صحيح أن للأديان الكثير من الآثار الحسنة في المجتمعات لما لها من سلطة روحية على الأفراد والجماعات، كحرصها على قيّم التسامح، والتعاون، والتكافل، والابتعاد عن الظلم والمحرمات والجرائم لإرضاء الله تعالى في الدنيا والآخرة، ولكن لا يمكن أيضاً إنكار وجود ظاهرة العنف المقدّس في عالمنا المعاصر حيث ازدادت الصراعات وعمليات القتل تحت شعارات ورايات دينية، فكراهية الآخر المختلف دينياً ومحاولة إقصائه وجودياً صارت حقيقة واقعية نعيشها في يومياتنا ونتابع نتائجها الدمويّة عبر وكالات الأنباء المختلفة، رغم أنّ الأديان من خلال مؤسساتها تستنكر هكذا أفعال مُرتكبة باسمها، وتدعوا إلى محبّة الآخر والتعايش معه في سلام، ومن هنا نتساءل عن أسباب تحوّل الرابطة المتينة التي أنشأها الدين بين أفراد مجتمع محدد إلى نزعة عدائية اتجاه الآخر المختلف عنهم دينياً؟
يُعّد طقس تقديم الفداء من الأركان الرئيسية في كل الأديان، البدائية منها والمعاصرة، ويُقصد به تلك الوساطة بين المتديّن والإله الذي يؤمن به ويعبده في سبيل رضا هذا الأخير، وتلعب الأضحية (القربان الدموي) الدور الأساسي في أديان الحضارات القديمة وكذلك المجتمعات الحديثة نظراً لقيمتها الكبيرة لاهوتياً (الخلاص الأخروي، مغفرة الذنوب)، وبما أنّ الأديان منحت الأهمّية للذبائح الحيوانية، وبعيدا عن اعتبار هذا الموقف مسحة إنسانية كما قال جوزيف دو ميتر، أو تأسيساً للعنف باسم المقدس كما قال رينيه جيرار، إلاّ أنّ التساؤل يبقى مطروحاً حول أثر عقيدة الفداء على نفسية المؤمن من جهة، وهل يمكن أن تتطّور هذه الأخيرة إلى درجة تقديم القرابين البشرية من جهة أخرى.
لا تنكر الأديان وجود العنف البشري بسبب الأضاحي مثل قصة قتل قابيل لشقيقه هابيل[1] ولكنها توجّه هذا العنف إلى التضحية بالحيوان (الذبيحة)، ففي الديانة الإغريقية وحسب الأوديسة تمكّن “أوليس” وأصحابه من الهروب من كهف “السيكلوب” الذي يتغذى على البشر عن طريق واسطة حيوانية (التسلل وسط قطيع من الغنم)، وحسب الإلياذة، بينما همّ ملك ميسينا “أغاممنون” بالتضحية بابنته لإرضاء الإلهة “أرتميس”، أرسلت هذه الأخيرة في آخر اللحظات غزالاً للذبح عِوض الفتاة، ثم صارت الحيوانات هي التي تُذبح كهدايا للآلهة الأولمبية في الفناء المقدس من المعبد، أما عند الرومان، فقد كان الاهتمام بالتغذية الجيدة للحيوانات المخصصة كقرابين للآلهة حيث ساد الاعتقاد لديهم أن الأضاحي تشحن الآلهة بالطاقة ما سيعود عليهم بالفائدة، الإله ميترا الذي يُعّد من أشهر الآلهة الفارسية القديمة ثم الرومانية في العصر الهلنستي وحسب الميثولوجيا قام بقتل الثور الذي يأكل البشر ومن هنا صار يتم ذبح كل سنة ثور من طرف المؤمنين به ثم يقومون بتوزيع لحمه وأكله وشرب دمه، قبل أن تتطور الميثولوجيا الميترائية إلى تضحية ميترا بنفسه من أجل خلاص قومه … وإذا انتقلنا إلى الأديان التوحيدية، فكذلك الذبيح الحيواني أنقذ ولد إبراهيم من الموت، وعلماء هذه الأديان لا ينكرون هذا العنف إنّما يفسرونه بالحكمة الإلهية التي لا تدركها عقولنا ومن هنا جاء فقه الرأفة بالذبيحة.
لا يمكن إدانة الأديان وتحميلها مسؤولية قتل البشر من أجل الآلهة (القرابين البشرية) لعدم وجود أدلة تفيد هذا، سواء بالنسبة للأديان الطوطمية أو الوثنية أو التوحيدية، ولكنها أيضاً وخاصة القديمة منها فشلت في منع هذا العنف والتوحش، حيث أمام ما يصيب الجماعة البشرية من مصائب وكوارث طبيعية لا يستطيع فهمها وتفسيرها لبدائيته(جفاف، فيضان، براكين، أمراض …)، وفي ظل عدم نجاح تقديم الأضاحي الحيوانية للنجاة منها، ستلجأ الجماعة إلى حلّ آخر وهو إلقاء المسؤولية على واحد منهم، إذ يتّم اعتبار هذا الشخص هو سبب ما حلّ بهم من بلاء، وهكذا تقوم الجماعة بقتله، أي التضحية بفرد واحد بديلاً عن جماعة مهددة بالفناء ، فقتل الضحية لأنّها أصل الشرّ وهي حيّة، وبعد موتها ستتحوّل إلى علة لتطهير الجماعة من الذنوب وهكذا تظهر طقوس تقديسها، إذن الحسّ البشري بالخطيئة ورغبته في الخلاص منها هو المؤسّس لهكذا تفكير ذو طابع ديني، وهذا ما وضّحه رينيه جيرار في كتابه العنف والمقدس ، ولهذا كانت تحرص الجماعة أن يقوم الأصلح فيهم (الكاهن) بإعدام الضحية البشرية حتى تتقبّلها الآلهة، مع العلم أنّ عملية قتل الضحية الأولى تستوجب التكرار الطقسي لها، ولهذا كانت الجماعة في الغالب تضحي بمن هو غريب عنها كأسير حرب أو من المنبوذين وأصحاب العاهات.
إنّ علاقة عبادة الأوثان بالعنف في أديان ما قبل التوحيد قويّة جداً إلى درجة وجود محاكاة في الأديان التوحيدية، فمثلا وبما أن بني إسرائيل في ديانتهم الأولى كانت وثنية حسب الباحث يول بوشان ودُني قاس، نجد أنّ ابتعادهم عن الوثنية بتنزيه معبودهم الإله “يهوه” لم يقض على ممارسة العنف المقدس بل فقط إعادة توجيهه، فيهوه كما جاء في العهد القديم، يصف أهل كنعان بالأشرار لأنهم يمارسون العنف ضد أطفالهم (يقدمونهم كأضاحي للأوثان)، ولكنه لا يعاقبهم بالطوفان والزلازل والأمراض، بل اختار بشراً لتنفيذ حكمه الإلهي فيهم، هؤلاء البشر هم من آمنوا به، جاء على سبيل المثال لا الحصر في سفر اللاويين بعدما ذكر مجموعة من الفواحش واقعة فيها أقوام كنعان وبهذا استحقّت غضبه عليهم واستحقّت الطرد من الأرض التي نجّسوها بقوة جنوده العبرانيين “بِكُلِّ هذِهِ لاَ تَتَنَجَّسُوا، لأَنَّهُ بِكُلِّ هذِهِ قَدْ تَنَجَّسَ الشُّعُوبُ الَّذِينَ أَنَا طَارِدُهُمْ مِنْ أَمَامِكُمْ (24) فَتَنَجَّسَتِ الأَرْضُ. فَأَجْتَزِي ذَنْبَهَا مِنْهَا، فَتَقْذِفُ الأَرْضُ سُكَّانَهَا (25) […] فَتَحْفَظُونَ شَعَائِرِي لِكَيْ لاَ تَعْمَلُوا شَيْئًا مِنَ الرُّسُومِ الرَّجِسَةِ الَّتِي عُمِلَتْ قَبْلَكُمْ وَلاَ تَتَنَجَّسُوا بِهَا. أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ (30)”[2]، فلا ريب أن النص التوراتي هو مصدر عقيدتهم العنصرية الحاقدة على شعوب شرق البحر الأبيض المتوسط، بل ويحتوي على مئات الآيات التي تُفصّل كيفية قتل هذه الشعوب وطردها من أرضها وتشريدها دون رحمة، جاء في سفر عدد ” فَتَجَنَّدُوا عَلى مِدْيَانَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ وَقَتَلُوا كُل ذَكَرٍ(7) وَمُلُوكُ مِدْيَانَ قَتَلُوهُمْ فَوْقَ قَتْلاهُمْ. أَوِيَ وَرَاقِمَ وَصُورَ وَحُورَ وَرَابِعَ. خَمْسَةَ مُلُوكِ مِدْيَانَ. وَبَلعَامَ بْنَ بَعُورَ قَتَلُوهُ بِالسَّيْفِ (8). وَسَبَى بَنُو إِسْرَائِيل نِسَاءَ مِدْيَانَ وَأَطْفَالهُمْ وَنَهَبُوا جَمِيعَ بَهَائِمِهِمْ وَجَمِيعَ مَوَاشِيهِمْ وَكُل أَمْلاكِهِمْ (9). وَأَحْرَقُوا جَمِيعَ مُدُنِهِمْ بِمَسَاكِنِهِمْ وَجَمِيعَ حُصُونِهِمْ بِالنَّارِ (10). وَأَخَذُوا كُل الغَنِيمَةِ وَكُل النَّهْبِ مِنَ النَّاسِ وَالبَهَائِمِ (11) وَأَتَوْا إِلَى مُوسَى وَأَلِعَازَارَ الْكَاهِنِ وَإِلَى جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ وَالْغَنِيمَةِ إِلَى الْمَحَلَّةِ إِلَى عَرَبَاتِ مُوآبَ الَّتِي عَلَى أُرْدُنِّ أَرِيحَا (12) […] فَسَخَطَ مُوسَى وَقَال لهُمْ: «هَل أَبْقَيْتُمْ كُل أُنْثَى حَيَّةً؟ (15) إِنَّ هَؤُلاءِ كُنَّ لِبَنِي إِسْرَائِيل حَسَبَ كَلامِ بَلعَامَ سَبَبَ خِيَانَةٍ لِلرَّبِّ فِي أَمْرِ فَغُورَ فَكَانَ الوَبَأُ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ (16) فَالآنَ اقْتُلُوا كُل ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ. وَكُل امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلاً بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا (17)”[3]، فيكاد أن يكون العهد القديم كتاب حروب وقتل بأمر إلهي.
ليست فقط الشعوب غير العبرانية من تعاني من عنف شريعة “يهوه”، بل حتى المؤمنين المخلصين له إذ مُهدد بالقتل من يعمل يوم السبت، ومن لم يختن، ومن يزنِ، ومن يُغضب والديه بالرجم، ومن يبدل دينه يُقتل أيضا بالرجم، وإن كانت مدينة خالفت الشريعة فيجب حرقها بعد ذبح كل ساكنتها، كل مُصاب بالمس أو التابعة يُقتل رجماً، كل من ذبح لغيره يُقتل …، هذا بالإضافة إلى مجموعة لعنات ذكرها إصحاح التثنية 28 تُعتبر تفنناً منه في تعذيب شعبه المختار في حالة مخالفة أوامره.
صحيح ليس كل أتباع الأديان التوحيدية (اليهودية، المسيحية، الإسلام) يمارسون القتل ضد من يخالفهم الفكر العقدي، بل فقط الجماعات الأصوليّة[4] من لا تزال تتقرب إلى الإله الذي تؤمن به بسفك الدماء، حيث تهدف إلى تصفية أراضيها من الكفار والمعارضين لها، ومُنطلقها عقدي مبني على إيمان مطلق بأنّ واجبهم الديني يلزمهم بتوظيف كل الوسائل العنيفة والدموية لتطهير الأرض من أهمها الإعدامات الفردية والإبادات الجماعية، ومن هنا يتساءل علماء الأديان عن سبب بقاء فكرة “الفداء” كضرورة للخلاص الأخروي، بين من يرى أنّ التشابك بين اللاهوتي وتكفير الذنوب في الأديان التوحيدية هو السبب في هذا التطرف كرودولف أوتو، ومن يرى بعدم إمكانية الفصل بين الأسطوري والديني كميرسيا إلياد، حيث أن كل المنظومات الدينية مهما كان شكلها أو زمانها تخضع لسلطة الأسطورة، فهي تنطبق على الإنسان البدائي تماماً كما تنطبق على الإنسان الحديث، لأنّ تديّن الإنسان يكون باطلاعه على أساطير تفسّر له معنى الإلهي وكيفية علاقته به.
في الأخير، يمكننا القول أنّ العنف باسم الدين في عصرنا الحديث يعّد ظاهرة معقّدة لأنّ السلوك الديني كغيره من السلوكيات البشرية مُتأثر بعوامل بيولوجية، سيكولوجية، بيئية واجتماعية، ولهذا عند مناقشة ظاهرة العنف الديني، لا يجب الوقوف فقط على تحليل المعتقدات اللاهوتية والطقوس التعبديّة ومدى قوّتها في جعل المُتديّن عنيفاً اتجاه الآخر المختلف عنه، بل وجب أيضاً دراسة كل الجوانب المساهمة في صناعة قراراته واختياراته، أو بتعبير آخر، فإنّ معالجة متلازمة الدين والعنف تكون بتجديد الخطاب الديني ومن دون تجاهل الأسباب الراهنة كالامتزاج بين الدين والسياسة.
[1] حسب الميثولوجيا فإن سبب القتل يكمن في قبول الإله قربان هابيل (ذبيحة حيوانية) ورفض قربان قايين (زرع).
[2] سفر اللاويين: 18
[3] سفر العدد: 21
[4] المقصود بها من جهة ذلك التجلّي لنظام ديني على صعيد كل المجالات بمواقف محافظة، وخاصة على مستوى الأخلاقيات والسياسات، ومن جهة أخرى، رفضها القاطع لمواصفات الحداثة، وترى الأصوليات في تحرير العقل السبب الأول لكل شرور العالم، وترى أنّ حلّ كل مشكلات الحياة لا يكون إلاّ بواسطة الشرع المنزّل، ولهذا تسعى إلى تأسيس السياسة على النصوص المقدسّة، وفي كل دين نجد أصوليات (أصوليات كاثوليكية، أصوليات هندوسية، أصوليات يهودية، أصوليات إسلامية …).
*المصدر: التنويري.