
منذ بعث الرسالة المحمدية، تابع الإسلام سيره مخترقًا الحدود الطبيعية والجغرافية حتى وصل شرقًا إلى إيران والهند والصين، وغربًا إلى إسبانيا، وشمالًا إلى جزر البحر الأبيض المتوسط وبلاد الأناضول وأرض روسيا، وجنوبًا إلى قلب أفريقيا وسواحلها الشرقية والغربية. غير أن العالمين العربي والإسلامي لم يعيشا عيشة الجسد الواحد، ولم يعملا بدستور الإسلام، هذا ما تؤكده العديد من الكتابات. فلم يعرف التاريخ مجتمعًا نشأ سليمًا، أبيًّا مثل المجتمع العربي، ذلك أن المجتمع العربي أقبل في حماسة لكل ما يجلب له الخير والنفع. لقد كان العرب منذ أن ظهروا على مسرح الأحداث العالمية أصحاب رسالة سامية، يدعون فيها إلى المحبة والإخاء، غير أنهم لم يستثمروا في أفكار غيرهم، فسقطوا في وحل التطرف. كانت لهم الفرصة ولا تزال، بدلًا من أن يتصارعوا فيما بينهم أن يحولوا هذا الصراع نحو أعدائهم الذين يقتلون الأبرياء من أطفال فلسطين وغزة، وفي البلدان الأخرى التي لا تزال تعيش تحت نير الاستعمار وتعاني من المجاعة والأمراض بسبب الفقر.
فالسيطرة الغربية اليوم تشكل تحديًا مستمرًا لكل الشعوب علميًا وعسكريًا وسياسيًا وصناعيًا وروحيًا، وهو الأمر الأكثر خطرًا من كل هذه التحديات، لأن القومية الغربية لا تزال محافظة على دينها رغم أنه دين باطل، وبعقيدتها المزعومة توسعت دائرتها، في الوقت الذي تتعرض فيه القومية العربية إلى الذوبان، إن لم نقل لم يعد لها أثر في الساحة، بسبب التطبيع مع الكيان، لأن الغرب بقيادة أمريكا زرع الانقسامية، حيث قسّم العرب إلى مشرق عربي ومغرب عربي، وهي كما يقول مفكرون قسمة عنصرية لا علاج لها، فبقي الشرق شرقًا والغرب غربًا، ولن يلتقيا. وفي ظل هذه الانقسامية، وكما يقول برهان غليون، يزداد إيمان الشعوب الضعيفة بعجزها وفقر ثقافتها، ويترسخ لديها النزوع إلى الاقتداء وتقليد الغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله، وأدّى بها هذا التقليد إلى فقدان هويتها وانسلاخها عن قوميتها، والاستسلام لفكرة القبول بحتمية التخلف التاريخي والعنف والبربرية.
هذا ما قاله برهان غليون، ولم تخطئ رؤيته؛ لأن ما شهدناه وما نشهده إلى الآن من حروب أهلية في البلدان العربية وتفرقها، لخيرُ دليلٍ على الانهزامية التي يشهدها العالم العربي. الفارق شاسع طبعًا بين القومية العربية، التي تعيش اليوم الانحدار والانحطاط والانهيار، والقوميات الأخرى، التي ذكرها بندكت أندرسن (أكاديمي إيرلندي) في كتابه “الجماعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها”، حيث أرجع الأسباب إلى الهجرات وما تنتجه من هويات.
أصبح العربي يخجل من أن يقول: “أنا عربي”، وذكر هذا الكاتب أمثلة كانت أسئلة طرحها على تلامذته، وهم شباب مغتربون في أمريكا هاجروا من أجل التحصيل العلمي. فكان ردّ أحدهم، وهو من سنغافورة، وبغضب شديد: “أنا سنغافوري وأعتز بهويتي وقوميتي، اللعنة، لقد تعبتُ من الأمريكيين الذين يحسبونني صينيًا، لستُ صينيًا!”.
طبعًا، هذا هو الاعتزاز بالهوية في قمّة أشكاله، لأن الصيني في أمريكا يحسب نفسه أمريكيًا. فأمريكا ودويلاتها شكّلت ما سمّاه هذا الباحث بـ “القوميات الكريولية”، وهي الآن، رغم توسعها، تريد التوسع أكثر.
هي في نظره “ظاهرة عالمية” ولها أثر جانبي غير متوقع، فكثير من الأمم اليوم تتقاسم اللغة الإسبانية والفرنسية والإنجليزية، والصينية وحتى اللغة العبرية، وهذه القوميات تتجه الآن نحو “القومية الرسمية” (القومية العالمية)، لأن أمريكا تريد عولمة القوميات وجمعها في قومية واحدة، بهدف القضاء على القومية العربية الإسلامية، وهذه واحدة من المخططات التي تعمل للقضاء على الإسلام كدين سماوي، حيث ظلت القومية العربية تتصارع فيما بينها (هذا شيعي وذاك سنّي، وهؤلاء عرب مسيحيون… إلخ)، واختلفوا في نوع ثقافتهم إن كانت ثقافة عربية أم ثقافة إسلامية، وراحوا يستلهمون قيمهم من ثقافات أخرى، تبنوا خطابًا معاديًا، غير معتدلٍ، فتناحروا وكفّر بعضهم بعضًا، رغم أنهم شعب واحد جمعتهم اللغة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، لكنهم فقدوا هذه العناصر، فعجزوا عن النهوض بنهضتهم التي ضيّعوها في فترة ازدهارهم، لدرجة أننا نجد العربي (المسؤول) اليوم يخجلُ من أن يتكلم بلسان قومه، أي لغته الأمّ (اللغة العربية الفصحى)، ويخاطب بها الآخر في اللقاءات الدولية الرسمية وأمام الرأي العام الدولي، وكاميرا الصحف العالمية.
إن ازدهار ونمو الثقافة الغربية وتحولها إلى ثقافة عالمية، كما يقول برهان غليون، ليس هو علة نشوء الحضارة الغربية بل نتيجة لها، وبالمثل، إن تراجع حضارة العرب لم يكن بسبب تأخّر، بقدر ما أن تأخر ثقافتهم العربية وضعفها الراهن هو ثمرة الانكماش والعزلة التي أصابتها بسبب تدهور دورها في الحضارة… إلخ. نعم، إن تراجع الأمة العربية سببه رفضها للتكيف مع الحداثة والعصرنة ومواكبة التطور والتكنولوجيا الحديثة في عالمٍ متعولمٍ مرقمنٍ، فهل يصلح العطّار ما أفسده الدهرُ؟
*المصدر: التنويري.