قراءة الجابري للمشروع الفكري للإمام الغزالي “المنهج والرؤية”
توطئة:
إن مشروع محمد عابد الجابري (1935/2010) الفكري يعتبر من أهم المشاريع الفكرية في العصر الحديث، التي تناولت بالدراسة والنقد التراث العربي الإسلامي حيث يقدم قراءة ترمي لفهم واجتهاد جديدين، تثري الفكر وتشحذ الهمم وتوحي بالمراجعة والتدقيق والبحث المعمق القويم، من أجل تجديد المنهج والرؤية وحفز العقول على الإبداع في جميع حقول المعرفة، تأسيسا على أن الفعل العقلي يتم بواسطة المفاهيم التي تنتج الأفكار وتخلق الوعي، وأنّ رفض المنهج يؤدِّي حتما إلى رفض المفاهيم المؤسسة عليه، وكل فكر هو عبارة عن بنية نظرية له رؤيته الخاصة.
ولعل ما يلفت النظر، أن قراءة مشروع الجابري سوف تدفعنا دفعا للبحث عن مكونات الفكر العربي الإسلامي و إلى سبر اغواره للوصول إلى تشكلاته الفكرية والايديولوجية ومن ثم القيام بقراءته قراءة علمية واعية تبحث عن علل الأشياء ومبادئها.
وسوف نتمثل بمظهر من مظاهر التطور الفكري الذي شهده العالم الإسلامي في القرن الخامس الهجري من خلال استحضار علم من علماء الإسلام الكبار هو الإمام الغزالي (505ه) الذي قال عنه ” رينان” بإنه الوحيد بين فلاسفة الإسلام الذي انتهج لنفسه طريقا خاصا في التفكير الفلسفي لاتصاله الوثيق بعلم الكلام والتصوف وأصول الفقه، فقام بصياغتها صياغة جديدة، ميز فيها بين العلم والميتافيزيقيا، وفصل بين التصور اليوناني والتصور الإسلامي.
كيف قرأ الجابري (في مشروعه النقدي للتراث) شخصية الغزالي باعتباره المرآة التي انعكست عليها مختلف التيارات الفكرية والإيديولوجية التي عرفها الفكر العربي الإسلامي فتأثرت بتجربته الفكرية بحيث يفسِّر ما قبله وما بعده.
إن قراءة الجابري للغزالي سواء من حيث الفهم والتأويل هي التي سأحاول التطرق اليها من خلال تتبعها في كتاباته ومؤلفاته.
المنهج والرؤية:
نبدأ أولا بالتوقف عند ما نعنيه بمفهوم القراءة، هل هو جمع شتات الآراء المتعارضة وفحصها والتدقيق في مضامينها ومن ثم تأويلها بمعنى تفسير وبيان معانيها لتحديد علاقة الفكر بالواقع الاجتماعي، أم أن القراءة هي منهج المراد منه الوقوف على المضامين الدلالية للنص وتملكاتها للواقع بحيث تتيح للباحث بلورة آراء تبعث على المناقشة والاعتراض ومن ثم الخروج بأفكار وأحكام؛ أي رؤية تتناول تنظيرا يسهم في الانخراط الواعي في حركة الفكر الإنساني.
والمنهج كما جاء في أدبيات علم المناهج فهو “فن التفكير في العلم أو فن البحث في أصول العلم ومبادئه..”أي الطريق المؤدي إلى الكشف عن المعاني الدلالية بواسطة قواعد عامة، وقوالب يسهل تداول المعرفة بواسطتها وتوليد المفاهيم وبناء رؤية للعالم ودور الإنسان فيه.
و قبل أن نعرض لنماذج وصور من قراءة الجابري لفكر الإمام الغزالي في مجال الأنساق والنظم المعرفية المشكلة للعقل العربي، وهي ( البيان والعرفان والبرهان).علينا بادئ الرأي بيان الرؤية المنهجية التي تناولت تحليل الثقافة العربية الإسلامية قصد تحديد أساسياتها المعرفية، والتي حكمت نظرة الجابري وقراءته الابستيمولوجية للنظم المعرفية.
إن ما تقرره القراءات الحديثة للتراث العربي الإسلامي لا يتعلق فقط بالأطروحات وإنما بما تكشفه تلك القراءات جميعها من طريقة التفكير، ورؤية جديدة ومنهج جديد للنظر في قضايا الفكر والسياسة والاجتماع.
إن القراءات تصدر عن منهج واحد وعن رؤية واحدة وتقدم تأويلا يعطي للمقروء “معنى” بالنسبة لمحيطه ( الفكري -الاجتماعي -السياسي) بحيث تحرص على جعل المقروء معاصرا لنفسه على صعيد الإشكالية والمحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي، كما تحاول القراءة أن تجعل المقروء معاصرا لنا، ولكن فقط على صعيد الفهم والمعقولية.
وإن إضفاء المعقولية على المقروء، معناه نقل المقروء إلى مجال اهتمامات القارئ الشيء الذي يسمح بتوظيفه في إغناء الذات أو في إعادة بنائها..(1).
ومن هذا المنطلق، فإن البحث في التراث لا يمكن أن يكون بدون دافع ايديولوجي أو قراءة ايديولوجية على ضوئها تشكلت حركة إصلاحية تنادي بالتجديد؛ ممَّا يعني بناء فهم جديد للدين عقيدة وشريعة، انطلاقا من الأصول والعمل على جعله معاصرا لنا.
إن القراءة الايديولوجية للتراث، لا يمكن أن تنتج سوى ايديولوجيا تعيد بناء الماضي قصد الارتكاز عليه لـ”النهوض” وإسقاطه على المستقبل المنشود كواقع حي يكرر نفسه.
هذه قراءة دينية للتاريخ جعلت من العامل الروحي المحرك الوحيد للتاريخ من أجل إثبات الذات وتأكيدها..(2).
إن القراءة اللبرالية للتراث العربي الإسلامي، تنظر إليه من منظور مرجعية أوروبية ولذلك فهي لا ترى فيه إلا ما يراه الأوروبي، أما القراءة الاستشراقية من الناحية المنهجية، فإنها تقوم على معارضة الثقافات ومقارنة تراث بتراث والمنهج الفيلولوجي الذي توظفه يريد رد كل شيء إلى أصله وعندما يتعلق الأمر بالتراث العربي الإسلامي، فإن أصله يعود إلى ( اليهودية والمسيحية واليونانية والفارسية والهندية).
وتدَّعي القراءة الاستشراقية أن ما يهمها هو فقط الفهم والمعرفة، ولكنها تنسى أو تتناسى أنه لا يوجد “فهم” دون الأخذ بالرؤية مع المنهج بحيث لا يمكن الفصل بينهما..(3).
إن القراءات السائدة تفتقد الموضوعية كما تعاني من غياب النظرة التاريخية، وكل فكر يئن تحت وطئة هذه المعادلة لا يستطيع الاستقلال بنفسه فيلجأ إلى تعويض هذا النقص بجعل موضوعاته تنوب عنه في الحكم على بعضها ..(4).
إننا في حاجة إلى رؤية جديدة شمولية تتجاوز الدوائر الوهمية وتنظر إلى الأجزاء في إطار الكل وتربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل، ورؤية يتحدد بها كل من الموقف والمنهج..(5).
وليست المشكلة في الاختيار بين المناهج الجاهزة ( تاريخي /وظيفي /بنيوي..) بل المسألة الأساسية في نقد العملية الذهنية أو طريقة الإنتاج النظري أي “الفعل العقلي” والتي بواسطتها يتم تطبيق المنهج، وكل منهج يصدر عن رؤية أما صراحة أو ضمنا والوعي بأبعاد الرؤية شرط ضروري لاستعمال المنهج استعمالا مثمرا، فالرؤية تؤطر المنهج،تحدد له أفقه وأبعاده، والمنهج يغني الرؤية ويصححها ..(6).
وحينما نفكر في المفاهيم والفلسفات والتجارب (تاريخية أو سياسية) إنما نفكر في نقد نماذج إنسانية، نأخذ منها ما يساعدنا على تطوير وعينا لكي “نفهم” ونكوِّن لأنفسنا نظرة عن العالم.
إن مسألة المنهج تطرح مسألة توظيف المفاهيم.. والابستيمولوجيا كطريقة للتفكير وكمفاهيم وكرؤية يمكن أن توظف في ميادين غير ميادينها الأصلية ..(7).
إن المفاهيم عندما تنتقل من مجالها الأصلي التداولي الذي نشأت فيه إلى مجال آخر، فإنها تخضع لنوع من التطويع أو تبيئة. وكل بحث في المعرفة ينتمي بالضرورة إلى إشكالية معرفية.
أن المرجعية الخلدونية الابستيمولوجية “مثلا” تنتمي إلى أصول الفقه، وكانت إشكالية ابن خلدون إشكالية “تاريخية” تطرح نفسها على مستوى فلسفة التاريخ وفي نفس الوقت تتحرك داخل منظومة فكرية عامة لها إشكالياتها الخاصة.
والمقدمة لم تكن فقط مقدمة لتأسيس وجهة نظر أو بيان منهج بل كانت أكثر من ذلك مقدمة لتاسيس علم جديد يتم بواسطته رفع التاريخ من مستوى الفن إلى مستوى العلم. وكان هدف ابن خلدون أن تكون ” مقدمة” نظرية ابستيمولوجيةمنهجية ترفع الكتابة التاريخية من مستوى السرد الإخباري القصصي إلى مستوى التحليل العلمي، حيث طرح مشكلا ابستيمولوجيا عميقا ” كيف نصنع من التاريخ علما ؟ وكيف نضفي المعقولية على الظواهر التاريخية والاجتماعية والسياسية والعمرانية ؟..(8).
نستخلص من هذا كله، أن النقد الابستيمولوجي يتناول أدوات المعرفة وآلياتها من أجل بناء عقل قادر على مراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه..والمقاربةالابستيمولوجية تحليل لمكونات الثقافة والنظم المعرفية التي تؤسسها، واستخلاص هذه النظم بوصفها مناهج ورؤى، مع الاعتبار الكامل للعلاقات العضوية بين الايديولوجي والابستيمولوجي في الثقافة العربية على الصعيد التكويني ..(9).
الجابري يقدم قراءة معاصرة للتراث في ضوء أسئلة الحاضر والمستقبل وما قد ينتج عنها من تأويل واجتهادات جريئة أوحت له بتحقق قطيعة معرفية في مجال الدراسات التراثية بين العقلانية الرشدية في الفلسفة الإسلامية مقابل الفلسفة الإشراقية والتصوف عند الفارابي وابن سينا والغزالي.
ويقرر بأن المعرفة ستكون أكثر وضوحا بالانتقال من مجال التحليل الايديولوجي إلى مجال تحليل البحث الابستيمولوجي الذي يتخذ موضوعا له أدوات الإنتاج الفكري لا منتوجات هذه الأدوات..(10).
ومن نافل القول أن العقل ليس شيئا آخر غير مفاهيمه وأدوات عمله، وقد توسل الجابري بالمفاهيم الحديثة في الفكر الفلسفي الغربي لصياغة قراءته للفكر العربي الإسلامي، موظفا النقد الابستيمولوجي الذي يطبق على الأنساق الفكرية من حيث هي منظومة تصورية يتحدد بها النشاط الفكري للأشخاص، أما الايديولوجيا فتعبر عن جدلية الصراع القائم بين الفكر والواقع.
القراءة النقدية:
ضمن هذا الإطار تندرج قراءة الجابري الابستمولوجية النقدية الرافضة ايديولوجيا لأطروحات الإمام الغزالي ونظريته المعرفية التي تجمع في بوتقة واحدة بين حقول معرفية عديدة ( في الفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه والتصوف).
يريد الجابري في قراءته النقدية، أن يقوض مشروع الغزالي و يؤسس لرؤية معرفية تقطع مع فكر المدرسة المشرقية بغرض الانتقال من نظام معرفي بياني وعرفاني إلى نظام معرفي برهاني وعقلاني.
إن قراءة الجابري تتحلى بغزارة وسعة اطلاع ومهارة في التحليل و تناول الموضوعات بإعطائها ما تستحق من العناية والاهتمام، وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى أنه اطلع على جل مؤلفات الغزالي الأساسية بحيث لا يخلو كتاب من كتبه من إحالة او اقتباس أو استشهاد أو ذكر للغزالي، الأمر الذي يدل بأن فكر الغزالي كان حاضرا ومؤثرا في مسيرة الجابري الفكرية.
ويمكننا أن نستخلص تطور قراءته لفكر الغزالي من خلال تتبع ذلك في مؤلفاته بدءا من كتابه عن ابن خلدون ” العصبية والدولة ثم كتاب نحن والتراث .
في سنة 1985 شارك الجابري في ندوة الغزالي التي نظمتها كلية الآداب بالرباط ببحث نشر صمن منشورات الكلية بعنوان”مكونات فكر الغزالي”إلا أن الجابري أعاد نشر نفس البحث في كتابه التراث والحداثة (1991) بعنوان صارخ ( فكر الغزالي مكوناته وتناقضاته”وكان الجابري قد أصدر سنة 1984 كتابه تكوين العقل العربي وهو الجزء الأول من مشروع نقد العقل العربي تناول فيه الغزالي بنقد لاذع و هجوم شديد .
ومع ذلك، ف‘ن الغزالي ظل حاضرا بقوة في كتابات الجابري التالية (بنية العقل العربي الصادر سنة1986) باعتباره أحد كبار مفكري البيان والعرفان الصوفي السني والناقد الشرس لتهافت الفلاسفة، وسيكون حاضرا أيضا في كتاب العقل السياسي ثم في كتاب العقل الأخلاقي الذي ختم به الجابري مشروعه الفكري.
والجدير بالذكر أن الجابري تناول الغزالي بالنقد وخصص له حيزا في كتابه عن ابن رشد ” ابن رشد سيرة وفكر” الذي صدرت طبعته الأولى سنة1998 كما تناوله بإسهاب في المقدمة التي كتبها للطبعة التي أشرف عليها من كتاب “تهافت التهافت” لابن رشد وفي الطبعة عنوان مقاله بـ”لماذا كتب الغزالي تهافت الفلاسفة؟” ولما أعاد نشر نفس المقالة في مجلته ” فكر ونقد” غير العنوان كالتالي في الفهرست( الصراع المذهبي وليس الدين وراء تهافت الفلاسفة” ووضع عنوان آخر في صدر الصفحة ” الضربة القاضية الكاذبة”.
هذه إذن هي المراجع الأساسية لقراءة الجابري للإمام الغزالي، وسوف نعود إلى بعضها لنرى طريقته في قراءة هذا الإمام الكبير.
نبدأ هذه القراءة بتحديد مكونات فكر الإمام الغزالي كما سجلها الجابري في بحثه حول مكونات فكر الغزالي الذي شارك به في ندوة “الغزالي” (1985) .
يقول” إذا أردنا أن نوجز في عبارة واحدة مكونات فكر الغزالي، أمكن القول بدون تردد أنه مكونات الثقافة العربية الإسلامية كلها بمختلف منازعها واتجاهاتها وتياراتها، ولم يكن مرآة انعكست عليها ثقافة عصره فحسب، بل كان أيضا ساحة التقت عندها مختلف التيارات الفكرية والايديولوجية التي عرفها الفكر العربي الإسلامي إلى عهده، فعبرت على لسانه ومن خلال سلوكه وتجربته الفكرية عن مدى تنوعها واتساع آفاقها و كذلك عن صراعاتها وتناقضاتها وبلوغها مرحلة الأزمة..(11).
ويرى الجابري بأن قراءة الغزالي سواء على مستوى الفهم والتأويل أو على مستوى التفكيك تتطلب قراءة لمختلف منازع الفكر العربي الإسلامي وتياراته، لأن الغزالي يفسر ما قبله وما بعده، ومكونات فكره كان لها دوران متكاملان.
يلقب الغزالي بالشافعي الثاني في تقنين الرأي وتأصيل أصول الفقه و قد تجاوز أستاذه “الجويني” في رده على الفلاسفة وبنفس سلاحهم، وتجاوز الشافعي على المستوى المنهجي،
ولا نستطيع القول أن تكوينه يبدأ حيث انتهى ” القشيري ” إلى إضفاء الشرعية السنية على التصوف أو” المحاسبي ” في التماس نفس الشرعية لنفس الظاهرة. في جانبها السلوكي خاصة ، كما لا يمكن القول بأن فكر الغزالي ابتدأ من حيث انتهى الفارابي في عملية تبنيه المنطق في الثقافة العربية الإسلامية أو ابن حزم في عملية تقريبه وتعريبه.
فقد اكد الفارابي بان المنطق مجرد” آلة ” ولا ينبغي الاعتقاد أنه جزء من صناعة الفلسفة ولكنها صناعة قائمةبنفسها، أما الغزالي فقد ألح أن المنطقيات لا يتعلق شيئا منها بالدين نفيا أو اثباتا، بل هي النظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية
ترتيبه، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه، وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر والأدلة ..(12)
إن موقف الفارابي وموقف الغزالي من المنطق لا يصدران عن نفس الدوافع، الفارابي أراد من المنطق ما أراده أرسطو وهو أن يكون أداة لتحصيل العلم بطريق برهاني انطلاقا من مقدمات يقينية، أما الغزالي فيريد أن يجعل منه مجرد سلاح للدفاع عن رأي وإبطال آخر.
أما ابن حزم فلا يمكن ربط مشروعه بمشروع الغزالي فهما يلتقيان ضد المشروع الإمامي الاسماعيلي ويختلفان في أن ابن حزم يرفض العرفان عموما الشيعي منه والصوفي ويلتقيان في الدعوة إلى المنطق الارسطي محل القياس البياني ولكنهما يختلفان في أن ابن حزم يؤكد ضرورة أن يشمل تطبيقه على الشرعيات والعقليات سواء بسواء بينما يحصر الغزالي الاستقصاء في العقليات أما في الفقهيات فقياس الفقهاء يكفي، ابن حزم كان يطمح حسب الجابري إلى إعادة تأسيس البيان تأسيسا جديدا يقطع مع الشافعي في الفقه ومع الأشاعرة في العقيدة، أما الغزالي فكان يرمي إلى تركيز فقه الشافعي ونصرة علم الكلام الأشعري بسلاح المنطق ..(13).
إن الحضور المتواصل للغزالي في الفكر العربي الإسلامي طوال قرون يرجع إلى مؤلفاته وأهمها (الإحياء وتهافت الفلاسفة ومعيار العلم) وإن باقي مؤلفاته وهي كثيرة غير ذات شان أما لأن مضمونها يوجد بصورة أو بأخرى في الكتب الثلاثة المذكورة، وإما أن هناك ما يوازنها من الكتب التي ألفت قبله أو بعده فكتاب المصتصفي من علم الأصول كتاب بالغ الأهمية ولكن هناك كتب في المكتبة العربية توازنه أو تعوضه.. ولولا كتاب ( الإحياء لعلوم الدين) لما كان للتصوف في الثقافة العربية الإسلامية ذلك الشأن الخطير الذي كان له بعد الغزالي.
صحيح أن مادة الكتاب توجد في كتاب “الرعاية لحقوق الله ” للمحاسبي و “قوت القلوب” لأبي الطالب المكي، إلا أن قيمة كتاب الاحياء تكمن في طريقة عرضه لقد صنف التصوف إلى علمين ” علم المعاملة ” و”علم المكاشفة ” وجعل كتاب الإحياء خاصا بعلم المعاملة الذي أقامه موازيا لعلم الفقه ( الذي يشرح الفرائض والعبادات) علم المعاملة عند الغزالي هو فقه المعاملة القلبية..(14).
أما علم المكاشفة فقد وضع له عدة كتب من بينها ( مشكاة الأنوار وجوهر القرآن ومعارج القدس ومدارج معرفة النفس).
لقد جعل الغزالي من التصوف فقها روحيا يكمل علم الفقه ويمده بأبعاد روحية وجعل من هذا الفقه الروحي مدخلا لعلم المكاشفة الذي هو بمثابة الباطن للعقيدة ..(15).
يرى الجابري، أن مكونات فكر الغزالي يمكن تحديدها من خلال الكتب الثلاثة ( إحياء علوم الدين وتهافت الفلاسفة ومعيار العلم)، أما معيار العلم فالمقصود من ورائه إبراز الجهد الذي بذله الغزالي في التبشير بالمنطق الارسطي والدعوة إلى اصطناعه ميزانا للفكر ومعيارا للعلم وكافة فروع المعرفة، مما فتح الباب أمام المتكلمين الأشاعرة لتوظيف مفاهيمه في صياغة مذهبهم وجعل علم الكلام يتحول إلى علم فلسفي(مع فخر الدين الرازي) يقوم مقام إلاهيات الفلاسفة المسلمين ويغني عنها لأنه امتصها امتصاصا: (مفاهيم ومنهجا..) (16).
والهدف من التصوف الذي وضع له كتاب الإحياء الوصول إلى المعارف الكشفية التي يعرضها في (مشكاة الأنوار) سواء تعلق الأمر بحقيقة النفس أو بعالم الإلوهية، وقد استقى الغزالي هذه المعارف بحسب الجابري بصورة مباشرة من إلهيات فلسفة عصره ( ابن سينا والفلاسفة الإسماعيلية) وبكيفية عامة الأفلاطونية الحديثة في صيغتها المشرقية الهرمسية..، فلا تباين ولا اختلاف بين مضمون المكاشفة ومضمون إلهيات الفلاسفة التي هاجمها الغزالي وكفر أصحابها.
ويعتبر الجابري أن أكبر تناقض في موقف الغزالي يتمثل في أنه سعى إلى الجمع بين المنطق والتصوف، وكان من الممكن أن نتفهم موقفه لو أنه اقتصر على التصوف كسلوك وتجربة وجدانية فردية، بينما جعل من المكاشفة هدفه، فإن الدعوة إلى اصطناع المنطق طريقا للمعرفة الصحيحة لا يمكن الا أن تناقض القول بالكشف والمكاشفة، وبالتالي فالغزالي في هذا الموقف واضح التناقض فهو لم يفصل بين سبيل الاستدلال وسبيل الكشف، بل أنه يصر على تطبيق قواعد المنطق على عملية الكشف ذاتها. ألا يدل هذا على أن التناقض مكون أساسي في تفكيره ..(17).
وبخصوص كتاب تهافت الفلاسفة فقد اعتبره الجابري بمثابة فتوى ضد الفلسفة والفلاسفة، وأنه على رأس العوامل والأسباب التي أدت إلى أفول أو خفوت الفلسفة العقلانية بعد الغزالي في ديار الإسلام.
يرى الجابري بأن رد الغزالي على الفلاسفة في كتاب تهافت الفلاسفة يختلف عمن سبقوه من المعتزلة والأشعرية، وهو شيء جديد تماما من تلك الظواهر التي تملأ التاريخ.
إن الدليل الذي دافع عنه الغزالي وكفر باسمه الفلاسفة هو علم الكلام الذي كان في عصره يحيل إلى المذهب الأشعري وقد لبس الفلسفة ولبسته واستمر ذلك لقرون طويلة …(18).
علم الكلام كما يعرفه ابن خلدون هو علم الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في العقائد عن مذهب السلف وأهل السنة.. (و هو الاسم الذي يطلقه الأشعرية على مذهبهم).
إن الفلسفة التي عارضها الغزالي هي بالتحديد فلسفة ابن سينا والتي عمل هو نفسه على نشرها من خلال معارضته لها، كما أن المذهب الشيعي قد لبس هو الاخر الفلسفة السينوية ولبسته، وابن سينا كان إماميا على المذهب الذي اعتنقه أهله وذووه.
وقد عاشت الفلسفة بعد الغزالي في المذهب الأشعري وفي المذهب الشيعي، كما أراد لها صاحبها ابن سينا أن تكون بديلا عن علم الكلام وبعبارة أخرى تحولت إلى فلسفة كلامية معلنة، أي إلى ايديولوجيا ..(19).
ويرى الجابري أن رد الغزالي على ابن سينا (كان ردا نقديا قاسيا) إنما أملته دوافع ايديولوجية ..اي انه حطاب لا ينطق باسم المنتج له وحده ولكن باسم الجماعة التي ينتمي إليها.
لقد امتص الغزالي الفلسفة السينوية وهضمها إلى درجة يصعب معها تصور الغزالي يفكر خارج السينوية، أو كما قال أبو بكر ابن العربي ( شيخنا ابو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقياهم فما استطاع) .
بقى الغزالي مشدودا إلى الفلسفة وعلومها، وقد دعا بإلحاح إلى تبني المنطق الأرسطي، واعتبر أن من لا يتقن المنطق لا يوثق بعلمه ..(20).
يرى الجابري أن الغزالي تبنى ” الحكمة المشرقية ” التي دعا لها ابن سينا وعبر عنها في كتبه المعروفة بنزعتها الصوفية ابتداء من كتابه (الإحياء) الذي أراد أن يجعل منه فقه الروح مقابل فقه الرسوم، إلى كتاب (مشكاة الأنوار) الذي تبنى فيه بوضوح الرؤية الفلسفية الهرمسية للكون وهي الرؤية التي نجد صيغتها “العالمة”في فلسفة أفلاطون وأرسطو.
الغزالي الذي اشتهر بالرد على الفلاسفة وعلى ابن سينا بالذات كان سينويا في كل ما كان يعرفه في المنطق والطبيعيات والإلهيات وفي كل ما ألف في هذه العلوم لقد بقيت الفلسفة وفلسفة ابن سينا حية في قلبه ومنه انتقلت إلى شيوخ الأشعرية من بعده..(21).
يعتبر الاختلاف عنصرا مؤسسا لكل فكر فلسفي فلا يكون الفيلسوف فيلسوفا إذا لم يكن له رأي خاص به يختلف عن آراء غيره من الفلاسفة، إلا أن الغزالي الذي كفر ابن سينا ومن ذهب مذهبه في مسائل تضمنها كتاب الشفاء قسم الإلهيات.
قد ذهب أبعد من ابن سينا في الطريقة الجدلية السفسطائية، فصرح في كتابه “ميزان العمل” بأن مراتب المذهب الذي يعتنقه المرء ثلاث هي “أن يتعصب له في المباهاة والمناظرات والاخرى أن يسار به في التعليمات والإرشادات ،والثالثة أن يعتقده الإنسان في نفسه مما انكشف له من النظريات..”ويضيفان: المذهب الجدير بالاعتبار الأول فهو المذهب الذي يتعصب فيه المرء لبلده أو معلمه أو الجماعة التي ينتمي إليها ( كان يكون أشعريا أو معتزليا أو حنفيا ..الخ) ومبدأ هذا التعصب حرص الجماعة على طلب الرياسة باستتباع العوام. ولا تنبعث دواعي العوام إلا بجامع يحمل على التظاهر فجعلت المذاهب في تفصيل الأديان جامعا فانقسم الناس فرقا وتحركت عوامل الحسد والمنافسة فاشتد تعصبهم واستحكم به تناصرهم..”(22).
هذه الفقرة أوردها الغزالي في شرح بيان المذهب واختلاف الناس فيه، إلا أن الجابري فسرها بأن الغزالي أراد من وراء هذا الكلام أن يدافع عن نفسه أمام خصم تخيله،يعترض على عدم التزامه مذهبا واحدا، بل أن الغزالي يعترف بأن نيته يوم كان الشخصية العلمية الأولى في بغداد على عهد (نظام الملك) وهو العهد الذي ألف خلاله كتبه الايديولوجية وفي مقدمتها ” فضائح الباطنية وتهافت الفلاسفة” أن نيته لم تكن صالحة لوجه الله بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت. يقول أيضا “وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكسب الجاه، وأدعو إليه بقولي وعملي وكان ذلك قصدي ونيتي.”(23).
إن ما نقله الجابري عن كتاب “المنقذ من الضلال وقع فيه تصرف وتحوير أخل بالمعنى الدلالي في النص الأصلي، فكلام الغزالي الذي يرجع إلى سياقه وهو حديثة في هذا الباب من الكتاب عن طرق التصوف بعد أن فرغ من دراسة علوم الفلاسفة والمتكلمين، أقبل على دراسة طريق الصوفية وتحصيل علومهم وضمن هذا الإطار يندرج حديثه الذي اقتبسه الجابري مبتورا فتغير معناه الوارد في النص الأصلي، حيث يقول الغزالي في الفقرة التي اقتبسها الجابري “ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير صالحة لوجه الله..”(ص134) وربط الجابري هذه الفقرة بفقرة أخرى توحي بأنها مكملة لها في حين أنها مفصولة عن سياقها مما أخل بالمعنى والقصد يقول الغزالي في هذه الفقرة ” وأنا أعلم إني، وإن رجعت إلى نشر العلم فما رجعت، فإن الرجوع عائد إلى ما كان، وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكتسب الجاه وأدعو اليه بقولي وعملي، وكان ذلك قصدي ونيتي، وأما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يترك الجاه ويعرف به سقوط رتبة الجاه.”(ص160).ثم يضيف والآن نيتي وأمنيتي يعلم الله ذلك مني وأنا أبغي أن اصلح نفسي وأصلح غيري.
إن الغرض من تأويلات الجابري لكلام الغزالي هو إبراز الطابع الايديولوجي في فكره، وذلك بربطه بالملابسات السياسية لعصره، ومن ثم فإن مفتاح اللغز وراء كتاب تهافت الفلاسفة هو بالدرجة الأولى محاربة خطر التنظيمات الباطنية الاسماعيلية التي كانت تهدد الدولة السلجوقية.
لقد نشرت هذه التنظيمات ايديولوجتها القائلة بضرورة الإمام المعلم المعصوم ونجحت في نشر الذعر من خلال عمليات الاغتيال والتخريب.
إن كتاب “تهافت الفلاسفة” ألفه الغزالي من أجل تقويض المذهب الباطني، مما كان يتطلب زعزعة الأسس الفلسفية التي بني عليها المذهب ( فلسفة ابن سينا) التي تلتقي في نقاط كثيرة مع الفلسفة الإسماعيلية فضلا أنهما يغترفان من منبع واحد هو الفلسفة الدينية الهرمسية (24) وهذا ما يفسر الجانب الايديولوجي في موقف الغزالي من فلسفة ابن سينا.
إن هذه القراءة قد لا تجد تبريرها فقط في الظروف والملابسات السياسية التي كتب فيها الغزالي كتابه، ولكن تزكيها طريقته في الكتاب التي توضح أن المستهدف من “تهافت الفلاسفة” ليس هو الفلسفة ولا الفلاسفة، وإنما هو الخصم الشيعي الذي أراد ابن سينا أن يشيد له علم كلام ينافس بل يتجاوز علم كلام الأشعرية وعلم الكلام في ذلك الوقت كان يقوم مقام الأيديولوجيا، وما عبر عنه الغزالي بـ(المذهب الذي يتعصب له في المباهاة والمناظرات) والذي مبدؤه حرص جماعة على طلب الرئاسة باستتباع العوام.(25).
يذهب الجابري إلى أن الغزالي بتكريسه “للهرمسية” في دائرة البيان عمَّق من أزمة العقل العربي التاريخية التي بدأت في عصر (المامون) عصر هيمنة المعتزلة ومحنة أهل السنة من الحنابلة، خاصة بسبب قضية “خلق القرآن” وبروز “الرأي والتشريع للمشروع مع الشافعي، أضف إلى هذا ما عرفه العصر من صنوف الفتن السياسية.. ومن دون شك، فإن هذه التناقضات والصراعات مدعاة للوقوع في أزمات عاصفة.
ومن بين من أصابتهم الأزمة الفكرية التي تفشت في هذا العصر “الحارث المحاسبي”(ت 243ه) الفقيه المتكلم الصوفي، فانعكست الأزمة الروحية والفكرية للعصر وكانت مبررا للانتقال من البيان إلى العرفان.
يقول المحاسبي بهذا الصدد، بأنه ” التمس المنهاج الواضح فرأى زمنا مستعصيا قد تبدلت فيه شرائع الايمان، وانتقصت فيه عرى الإسلام في الضمائر والأحوال في دهرنا بخلاف السلف وضمائرهم، ووجدت قوما فيهم دلائل التقوى والورع وإيثار الآخرة على الدنيا فهم ائمة الهدى فقها في دين الله مغضين عن الجدل والمراء فاصبحت راغبا في مذهبهم مقتبسا من فوائدهم ففتح الله علي، علما اتضح لي برهانه فاعتقدته في سريرتي، وانطويت عليه بضميري وجعلته أساس ديني”.
هكذا تحول المحاسبي من الفقه والكلام إلى التصوف والعرفان ولكن دون أن يخرج نفسه من دائرة البيان لقد أراد أن ياخذ من الهرمسية الطريق والمنهج ويترك المحتوى والمضمون، وركز على علم “المعاملة وألف “الرعاية لحقوق الله” و”فهم القرآن” و “ماهية العقل ومعناه” وفي ما كتبه يحاول أن يعطي للعقل المعنى العرفاني باعتماده على الكتاب والسنة ..(26)، فالعقل غريزة فطرية لفهم البيان الإلهي وبصيرة يتميز بها أهل الهدى لفهم حقائق ومعاني البيان، فهو يريد تأسيس البيان على العرفان، وقد أثار عليه معاداة جميع الفرق من معتزلة وشيعة وفقهاء، لأنه انتقدهم أو خالفهم في اعتقاداتهم. ورغم انتسابه إلى الصوفية فلم يقطع مع علم الكلام.
وقد فشلت محاولة المحاسبي، لأن الاتجاه العام في عصره كان يسير نحو التحالف بين البيان والبرهان ضدا على العرفان، حتى ظهر اتجاه من جانب الأشاعرة يعمل على إضفاء المشروعية السنية على التصوف فكانت محاولة (الكلابادي 380ه) الذي ألف كتاب التعرف على أهل التصوف، تناول فيه طريقتهم وبين اتفافهم في المسائل العقدية مع مذهب أهل السنة.بعده ظهر كتاب نصر السراج الطوسي(378ه) ” اللمع” وكتاب أبو طالب المكي(386ه) “قوت القلوب” والسلمي(412ه) ” طبقات الصوفية” ثم القشيري(465ه) صاحب الرسالة، وبذلك انتهت قضية العرفان مما سمح بظهور الإمام الغزالي والغوص بعيدا في علم المعاملة وعلم المكاشفة.
فالأمر لم يعد منصبا على ثنائية الصراع بين علم الكلام السني وعلم كلام جديد بلغة فلسفية، بل تجاوزه إلى تصدام وتداخل بين النظم المعرفية المتنافسة للفكر العربي الإسلامي ( بين البيان مع البرهان) و(البرهان مع العرفان) و(البرهان مع البيان) بحيث أصبح يتعلق بتصادم بين بنيات فكرية وليس اضداد، ومن الطبيعي أن يتطور التصادم إلى تصادم عام بين تلك البنيات جميعها ..(27)
إن قراءة الجابري للتراث ( بعدة منهجية ومفاهيم فلسفية ) الغاية من ورائها الكشف عن أزمة الأسس الفكرية للنظام المعرفي العربي الإسلامي من خلال مقاربة “تكوينية أو (جينالوجية) لتاريخ الأفكار (أو حفريات المعرفة) والجدير بالتذكير أن التاريخ التكويني لم يقم في انعزال عن تاريخ الأفكار، وإنما قام أساسا ضده ولتقويضه والحفر في مسبقاته، ذلك أن تاريخ الأفكار رسخ مجموعة من الأفكار كان على التاريخ الجنيالوجي أن يقوضها ..(28).
وضمن هذا الإطار يمكن أن نفهم دوافع القراءة النقدية للجابري للغزالي وأطروحاته من أجل نقضها لفسح المجال أمام الاتجاه التجديدي لمشروع ثقافي عام يرمي إلى إعادة تأسيس البيان على البرهان ..(29).
لقد انصبت قراءة الجابري للغزالي أولا اعتبارا لتجربته الفكرية الثرية ” ونظرا لما مر به من أزمات و تقلبات “، ولأنه قام بدمج العرفان في البيان فتسبب حسب الجابري في أزمة العقل العربي التاريخية.
يقول الجابري بأن الغزالي تبنى في تصوفه الفلسفة الدينية “الهرمسية” بجميع أطروحاتها الأساسية، وأنه ربما استقاها من ابن سينا والباطنية وفلاسفتها وبكيفية أخص من المتصوفة أمثال الجنيد والحلاج والبسطامي وغيرهم.
فقد تبنى النظرية الهرمسية في مراتب الوجود وعرضها في كتبه (القول بقدم العالم وبان الله لا يعلم الجزئيات وإنكار حشر الأجساد) تبنى هذه الأطروحات لا بطريقة استدلالية بل بطريقة عرفانية باطنية، وذلك بأن ألبسها شكلا بيانيا وقرانيا ووزعها في كتبه.
خالف الغزالي الفلاسفة في مسألة السببية، فقد أنكر السببية فأفرغ البرهان من مضمونه ووظف القياس الجدلي في البيان كما يقرره الأشاعرة، ليوفق بين أشعريته البيانية وعرفانه الصوفي ..(30).
ويذهب الجابري إلى أن الغزالي في كتابه جواهر القرآن قام بقراءة هرمسية للقرآن وعلومه اللغوية والدينية قراءة هرمسية بمعنى الكلمة وظف فيها المفاهيم الكميائية والدينية والهرمسية، وبدا أولا بتصنيف سور القرآن وآياته إلى صنفين يضم الأول منها (السوابق والأصول المهمة ) وهي ثلاثة أنواع التعريف بالله وذاته وصفاته وأفعاله، والنوع الثاني فيه تعريف طريقة السلوك إليه ( العبادات) ونوع فيه تعريف بالسالكين اليه (قصص الأنبياء )ونوع فيه محاججة الكفار و مجادلة المشركين ونوع فيه عمارة المنازل وكيفية أخذ الزاد ( الحدود والأحكام الشرعية).
وعلى هذا الأساس يشبه الغزالي القرآن بصدفة فيها جواهر وحسب ترتيب طبقات الصدفة من القشرة إلى اللباب وتنطوي على علوم الظاهر وعلوم الباطن ( علوم للعامة وعلوم للخاصة)، ولكن الغزالي لم يفصل بينهما فصلا تاما، وبالتالي لم يقطع بين “البيان” و “العرفان” بل جعل البيان طريقا ل”العرفان”..
أما ما ألغاه الغزالي فهو مضمون “البرهان”وهو السببية وبالتالي العلوم العقلية الرياضية والطبيعية ولم يلغ هذه العلوم ابستيمولوجيا وحسب، بل ألغاها اجتماعيا وتاريخيا..(فاعتبر أن العلوم الدينية لا بد من وجود أصلها في العالم حتى يتيسر سلوك طريق الله والسفر إليه، أما العلوم الأخرى فهي علوم، ولكن لا يتوقف عليها صلاح المعاش والمعاد) انتهى الجابري في محاسبته للغزالي إلى إصدار حكم عليه يصمه بانتصار “العقل المستقيل” على كل نبضات عقله في الفقه والكلام، وقد انتصرت الهرمسية الهاربة من الدنيا على الفقيه المتكلم المناضل من أجل الدنيا والدين..(31)، وختم مرافعته بقول القائل ” كفى المرء نبلا أن تعد معايبه”.
إن النقد الذي وجهه الجابري للإمام الغزالي وحاولنا عرض بعض وجوهه وصوره أعلاه من الناحية المنهجية يندرج ضمن البحث في المنظومات الفكرية التي تتحدد داخل إطارها آليات التفكير واظمة الخطاب.
وقد وضع الجابري لقراءته للتراث استراتيجية تقوم على ثلاثة محاور متكاملة:
- محور النقد وإعادة البناء والترتيب لتراثنا الفكري بمختلف منازعه وتياراته.
- محور التأصيل الثقافي للمفاهيم والمناهج الحديثة والمعاصرة.
- محور نقد العقل الاوروبي وتصوراته الموجهة بالمركزية الأوروبية.
يرمي الجابري من وراء هذا كله إلى تجاوز الفهم التراثي للتراث من خلال رؤية عصرية ترتفع بطريقة التعامل مع التراث على مستوى “المعاصرة” لمواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي، ومن ثم فإن الطريق إلى الحداثة يجب أن ينطلق من الانتظام النقدي في الثقافة العربية، وذلك بهدف إحداث التغيير فيها من الداخل، لذلك كانت الحداثة بهذا الاعتبار تعنى حداثة المنهج وحداثة الرؤية والهدف هو تحرير تصورنا لـ”التراث” من بطانة الايديولوجية التي تنزع عنه طابع النسبية والتاريخية ..(32).
ويتعمد الجابري في قراء ته للتراث بغرض تحديثه وتأصيله إلى استخدام المنهج البنيوي والتحليل التاريخي والطرح الايديولوجي ( المعالجة البنيوية تحرر الفهم مما تؤسسه المسبقات والمعالجة التحليلية التاريخية تربط صاحب النص بمجاله التاريخي الثقافي والاجتماعي والسياسي والطرح الايديولوجي يكشف عن الوظيفة الايديولوجية للفكر أو الحمولة الايديولوجية للنص التراثي).
إن الأخذ بالمكتسبات العلمية و المنهجية المتطورة لا بد منها في عملية الانتظام الواعي للتراث، وأن شرط تحديث الفكر وتجديد أدواته يتم عبر الممارسة العقلانية النقدية للتراث بالمعطيات المنهجية الحديثة وبهذه الممارسة يمكن أن نزرع في ثقافتنا روحا جديدة مطابقة لشروط النهضة، لأن الشعوب لا تحقق نهضتها إلا بالانتظام في تراثها..(33).
ويضرب الجابري مثلا بالمشروع الثقافي الأندلسي الذي أسسته مدرسة قرطبة الفكرية وامتداداتها في الاندلس والمغرب، فقد طبعت بطابعها الفكر العربي الإسلامي في الأندلس والمغرب وجعلته يتميز بدور هام من عدة نواح عن نظيره في المشرق. الشيء الذي يعني تبلور مشروع ثقافي يختلف بل ينافس ماعرفه المشرق من مشاريع ثقافية منذ عصر التدوين ( عصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية) إلى سقوط قرطبة ودخول هذه الحضارة في مرحلة التراجع والجمود ..(34).
المشروع الجديد عبر عن نفسه مع “ابن حزم وبلغ تمام رشده مع “ابن رشد” وترددت له أصداء في علوم اللغة والدين لدى شخصيات علمية بارزة مثل”ابن مضاء القرطبي” في النحو و” ابو اسحاق الشاطبي” في أصول الفقه، كما كانت له امتدادات في مجال الفكر (في الفلسفة الاوروبية) ولعل أهم ما يميز هذا المشروع هو العلاقة بين الايديولوجي والابستيمولوجي في التجربة الثقافية الاندلسية..(35).
لقد كان المشروع الثقافي في المشرق ( العباسي / الفاطمي) محصورا في المستوى الايديولوجي وحده بل امتد إلى النظام المعرفي والأساس الابستيمولوجي؛ أي أن الصراع تجاوز الايديولوجيا السياسية والد ينية إلى البنية المعرفية ( النظام المعرفي.) .
وتبلور عن الصراع الايديولوجي السياسي في المشرق والمغرب مشروع ثقافي اندلسي يقدم نفسه كبديل للمشروع ” العباسي”و “الفاطمي” .(36).
يخلص الجابري مما تقدم إلى أن الفلسفة في الاندلس قد جاءت في سياق يختلف عن السياق الذي ظهرت فيه في المشرق، فقد انكب الناس على دراسة الرياضيات والفلك والمنطق( بعيدا عن الإشكاليات الكلامية حول التوفيق بين” العقل” و “النقل”) مما مكن دارسي الفلسفة من التحرر من القيود الثقافية التي عانتها الفلسفة في المشرق منذ ظهورها فيه، والتي لازمتها هناك حتى أصبحت مندمجة فيها وعنصرا أساسيا في بنيتها (ويقصد بذلك العوائق الابستيمولوجية الموروثة عن علم الكلام والافلاطونية المحدثة) فالتحرر من علم الكلام حرر الخطاب الفلسفي من توظيف العلوم في دمج الدين في الفلسفة والفلسفة في الدين، وهذا يعني أن العلم يعود مع ارسطو باعتباره الأساس الذي تبني عليه الفلسفة صرحها (مما يفسر اشتغال “ابن رشد” بشرح ارسطو) (37).
لقد تمخض المشروع الثقافي عن حركة علمية بدأت مع ظاهرية “ابن حزم (456ه) و كانت ظاهرية نقدية أصولية تصدر عن رؤية شمولية تستلهم المنطق والعلوم الطبيعية والفلسفة، وترفض الرؤية الحزمية الأسس المعرفية البيانية التي قامت عليها الرؤية البيانية في المشرق ( نظرية الجوهر الفرد ومبدأ التجويز) ومبدأ ” القياس” قياس الفرع على الأصل في الفقه والنحو وعلم الكلام، كما يرفض ابن حزم جميع الأسس المعرفية التي يقوم عليها الفكر الشيعي الإمامي الباطني.
ويرى الجابري أن ظاهرية ابن حزم تعتبر ظاهرية نقدية عقلانية تروم تأسيس البيان على البرهان رؤية ومنهجا ..(38).
وجاء ابن رشد(520/595ه) ليتجاوز ابن حزم منهجا ومضمونا، فوجه نقده إلى اطروحات ابن سينا واعتراضات الغزالي وبين قصور خطاب الأشاعرة عن بلوغ مرتبة اليقين ونظر لمنهجية جديدة في الكشف عن “مناهج الأدلة في مناهج العلة” منهجية الأخذ بالظاهر مع مراعاة “مقصد الشرع” من خلال ترتيب العلاقة بين الحكمة والشريعة على أساس أن لكل أصولا وطريقة في الاستدلال، خاصة وإن كانا يلتقيان عند الهدف: الحث على الفضيلة ..(39).
ويخلص ابن رشد إلى أنه لا تعارض أو تناقض بين بين الحكمة والشريعة “لأن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له”، وسيدشن ” الشاطبي” نقلة ابستيمولوجية في الفكر الأصولي البياني من أجل تأسيس البيان على البرهان انطلاقا من من علم الشريعة، وسوف يحرر ظاهرية ابن حزم من سجن النص اللغوي ليربطها بعالم المقاصد عالم المصلحة ولتفتح الباب أمام العقل والاجتهاد مجالا أوسع وأرحب.
ويرى الجابري، أن العقل العربي بقى محكوما بنفس السلطات التي أفرزتها عملية البناء الثقافي العام التي شهدها عصر التدوين وكرستها بنية محصلة عملية التداخل التلفيقي التي دشنها الغزالي، واكتملت مع فخر الدين الرازي وما زال مفعولها قائما ..(40).
حاولنا فيما سبق أن نعرض بعض مظاهر وأسس المشروع الثقافي الأندلسي الذي اعتمده الجابري باعتباره الإطار المرجعي الذي على ضوئه قرأ فكر الإمام الغزالي باعتباره يمثل النقيض للاتجاه التجديدي للمشروع الثقافي الذي عرفته الأندلس والمغرب منذ أوائل القرن الخامس الهجري مع “ابن حزم” والذي تكشف عن مشروع ثقافي عام يرمي إلى إعادة تأسيس البيان على البرهان (مع إبراز طابعه العقلاني النقدي) ومن بين أقطاب هذا المشروع بحسب الجابري ( ابن حزم وابن باجة وابن رشد والشاطبي وابن خلدون.) تجمع بينهم وحدة التفكير التي تتجلى في توظيف جملة من المبادئ والمفاهيم والإجراءات التي كانت تؤسس التفكير البرهاني ولا زالت تؤسسه حتى اليوم. و يتعلق الأمر باعتماد الاستنتاج والاستقراء بدل القياس واعتماد المقاصد بدل دلالات ألفاظ والقول بالسببية وإطراد الحوادث بدل القول بالتجويز والعادة.
وقد بقي هذا الاتجاه التجديدي يغالب التيار التلفيقي المكرس للتقليد في عالم البيان وفي عالم العرفان وللشكلية في عالم البرهان لهذا بقي هذا الاتجاه يتيما في عصره، فرياح التاريخ تاريخ العلم وتاريخ التقدم تحولت إلى أوروبا ..(41).
إن مبادئ التجديد والتحديث المطلوب في التراث هي تلك التي أبرزها المشروع الثقافي الأندلسي( ثورة ضد العقل المستقيل وثورة ضد التقليد أي ضد سلطات السلف؛سلطة اللفظ وسلطة القياس) ولا بد من تأصيل جديد لعلم أصول الفقه.
( اللغة والشريعة والعقيدة والسياسة) تلك هي العناصر الرئيسية التي تتكون منها المرجعية التراثية التي لا سبيل إلى تجديد أو تحديث للعقل العربي، إلا بالتحرر من سلطانها وذلك بالانتظام في فكر “ابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون” لا من أجل استنساخ أفكارهم، بل من أجل توظيف نزعتهم العقلانية النقدية كمنطلق يربطنا بتراثنا ونتعامل معها على أساس متطلبات الحاضر وحاجة المستقبل بالاستناد إلى فكر العصر ومنطقه..(42).
لقد ختم الجابري “المقدمة التي صدر بها كتاب “تهافت التهافت” بكلمة وردت على لسان ابن رشد يقول فيها ” ما الذي حمل ابن سينا الفيلسوف الموسوعي إلى سلوك مسلك الجدليين المتكلمين في إلهياته ودفع الغزالي الأصولي المقتدرالى السلوك في معظم ردوده عليه مسلك السفسطائيين “الأشرار” كما عبر ابن رشد عن ذلك مرارا باندهاش وتعجب”(43).
خاتمة:
وبعد، غني عن البيان، أن كل مؤلف يكتب عن ميل وعن إرضاء حاجة خاصة ومنهج يلائمه ورؤية ارتضاها وآمن بها.
وقد نتفق مع ” الجابري” فيما ذهب إليه من دعوة مشروعة لقراءة التراث العربي الإسلامي قراءة منهجية نقدية على أسس عقلانية تبعث فينا إرادة النهوض والتجديد والتحديث وتحثنا على إعادة البناء من أجل استعادة دورنا في حركة التاريخ ودورات الحضارة الإنسانية.
وقد نخالفه فيما أطلقه من أحكام مجحفة واسقطه من تأويلات مبتدعة ومغرضة في حق الإمام الغزالي، فمن شروط القراءة العلمية وآداب المناظرة الانصاف، فقد تحدث العلامة “ابن عبد البر” (464ه) صاحب كتاب( جامع بيان العلم وفضله.) في أكثر من موضع من كتابه القيم ” عن معنى العلم وفضله وعن تثبيت الحجاج بالعلم وتحريم الحكم بغير حجة ..وما الذي ذم من الرأي ؟ وما حمد منه؟ “
وذكر في فصل الإنصاف في العلم ” أن بركة العلم وآدابه في الانصاف فيه، ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم” ولا مشاحة في أن الإمام الغزالي كان له أثر بالغ في تطور علم الكلام والفلسفة وأصول الفقه والتصوف، وكان له تأثيره في تشكيل الخطاب الفكري والفقهي والفلسفي والكلامي في الغرب الإسلامي، وقد أثر بصورة خاصة في أقطاب المشروع الثقافي الأندلسي ( ابن طفيل وابن رشد والشاطبي وابن خلدون).
وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى ما سجله الجابري بنفسه في كتابه ” العصبية والدولة” عن تاثير الغزالي في ابن خلدون. يقول” بان ابن خلدون بقى رغم إعلانه إبطال الفلسفة فيلسوفا في نظرته إلى الكون في تحليله للمعرفة وحدودها وفي نقده للميتافيزقيا وقضاياها بل حتى في المحاولة التي قام بها لـ”يعقلن” ما هو بعيد عن العقل ( الكهانة والسحر “الكيمياء” والتنجيم وغيرها.
ورغم رفضه بقوة نظرية الفارابي وابن سينا في العقول الفلكية والاتصال بالعقل الفعال حبث حصر مجال إدراك العقل في المحسوسات والمعاني المستقاة منها. وفي المقابل رفع من شأن النفس وأسند إليها القدرة على الاتصال بالعالم العلوي الروحاني، فيما عدا هذه المسألة فقد تمسك بنظريات الفلاسفة وتمسك بالمنطق تمسكا صارما في مقدماته وبراهينه ونسج على منوال الطبيعيات علمه الجديد ” علم العمران” وقد اقتفى في معظم هذه المسائل أثر الغزالي..(ص=68). وحول مشروعية العلم الجديد وفق المنطق السائد يحيل الجابري إلى الغزالي للحسم فيها.
يقول الغزالي ” إن لكل علم لا محالة موضوعا ينظر فيه ويطلب في ذلك العلم أحكامه ..وكل علم من العلوم لا يوجب على المتكفل به، أن يثبت هذه الموضوعات فيه فليس على الفقيه أن يثبت أن الإنسان فعلا، ولا على المهندس أن يثبت أن المقدار عرض (خواص) بل يتكفل باثبات ذلك علم آخر ..” بعد الإحالة على المرجع (كتاب مقاصد الفلاسفة ) علق الجابري بقوله “هذا ونحن نعتقد أن ابن خلدون قد اعتمد على هذا الكتاب وكتاب معيار العلم في فن المنطق ( الكتابان من كتب الغزالي) في دراسته المنطقية وفي تحديده لعلمه حسب أطر المنطق القديم..” (ص=104).
ذكر الحابري ايضا إلى أن ابن خلدون استند بخصوص ما عبر عنه بـ”أن لهذا العلم اختصاصات شريفة” إلى كتاب ” ميزان العمل” للغزالي.
يقول الغزالي بهذا الصدد” بان شرف العلم يدرك بشيئين احدهما بشرف ثمرته والاخر بوثاقة دلالته فعلم الطب مثلا اشرف من علم الحساب لان ثمرته صحة البدن وهي اشرف من معرفة المقادير ولكن الحساب اشرف من الطب باعتبار وثاقة الدليل لان العلم بمسائل الحساب علم ضروري غير متوقف على التجربة بخلاف الطب ومع ذلك فان النظر إلى شرف الثمرة اولى من النظرالىوثاقةالدليل..”ص=122) فالعلوم تكون شريفة بحسب ما تقدمه من نفع للانسان( دنيويا أو روحيا..).
يتطرق الجابري أيضا إلى مسألة إقامة الحكم في المجتمع الإسلامي ويرى أن ابن خلدون اعتمد فيها على كتابين للغزالي هما ” الاقتصاد وفي الاعتقاد” وكتاب ” فضائح الباطنية” في الكتاب الأول يؤكد على الفكرة القائلة أن الأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطان قاهر مطاع ..يجمع شتات الآراء..(ص=133). في الكتاب الثاني يقول الغزالي ” إن الإمامة تنعقد بالشوكة والشوكة تقوم بالمبايعة والغرض قيام شوكة الإمام بالاتباع والأشياع.
إن إلحاح الغزالي على ضروة الشوكة في انعقاد الإمامة يشكل مرحلة جديدة في تطور نظرية أهل السنة في الخلافة وستكون المرحلة التالية مباشرة مع نظرية ابن خلدون في العصبية ..(=ص134)، ويؤكد الجابري أن هناك أصولا إسلامية لنظرية ابن خلدون في العصبية ويحيل إلى نص للغزالي من كتاب “ميزان العمل”(تطرقنا له فيما سبق) ويتعلق بأنواع المذاهب وما يتعصب له في المباهاة والمناظرات، ومبدأ هذا التعصب حرص جماعة على طلب الرئاسة باستتباع العوام..”وهذا الاتجاه الجديد الذي دشنه الغزالي هو نفس الاتجاه الذي جاء ابن خلدون ليجدد معالمه ويرسم طريقه ويعمق أسسه وأبعاده..(=ص137).
بحث في السياسة والتاريخ يطرح السؤال عن كيف تقوم الدول وكيف تتطور وكيف تسقط.
ما قصدناه في هذا المقام من اختيار ابن خلدون، إنما باعتباره خير شاهد على منزلة الغزالي وتأثيره في تشكيل الخريطة الفكرية في الغرب الإسلامي.
ويقتضي واجب الإنصاف الاعتراف لهذا الإمام الكبير بريادته الفكرية وعبقريته السامقة واتساع باعه في ميادين العلوم المختلفة و تميزه عن أقرانه من أعلام الفكر في جميع العصور.
كان صاحب فلسفة جامعة موحدة بين ما هو عقلي ونقلي وفلسفي وصوفي متصدرا لواء الإصلاح الفكري والروحي لتقويم المعتقدات وتصويب المعارف. كان بحق وبلا منازع رائد الإصلاح وتجديد الفكر الديني والفلسفي في الإسلام.
لا يعرف من بين مفكري المشرق والمغرب من هم أتم منه أداة ومضاء في المدركات الذهنية التي تحسن الفهم في المسائل المجردة وتقدر على الفصل بين الممكن والمستحيل أو بين الجائز والواجب، يذهب بالفكر إلى آخر اشطواطه لكي يلاقي بين حدود الفكر وحدود الإلهام.
وبهذه القدرة على التجريد الذهني أصبح أقدر من المتصوف الذي يشغل فكره باستقصاء البحث ومن الفيلسوف الذي لا يروض نفسه على الفرار من تحكم (الذاتية ) ولوازم الأشياء التي لا تفارقها في حسه وفي إدراكه.
تغلب بسليقته الصوفية على الفيلسوف الذي لا تصوف عنده وكان تفكيره المنتظم يعينه على الفهم، وقد تمكن بملكته النادرة بين أصحاب الفلسفة وأصحاب التصوف أن يواجه المعضلات التي واجهت جمهور الفلاسفة فوضعها في موضعها الصحيح من التفكير الإنساني، لأنه وجد الممكن حيث غم الأمر على سواه فلم يجدوا ثمة غير المستحيل،
وأكبر هذه المشكلات التي شقت على عقول الفلاسفة هي قضية القدم والحدوث وقضية الخلق وقضية السببية وقضية البعث وهي جميعا محل خلاف شديد بين جمهرة الفلاسفة والفقهاء وعلماء الدين في كل ملة..(44).
لقد غاص الغزالي في هذه المعضلات الكبرى التي غاص فيها عقل أرسطو الجبار فلم ينته منها إلى قرار بحر عميق غرق فيه كثير من الناس، فكان عليه أن يطلب العلم الذي يسبر به المعاني الجوهرية لهذه الحقائق الكونية والوجودية الكبرى.
لا مراء أن للحقيقة اوجه كثيرة وجوانب متعددة. كان هدف الإمام معرفة الحق يحرص على أن يتعرف على المنهج القويم الذي يوصله إلى إدراك الحق.
الناس يعولون على العقل وعلى الحواس وعلى النصوص، يتخذون منها موازين يزنون بها الآراء ويفاضلون بينها، ورغم ما توافقوا عليه من الرضى بهذه الموازين فقد اختلفوا فيما تؤدي إليه من نتيجة بسبب تناقض أدلة علمهم.
فلم يقدروا أن يميزوا بين اليقين وبين ما هو شبيه باليقين، ولم يقدروا أن يميزوا بين الحس الصادق والحس الخادع، ولم يقدروا أن يميزوا بين روح النص ومادته؛ فالعلم هو اليقين لا شبه اليقين، والعلم ما يهدي إليه الحس الصادق لا الحس الخادع في المجال الذي لا سبيل إلى الاستغناء عن الحس فيه.
والعلم هو ما يهدي إليه النص لا تدل عليه ظواهره في المجالات التي ينفع فيها استقاء العلم من النصوص.
العلم هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريبة ولا يقارنه إمكان الخطأ..(45)، وكل علم لا يوصل إلى الحق ليس جديرا أن يسمى علما، وكل علم لا امان معه فليس بعلم يقيني.
كان هذا هو مراد الإمام الغزالي من العلم، لهذا خاض في بحره العميق، وتوغل في كل مظلمة وتهجم على كل مشكلة، وتفحص كل عقيدة واستكشف أسرار مذهب كل طائفة لا يميز بين محق وباطل ولا يرى باطنا إلا أحب الاطلاع على بطانته، ولا ظاهرا إلا أراد أن يعلم حاصل ظاهرته ولا فلسفيا إلا قصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا اجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته ولا صوفيا إلا وحرص على العثور على سر صوفيته..(46).
وقد قاده البحث إلى الشك والشك إلى النظر”ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال”.
كانت غايته معرفة حقيقة العلم، لأنها أساس نظرية المعرفة وبحث فيها عن مناهج الأدلة وموازين المعرفة (الكشف وعدم التناقض) فاستند إليها لوضع موازينه للعلم اليقيني.
وقد اهتدى بنور الكشف وهو الحدس الذي يدرك البديهيات والحقائق الأولى، ومسألة الكشف من أعمق المسائل التي تطرق لها الغزالي في كتابه ” المنقذ من الضلال” ورغم أن الفكرة اقتبسها من طريقة الصوفية، فإنه امتاز عن غيره بجعلها مفتاح جل المعارف لولاه لما رجع اليقين إلى العقل.
فغاية الغايات من العلم والعمل انبجاس النور الإلهي في النفس،إنها معرفة الحقائق الأزلية ( سبب الأسباب وموجب الممكنات).
لقد ألهمه عقله الكبير، أن الاحتمالات في تقدير الرياضة غير الاحتمالات في تقدير الفلسفة، وذلك لا قتدار الصوفي على التجرد من شواغل الحياة والخلوص إلى معرفة الحقيقة من أجل الصلاح والإصلاح.
كان الإمام الغزالي رحمه الله قدوة تتعلم منه الأجيال المتعاقبة نماذج التفكير الرفيع، وتتعلم منه أن للفلسفة أداة لا تتم بغير قسط من التصوف، لأن للتصوف قدرة على انتزاع النفس من المألوف وتلك قدرة لا يستغني عنها الفيلسوف المفكر ولا الفيلسوف الحكيم..(47).
_________
الهوامش.
- محمد عابد الجابري “نحن والتراث” المركز الثقافي العربي ط3 /1993/ ص12
- المصدر السابق ص13
- نفس المصدر ص14
- نفس المصدر ص16
- الجابري “”مواقف” عدد19 ستنبر2003/ ص15
- نحن والتراث ص26
- مواقف ص38
- نحن والتراث ص266
- محمد عابد الجابري تكوين العقل العربي دار الطليعة ط1 /1984 ص7
- المصدر السابق ص7
- ندوة ابوحامد الغزالي كلية الاداب والعلوم الإنسانية الرباط سلسلة رقم9 (1988)ص55
- المصدر السابق ص57
- نفس المصدر ص58
- نفس المصدر ص63
- نفس المصدر 64
- نفس المصدرص65
- نفس المصدرص66/67
- انظر مقدمة الجابري لكتاب تهافت التهافت طبعة مركز دراسات الوحدة العربية ص21
- نفس المرجع ص22
- نفس المرجع ص23
- نفس المرجع ص24
- ابوحامد الغزالي ميزان العمل تحقيق سليمان دنيا دار المعارف 2018ص406
- 23) مقدمة تهافت التهافت ص32/33
- المرجع السابق ص39
- نفس المصدر ص47
- تكوين العقل العربي ص276
- الصدر السابق ص281
- عبد السلام عبد العالي سياسة التراث دراسة اعمال لمحمد عابد الجابري ط4 /2011ص24
- محمد عابد الجابري بنية العقل العربي ط1/1986ص576
- تكوين العقل العربيص288
- نفس المصدر ص289
- محمد عابد الجابري التراث والحداثة المركز الثقافي العربيط1 /1991ص16
- نفس المصدر ص33
- نفس المصدر ص175/176
- نفس الصدر ص181
- نفس المصدر ص186
- نفس المصدر ص187
- نفس المصدر ص191/193
- نفس المصدر ص196
- بنية العقل العربي ص577
- المصدر السابق ص576
- المصدر السابقص590
- مقدمة تهافت التهافت ص56
- العقاد فلسفة الغزالي ص8
- ميزان العمل ص13
- المنقذ من الضلال للامام الغزالي تحيقيق جميل صليبا وكامل عياد ط9 /دار الاند لس 1980ص 79/80
- العقاد فلسفة الغزالي ص 14.
*المصدر: التنويري.