تمثل شخصية لوسيان سيف Lucien Sève محطة أساسية في تاريخ الماركسية الفرنسية، حيث كرس عمله في إقحام الماركسية ضمن حركة التاريخ. وقد انتقد القراءات التي اكتفت فقط بالوقوف أمام نصوص كارل ماركس Karl Marx، من خلال الاكتفاء بشرحها وتفسيرها من دون المساهمة في الإضافة على هذا التراث.
وركزت دعوة لوسيان سيف على ضرورة إعادة النظر في القراءة السائدة لأعمال ماركس، والتي اتخذت طابع نزعة علموية ووضعية، عن المرحلة المتأخرة من تفكير ماركس، ودعا بذلك إلى التحرر من قبضة الأحكام التي تنفي حضور الفلسفة في هذه المرحلة، ومن ضمن هذه الأحكام، قضية الترويج لسيادة الاقتصاد السياسي مكان الفلسفة التي اختفت بشكل نهائي. يضع لوسيان سيف مسافة نقدية أمام هذا التصور المغالي في تغليب كفة حضور الاقتصاد السياسي على حساب مكانة الفلسفة في فكر ماركس، ويفتح بذلك أفقا جديدا في إعادة التأسيس لقراءة مغايرة، تحاول التحرر من الأحكام المسبقة والمواقف القطعية والدوغمائية، التي تدافع عن غياب الفلسفة في المرحلة المتأخرة من عمل ماركس.
يدافع لوسيان سيف عن حضور واستمرار الفلسفة في تحليل ماركس داخل أعماله المتأخرة، والتي تدعى بمرحلة النضج في لغة ألتوسير. ويرى بهذا الخصوص أن ماركس قد عمل على إعادة تشغيل نظام الفلسفة بكيفية جذرية وأصيلة، مما يسمح بالقول، أن الأدوات المفاهيمية والشبكة المنطقية، قد عرفت في هذه المرحلة استعمالا مغايرا ومختلفا عن الاستعمال المعهود لها في تاريخ الفلسفة. إذا كان ماركس، قد احتفظ بالفلسفة في مرحلته المتأخرة، كيف عمل إذن، على استعمالها في تحليله؟ بمعنى آخر، ما هي مميزات حضور الفلسفة بجانب الاقتصاد السياسي؟ وأين يظهر حضور الفلسفة في الاقتصاد السياسي؟
يرى لوسيان سيف أن ماركس قد أعطى للفلسفة مدلولا جديدا، وذلك من خلال إقحامها ودمجها بمعطيات علم الاقتصاد السياسي. يظهر تجديد الفلسفة في هذا الباب بشكل واضح، عندما سعى ماركس لتوضيح منهج الاقتصاد السياسي، من خلال استعمال وتوظيف المقولات المنطقية. ومن بين الأمثلة التي يدرجها لوسيان سيف للبرهنة على هذا القول، استحضاره لكتاب المدخل لنقد الاقتصاد السياسي 1857، والذي كان الهاجس الأساسي المتحكم في بنيته، هو توضيح وملأ النواقص والثغرات التي تعتري منهج الاقتصاد السياسي، حيث دفع ذلك بماركس إلى التفكير في معنى ووظيفة هذه المقولات المستعملة بداخله. ويدرج لوسيان سيف في هذا الإطار العديد من المقولات المنطقية، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «المجرد والملموس، العام والخاص، المنطقي والتاريخي».[1]
كما يؤكد لوسيان سيف، بأنه لا يهدف التطرق لتحليل مفاهيم عامة، تنتمي إلى حقل علم الاقتصاد السياسي والواقع الاقتصادي، مثل «البضاعة، والعمل، والقيمة، والمال، والرأسمال»؛ بل إنه سعى إلى تحديد المقولات الشاملة باعتبارها تمتلك أهمية أساسية في رسم قوانين التفكير. بمعنى آخر، استند لمقولات منطقية وفلسفية تحيل إلى البعد المعرفي والأنطولوجي، ومن ضمن هذه المقولات والحدود، نذكر على وجه أخص: «الماهية، والمجرد، والشامل، إلخ، وكذلك المادة، والصورة، والعلاقة».[2]
لاحظ لوسيان سيف أنه من المشروع الحديث عن المميزات والمظاهر الجديدة، للمقولات المنطقية والمفاهيم الفلسفية داخل كتاب الرأسمال. وفي هذا الإطار نطرح السؤال،هل احتفظ ماركس بنفس المقولات والمفاهيم الفلسفية في الرأسمال؟ أم عمل على تغيير دلالتها واستعمالها وفق تغير الموضوع؟ يشير سيف لمظاهر هذا الحضور الخاص بالمفاهيم والمقولات في استعمال ماركس، وذلك دون أن يطرأ عليها أي تغيير يذكر من ناحية دلالتها، بحيث نجدها ماثلة بنفس المعنى الموجود في تاريخ الفلسفة، وبالأخص في فلسفة ومنطق هيغل. وندرج في هذا الصدد مجموعة من المقولات، والتي تنتمي إلى تاريخ الفلسفة، ونلاحظ حفاظها المستمر على دلالتها المعهودة في الرأسمال، مثلا مفاهيم: «القانون، العلة، الفعل المتبادل».[3]
وبالرغم من أن ماركس قد احتفظ بشبكة المفاهيم الفلسفية والمنطقية، فهذا لا يمنع من القول بالمظاهر الجديدة في استعمال هذه الشبكة، وذلك لا يعني مطلقا اختفاء هذه الشبكة وتعويضها بجهاز مفاهيمي مغاير. بمعنى آخر، وجبت الإشارة من ناحية المبدأ لحضور العديد من المفاهيم الفلسفية المتداولة داخل تاريخ الفلسفة؛ ومن ناحية الفعل نرى أن هذه المفاهيم قد خضعت لتغيير جذري في دلالة استعمالها. ويظهر وجه الجدة في هذه المقولات، بكونها اتخذت مضمونا ماديا كبديل عن المضمون المثالي، الذي شكل معناها في تاريخ الفلسفة.
[1] Lucien Sève, Penser avec Marx aujourd’hui, Tome III, «LA PHILOSOPHIE» ?, Éditions La Dispute, 2014, p. 109.
[2] Lucien Sève, Penser avec Marx aujourd’hui, Tome III, «LA PHILOSOPHIE» ?, Op. Cit., pp. 109- 110.
[3] Lucien Sève, Op. Cit., p. 113.
_________
*أحمد الزاهد: حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، باحث ومترجم من المغرب.
*المصدر: التنويري.