المقالاتفكر وفلسفة

ماذا يعلّمنا إميل سيوران عن الحياة؟

ولد إميل سيوران في رومانيا عام 1911، ويصَنّف في معظم الأوقات كواحدٍ من أعظم الوجوديين والتشاؤميين العَدَميين في القرن العشرين. بصفته وجودياً، لا غرابة أنّه لن يقضي الكثير من وقته في الحديث عن أمور مثل الميتافيزيقا، وبناء أنظمة معّقدة، والتحدّث عن نظرية المعرفة، وعلم الجمال. في الواقع، حتى أنّه كان يعتقد أكثر من الوجوديين الآخرين ممّن سبقوه، وعاصروه، أنّ كلّ هذه الأشياء كانت في الغالب مَضيعة للوقت. ما يريد سيوران التحدّث عنه هو الوجود، أو الحالة الإنسانية، وعلى وجه التحديد: الجوانب المظلمة والقبيحة بشكل مزعج من الوجود التي يخبرنا المجتمع في كثير من الأحيان أن نكنسها تحت السجّادة، لكنّك مع ذلك تجد نفسك جالسٌ هناك على الأريكة فوق السجادة كل يوم من أيام حياتك، وبقدر ما تعرف أنّ هذه الأشياء لا تزال هناك، تحت السجّادة مخفيّة، لكنّها لا تزال موجودة دائماً.

لهذا السبب، علينا أن نتحدّث عن بعض الأمور المظلمة. ليست مفاجأة، لكنّ افتتانه بهذه الفئة المحظورة من المواضيع المظلمة سيدفع الكثير من الناس إلى وصفه بأنّه متشائم. ولا شكّ أنّه كان كذلك في بعض النواحي. وهذا أمرٌ لا يختلف حول كثيرون، وخصوصاً المسلوبين بالتعابير الرومانسية التي تربط بين سيوران والعدم، ووصفه “بالذي عبر على دراجته حقول العَدَم”، كما جاء وصفه في مكانٍ ما. لكنّي هنا لا أحاول تقديم أفكاره عن التشاؤم والعدم، وآمل أن يكون ما يمكنني إيصاله هو أنّه بالرغم ممّا قد يبدو على السطح نظرة مظلمة جداً، ومتشائمة، فتحت السطح، قد يكون إميل سيوران أحد أكثر المفكرين الذين قد يساعدوننا على التكيّف مع الحياة ومواكبة التشاؤم وإحباطات الحياة.

أظنّ أنّ أفضل ما يمكنني قوله هنا للتشجيع على الحديث عن عمل سيوران هو أنّه بعيدٌ كل البعد عن الإحباط. أحياناً عندما تواجه مشكلة في الحياة، تريد شخصاً ما أن يأتي ويقدّم لك نصيحة ويُصلح المشكلة، لكي تختفي. تريد فيلسوفاً مثل أفلاطون أن يأتي ويمنحكَ جواباً عن كيفيّة العيش بحكمة أكثر. لكن في بعض الأحيان عندما تواجه مشكلات يتعيّن عليك تحمّلها والتعامل معها، وهي مشكلات من الواضح أنّها لن تختفي في أيّ وقت قريب، وأحياناً لا تريد أن يقوم شخص ما بإصلاحها. أحياناً كل ما تحتاج إليه شخص ما يستمع إليك، شخصٌ مَرّ بالمشكلة من قبل ويمكنه التواصل معك. وهذا، في قراءتي، هو جوهر عمل سيوران. إنّه يجعلك تشعر بالوحدة أقل قليلاً في هذه الجوانب المظلمة التي لا مَفرَ منها من الحالة الإنسانية، ويجعلك تشعر ولو للحظة واحدة أنّه ليس عليك إخفاءها لكي تكون مهذباً ومقبولاً من المجتمع.

ربما أفضل طريقة لإظهار مدى فرادته كمفكّر هي التحدّث عن مجموعة أصبحت معروفة عبر التاريخ بالعارفين أو الغنوصيين. الفكرة الأساسية في الفكر الغنوصي هي: العالم مليء بالعيوب بكلّ جوانبه. في السياق الديني، يمكن وصف هذا من حيث أنّ العالم بالتأكيد ليس جنّةً أو فردوساً. وأغلب التيارات الغنوصية في الديانات اليهودية والمسيحية، والعرفان الإسلامي: كالمذاهب الشيعية [العلويين، والدروز، والإسماعيليين، وغيرهم] أو الصوفية على سبيل المثال تؤمن بذلك.

وفي الفلسفة، العالم ليس سوى ظلٌّ دنيوي/أرضي لعالم الأشكال. وهناك الكثير من الأمثلة. هل فهمتم ما أعنيه. لذلك، إذا كان العالم الناقص هو مفهوم شائع في الفكر البشري، فقد حاولت مجموعات مختلفة على مَرّ التاريخ التوصّل إلى نظريات حول سبب حدوث ذلك. كان الغنوصيّون يعتقدون أنّ العالم في حالة فوضى في كثير من النواحي لأنّه خُلِقَ على نحوٍ فوضوي.

كان يمكن لله، كيفما تريد أن تتخيّله، أن يخلق العالم كما يشاء. لكنّه اختار أن يخلق عالماً حيث علينا أن نستهلك الحياة لنعيش، على سبيل المثال. لقد خلق عالماً حيث العواصف الثلجية، والبراكين، والأعاصير، والأمراض، والجوائح، وحتى الأزمات العاطفية، وكل شيء آخر يسبّب المعاناة والمشقة. لقد خلقَ عالماً حيث المعاناة جزء حاسم من العملية. خلق عالماً بغلافٍ من الصدفة. الإله الخبيث فقط من شأنه أن يخلق غلافٍ من الصدفة. وبالنسبة للغنوصيين، فقط إله خبيث من شأنه أن يخلق عالماً حيث يمكننا أن نعي وندرك المعاناة التي يتطلّبها الوجود في كل وقت.

الآن، وبسبب هذه المعاناة، سيصل الغنوصيين إلى موقف يُنظَرُ إليه بشكلٍ أكثر شيوعا وحداثةً في لغة اليوم على أنّه مناهضة الإنجاب بدافع النفور الشديد من جلب المزيد من المعاناة غير الضرورية إلى هذا العالم. الآن، لنُدخل إميل سيرون لثانية واحدة فقط. لقد قال ذات مرّة إنّنا جميعاً نهرب من مأساة ولادتنا، وحقيقة أنّنا ألقينا وقُذِفنا في عالم غير معقول ولا معنى له ضدّ إرادتنا. ولكن كما لو أنّ ذلك لم يكن سيئاً بما يكفي، وفوق كل ذلك، نحن مُدركون بوعي تلك الحقيقة. فقال: ((أن تكون حيواناً أفضل من أن تكون إنسان، وحشرةً أفضل من حيوان، ونبات أفضل من حشرة، وهلم جرا. خلاص؟ كل ما ينتقص من مملكة الوعي وينال من تفوّقه)).

لكن هاكم الأمر. يرفض سيوران في النهاية حتى الغنوصيين ومناهضي الإنجاب لأسباب كثيرة، لكن أحد الأسباب الأكثر إقناعاً هي حقيقة أنّهم حاولوا حتّى تنظيم استنتاجاتهم. لقد رفض محاولات الفلاسفة السابقين لمحاولة تجميع الأمور بشكلٍ منظّم بهذه الطريقة. في الواقع، رفض الكثير من الطرق التي كان الناس يتبعونها. حتى أنّه رفض الأشكال التقليدية في الأدب. لقد كتب بشكل متقطّع في عمله على شكل شذرات لدرجة يستحيل تحديدها. بعبارة أخرى، أعتقد، كما كان يفعل غالباً، أنّه ليس من الضروري أن يكون لديك وصف رسمي مُوحّد للواقع لتدرك أنّنا مشاريع فاشلة كأشخاص. الإنسانيّة بذاتها مشروعٌ فاشل. صلّي لأيّ إلهٍ تريد، ولكن بالنسبة لإميل سيوران، أياً كان هذا الإله أو مهما كان، هناك شيء واحدٌ مؤكّد، أنّ هذا المشروع بالذّات قد أفسِدَ نوعاً ما.

 الآن، من هنا، لن يكون الأمر صادماً بالنسبة للكثيرين منكم، ولكن يصل سيوران إلى نتيجة مفادها أنّ لا شيء له معنى في النهاية. وهنا نعود إلى النقطة التي انطلقنا من عندها. عندما ننظر إلى اللا معنى المطلق للحياة، والجانب التافه والعبثي للوجود، والمعاناة التي نتحمّلها بمقدارٍ هائل يومياً مجرد لمجرّد البقاء على قيد الحياة، كيف يمكن لأي شخص أن يقول بأنّ هذا خلقٌ ربّانيٌ جميل؟ حسناً، إنّه يرى أنّه جميلٌ بطريقته الناقصة الخاصة. كيف يمكننا تصنيف تعريف الجمال بهذا الشكل؟ ولكن وجهة نظره هي هذه: أيّ إلهٍ عليمٍ، قادرٍ على كلّ شيء يجعل هذا بمثابة مشروعٍ فنّي؟ أعني، بالنسبة لسيوران، هذا يعادل عندما يلصق طفلٍ صغير وجه معكرونة مبتسم على ورق البناء. وبالطبع، إنّه لا يفكّر في احتمالية وجود إلهٍ مسؤولٍ عن كل هذا. أنّه يضحك فقط على سخافة الأمر من ذلك المنظور المحدّد والضيّق، وهو ما كان يفعله كثيراً في عمله، بالمناسبة.

أرأيتم، اعتقد سيوران بأنّك إذا كنت -لنقل إنّك تؤمن بقوّة خلاقة ما وراء الكون- مؤمناً بأيّ إله وتعتقد أنّه يخطّط لكل ذلك، فيجب أحياناً أن تكون مستعدّاً للعيش بدون كل الوعود والضمانات التي يقدّمها لك إلهك. ويقول أنّك عندما تأخذ ثانية فقط وتستمع، عندما تتوقف لحظة عن التذلّل عند قدمي الرّبّ طالباً منه الأمان، عندما تتوقف عن طلب الإجابات، فإنّ ما تسمعه هو ما يدعوه الحقيقة الوحيدة: الصمت. ماذا نسمع عندما ((نُبطِل الأفكار؛ المعتقدات، والتفاهات؛ الفن كذبة؛ والفلسفة نكتة؟)) عندما نتوقف عن محاولة عقلَنَة وفهم العالم من حولنا عن طريق الأديان أو الفلسفة أو أي طريقة أخرى، فإنّنا نلمس على الفور حقيقة الكون: الصّمت.

قال سيوران: ((بالنسبة للحيوانات، الحياة هي كل ما هو هناك؛ بالنسبة للإنسان، الحياة هي علامة استفهام. علامة استفهام لا رجعة فيها، لم يجد لها أبداً، ولن يجد أبداً، أيّ إجابات. الحياة ليست فقط بلا معنى، بل لا يمكن أن يكون لها معنى)). الآن، بالنسبة إلى 95 ٪ منكم هناك، قد يبدو هذا مجرّد كلامٍ فارغٍ يصدر عن رجلٍ غاضب لا يتمتّع بعمق الشخصية ليجد طريقة للتواصل مع الكون أو الناس حتى الآن. لكنّ الشيء الذي يجعل سيوران مثيراً للاهتمام هو الاتجاه الذي سيسلكه في كل هذا.

اسمحوا لي أن أبدأ بالقول هنا أنّ هناك عناصر حقيقيّة ومأساويّة ومؤلمة جداً للوجود الإنساني، نختبرها جميعنا في مرحلة ما من حياتنا. وهذا يعني أنّ هناك أموراً في الحياة تكون سيئة في بعض الأحيان. عملياً كل من يقرأ هذا المقال الآن قد شَهِدَ في مرحلة ما مستوى معيّن من اليأس، والاكتئاب، والكآبة، والفشل. جميعنا ارتكبنا أخطاءً في الحياة كلّفتنا فرصاً كبيرة. كلّنا اختبرنا ألم تحطّم قلوبنا. سمّها ما شئت. ومع ذلك، كم هو مثير للاهتمام، كما يقول سيوران، أنّ كل هذه المشقّات وغيرها الكثير تقع في هذا النوع من الطبقة المتميزة التي لدينا من المواضيع المظلمة، وهي مجموعة من التجارب الحقيقية التي يبدو أنّنا جميعاً نمرّ بها، ولكن ليس من المفترض أن نتحدّث عنها.

بالنسبة لمعظم الناس، تتكوّن الحياة من تنسيق مستمرّ لصورة حيث لا يشعرون بأيّ من هذه المشقّات. من المفترض أن نبتسم في كل صورة. من المفترض أن نكون سعداء إزاء ما نحن عليه في الحياة ومتحمّسين بشأن مستقبلنا. لكن هذه الصورة التي يعرضها الكثير منّا ليست هي حقيقة تجربتنا الداخلية. هناك إحساس أنّنا من المفترض أن نحتفظ بمشاعر معيّنة بداخلنا ولا نتحدّث عنها أبداً. لأنّه عندما يأتي إلينا صديق ويخبرنا أنّه يشعرون بالاكتئاب بسبب عدم وجود معنى للحياة، أو عندما يقول أنّه يشعر باليأس بسبب عدم سيطرته على مجريات الأمور في نهاية المطاف، سيقول سيوران، كم من المثير للاهتمام أنّنا غالباً ما نلتقي ذلك الشخص بنظرة قلق. هذا هو الوضع الافتراضي. قد نحاول إصلاح هؤلاء الأصدقاء كما لو كانوا محطّمين أو شيء من هذا القبيل، محطّمين بسبب اعترافها بالواقع وفقاً لشروط الواقع.

لكنّ سيوران كان سيقول، لماذا يجب أن يكون الأمر بهذه الطريقة؟ مقصده ليس أنّنا لا يجب أن نحاول مساعدة أصدقائنا إذا كانوا يشعرون بسوء. أعني، بالطبع علينا ذلك، إذا كان هذا ما نريد القيام به. وجهة نظره هي أنّ هذه التجارب الدّاخليّة السلبيّة هي جزء من الحالة الإنسانيّة في بعض الأحيان. ألا يجب أن نكون قادرين على التّحدّث عن الواقع؟ ولماذا هو شيء يجعلنا غير مرتاحين عندما يفعل الناس ذلك؟ أعني، خُذْ أي جانب آخر من الواقع. 1+1 = 2. عندما تحدّث معلّمنا في الصف الأول عن هذا الجانب من الواقع، هل كنت حزيناً؟ أكنتَ قلقاً؟ هل كانت تلك المعادلة محرّمة أو ما شابه؟ لا، بالطبع لا. إذاً، لماذا هذه الأجزاء من التّجربة بالتحديد تقلقنا؟ لماذا المحرّمات؟

بالنسبة لسيوران، الجواب ببساطة: لأنّ الحديث عنها يجعلنا نشعر بعدم الارتياح. هذه النقطة التي يطرحها تذكّرني قليلاً بنقطة هيدجر في مفهومه عن الوجود-نحو-الموت. يقول هيدجر أنّ الكثير من الناس يقضون حياتهم يفعلون ما بوسعهم حتّى لا يأخذوا بعين الاعتبار الحقيقة المطلقة والكاملة أنّهم سيموتون في يومٍ ما. بل إنّنا نبني مجتمعاتنا حول إنكار تلك الحقيقة. نحن نخفي الموت والأمراض والأسقام بعيداً في هذه المرافق البعيدة والمطوّقة حتى لا نضطرّ إلى النظر إليها أبداً: المقابر، والمستشفيات، ودور المسنين. وبغضّ النظر عن مدى عدم ارتياحنا للاعتراف بهذه الحقيقة كل يوم، ففي نهاية المطاف، إذا عشنا مع وعي دائم بالموت، فسوف نعيش حياتنا ستعيش في حالة توتّر وقلق وجودي دائم. حسناً، وكذلك هو الحال مع سيوران. هذه اللحظات المظلمة من تجربتنا تجعلنا غير مرتاحين للغاية. ومن خلال عدم التعبير عن مشاعرنا، وبجعل الناس يشعرون بالضّرر أو الانكسار، يساعدنا ذلك في السعي لفعل ما يفعله معظم الناس في هذه الحياة برأيه، وهو العيش في حالة دائمة من الإنكار.

الآن، بالرغم من وجود العديد من الاستراتيجيات التي يستخدمها الناس للتخلّص من هذه المشاعر السيئة وغير المريحة، إلى أنّ هناك ثلاث استراتيجيات أساسية. الأول، هو أنّهم يحاولون التخلّص من هذه المشاعر بأساليب وطرق مختلفة. وهي الطريقة الأكثر شيوعاً التي جرى استخدامها تاريخياً. قد تكون الدين. وقد يكون فيلسوفاً وأفكاره. قد يكون كتاباً للمساعدة الذاتية. ويمكن أن تكون واحدة من تلك الندوات التحفيزيّة في عطلة نهاية الأسبوع، حيث يظنّ الجميع فجأة أنّها فكرة جيدة أن يقفزوا ويلوّحوا بأذرعهم مبتهلين أو يصلّون أو يرقصون، بالنسبة لـسيوران، لا يهم. إنّه أيّ شيء حيث نتوصّل من خلاله إلى نوعٍ من السرد الذي يهدف إلى الابتعاد عن هذه المشاعر.

بالمناسبة، هذا أحد الأشياء التي تجعل سيوران فيلسوفاً مثيراً للاهتمام. فهو لا يحبّ الفلسفة حتى. ورأى كل هذه المحاولات من قبل المفكّرين لخلق مبرّرات لهذه المشاعر مضيعةً للوقت. هذا، بلا شك، لن يفاجئ الكثير منكم. مع العلم أنّه كان يقوم بعمله في أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه، بعد أن خرج من عصر التنوير، فإنّ العقل ليس ما يلجأ إليه الجميع بالضبط عندما يتعلّق الأمر بحلّ المشاكل التي نواجهها كبشر. أعني، أنّ الاستنتاجات حول علم الأحياء وعلم النفس تخضع للفحص بدقّة كما هو الحال في العديد من العلوم الأخرى. اللغة وعدم استقرارها عرضة للهجوم هنا. أمّا النسبيّة، والعدميّة، والتّأريخية _هذه أصبحت الطّرق الأساسيّة التي نوجّه بها أخلاقياتنا، وليست شيئاً حدث وأن خطر ببال أحد الأشخاص وهو جالسٌ على المرحاض.

وجهة نظر سيوران هي أنّك حين تحاول التخلّص من مشاعر الخوف والحزن تجاه الوجود وإنكارها، فإنّ ما تفعله حقاً هو عدم أصالة فكريّة. أنت لا تحبّ عدم الارتياح الذي تولّده فيك هذه المشاعر، لذلك تحاول أن تجد بعض التبريرات العقلانية للحياة التي تسمح لك بالشعور بتفاؤل أكثر. وهو يقول إنّ ما تفعله في نفس الوقت هو تقييد نفسك بعقيدة الأمل الكاذب بأمور أسمى. الآن، مرّة أخرى، وعلى المستوى السطحي، قد يبدو الأمر محبطاً. وقد يخرج شخص ما من تلك النقطة بموقف مثل، “حسناً، ما الهدف من فعل أي شيء؟”. ولكن على مستوى أعمق، ما يقوله سيوران هنا هو مجرد التفكير في عدد الاحتمالات التي أصبحت مستحيلة بالنسبة لك عندما ربطتَ نفسك بعقيدة التفاؤل والأمل هذه.

عندما لا يكون لديك أي قيود أو سلاسل وتتقبّل عبثيّة الأشياء، فإنّ الجانب الآخر من ذلك هو أنّه يمكنك الآن الذهاب إلى أي مكان. عندما تتقبّل مخاطر السافانا، على سبيل المثال، لا تضطر إلى البقاء محشوراً داخل تلك السيارة المدرّعة على الطّريق تراقب الأشياء من مسافة. لكن مثل أي مكان جذب كبير يستحق المشاهدة، فإنّه يأتي مع ثمن. تكلفة هذا النوع من الوجود هي الكآبة، والخوف، وكل ما تبقّى من المشاعر التي تصاحب الأمانة الفكريّة.

الطريقة الثانية التي يظنّ سيوران أنّنا نحاول التخلّص بها من المشاعر هي أن نبعد أنفسنا عنها. هذا أمرٌ شائع في يومنا هذا لأنّنا نملك الكثير من الأدوات التي تساعدنا على القيام بذلك بشكلٍ فعّال. نتفليكس، وسائل التواصل الاجتماعي، ألعاب الفيديو، المشروبات الروحية، العقاقير، الديانات، والروايات الخيالية -لا يوجد نقص في الأشياء التي تلهيك عن هذه المشاعر إذا كان هذا ما تختار القيام به. ولكنّ سيوران كان ليقول أنّك إذا اخترت تجاهل هذه المشاعر، فإنّك تفعل ذلك على مسؤوليتك الخاصّة. لأنّه لا يمكنك البقاء على نيتفليكس كمحلول تغذية وريدية دائم طوال حياتك. فمشاعر الخوف والحزن هذه ستنال منك لا محالة.

لا يهم كم كنتَ مرتاحاً أو كم مضى من الوقت منذ أن واجهت فشلاً أو مأساة، فالحياة ستُلقي بشيء ما في طريقك في النهاية. وعندما يحدث ذلك، هل تريد أن تكون مرتاحاً للتعامل مع تلك المشاعر؟ أم أنّك تريد لتلك العضلات أن تضمر؟ هل تريد مواجهة شيء مُدركاً بأنّه سيكون وقتاً عصيباً، لكنّك تعلم أنّك ستتخطى ذلك؟ أم أنّك تريد كارثة محتملة؟ نعم، تماماً كما هو الحال مع التفكير المنطقي في الامور، قد ينجح الإلهاء على المدى القصير، لكنّه لن يحلّ المشكلة، وفي النهاية، سيؤدّي فقط إلى سلبكَ تجربة في مرحلة أخرى من حياتك.

الطريقة الثالثة الشائعة التي يتخلّص بها الناس من هذه المشاعر هي أن يقبلوها كحقيقة. نرى هذا في فلسفات مثل الرواقية، وفي العديد من التقاليد الشرقية. الفكرة هي أنّه إذا تمكّنا من تقبّل حقيقة أنّ الأمور خارجة عن سيطرتنا في نهاية المطاف وأن نتصالح معها، فإنّ كل هذه الأشياء، مهما كانت غير مريحة، لن يكون لها أيّ سلطة علينا. الآن، قد يبدو هذا عظيماً من الناحية النظرية. لكنّ سيوران كان متشككاً جداً إزاء هذا الشخص الافتراضي ومدى تقبّله حقاً لهذه الأشياء، أو ما إذا كانت هذه مجرّد وسيلة أخرى لخلق تبرير عقلاني من أجل نزع قوّة هذه المشاعر وسطوتها علينا.

كان لسيوران جملة عميقة المعنى جداً وهي “أنّ الإنسان يقبل الموت، لكن ليس ساعة موته”. أعتقد أنّ جزءاً ممّا يحاول الوصول إليه هو أنّه يمكننا تقبّل حقيقة أنّ نيزكاً سيصطدم بشكلٍ غير متوقّع بالأرض في يوم ما في المستقبل ويُنهي الحياة كلّها. يمكننا الاستمرار في حياتنا مهتمين ومُبالين بكل شيء، ودون أن نقلق أبداً بشأن ذلك النيزك في المستقبل لأنّه، بصراحة، إذا جاء، ماذا الذي يمكننا فعله حياله على أي حال؟ وإذا لم يكن في الطريق إلينا، إذن، مهلاً، أليس من الحكمة ألا أقلق بشأنه؟ لكن حظاً موفقاً عندما ترى صخرة بحجم بلدك تتّجه نحوك لتأتي على كل شيء عرفته وأحببته يوماً. حظاً موفّقاً بنظرة اللامبالاة على وجهك وكأنّك تنتظر في طابور بملل.

لكن لنضع هذا جانباً لثانية. على سبيل الجدال، لنقل فقط إنّ هؤلاء الناس تعلّموا أن يتقبّلوا تماماً كل ما هو خارج عن سيطرتهم. سيقول سيوران أنّ مجرّد القبول لا يكفي لتكون إنساناً فاعلاً. في عالمٍ خالٍ من المعنى وعامر بالسخافة والعَبَث، لكي يكون لديك من الأسباب ما يدفعك إلى النهوض من السرير والقيام بأي شيء غير الأكل والنوم، فإنّك تحتاج بالضرورة إلى استحضار أسباب أخلاقية وجمالية ودينية واجتماعية، وغيرها الكثير، على حدّ تعبيره. لا شكّ أنّ حتى هؤلاء الذين اكتسبوا هذا المستوى من القبول قاموا بما يعتبره سيوران قفزات فكرية غير شريفة فكرياً في مجالات أخرى، على أساس التعليم الأخلاقي والجمالي والديني والاجتماعي.

إنّ الفرضيّة الأساسية لعمل سيوران هي العدم. يقول: ((عندما لا تعود كل الاسباب الحاليّة -الاخلاقية، والجمالية، والدينية، والاجتماعية، وما الى ذلك- توجّه حياتنا، كيف يمكن للمرء أن يحافظ على حياته دون أن يستسلم للعدم؟ فقط من خلال الارتباط بالعبثية، ومن خلال حب اللاجدوى المطلقة، ومحبّة شيء ليس له جوهر ولكنّه يحاكي وهم الحياة. أحيا لأنّ الجبال لا تضحك، والديدان لا تغنّي)) [على ذرى اليأس].

إليك ما يعنيه سيوران بكلامه. فكّر في الأمر للحظة. كما قلنا من قبل، العقل بإمكانه تهدئتك بالتأكيد. يمكن أن يريحك المنطق لحظياً من مشاعر الخوف والحزن. ولكن هناك طريقة أخرى للنظر إلى ذلك وهي القول أنّه من خلال القيام بذلك، فإنّك تقيّد نفسك بعقيدة محدّدة وتحدُّ من الإمكانيات المتاحة لك في الحياة. إنّها طريقة بديلة للنظر إلى مزايا العقل. ولكن، ألا يمكننا القول أيضاً أنّ الشخص الذي لا يمتلك لهّاية العقل هذه أو أي طريقة إلهاء أو قبول لتجريد هذه المشاعر من تأثيراتها غير المريحة -ألا يمكننا القول إنّ الشخص المليء بهذه الشعور باليأس هو شخص ممتلئ بالحياة بطريقة لا يفهمها الآخرون ولا يقدرون عليها؟ أعني، إذا كان اليأس والحزن جزءًا من الحياة في بعض الأحيان، ألا يمكننا القول أنّ الهروب منه يبدو إنكاراً أو لفظاً للحياة ذاتها بطريقةٍ ما؟

ومن هذا المكان بالضبط أريد النظر في هذا الادعاء بأنّ سيوران متشائم. فهو، من وجهة نظره، يواجه الواقع نفسه الذي يواجهه الجميع -مأساة ولادتنا رغماً عنّا في عالم ندرك بسرعة أنّه بلا معنى وسخيف. الآن، معظم الناس في هذه المرحلة يركضون في الاتجاه الآخر. ومرة أخرى، لم تنجح أياً من هذه الامور في حلّ المشكلة، كالتفكير المنطقي، والتلهّي، والقبول. فما زال الكون سخيفاً وعبثياً، ولم يغيّر أيّ تبرير أو إلهاء هذه الحقيقة. لذا، من وجهة نظر معظم الذين يستخدمون واحدة من هذه التكتيكات، نعم، سيوران سوف يبدو وكأنّه متشائم في نهاية المطاف، لأنّه كان سلبياً إزاء نظرتهم المتفائلة. لكن من وجهة نظره، فهو ليس متشائماً؛ إنّه فقط يسمّيها كما يراها. وهو بالتأكيد لا يدعو إلى القنوط، متذمّراً وحزيناً على أساس حقيقة أنّ كل شيء بلا معنى وأنّ العالم عبثي وسخيف طوال الوقت.

ما يجعل منه مفكّراً مثيراً للاهتمام هو أنّ تكتيكاته هي أن يتّجه مباشرةً نحو العبث، وأن يهرع نحو المبنى المشتعل الذي يريد الجميع الهروب منه، وأن يتعلّم أن يحبّ العالم، وهو العَبَث المَحض، من أجل نفسه فقط. وليس من أجل المعنى الذي يمكن أن يقدّمه لنا -أن يكون قادراً على التواصل مع اللاجدوى المطلقة. إنّه يوجّه كلامه لنا ويقول: تذكّروا أن تكونوا قادرين على محبّة شيء بلا جوهر ولكنّه يحاكي وهم الحياة. ومن خلال التوجّه نحو العبث وتبنّيه، فإنّنا نؤكّد على الحياة. ومن خلال الهروب منه بجميع أنواع الطرق المبتكرة، فإنّنا ننقضه ونُبطله. هل يمكن أن نقول إنّ هذا القبول للحالة البشرية -بكلا جانبيها المظلم والمضيء- هو نوع من التفاؤل؟

ولكن لا تخطئوا، إذا أردتم الشروع في رحلة مثل هذه، فمن المؤكّد أنّها لن تكون سهلة. هذا هو نمط الحياة الذي يتطلّب منكم بلا شك أن تتقبّلوا مشاعر الكآبة والرعب والفشل والوحدة وكل ما تبقى. ولكن من خلال تبنّي سمة العبثيّة الحقيقية للعالم، وحقيقة التباين العاطفي للحالة الإنسانية، ستكون مكافأتكم هي الوصول إلى الإمكانيات اللامحدودة التي تكمن أمامكم.

وسنتحدث أكثر عن ذلك في المقال القادم، لكنّ إميل سيوران سيواصل القول أنّه لم يكن لديه أبداً صديق لم يكن واقعياً ويتّجه إلى عبثيّة الأشياء دون لهّاية. ويمكنكم ملاحظة من أين جاء كل ذلك. فعندما يختار المرء أصدقائه أو عندما يحاول فهم نفسه، عندما يحاول التعرّف على أيّ شخص، هل يريد شخصاً مشتتاً للغاية يتحدّث إليه؟ طبعاً لا… كيف يمكن التعرّف عليهم أصلاً؟

هل يريد شخصاً يكرّر ما قرأه في بعض الكتب أو يثرثر حول ما قاله نيتشه حول موضوع ما؟ طبعاً لا، أنا أفضّل أن أتسكّع مع نيتشه شخصياً.

هل يرتبط المرء بشخص يظهر بمظهر الشخص المتفوّق علينا نحن البشر الضعفاء ومشاعر الحزن لدينا؟ أترون، فقط من خلال التعامل مع الإمكانيات الحقيقية المتاحة لنا يمكننا الوصول لأنفسنا وللآخرين.

ذكر سيوران في كتابه “على مرتفعات اليأس” أنّه يطرح سؤالاً. فيسأل: ((من هو الأتعَس؟ من يشعر بوحدته الخاصّة أو من يشعر بوحدة العالم؟)). إنّه يقول بضعة أشياء في هذا الاقتباس، لكن أعتقد أنّ واحدة منها هي طريقة مثالية للتفكير في ما يراه الكثيرون مفارقة تكمن في أسس عمله. أترون، فمن ناحية، هو المفكّر الذي سيمضي إلى هناك. إنّه المفكّر الكالِح بما يكفي لإظهار مشاعر الوحدة لدى الجنس البشري على المستوى الكوني، الوحدة التي يشعر بها الجميع. ولكن فقط من خلال إثارة الموضوع، والتحدّث عنه، وفضّ تغليفه، والاستهزاء به في بعض الأحيان، والتألّم عليه، وفي النهاية عدم قبوله لتخفيف شعورنا بالانزعاج منه، بل من خلال تقبّله، والاندماج فيه -عندما نقوم بكل هذه الأمور، نشعر بأنّنا أقلّ وحدةً بعد قراءة أعماله لأنّنا لا نشعر فقط بأنّ شخصاً آخر يشعر بنفس الطريقة التي نشعر بها أحيانا في أسوأ أيّامنا، بل أيضاً بأنّ الجميع يشعرون بهذه الطريقة أحياناً. وهذا يجعلك تشعر بالراحة بعض الشيء، وبأنّك على الأقل جزءًا من شيء ما.

والآن، هو يفعل ذلك مع كل المشاعر التي تحدّثنا عنها اليوم. إنّه يتوجّه نحوهما. إنّه مفتونٌ بأكثر الأشياء ظلمةً وتحريماً للحديث عنها في ما يسمّى المحادثة المؤدبة. اثنتان من أكثر الأشياء تفضيلاً لديه، مع أنّه أمضى حياته مفتوناً تماماً بها، كانا مفهومي الفشل والانتحار. أفكاره عن الفشل مثيرة للاهتمام بقدر ما هي مضحكة. فالأشخاص المفضّلون لديه في الحياة كانوا فاشلين تماماً. كان يبتهج في إخفاقاته الخاصّة في الحياة ويعتقد أنّه يجب احتضانها وتقبّلها.

أمّا الانتحار فكان مسألة معقّدة بعض الشيء. أريد التحدّث عنه في مقال منفصل، لكن ما سأقوله هنا هو أنّ سيوران لم يعتقد أنّ الانتحار كان جواباً على مشاعر غير مريحة. فهو نفسه لم ينتحر، قد يكون من المغري أن نتصوّر سيوران كرجلٍ من الإيمو في زاوية البار يتذمّر من الجعة -“الجعة بلا معنى!”. لا، بل على العكس من ذلك، تذكّروا، رسالته كلّها تدور حول احتضان الحياة، والتي بالنسبة له هي بالضرورة احتضان الكآبة، والخوف، والفشل، والحزن، إلخ. هناك العديد من الأشخاص الذين كتبوا عن لقاءهم مع سيوران، وقد أوضحوا أنّه ربما كان أحد أكثر الناس بهجة ومَرحاً الذين قابلوهم على الإطلاق.

فكرة أخيرة يمكن التوقف عندها الآن مقولة لسيوران بخصوص الحياة والانتحار، إذ يقول: ((إنّ فكرة أنّ الحياة بلا معنى بحدّ ذاتها هي سبب كافٍ للعيش -بل هو السبب الوحيد)).

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات