كيف أسهمت الأوبئة في تطور العلوم والسياسات وتوزيع الثروة؟
على مدار التاريخ ، كانت الأوبئة من أكبر صنّاع التغيير في مسار البشرية، وأثرت على الحضارات منذ أول تفش معروف في اليونان القديمة عام 430 قبل الميلاد، مروراً بطاعون “جستنيان” (541 – 750م)، و”الموت الأسود” في العصور الوسطى، والكوليرا في القرن الـ19 والإنفلونزا الإسبانية قبل قرن من الزمان.
وشكلت الأوبئة جوانب من حياة البشر ودفعتهم للتفكير في أسئلة فلسفية عن الحياة والوجود، كما ساهمت في تطور العلوم الحديثة، وبناء السياسات الصحية، وإعادة توزيع الدخل والثروة.
الاقتصاد والصحة
وفي سلسلة من المقالات تعرضت الكاتبة الأكاديمية بجامعة “ستانفورد” ميليسا دي ويت لجوانب مختلفة من تاريخ الأوبئة القديمة، وأخذت آراء مؤرخين وباحثين في الجامعة الأميركية.
فقد اعتبر المؤرخ والأكاديمي بالجامعة ذاتها والتر شيدل أن الأوبئة السابقة أعادت توزيع الدخل بين الأغنياء والفقراء، وكانت فعالة في التقليل من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، لكن النتيجة المتوقعة من جائحة كورونا قد تكون مختلفة للغاية.
ويقول شيدل إن الطاعون الدبلي الذي مزّق أوروبا والشرق الأوسط عام 1347م واستمر لعقود طويلة، أدى إلى إنهاء النظم الإقطاعية واندلاع انتفاضات جماهيرية، لكن مع تكلفة مدمرة قدرت بفقدان ثلث السكان حيواتهم.
قتل الطاعون العديد من الناس لدرجة أن العمال أصبحوا فئة نادرة للغاية، وانهار الطلب على الأرض، وقد مكّن ذلك العمال الباقين من تحصيل أجور أعلى، بينما كان ملاك الأراضي والإقطاعيون يحصلون على دخل وأرباح أقل. وهكذا أصبح الأغنياء أقل ثراءً والفقراء أقل فقراً. كما قوضت تجربة الطاعون الثقة في السلطات الإدارية والدينية في أوروبا، وشجعت الناس على التشكيك في نظام السلطة الحاكمة والتفكير في البدائل.
ويفصّل شيدل ما حدث في أوروبا خلال العصور الوسطى فيقول إن النبلاء وأصحاب الأراضي وجدوا صعوبة في الحفاظ على أنماط حياتهم الباهظة التكلفة، وفشلوا في إنفاذ القوانين التي تجبر العمال على الاستمرار في العمل بأجور منخفضة، وقامت انتفاضات الفلاحين لتنتهي بتسوية أجبرت الأثرياء على المساومة في بريطانيا، لكن في أوروبا الشرقية حافظت الطبقة العليا على موقف موحد ضد الفلاحين الذين أجبِروا على الخضوع بلا مساومة.
ويقول إن ذلك يدل على أن الطاعون في حد ذاته لم يكن كافياً لإحداث التغيير والتوازن، فقد لعبت هياكل السلطة السياسية والمحلية دوراً حاسماً في تشكيل النتائج.
ويستبعد المؤرخ الأميركي أن يحدث ذلك التوازن في الوقت الراهن، ويبرر ذلك بالقول إن الوباء الحالي أقل فتكاً بكثير من الأوبئة السابقة، وهو ما يرجح أن يعزز من التفاوتات القائمة مثل اتساع الفجوة بين “العمال ذوي الياقات البيضاء القادرين على متابعة أعمالهم من المنزل وعدم فقدان وظائفهم”، وبين من يعيشون حالياً تحت رحمة برامج الإغاثة القصيرة الأجل والمساعدات لتعويض فقدانهم أعمالهم.
العلوم والطب
من جانب آخر، تعتبر المؤرخة والأكاديمية بجامعة “ستانفورد” بولا فيندلين أن عدم قدرة الطب في القرن 14 على وقف الطاعون من تدمير المجتمعات في جميع أنحاء أوروبا وآسيا، ساهم في تقدم الاكتشاف العلمي وبناء السياسات الصحية، كما أن الحجر الصحي كان “سلاحا سياسيا” وأداة انتقامية، وكذلك موضوعًا للتفاوض الدبلوماسي.
وبالنسبة للإيطاليين في ذلك الوقت، بدا “الطاعون الدبلي” في البداية مريعاً، لكن عودته المتكررة جعلت منه جزءًا من الحياة اليومية، لدرجة أنه أصبح ينظر إليه بشكل متزايد كمصدر إزعاج اقتصادي ومشكلة إدارية (أكثر من كونه مشكلة صحية)، وكانت المدن مترددة في الاعتراف بوجود الطاعون بسبب العواقب الاقتصادية الوخيمة.
وتقول فيندلين إن المشكلات التي واجهها الإيطاليون آنذاك تشبه المشكلات المألوفة في عالم جائحة كورونا اليوم، مثل صعوبة الإبلاغ عن المرض بشكل موثوق، والمعلومات المضللة، والتوترات السياسية بين الدول على خلفية الوباء، معتبرة أن المجتمعات السابقة وجدت بشكل متكرر طرقًا للتعافي من تأثيره المر بموارد أقل بكثير مما لدينا اليوم، حسب تعبيرها.
وترى الأكاديمية بجامعة ستانفورد أن الإخفاق آنذاك في منع انتشار الطاعون شكل تحدياً لقدرات العلوم، كما طُرحت أسئلة من قبيل لماذا نجا البعض ومات الكثير؟ ولماذا فشلت العلاجات؟ مما دفع الأطباء إلى إيلاء اهتمام أوثق لما يمكنهم تعلمه من العوامل البيئية، كما كان عليهم التفكير بشكل دائم في النجاة من المرض الغامض.
توظيف سياسي
وفي العصور الحديثة لم ينقطع الوباء عن الأرض، لكنه أصبح علما مستقلا وارتبط بالحداثة ونشأة مؤسسات الدولة الحديثة، ويرى بعض المؤلفين والمؤرخين أن هذا الارتباط لم يكن بريئا، إذ ارتبط بالتوظيف السياسي والاقتصادي في زمن الاستعمار الأوروبي للعالم.
وفي كتابه “الأوبئة والتاريخ.. المرض والقوة والإمبريالية”، يدرس شيلدون واتس تاريخ الطب عامة وعلم الأوبئة بشكل خاص، ويسلط الضوء على علاقة الإمبريالية والحركة الاستعمارية بانتشار الأمراض الوبائية في مناطق جديدة لم تكن موجودة فيها من قبل، ويحلل كيف استخدمت الإمبريالية مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” لتتمكن من اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركتين، ونقل الأفكار الاستعمارية وتطبيقاتها، معتبرا أن نشأة المؤسسات الطبية التي أسسها الغرب تندرج ضمن السياق نفسه، وما هي إلا علاقات قوة وسيطرة بين الحاكمين والمحكومين.
ويناقش المؤلف علاقة انتشار الوباء بحركة البشر وانتقالهم، مؤرخا لنشر التجار والعمال والمهاجرين والحجاج والجنود والرعاة والعاهرات للأوبئة على مساحات واسعة من العالم، ناقلين أمراضا محلية إلى أماكن أخرى، مثلما جرى عام 1348 من نقل بعض التجار وباء من ميناء في البحر الأسود كان موبوءا بالطاعون إلى إيطاليا ومنه إلى إنجلترا، حيث تكرر ظهور الأوبئة لقرابة أربعة قرون.
كما يتعرض الكتاب لسبعة من الأمراض المعدية التي تحولت إلى أوبئة بين الشعوب الجديدة التي استعمرتها أوروبا في أفريقيا والأميركتين، وكذلك الشعوب القديمة التي استعمرتها أوروبا مثل الهند والصين ومصر.
المصدر : الجزيرة
*المصدر: التنويري.