المقالاتثقافة وأدب

كتاب “عرق متوهّم”.. العرق اليهودي كصناعة أيديولوجية

كراهية اليهود

يُورِد عبد الرحيم الشيح في تنظيراته حول القومية بأنّ القوميات جميعها مصنوعة، وأنّ أي جماعة قومية تريد تحقيق وجود قومي لها بالفعل في إطار الدولة، تلجأ إلى استغلال الرأسمال الطباعي، عبر تحويل وعيها بذاتها إلى حكاية تاريخية مكتوبة ومدجّجة بالأساطير من أجل جمع شتات الأمة بصمغ أيديولوجي تصنعه وتبتكره[1].

يأتي كتاب شلومو زند “عرق متوهم: تاريخ موجز لكراهية اليهود”، ليتحدّث عن الصهيونية كقومية مصنوعة، وليفنّد الأساطير والأكاذيب التي استندت عليها من أجل لملمة شتات يهود العالَم في إطار دولة ناشئة، وهي في مجملها أساطير تَستند إلى أكذوبة “نقاء العرق اليهودي”، وتَعمد إلى تصوير اليهود كضحايا أبديين لعقيدة الكراهية التي رافقتهم منذ القرون الأولى للميلاد، وذلك بسبب ساميتهم وتفوق العرق الذي ينحدرون منه وينتمون إليه.

ينطلق زند في كتابه من ادعاء رئيس يفترض فيه بأنّ جذور الكراهية والعداء اتجاه اليهود تعود لأسباب دينية لا أسباب عرقية، فالصراع بين اليهودية والمسيحية بدأ بعد اعتناق قيصر روما قسطنطين الأول، المسيحية في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي، فمع اعتناقه للمسيحية بدأ بإصدار قوانين لمنع استمرار التبشير باليهودية، وهو ما كان منتشراً في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، كما وأنّه قام بإصدار قوانين لمنْع الزواج بين المسيحيين واليهود، ومنْع اليهود من ختان عبيدهم، وقام بفرض عقوبات شديدة على اليهودي الذي يَلجأ إلى منع يهودي آخر من اعتناق المسيحية.

سعى الإمبراطور قسطنطين إلى تصفية ديناميكية التهوّد التي تفشت في أنحاء الإمبراطورية الرومانية، وقد جاء هذا السعي مترافقاً مع شيوع إشارات في الكتب المسيحية المقدسة تفيد بأنّ اليهود هم المسؤولون عن قتل ابن الإله المسيحي، فهذه الإشارات ورَدت في مختلف الأناجيل وفي صيغ متعددة، وكان الهدف منها تكريس بداية الذاكرة المسيحية في مواجهة اليهودية، وبموجب هذه الإشارات أصبح كلّ اليهود قتلة ابن الإله، وسيتعين على ذريتهم الملعونة دفع ثمن ذلك.

إنّ العداء الذي أظهرته المسيحية لليهودية، ونظرتها إلى اليهود باعتبارهم شعب ملعون قتَل المسيح، وهُزِم على يدّ الرومان وطرد من أرضه ليكونَ شاهداً على أخطائه وآثامه، كان هو الأساس في إنتاج العقيدة اليهودية لدى اليهود، وفي وجودهم كهويات منغلقة، حيثُ يُورِد زند “تشكّلت الخطوط العامة لشخصية اليهودي المشتت والفاسد والمسؤول عن صلب يسوع، وعوقب بسبب ذلك إلى الأبد -مثلما أنّ قابيل اضطر للمغادرة والترحال بعد قتله هابيل- من الآن فصاعداً في قلب المتوهّم النصراني”.

يستكمل زند تتبّع الجذور التاريخية لكراهية اليهود، ويُورِد أنّ التشريعات المناهضة لليهود التي فرضتها الإمبراطورية الرومانية رغم أنّها عزلت اليهود واضطهدتهم إلا أنّها لم تصل إلى حدّ الإبادة. لكنّ النظرة المجحفة بحقهم قد استمرّت بمعدلات متزايدة وصولاً إلى منتصف القرن الخامس عشر، فحتى مع انتشار الطباعة وبروز النزعة الإنسانية عند المفكرين الغربيين، ناقض العديد من هؤلاء المفكرين في نظرتهم اتجاه اليهود ما يدّعونه من اتخاذ الإنسانية كقيمة عليا شاملة لكلّ البشر، ومن أبرز هؤلاء المفكرين فولتير الذي كما يورد زند “لم تسرِ فلسته في التسامح، التي غذّت الرؤى التقدمية في عصره، على اليهود، ويبدو أنّه من المتعذر الحصول على تفسير منطقي لكراهيته لليهود”.

يُفنّد زند أسباب كراهية اليهود منذ القرن الخامس عشر، ويورد بأنّهم قد انتقلوا في ذلك القرن إلى العمل في مجال إقراض المال، بعد أن حرمتهم المنظومات الاقتصادية والاجتماعية الأوروبية من حقّهم في العمل ولم تبقِ لهم سوى حرف بسيطة، فتوسّطهم في العلاقة الاقتصادية بين أصحاب رأس المال الكبار اللومبارديين الإيطاليين والطبقات الفقيرة أدى إلى ظهورهم بمظهر التاجر الحقير الدنيء وزاد من مستويات الكراهية الأوروبية اتجاههم.

يؤكّد زند بأنّ هذه الكراهية اتجاه اليهود شهدت بعض الانحسار والتغير في القرن الثامن عشر بعد الثورة الفرنسية، حيثُ أقرّ القانون الفرنسي حقوقاً متساوية لليهود مع المواطنين الفرنسيين، وقامت العديد من الدول الأوروبية باتباع فرنسا فيما يتعلق بمنح اليهود حقوقاً متساوية مع مواطنيها، لكنّ هذا الانحسار كان مؤقتاً، وعادت مشاعر الكراهية اتجاه اليهود بالتصاعد مرة أخرى في فترة شهدت بروز خطاب علمي جديد بدأ في أواخر القرن الثامن عشر واستمرّ خلال القرن التاسع عشر، وهو خطاب يُنادي بتفاوت الأعراق البشرية وبارتقاء وتفوق أعراق معينة على أعراق أخرى.

من المؤلفات المهمة التي ظهرت في تلك الفترة وتناولت هذا الخطاب كتاب “مقالة في التفاوت بين الأعراق البشرية”، من تأليف الكونت الفرنسي آرثر دي جوبينو، وقد تمّ نشره عام 1854، وظهرَت فيه ثلاثة أعراق؛ الأبيض، والأصفر والأسود، وهي أعراق لم تكن نقية، وكان بينها تراتبية واضحة، فهذه الأعراق بحسب زند “لا تتساوى في جودتها ولا مستواها الفكري: الدمّ هو المصدر الرئيس للاختلاف بين الأعراق، والعرق الأبيض جميل وذكي وقوي، والآريون هم نخبة هذا العرق، والسود، في المقابل، أدنى فكرياً، وذوو البشرة الصفراء أعلى منهم بقليل. هناك أعراق فرعية كثيرة أيضاً، بينها أيضاً درجات أفضلية أضفاها عليها الذوق “الأرستقراطي” للمؤلف”.

ومن تلكَ المؤلفات كذلك، كتاب “انتصار اليهودية على الجرمانية” الذي نشره الصحافي الألماني فيلهلم مار عام 1879، وأورَد فيه رأياً جازماً بوجود صراع مرير ومستمرّ بين الألمان والعرق اليهودي السامي لن ينتهي إلا مع إقصاء اليهود عن ألمانيا وإرسالهم إلى فلسطينا، وأنّه لا سبيل غير ذلك، فهذه المؤلفات وغيرها اختلطت فيها -بحسب زند- “الكراهية الدينية التقليدية لليهود بالإرث الاجتماعي-الاقتصادي المعادي لليهودية وبالإنجازات الحديثة لـ”علم” البيولوجيا. من الآن صار واضحاً: أنّ قتلة الإله القدامى، الذين تحولوا إلى طفيليات الاقتصاد الحديث، ينتمون إلى عرق دخيل وغريب زحف من أطراف آسيا القريبة، وتسلّل بدهاء إلى عروق الدم النبيل للعالم الأبيض المسيحي”.

في خضم هذه الأجواء الذي تنامى فيها خطاب العرق اليهودي الأدنى وتصاعدت فيها حالة الكراهية اتجاه اليهود، ظهرت قضية الضابط الفرنسي اليهودي درايفوس الذي اتهمّ بالتجسّس لصالح ألمانيا التي كانت تحتلّ مقاطعتي الألواس واللورين لتؤجّج العداء ضدّ اليهود، وليتلقّفها صحافي نمساوي يدعى ثيودور هرتسل، الذي تبرّأ من أصله اليهودي لفترة، وأراد أن يُصبح قومياً ألمانياً، لكن تلك القضية أعادت له شعوره بقوميته اليهودية، وقادته إلى اكتشاف الحجم الحقيقي لمعاداة اليهودية في أوروبا، لذلك ذهب نحو تأليف كتاب “دولة اليهود”، الذي صاغه للمرة الأولى في نصّ يحمل عنوان “خطاب لآل روتشيلد”، وعبّر فيه عن أمله بأن يقوم الثري روتشليد بتبني فكرة القومية اليهودية، وكأنّ قضية درايفوس كانت هي الإيذان الفعلي بميلاد الحركة الصهيونية.  

اعترضت غالبية الجموع اليهودية على فكرة الصهيونية في البداية، وعارض الحاخامات فكرة إقامة المؤتمر الأول للحركة في مدينة ميونيخ الألمانية، وقاموا بالتوقيع غلى عريضة لمنع إقامته، ففكرة الحركة الصهيونية -بحسب زند- لم تلقَ قبولاً كبيراً من الأوساط اليهودية إلا بعد الحرب العالمية الثانية وما وقع على اليهود من إبادة من قبل النازية.

إنّ تعبير “العداء للسامية” حديث نسبياً، لم يَظهر إلا في ألمانيا النازية مع نهاية القرن العشرين، وهو مصطلح شاع استعماله في مرحلة لاحقة للتدليل على “كره اليهود والشعور المتصل تجاههم بالعداء”، استناداً إلى فكرة التمييز بين البشر على أساس اختلاف العرق[2]، وإنّ قادة الحركة الصهيونية عملوا منذ نشأة حركتهم على استغلال هذا التعبير من أجل تكريس فكرة السامية في عقول اليهود، وإقناعهم بأنّهم شعب- عرق واحد تجمع بينهم صفات سامية معينة، وذلك بهدف تسهيل بعثهم القومي في أرض فلسطين، فمثلاً، للقائد الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي عبارة يؤكّد فيها هذا المسعى “لا يجب البحث عن مصدر الشعور القومي فيما يتعلمه الإنسان… وإنما في دمه، وفي النموذج الجسدي العرقي الخاص به، وبه فقط…”.

منذ قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، كانت هناك محاولات صهيونية حثيثة من أجل إثبات الأصل العرقي الواحد لليهود، وكانت هناك العديد من الأبحاث البيولوجية التي درست كلّ شيء في الجسد اليهودي من الحمض النووي إلى بصمات الأصابع من أجل الوصول إلى هذه الحقيقة، وقد ازدادت وتيرة هذه المحاولات بعد حرب عام 1967، وذلك بعد أن وجدت القوى الصهيونية نفسها في مواجهة الشعور القومي المتنامي لدى الشعب الفلسطيني الأصلي، فبحسب زند فإنّه “من أجل مواجهة هذا الشعب الأصيل اضطرت جميع آليات المعرفة الإسرائيلية التاريخية، والأثرية، والبيولوجية أن تتجنّد أكثر مما في الماضي، لإثبات أنّ أصل يهود العالَم مشترك وأنّهم يشكّلون أمة واحدة، نفيت قبل ألفي عام وأنّ حقها في أرض إسرائيل لا جدال فيه”.

يرفض زند في كتابه استخدام مصطلح “معاداة السامية” لوصف مشاعر الكراهية المتوارثة اتجاه اليهود، فهو يحذو حذو العديد من المفكرين الأوروبيين الذين ذهبوا إلى البحث عن تعبيرات أكثر دقة للتعبير المقصود، مثل مكسيم رودنسون الذي استعمل مصطلح “الجوديوفوبيا” للتدليل على شعور العداء اتجاه اليهود وحدهم[3].

يفنّد زند أسباب رفضه استخدام تعبير “العداء للسامية”، فهو يُدرِك أنّ مشاعر الكراهية اتجاه اليهود لم تكن في إطار الصراع التاريخي بين الديانتين اليهودية والمسيحية بدوافع عرقية وإنما كانت دوافعها دينية، ففي منطق  زند ليس هناك عرق سامي أو آري، أو عرق أعلى وأعراق أدنى، فالشعب -العرق اليهودي هو أسطورة أيديولوجية اخترعتها الحركة الصهيونية لتأسيس دولة إسرائيل، وجمع اليهود داخلها، حتى لو كان ذلك على أنقاض الشعب الفلسطيني الأصلي، فالصهيونية –بحسب زند- نشأت كردّ فِعل على محنة الكراهية العصرية لليهود، لكنّها صارت مرآة لها، وورثت عنها العنصرية، تلكَ الركيزة الأيديولوجية التي طالما ميزت مضطهدي اليهود منذ الأزل.


[1] عبد الرحيم الشيخ، أبجديات تحررية فلسطينية- القومية، معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان، 6/9/2021، https://bit.ly/4edD6j8

[2] عباس شبلاق، حول شعور العداء لليهود في الدول العربية: مناقشة لوجهات النظر السائدة، مجلة الدراسات الفلسطينية، مج1، عدد2، ربيع 1990، https://bit.ly/4e0gouC

[3] المرجع السابق.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات