن كل شيء في العالم الحديث بات رهن قِيَمِها وأحكامها. أما حاصل التجربة العولميَّة كان في جانب أساسي منه كارثياً على كل صعيد. وليس انتشار المعامل الجرثوميَّة والبيولوجيَّة فضلاً عن النوويَّة، سوى التعبير الصريح عن الكون المفتوح على الجوائح الظاهرة والخفيَّة. فلو حَسِبَت حكومات الحداثة ما ستؤول اليه أحوالها لحظة انفجار ثورة الاتصالات، لانعطفت عن مسارها واجْتَنَبت سوء الخاتمة. وبمحض إرادتها أطلقت الحداثة الفائضة عن طريق الميديا كمّاً ضخماً مما اختزنته على مدى قرون من قيم ومعارف وأسرار. لقد أمست التلفزة الكونيَّة – على سبيل المثال – معادلاً تكنولوجياً للإيديولوجيات الليبراليَّة فقد باتت أشبه بتقنية أسطوريَّة تستند إلى جماهير عريضة، تتكاثر كلما تطور سلطانها المعنوي. لهذه الغاية سعت مراكز التحكم بعالم الميديا إلى بثِّ كل ما يشجع على القبول الأعمى بالمنتج الأثيري. وهذا بالضبط ما كان لاحظه الفيلسوف الفرنسي الراحل روجيه غارودي في بداية التسعينيات، لمّا بيّن أن فلسفة الإعلام في الغرب تنطوي على تحريض دائم وحاسم من أجل تجنيد المشاهدين بالإغراء، ودعوة إلى الغوغائيَّة والخمول، والتوجه نحو رأي عام تتلاعب به الدعاية والإعلانات. أراد غارودي ان ينبِّه إلى أن التلفزيون نفسه لا يقصّ حكاية التاريخ، ولكنه يصنعها بالتلاعب بها. بمعنى أنه يستسلم إلى انحرافات السوق، وإلى تهديم كل روح ساعية إلى النقد الخلاَّق، وكل فكر يشعر بالمسؤوليَّة. ولكي نستدل على هذه الأحكام حيال الميديا ووسائل التواصل، أنظر كيف تتم الآن تغطية تداعيات جائحة كورونا على كل صعيد. أوليست أخبار هذا الفيروس في كثيرٍ من الأحيان، تبدو أشد قسوة على المواطن العالمي من الفايروس نفسه على المستويات النفسيَّة والاجتماعيَّة وحتى العلاقات بين الدول؟
محمود حيدر:
مفكر لبناني وأستاذ جامعي متخصص في الفلسفة والإلهيات.. ومستشار علمي لعدد من المؤسَّسات الأكاديميَّة والمراكز البحثيَّة في لبنان والخارج.
– رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة- لبنان.
– مدير التحرير المركزي لفصليَّة الاستغراب.
– له خمسة وعشرون كتاباً في الفلسفة والفكر السياسي والتصوف النظري.
*المصدر: التنويري.