المقالاتمنوعات

لبنان: دراسات في المجتمع والاقتصاد والثقافة

البطالة

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب بعنوان لبنان: دراسات في المجتمع والاقتصاد والثقافة، وقد ألفه مجموعة من الباحثين المختصين وأشرف عليه وقدمه الدكتور خالد زيادة. جاء الكتاب في 736 صفحة، وهو مسحٌ شاملٌ لأهم القطاعات والمجالات التي تشمل التاريخ والجغرافيا والسكان والاقتصاد والتربية والسياحة والثقافة والسياسة وعلاقات لبنان الخارجية. وقد ساهم في الفصول التي يتضمنها أساتذة جامعيون ومتخصصون وخبراء وكتّاب مشهود لهم بالبحث المعمَّق. ويهدف هذا الكتاب إلى التعريف بلبنان، طبيعةً واقتصادًا واجتماعًا، خلال مئة عام، منذ إعلان تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920، شهد لبنان خلالها اطّراد دوره كواحة ثقافية عربية تعددية، بالرغم من الأزمات التي خبرها.

يتوجه الكتاب إلى القارئ اللبناني خصوصًا، ويتوجه إلى القارئ العربي عمومًا، بوصفه – في الوقت نفسه – مرجعًا لا غنى عنه لكل باحث يريد أن ينظر نظرة فاحصة إلى خصائص لبنان وتجربته المتنوعة. ويضمُّ هذا الكتاب تقديمًا وتسعة فصول.

الجغرافيا والتفاعل بين البيئة والسكان

جاء الفصل الأول بعنوان “ملامح الجغرافيا الطبيعية للجمهورية اللبنانية”، وفيه تناول الباحث لورنس شربل دراسة جميع الظواهر الطبيعية المؤثرة في دينامية تضاريس سَطح لبنان. لذا، فإن مضمون هذا الفصل لا يقتصر على جيومورفولوجية الأراضي اللبنانية، بل يشمل أيضًا دراسة معطيات متعددة في المناخ والجيولوجيا والموارد المائية والتربة والنبات الطبيعي، كأساسٍ لتفهّم العلاقات الجغرافية.

لإظهار هذه الشخصية المميزة للأراضي اللبنانية، كان لا بد من الاطلاع على معظم بحوث الجغرافيا الطبيعية التي أجريت على الأراضي اللبنانية، وهي في معظمها بحوث كُتبت باللغة الفرنسية، لكشف مضمونها للقارئ، واستخلاص أهم ما توصلت إليه من نتائج، وكل ذلك في قالب علمي مبسط وموثق بالكثير من الصور والخرائط والجداول والرسوم البيانية.

تنقسم موضوعات هذا الفصل إلى سبعة عناوين أساسية هي: موقع لبنان الجغرافي، وخصائصه المناخية (الدورة الهوائية العامة، المتساقطات، الحرارة … إلخ)، وبنيته وتركيبه الجيولوجي (الحركات التكتونية، ونظام بنية الطبقات، والتركيب الليتولوجي … إلخ)، وجيومورفولوجية الأراضي اللبنانية (جيومورفولوجية الأقاليم السهلية ومرتفعات لبنان الغربية والشرقية)، وموارده المائية (المياه السطحية والجوفية والميزان المائي)، وخصائص تربته، وثروته من الغابات والنباتات الطبيعية.

وبعد هذا العرض الموجز لأهم الخصائص الطبيعية للأراضي اللبنانية أظهر الباحث غنى كبيرًا في الموارد الطبيعية لهذا البلد، وخلص إلى ضرورة تكثيف الدراسات الميدانية، وتوثيق المعطيات الجغرافية داخل برنامج نظم المعلومات الجغرافية، استنادًا إلى تقنيات الاستشعار عن بُعد؛ إذ من شأن هذه العملية تأمين قاعدة البيانات الأساسية لمشروعات الطاقة المتجددة والمخططات التوجيهية على أنواعها.

أما في الفصل الثاني، فدرست فيه كوليت أبي فاضل “ملامح الجغرافيا البشرية للجمهورية اللبنانية”؛ إذ تهتم الجغرافيا البشرية بدراسة الأنماط والعمليات التي تصوغ تعامل البشر مع البيئة. ودراسة موضوع الجغرافيا البشرية في لبنان تتميّز بوضع خاص، وتواجه إشكاليات عديدة. فمن الناحية الديموغرافية، لا تتطابق الإحصاءات التي تناولت أعداد السكان، بسبب عدم الدقة في الأرقام، أو بسبب انطوائها على أرقام متباعدة. وقد ازداد النمو السكاني في لبنان رغم تراجع الخصوبة لدى المقيمين اللبنانيين، ونزيف الهجرة من لبنان وإليه. واختلفت تركيبة سكان لبنان الطائفية بانقلاب النسب بين الطوائف. ومن الناحية الصحية، تدنّت الإصابة بالأمراض الوبائية والإعاقة، في حين أن التأمين الصحي لا يشمل جميع اللبنانيين. ومن الناحية الاقتصادية، ازدادت نسبة البطالة والإعالة رغم ازدياد عدد السكان الناشطين.

بناءً عليه، تناول الباحث في هذا الفصل ثلاث نقاط أساسية: الجغرافيا السكانية، والجغرافيا الصحية، والجغرافيا الاقتصادية. ودرس في الأولى حجم سكان لبنان، وتركيبتهم، وكيفيّة توزّعهم، وخصائصهم الديموغرافية، وحراكهم. وعالج في الثانية واقع الصحة في لبنان، والتعرض للأمراض في المحافظات، تبعًا لجنسيات المقيمين. وركز في الثالثة على النشاطات الاقتصادية والقوى العاملة وتوزيعها بين المناطق اللبنانية.

وما يميز هذا الفصل هو كثرة الجداول والأشكال البيانية والتفصيل الإحصائي والأرقام التي تشمل كل التوزع الديموغرافي وحركيته المعيشة؛ فلقد حوى الفصل 29 جدولًا، و48 شكلًا، وخريطتين.

تاريخ لبنان من العصور القديمة إلى العهد الحديث

إثر ذلك، نجد الفصل الثالث، وهو بعنوان “ملامح تاريخ لبنان منذ أقدم العصور”. وفي هذا الفصل درس لبنان منذ الفينيقيين إلى اليوم بعد تأسيس لبنان الكبير وإنجاز دولة مستقلة، وما تلا ذلك من حروب، إضافة إلى توقيع اتفاق الطائف. وقد عرض في المبحث الأول “لبنان في العصور القديمة”، فشرح في الفقرة الأولى “المدن اللبنانية في العهد الفينيقي وإنجازاتها”، فضلًا عن تعريف الفينيقيين وبداية تأسيس المدن اللبنانية التاريخية: “عُرف الساحل الشرقي للبحر المتوسط قديمًا ببلاد كنعان، نسبة إلى الكنعانيين الذين جاؤوا من الجزيرة العربية واستوطنوا الساحل السوري – اللبناني- الفلسطيني في منتصف الألف الرابع ق. م. وفي الألف الأول ق. م. أطلق الإغريق تسمية الفينيقيين على الشعوب الذين سكنوا الساحل السوري – اللبناني. أمّا سكان الساحل الفلسطيني، فحافظوا على تسمية ’الكنعانيين‘ […] وقد توالت على فينيقيا احتلالات عدة؛ من المصريين إلى الآشوريين فالبابليين والفرس، ثم الإغريق والرومان. فكان لدى شعوبها مقدرة على “التعايش” مع المحتلين والتفاعل الثقافي معهم، وفي الوقت ذاته، تنمية مصالحها التجارية في المتوسط”.

وتحدث في الفقرة (أ) عن ظهور المدن الفينيقية، على سبيل المثال: “تُعد مدن صور وصيدا وبيروت وجبيل وطرابلس وبعلبك من أهم المدن الفينيقية ضمن الجغرافيا اللبنانية الراهنة. وتُعتبر جبيل وبيروت المدينتين الفينيقيتين الأقدمين على الساحل الفينيقي”. أما في الفقرة (ب) “الفينيقيون: إنجازاتهم الجيوسياسية والحضارية”، فيذكر أنّ الفينيقيين قد اختطوا سياسة بحرية للخروج من جغرافيتهم الضعيفة بالمواد الأولية وضيق المساحة الزراعية، فكان البحر المتوسط بوابتهم إلى العالم. وأتت استراتيجيتهم البحرية هذه نتيجة مسألتين: العوائق الطبيعية المتمثلة في جبال لبنان، ووجود إمبراطوريات كبيرة في محيطهم، تتقاتل للسيطرة على البر، فبدؤوا بمبادرات متواضعة، وسرعان ما تحولوا إلى قوة بحرية، وأصبحت لديهم تجارتهم وصناعاتهم الحرفية ومراكزهم التجارية في البقعة المتوسطية.

في المبحث الثاني، تناول سنّو “لبنان في العهود اليونانية والرومانية والبيزنطية”، فتحدث عن احتلال اليوناني للمدن الفينيقية، ثم عن التفاعل الحضاري بين فينيقيا واليونان، وعن الآثار اليونانية في لبنان. وبعد الفترة اليونانية تناول الاحتلال الروماني، بعنوان “لبنان في عصر الإمبراطورية الرومانية”، وذكر أنّ روما شهدت اضطرابات داخلية وحروبًا أهلية منذ أواخر القرن الثاني قبل الميلاد، ثم إطلاق حرية المعتقد الديني (مرسوم ميلان عام 313م)، إلى أن تمكنت القبائل الجرمانية من السيطرة على مقاطعاتها في عام 476م. وبعد ذلك، يتحدث الباحث عن “ازدهار المدن الفينيقية تحت مظلة “السلام الروماني”؛ مدرسة الحقوق في بيروت”، وأنّ الرومان تركوا كثيرًا من الآثار والقلاع، وتداخلت ثقافاتهم الدينية والمجتمعية في المجتمع المحلي. ثم يشرح الباحث مرحلة “لبنان تحت الحكم البيزنطي”، وهي مرحلة ذات أهمية كبيرة على صعيد النقلة الدينية لسكان بلاد الشام كلها، ومن ضمنها لبنان. لذا، بحث المؤلف تحت عنوان “فينيقيا وبيزنطة: من الوثنية إلى المسيحية الشرقية – التقسيمات الإدارية”، كيفية محافظة سكان فينيقيا على وثنيتهم، حتى ظهور المسيحية.

في المبحث الثالث، “لبنان من الفتح الإسلامي إلى نهاية العهد المملوكي”، اهتم الباحث في الفقرة الأولى بـ “لبنان تحت الحُكم العربي/ الإسلامي”، وكيفية التحول في النظم الإدارية وتعريبها. ثمّ ناقش، تحت عنوان “السكان والطوائف والأسلمة”، المجتمع العربي الجديد والتعدد الداخلي حيث تفاعل الفاتحون مع أصحاب الأديان الموجود “اليهود والمسيحيين”، وبقايا الفينيقيين. ثم تحدث الباحث عن “لبنان في العهدين الأموي والعباسي” وما تبع ذلك من ازدهار تجاري واقتصادي وثقافي لبعض المدن، وخاصة بيروت التي كان فيها أميران: أمير بيروت المرتبط بدمشق سياسيًا، وأمير البحر العسكري. ثم تحدث عن “لبنان تحت الحكم الفاطمي”، وسيطرة السلاجقة “السُّنة” على لبنان. وبعد ذلك، عاين “الهجوم الصليبي المعاكس على بلاد الشام”؛ إذ أصبح لبنان تحت الاحتلال الصليبي، وانتقل إثر ذلك ليصبح ساحة تلاقٍ حضاري، ومن ثمّ شرح الباحث حالة “لبنان تحت الحُكم المملوكي” وما رافقها من “الحملات الكسروانية وتغيير الخارطة المذهبية”.

بعد هذه الفترة أصبح الأمر متعلقًا بـ “لبنان في العهد العثماني”؛ إذ “تمكن العثمانيون، قبل انتزاعهم بلاد الشام ومصر من أيدي المماليك خلال عامَي 1516 و1517، من الاستيلاء على القسطنطينية، حاضرة العالم المسيحي الشرقي، في خلال عام 1453، فكان ذلك نذير تحوّل استراتيجي كبير في الجغرافيا السياسية وفي تاريخ العلاقات الدولية”. وقد ناقش الباحث فلسفة الحكم العثماني للبنان ونوع الإدارة وكذلك “عهد الإمارتين المعنية والشهابية”، وما رافق هذه الفترة من انحيازات طائفية. وإذْ يلفت الباحث إلى هذا التراكم التاريخي للحوادث المؤثرة في البلاد، فذلك ليفسر ما آلت إليه الأمور في مراحل أشد ضراوةً على صعيد الاحتراب الشعبي، ذلك أنه يناقش في مرحلة لاحقة “لبنان: من الحرب الاجتماعية في عام 1860 حتى نهاية الحرب العالمية الأولى”، وما رافق ذلك من نهوض للمدن وازدهار تجاري فيها، ثم أزمات سياسية نتيجة لعبة الدول، وكذلك المجاعة التي ضربت سكان لبنان.

أما في المبحث الخامس “دولة لبنان الكبير – مسارات النزاع والوفاق”، فقد تحدث الباحث عن كيفية الانخراط الإسلامي التدريجي في هذا الكيان، وصولًا إلى الاستقلال، وإنجاز الميثاق الوطني، و”تعزيز منسوب التعايش الطوائفي […] إلى حين”. ثم ناقش مراحل ما بعد الاستقلال وانخراط لبنان في أحلاف المنطقة؛ “حلف بغداد”، و”الناصرية”، وتداعيات اتفاق القاهرة في عام 1969، وصولًا إلى الحرب اللبنانية في عام 1975، وانتهائها باتفاق الطائف في عام 1989. وتحت عنوان “حرب داخلية وتدخلات خارجية – الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982″، يعرض الباحث هواجس اللبنانيين وجبهاتهم وأنواع ارتباطهم بالخارج، ودور المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية والجبهة اللبنانية، وكل التنظيمات والمليشيات التي تدور ضمن فلك أكبر (الانقسام الطائفي الإسلامي – المسيحي). وقد انتهت الحرب اللبنانية بالدخول السوري وهيمنة النظام السوري على لبنان وفرض تبعية كل السياسيين له.

الاقتصاد والمال في لبنان

بيّنت لورا الصياح في الفصل الرابع، “ملامح اقتصاد الجمهورية اللبنانية”، تميز لبنان من بلدان المنطقة بنظامه الاقتصادي الحر، خصوصًا في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، حين بَقِيَ بَعيدًا عن سياسات تدخّل الدولة في الاقتصاد؛ ما جعله مقصدًا للأموال والاستثمارات، من دون أن تساهم هذه الأموال بتكوين حالة من النمو المستدام والتطور الاقتصادي. فلبنان لم يجد نفسه في النظريتين الاقتصاديتين المسيطرتين، أي إحلال الواردات والليبرالية المطلقة. وهكذا، تُرِكَ للدولة الاهتمام بالبنى التحتية اللازمة لبناء اقتصادٍ يستند إلى المبادرة الفردية الخاصة التي اتجهت نحو قطاع الخدمات، وتحديدًا قطاعَي المصارف والتجارة، ثم نحو قطاع البناء، في حين أُهملت القطاعات الإنتاجية الأخرى؛ فأتى بذلك التنظيم الاقتصادي ليَسمح باقتصاد حُر شديد الارتباط بالغرب ومرتكز على التجارة والتمويل، وهو ما أفقر المناطق الريفية، وأدخل أزمةً وجودية في الزراعة، وأدى إلى موجة كثيفة من الهجرة نحو المدينة. كما كان لهذا التوجه أن أنشأ احتكارات في قطاعات استراتيجية كالاستيراد مثلًا؛ ما فاقم التنمية غير المتوازنة وعدم المساواة في الدخل.

كانت هذه العوامل كلها من أسباب الحرب الأهلية التي انفجرت في نيسان/ أبريل 1975. أمّا أسُس النظام الاقتصادي اللبناني، فإنها بُنيت قبل أن يأخذ البلد شكله الحالي، وكان للقوى الأوروبية المسيطرة آنذاك الدور الأساس في تكوينه، بهدف الولوج إلى بلدان الشرق الأوسط؛ ما جعله معبرًا ومخزنًا للبضائع الأوروبية المتوجهة إلى البلدان العربية. بذلك، بدأ الاتجاه نحو إقامة اقتصاد مبني على الخدمات، خصوصًا على التجارة والتمويل، على حساب القطاعات الإنتاجية. ولخدمة هذا النظام، كان من المهم إفساح المجال أمام القطاع الخاص ليقوم بالدور الأهم في الاقتصاد، فيكون للقطاع الخاص الدور المحوري في دينامية الاقتصاد الوطني، في غياب أي سياسة اقتصادية عامة؛ فساهم ذلك في إضعاف الرؤية المستقبلية الواضحة، وترك الأسواق في يد قطاع خاص لم يكن بالضرورة مسؤولًا أمام المؤسسات الحكومية، أو مهتمًا بالمصلحة العامة.

سمح الاقتصاد الحر، بصيغته اللبنانية، بتعميق الاقتصاد الريعي. واشتدت هذه النزعة بعد انتهاء الحرب الأهلية؛ إذ شجعت السياسة النقدية التي اتبعتها الحكومة اللبنانية من خلال مصرف لبنان في فترة ما بعد الحرب الأهلية، والتي طبقت فوائد مرتفعة جدًّا، على جذب رؤوس الأموال كودائع جرى توظيفها في المديونية العامة، وفي تحفيز اقتصاد استهلاكي مبني على القروض المصرفية. من جهة ثانية، اعتُبِر القطاع المصرفي حجر الزاوية للاقتصاد اللبناني، فنشط في توزيع القروض. كما شهدت البلاد طفرة عمرانية، وجرى توقيع اتفاقيات تجارية مجحفة في حق القطاعات الإنتاجية. وقد رسخت هذه العوامل كلها الاقتصاد الريعي في لبنان، وقضت على ما بقي من القطاعات الإنتاجية.

يُضاف إلى هذه المشكلات انكشاف الاقتصاد اللبناني الصغير على الاقتصادات الأخرى، خصوصًا الاقتصادات المجاورة لها؛ ما جعله شديد التأثُّر بجميع العوامل المحبِطة، فزاده ذلك هشاشةً. من هنا، يكون الاقتصاد اللبناني مبنيًّا على قطاعات مرتبطة ارتباطًا وثيقًا جدًّا بالثقة والاستقرار، وهما عاملان يَصعب الحفاظ عليهما في الحالة اللبنانية. فلا تمر فترة إلا تشهد البلاد هزة سياسية أو أمنية، أكان مصدرها داخليًا أم خارجيًا. ومع كل أزمة، يترنح الاقتصاد: بدءًا من أزمة عام 1958، وصولًا إلى الحراك الشعبي الذي انفجر في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ومن ثمّ إلى الأثر الكبير لجائحة كورونا التي هزّت العالم منذ كانون الثاني/ يناير 2020، مرورًا بالحرب الأهلية والتعديات الإسرائيلية المتكررة، والحرب الدائرة في سورية منذ عام 2011، على سبيل المثال لا الحصر.

تُظهر المؤشرات والأرقام التي عرضت في سياق الفصل، أن الاقتصاد الوطني كان في أوجِهِ خلال الفترة التي سبقت الحرب الأهلية. فأتت الحرب لِتُجهز على جميع القطاعات والبنى التحتية. وكما سوف يظهر لاحقًا، لم تقوَ القطاعات المنتجة على الاستمرار في فترة السِّلم؛ فبقي الاقتصاد شبه ريعي، مبنيًا على خدمات ذات إنتاجية منخفضة، ومستعمِلًا تحويلات المغتربين للاستهلاك، مع تنامي الاقتصاد الموازي (خصوصًا بعد اندلاع الحرب السورية).

بناءً على بنية النظام الاقتصادي اللبناني، من الجليّ أن يكون نمو الناتج المحلي هزيل البنية ومرتبطًا بالعوامل الخارجية. كما أن الاقتصاد الاستهلاكي الذي نمَا نموًّا قويًّا جدًّا خلال فترة ما بعد الحرب الأهلية يفسر استمرار العجز التجاري الدائم، كما يفسر الأزمة الحالية، ولو جزئيًّا على الأقل. من ناحية أخرى، تُظهر السياسات المالية والنقدية الارتباط الشديد بين المكونات الاقتصادية المسيطرة على القطاعات الأساسية وقطاعات التمويل.

يشكّل هذا الفصل عرضًا عامًّا للاقتصاد اللبناني بجوانِبه الأساسية، استنادًا إلى الأرقام المتوافرة من مصادر رسمية. ونحاول في هذا السياق أن نُظهر كيف أن النظام الاقتصادي أوجد اقتصادًا مشوَّهًا عندما ضخّم قطاعات الخدمات (الفقرة الثالثة) على حساب القطاعات الإنتاجية (الفقرة الثانية)؛ ما يفسر الخلل الدائم في الميزان التجاري (الفقرة الرابعة)، ويزيد الاقتصاد الوطني هشاشةً. هذا الاختلال تفاقَم كله مع السياسات المالية التي سمحت بنفقات وديَن عامّ بمستويات هائلة، والسياسات النقدية التي استندت إلى فوائد عالية وسعر صرف ثابت (الفقرة الخامسة). وكل هذه الأسباب تسهّل فهم الوضع الحالي المأزوم الذي يتلخص في أزمات متعددة غير مسبوقة (الفقرة السادسة): أزمة مديونية عامة، وعجز في الميزان التجاري، وخلل في ميزان المدفوعات، ونقص حاد جدًّا في السيولة، وتضخم ينهش ما بقي للبنانيين بسبب تدهور كبير في قيمة الليرة اللبنانية. بذلك، تُبين هذه الهيكلية الإشكاليات الرئيسة التي ساهمت بشكل أساسي وأدت إلى انفجار الأزمة الحالية. يُظهر هذا الفصل، إذًا، الترابط الشديد بين جميع المكونات الاقتصادية الأساسية، لتشكّل نظامًا متكاملًا لمصلحة أقلية اقتصادية تستفيد منه.

أما الفصل الخامس “القطاع السياحي في لبنان” فيتحدث فيه حسين شبلي في المبحث الأول عن “تطور القطاع السياحي اللبناني صعودًا وهبوطًا”، وعن “القطاع السياحي اللبناني حتى عام 1975”. ويرى الباحث أنه مع توافر شروط مادية وسياسية واقتصادية وحضارية جديدة منذ نهاية القرن التاسع عشر (انتشار السكك الحديد وسيلةَ مواصلات رئيسة، وازدياد الحركة التجارية البينية وحركة السفر)، ازداد اعتبار بيروت وجبل لبنان مقصدًا لكثير من الأسر العربية المقتدرة، لتمضية فصل الصيف فيه. وازدادت شبكة التواصل تلك بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكان من نتائج ذلك تشييد العشرات من الفنادق اللبنانية في بيروت وقرى الجبل، ولا يزال بعضها إلى اليوم، بعد أكثر من مئة عام. وليس أدل على قِدم عهد السياحة في لبنان من ملاحظة أن الحكومة اللبنانية أنشأت في ظل الانتداب أول دائرة حكومية في عام 1924، لتهتم بشؤون الاصطياف والوافدين. وقد أُنشئ قسم سياحي في لبنان في ثلاثينيات القرن الماضي تقريبًا، وذلك ضمن وزارة الاقتصاد الوطني في لبنان. وكان دور القسم يقتصر على الرقابة. وفي عام 1942، أنشأت الحكومة اللبنانية مصلحة السياحة والاصطياف، وأوكلت إليها مهمات محدودة. وفي عام 1948، أُسست المفوضية العامة للسياحة والاصطياف والإشتاء، من أجل تطبيق القوانين السياحية. وحققت المفوضية مشروعات مهمة، كفتح مكاتب للاستعلامات والاستقبال، وكازينو لبنان، والمدرسة الفندقية، والمصعد الكهربائي للتزلج في الأرز، والتسليف الفندقي، والشهر السياحي، والمنشورات الدعائية المختلفة. ثم أُنشئ في عام 1962 المجلس الوطني لإنماء السياحة، وزال دور الوزارة. وفي عام 1966، أُنشئت وزارة السياحة التي ضمت المديرية العامة للشؤون السياحية – وهي من أهم الدوائر – والجهاز الرسمي للقطاع السياحي الذي يتولى الترويج للسياحة في لبنان، وإجراءات التنظيم والتنسيق والمراقبة بشأن الوظائف السياحية والجمعيات والمنظمات الخاصة التي تعمل في المجال السياحي، واستثمار الأماكن الأثرية والتاريخية والمتاحف.

عرف القطاع السياحي اللبناني مزيدًا من التطور منذ منتصف القرن العشرين، رغم أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين أقفل الخط البري الساحلي الذي كان يسلكه إلى لبنان السياح المصريون على وجه الخصوص؛ إذ شهدت الخمسينيات والستينيات حتى منتصف السبعينيات فترة استقرار سياسي وأمني ملحوظ، وتبعها ازدهار اقتصادي كبير تمثّل في حركة تجارية واسعة مع البلدان العربية المجاورة؛ فكان افتتاح مطار بيروت الدولي، وتوسعة مرفأ بيروت، وافتتاح عشرات الشركات التجارية والمصارف، وإنشاء الجامعات والمستشفيات والفنادق والمنتجعات، وكان من نتائج ذلك كله تدفُّق كثيف للسياحة العربية أساسًا، ثمّ السياحة الأوروبية.

إن أرقام الفترة 1971-1974، أي أكثر من مليون زائر سنويًا، كانت ستصل الآن إلى حدود أربعة ملايين سائح، مع تدفق نقدي مباشر يفوق أربعة مليارات دولار، أو ما كان ليصبح “الذهب الأخضر في لبنان”. لكن الأمور انقلبت كليًّا في مطلع عام 1975، على عكس ما يحتاج القطاع السياحي إليه أو يشتهيه؛ فالتوسع السياحي الذي رأيناه أصيب مباشرة، إلى درجة التدمير الشامل، بسبب انفجار الحرب الأهلية اللبنانية، لذلك كانت خسائر القطاع السياحي في كل اتجاه: دُمّرت المنشآت السياحية، ولا سيما المنشآت القائمة في وسط العاصمة، وغاب السيّاح كليًّا، فانهار قطاع الفنادق، وتضررت القطاعات المرتبطة به، وكان على عمالته المتصفة بالكفاءة أن تختار بين البطالة أو الهجرة. واستمرت الحال على هذا المنوال من التردي الشديد حتى نهاية الحرب الأهلية في عام 1990، حين افتُتحت حقبة سياسية جديدة في لبنان، بات اسمها مرحلة ما بعد الطائف (عام 1990 وما بعده).

أما بين عامَي 1990 و2020 مع انتهاء الحرب الأهلية، فقد وفّر مناخُ الاستقرار الأمني والتفاؤل الواسع الذي خيّم على البلاد عودة القطاع السياحي اللبناني بسرعة إلى سابق عهده من الازدهار والقدرة التنافسية؛ إذ عادت الاستثمارات إلى قطاع الفنادق والمطاعم بدرجاتها المختلفة. لكن سرعان ما عادت أمور السياحة اللبنانية في الأعوام اللاحقة إلى حالة من التراجع والتأزم، خصوصًا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عام 2005، والعدوان الإسرائيلي الواسع في عام 2006. فتأثرت منشآت القطاع السياحي طوال العامين المذكورين وفي أعوام قليلة لاحقة، وحدثت حركة هجرة جديدة لمكونات القطاع السياحي. ثم استعاد القطاع السياحي منذ عام 2008 بعضًا من بريقه وكثيرًا من أرقامه ودخوله، خصوصًا بعد التوافق السياسي الداخلي الذي تلا “تفاهم الدوحة” الذي أنهى أزمة سياسية طويلة، لتتحقق أرقام إيجابية عالية في عام 2010.

أما المبحث الثاني “مساهمة القطاع السياحي في الناتج المحلي اللبناني ومعطيات أخرى”، فقد أورد فيه الباحث إحصاءات وجداول وأشكالًا توضح حجم هذه المساهمة. وفي المبحث الثالث، قام بـ “تحليل للسياح وما ينفقون” لفهم المزيد بشأن السياحة في لبنان؛ إذ من الضروري تحليل سلوك السياح الوافدين، فهو يتساءل مثلًا: أين تذهب المصاريف السياحيّة؟ ومن هم السياح الأكثر إنفاقًا؟

في المبحث الرابع، عرض الباحث “مقومات السياحة في لبنان”، وهي: المقومات الطبيعية، والمقومات الأثرية التاريخية، والمقومات الثقافية، والمقومات الخدماتية، ويضاف إليها مناخ الجذب السياحي. أما في المبحث الخامس، “أنواع السياحة في لبنان”، فقد يُعتبر الترفيه والراحة أو السياحة الترفيهية من الوسائل الرئيسة لجذب المسافرين والسياح، غير أنّ هناك أسبابًا أخرى عديدة تستقطب السياح؛ مثل السياحة الثقافية، والسياحة الاستشفائية والصحية، والسياحة الدينية، والسياحة التعليمية، وسياحة المؤتمرات، والسياحة الطبيعية أو البيئية أو الريفية. وقد عاين الباحث هذه الأنواع المتعددة من السياحات بحسب المدن اللبنانية والمواقع الأثرية والثقافية والمراكز الصحية العلاجية كذلك.

وفي المبحث السادس، عرض الباحث “نقاط القوة ونقاط الضعف في القطاع السياحي”، ووضع خاتمة طرح فيها بعض النتائج والتوصيات، بحيث “يمكن البناء مستقبلًا على الثروة البيئية والثقافية الوطنية المتراكمة منذ أجيال، من دون الاعتماد على حسن الحظ دون سواه، أي إنه لا بد من خطة سياحية عشرية، تطلِق مواهب القطاع السياحي اللبناني المتميزة، وأن ينتبه المخططون إلى مستقبل السياحة اللبنانية المستجدات السياسية الحالية والمستقبلية في منطقة الشرق الأوسط؛ نظرًا إلى ما تضيفه من صعوبات تنافسية وتسويقية في سوق سياحية شديدة التطلّب.

التعليم والثقافة

جاء الفصل السادس من الكتاب بعنوان “التربية والتعليم والبحث العلمي في الجمهورية اللبنانية”، وقد عرضت فيه عبير تقي الدين مقدمةً شكّلت “لمحة تاريخية عامة عن التربية والتعليم في لبنان”، ثم عرضت أربعة محاور كالآتي: التعليم العام، والتعليم العالي، والتعليم المهني والتقني، والبحث العلمي.

ناقشت الباحثة في المحور الأول واقع التعليم العام في لبنان لجهة كلٍّ من الهيكلية والمناهج والطلاب وأفراد الهيئتين التعليمية والإدارية والمدارس، من خلال عرضٍ مفصل وجداول إحصائية وأشكال بيانية. أما في المحور الثاني المتعلق بـ “التعليم العالي”، فقد تحدثت عن الجامعة اللبنانية في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية، وهي التي شكّل تأسيسها في عام 1951، ثم توسيعها في عام 1959 – وهي الجامعة العامة الوحيدة في لبنان – حادثًا بارزًا جدًّا. وجاء إنشاؤها بعد ضغوط شعبية وطلابية كبيرة، خصوصًا من الفئات الاجتماعية غير الميسورة، التي طالبت بحقها في الحصول على فرصة للتعليم العالي، إضافة إلى أن لبنان قد كان قبل الحرب “جامعة الشرق الأوسط”. أما في أثناء تلك الحرب الأهلية، فقد ازداد عدد الجامعات والمؤسسات التعليمية في بيروت والمناطق: “كان عدد الجامعات في لبنان قبل بداية الحرب الأهلية في عام 1975 محدودًا، ثم تزايد حتى ناهز 20 مؤسسة تعليمية جامعية في خلال تلك الحرب”. وقد شهدت كذلك “حقبة ما بعد الحرب الأهلية، وتحديدًا بين عامَي 1996 و2001، توسعًا كبيرًا في مضمار التعليم الجامعي، لجهة عدد الجامعات والكليات والمعاهد وأحجامها واختصاصاتها وشهاداتها وطلابها”. أما في حال التعليم العالي اليوم، فقد وضعت الباحثة عرضًا مفصلة لحال التعليم في الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة أيضًا.

وفي المحور الثالث، “التعليم المهني والتقني”، عرضت الباحثة في الفقرة الأولى اهتمام الدولة بـ “تنظيم القطاع” المهني، ثم عرضت “النهوض بالتعليم المهني والتقني بعد الحرب الأهلية”، و”التدريب”؛ إذ إنّ “هناك في الوقت الحاضر جهات متعددة تقدم التعليم والتدريب المهني في لبنان. وبشكل أساسي، تتولى المديرية العامة للتعليم المهني والتقني في وزارة التربية والتعليم العالي إدارةَ التعليم والتدريب المهني والتقني”. وفي الفقرة الرابعة تحدثت عن “الإطار الاستراتيجي الوطني للتعليم والتدريب المهني والتقني في لبنان، 2018–2020”. وفي الفقرة الخامسة، تناولت واقع التعليم المهني والتقني اليوم بالجداول والإحصاءات.

في المحور الرابع، وهو بعنوان “البحث العلمي”، بيّنت الباحثة أنّ لبنان يبذل منذ أعوام عدة محاولات حثيثة لتعزيز قدراته في مجال إنتاج البحث العلمي، ولربط مخرجات هذا البحث بحاجات القطاعات الإنتاجية. وهو يعتمد في هذا السبيل، بشكل أساسي، على مؤسسات التعليم العالي وعدد من مراكز البحث. ثم تحدثت الباحثة عن مصادر التمويل للبحث العلمي، سواء الحكومية أو الجهات الخارجية، ثم تناولت في المبحث الثاني “تفعيل البحث العلمي على الصعيد الوطني من خلال الشراكة مع القطاعات الإنتاجية”، بحيث عرضت بعض الخطط والرؤى والمبادرات على هذا الصعيد. وإثر ذلك، تطرقت إلى موضوع “مبادرات لتفعيل البحث العلمي على صعيد الجامعات”، مع العلم أن العقبة الأساس في تفعيل البحث العلمي – كما أشارت – مفادها أنّ التمويل يبقى “واحدًا من التحديات الأساسية”، إضافة إلى “الاستمرار في عقد الشراكات الاستراتيجية الطويلة المدى مع القطاعات الإنتاجية، لتكون طاقات لبنان الإبداعية ومخرجات البحث العلمي في خدمة المواطن والوطن بصورة دائمة”.

وفي الخاتمة، اهتمّت الباحثة بقضية تحديث المناهج ومواكبة العصر؛ إذ “لم يجرِ تحديث مناهج التعليم العام في لبنان منذ عام 1997، ما يجعلها غير مواكِبة كما ينبغي لمتطلبات المرحلة الحالية، خصوصًا بعد الثورة الكبيرة التي شهدها العالم في مجال المعلوماتية والاتصالات؛ إذ أصبح الحصول على المعلومات سهلًا وسريعًا، والتحدي يكمن في دقة تحليلها وحُسن استخدامها”.

أما الفصل السابع، “حالة الثقافة في لبنان القرن الحادي والعشرين”، فقد بحث فيه أنطوان أبو زيد عن أهمّ العوامل التي أدّت إلى قيام النهضة الفكرية والاجتماعية والأدبية في أوائل القرن التاسع عشر، والتي مهّدت لها، على أن ننتقل بعدها إلى التفصيل في واقع الثقافة في لبنان بمراحله الزمنية المختلفة، وصولًا إلى يومنا هذا؛ أي العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.

وفي المبحث الأول، “عوامل النهضة”، عرض الباحث مظاهر التمدن في بيروت، وبدأ بالصحافة، ثم التعليم، ثم العمران، ثم الطباعة. وعالج في المبحث الثاني “المظاهر الثقافية (1900–2020)”، وأولى “الشعر” اهتمامًا، في الفترة الممتدة ما بين 1900 و2020، وأظهره في زمن النهضة، ثم الشعر العربي الحديث، ثم الشعر العربي المعاصر منذ السبعينيات إلى اليوم، وكذلك القصائد النثرية والشعر الحر، ذاكرًا بعض الأعمال الشعرية والشعراء المعروفين.

من جهة أخرى، تحدث في المبحث الثالث عن القصة والرواية إبان عصر النهضة منذ الفترة 1850-1900، وكذلك الفترة الحديثة حتى الخمسينيات، وأبرز الرواية الملتزمة والاتجاهات العروبية والاشتراكية والواقعية التي حوتها في الفترة ما بين الأربعينيات والسبعينيات، وامتد في معاينة حال الرواية، ملمّحًا إلى تأثير الحروب المتنوعة في الكتاب والقراء أيضًا، حتى يومنا هذا.

أمّا، في المبحث الرابع، فقد اهتمّ الباحث بـ “وسائل النشر والإعلام”، تطور الطباعة والنشر في القرن العشرين امتدادًا حتى يومنا هذا، متحدثًا عن الجرائد والمجلات، ثم محطات الإذاعة والتلفزيون، التي بدأت منذ الأربعينيات. وبعد ذلك، تناول العروض الفنية والمؤلفين، في المسرح والغناء والموسيقى، وفي الفن والنحت والسينما، ثم الجمعيات الثقافية التي نشأت.

بعد ذلك، خلص إلى خاتمة أوضح فيها الحاجة الدائمة إلى دور لبنان الثقافي الذي “لا يمكن أن يتراجع، خصوصًا أنّ الثقافة العربية الحديثة ارتبطت بلبنان، الذي ما زال العرب أجمعون ينظرون إليه باعتباره واحة ثقافية لا غنى عنها”.

وفي الفصل الثامن، “نظام الحكم في لبنان: ديمقراطية تنافس أم توافق؟ دراسة تحليلية”، تساءل خالد قباني عن “النظام السياسي في لبنان؟”؛ “في أي خانة نصنّفه، أفي خانة التنافس أم في خانة التوافق؟ وما طبيعته، هل هو نظام حكم برلماني أم رئاسي أم شبه رئاسي أم مجلسي؟ أم إنه يستعصي على كل تصنيف؟ وإن كان الأمر كذلك، فما هي معضلات هذا التصنيف أو التحديد؟”.

تحدث في المبحث الأول عن “مظاهر التنافس وحدوده في النظام السياسي اللبناني”، حيث يعالج “في مبدأ الفصل بين السلطات وجدلية المساءلة وتداول السلطة” وصلاحيات السلطات الدستورية، كسلطة مجلس النواب التشريعية، ومجلس الوزراء التنفيذية، وصلاحيات الحكومة ورئيسها، وكل ذلك بحسب الدستور اللبناني، وما وصل إليه في اتفاق الطائف، ثم اتفاق الدوحة. وبحث قباني كذلك سلطة رئيس الجمهورية وصلاحياته بحسب الدستور اللبناني واتفاق الطائف، وما أثارته بعض المواد الواردة في المواثيق من إشكاليات في صلاحياته. ثم تطرَّق إلى السلطة القضائية واستقلاليتها.

أما في المبحث الثاني، “مظاهر التوافق وحدوده في النظام السياسي اللبناني”، فقد تحدث الباحث عن النظام الطائفي وتكوينه ومصادره والمشكلة الطائفية اللبنانية عمومًا، ببعديها التاريخي والاجتماعي السابقين لنشأة الدولة اللبنانية حديثًا؛ ذلك أنّ التهديد الدائم للعيش المشترك، هو بسبب الخلل التأسيسي لهذا النظام الطائفي؛ لذا تحدث عمّا يلي: “في الخروج من النظام الطائفي: إلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس الشيوخ”، لمنع الهيمنة السياسية لأي طرف على الآخرين في الاجتماع السياسي اللبناني، لعلنا نصل إلى مرحلة إلغاء الطائفية السياسية، وهي مادة واردة في الدستور اللبناني، من حيث المبدأ، الذي يمكن تنفيذه بإنشاء مجلس شيوخ في مرحلة أولى”. وفي خاتمة دراسته، أكد الباحث أنه يجب أن “نُقنع أهل السياسة في لبنان أن الحياة السياسية محكومة بالدستور، وإلا تدبّ الفوضى”.

وفي الفصل التاسع، وهو الفصل الأخير، يتحدث شفيق المصري عن “السياسات الخارجية في الجمهورية اللبنانية”. وقد تناول هذه السياسة ابتداءً من الاستقلال اللبناني. وبناءً على هذا، يتمثل النص الرسمي الأول لهذا الموضوع في الخطاب الرئاسي الأول، وفي البيان الوزاري الأول لحكومة الاستقلال؛ وذلك كما يلي: “إن وزارة الخارجية سنُعنى بتنظيمها عناية تامة، بعد أن أصبحت كل علاقاتنا بالدول ومخابراتنا تجري بواسطة هذه الوزارة”.

تتألف السياسة الخارجية لكل دولة مستقلة، عادة، من الجهاز الإداري أو الفني المركزي، ومن الأسلاك الخارجية والقنصلية اللامركزية التابعة. وهي تقوم على قواعد لهذه الدولة وعلى أصولها ومبادئها. ولكن لن يتطرق الباحث في هذا السياق إلى الأجهزة الإدارية والتقنية والدبلوماسية، وغيرها من الشؤون البنيوية – الهيكلية الأخرى، بل سيركز على المبادئ التي استندت إليها، أو تأثرت بتطوراتها، السياسةُ الخارجية للجمهورية اللبنانية ابتداءً من الاستقلال. لذلك، توزع هذا البحث على ثلاثة أقسام رئيسة، هي:

  • المبادئ العامة والمفاصل الرئيسة لسياسة لبنان الخارجية من الاستقلال حتى منتصف سبعينيات القرن العشرين، أي حتى بداية الحرب الأهلية في لبنان في عام 1975 .
  • مسيرة هذه السياسة، مع التطورات التي واكبتها وكانت متأثرة أو مؤثرة فيها، حتى التداعيات التي أعقبت اتفاق الطائف على المستوى السياسي العام، إقليميًا ودوليًا.
  • أهم القرارات الدولية الضامنة للاستقلال والسيادة اللبنانيين (القرارات 2004/1559، و1680/2006، و1701/2006 الصادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة(.

والواقع أن هذه القرارات الدولية الثلاثة كانت، ولا تزال، غاية في الأهمية لناحية ضمان السيادة والاستقلال من جهة، وحفظ الذاتية، أي الهوية اللبنانية المتميزة من هويات الدول الأخرى، من جهة أخرى. وهذا الأمر لا ينسينا، طبعًا، أهمية القرارين 425 و426 اللذين يطالبان بانسحاب إسرائيل الكامل من جميع الأراضي اللبنانية، حتى الحدود المعترَف بها دوليًا. وقد خلص الباحث إلى نتيجة مفادها أنّ في تطبيق هذه القرارات الدولية ضمانة لسيادة لبنان وعلاقته بالدول الأخرى؛ إذ إن بعض هذه القرارات الدولية الضامنة يستند إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وهذا الفصل ملزِم في حد ذاته لجميع الدول، لا للبنان وإسرائيل فحسب. ومن ثمّ، فإن الدبلوماسية اللبنانية مسؤولة عن التركيز على هذه القرارات الدولية الضامنة، باعتبارها من مبادئ السياسة الخارجية اللبنانية ومن فروضها الواجبة التطبيق أيضًا.

مجموعة مؤلفين

​أنطوان أبوزيد، شفيق المصري، كوليت أبي فضل، حسين شلبي، عبد الرؤوف سنو، لورا صياح، خالد قباني، عبير تقي الدين، لورنس شربل.

إشراف وتقديم: خالد زيادة
________
*المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. 

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات