تقديم:
أصبحت فكرة التكامل بين المعارف والعلوم، في السنوات الأخيرة من أكثر المواضيع اهتمامًا في الأوساط العلميَّة والمراكز البحثيَّة الأكاديميَّة، وطالت مجالات واسعة.
ما يدلُّ أنَّ من الظواهر الثقافيَّة التي تستوقف الدارس والباحث والمتابع لمسار التراث العربي الإسلامي في تطوّره التاريخي هو ذلك التداخل والتلاحم القائم بين العلوم التي نشأت في أحضان هذا التراث، حيث إنَّ العلاقة التداخليَّة والتكامليَّة كانت هي السمة البارزة والوصف الغالب على جميع العلوم التي نشأت وتطوَّرت في أحضان الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة.
وهذا التداخل بين العلوم استوقفَ كثيرًا من الدارسين، وأثار عددًا من الباحثين، وهو ما جعلهم يبحثون عن الأسباب وينقِّبون عن الدواعي، ويرصدون النتائج التي كانت من وراء هذا التداخل والتكامل الذي كان حاضرًا وقائمًا بشكل واضح وملفت للانتباه في العلوم الإسلاميَّة.
ومن أبرز ما يشهد لهذا التداخل هو الموسوعيَّة في التأليف والكتابة والتصنيف، بحيث كان العالم الواحد يكتب في أكثر من علم، ويجمع بين أكثر من تخصُّص.
ما يدلُّ بأنَّ فكرة التداخل والتكامل بين العلوم شكَّلت أحد الأفكار الأساسيَّة والمحاور الكبرى التي لقيت رواجًا واسعًا ومناقشة مستفيضة بين الدارسين والباحثين المنشغلين بالدراسات التراثيَّة في الفترة الأخيرة. وهو ما أفضى إلى جعل فلسفة التكامل والتكامل بين العلوم موضع عناية ومحور اشتغال واهتمام بين عدد كبير من المشتغلين بالتراث العربي الإسلامي وبمناهج العلوم.
-الأسباب التي ساهمت في هذا التداخل:
إنَّ العلوم الشرعيَّة والإسلاميَّة لم تكن بمنأى عمَّا تعرفه العلوم الأخرى من إشكالات نظريَّة ومن تحوّلات معرفيَّة وتساؤلات منهجيَّة ـنخص مهامها ووظائفها خاصة ما تعلق بتبادل الوظائف واستعارة المفاهيم، أو فيما تطرحه هذه العلوم من أسئلة نظريَّة وإشكالات معرفيَّة ومنهجيَّة خاصة ما كان من قبيل الأسئلة المؤسِّسة لبنائها المعرفي ولجهازها المفاهيمي، أو حتى ما تعلَّق بمرجعيتها المؤسِّسة لها.
وممَّا ساعد على هذا التكامل والتواصل بين هذه العلوم بجميع فروعها وأقسامها أصليَّة كانت أو خادمة للأصل نقليَّة كانت أم عقليَّة ،هو وحدة الإطار والمرجع الذي يجمع هذه العلوم. إذ التحمت هذه العلوم بمجملها وفي نسق واحد من أجل خدمتها للقرآن الكريم توثيقًا واستمدادًا وبياناً. فقد اتَّجهت كل العلوم نحو القرآن الكريم بياناً واستنباطًا واستمدادًا وتفسيرًا وتأويلاً وتوثيقًا وتحقيقًا وقراءة فكان المدار لجميع العلوم.
بحيث نتج عن مركزيَّة النص القرآني في الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة شبكة متكاملة من العلوم، من فقه وأصول وحديث وسنة وتفسير وقراءات، وغيرها من علوم القرآن، بالإضافة إلى علوم العربيَّة التي تعرف بعلوم الآلة، من نحو وصوت وصرف ومعجم وفقه لغة وبلاغة، ولها حيّز وفصول معلومة في مباحث العلوم الشرعيَّة.
وممَّا يقتضيه هذا الموقف الذي يأخذ بمبدأ التكامليَّة في العلوم،أنَّ طلب العلوم التراثيَّة معرفيًا ومنهجيًا يقتضي من طالبها استحضار قبلي لمجموعة من المعارف والعلوم المركبة لهذه العلوم خاصة ما كان متعلقًا بالمرجعيات والمفاهيم والمصطلحات التي انتقلت من حقولها المعرفيَّة التي نشأت فيها إلى حقول معرفيَّة أخرى مستقبلة لها،بحيث حقَّقت في هذا الانتقال والعبور معان ودلالات جديدة متداخلة في الوظائف ،ومشتركة في المهام والأدوار،والجامع بين هذه العلوم الإسلاميَّة، هو خدمتها للنص القرآني توثيقًا واستمدادًا وبيانًا وتفسيرًا وتأويلًا.
وممَّا يثير الباحث وهو يستحضر ويتابع أثر هذا التداخل وتداعياته على العلوم الإسلاميَّة، أنَّ كثيرًا من العلوم تطوَّرت في أحضان علوم أخرى،خاصة العلوم التي يجمعها وحدة الموضوع وتشترك في وحدة الهدف والغاية. فعلم البلاغة وعلم اللغة وعلم النحو، وعلم المعجم وغيرها من العلوم،إنما تطوَّرت في أحضان علوم أخرى،فعلم التفسير تطورت بين أحضانه كثير من العلوم ومنها بشكل خاص علوم اللغة العربيَّة .
فأكثر العلوم تأثّرا بالفلسفة التكامليَّة هو علم التفسير، لأنّ مقصد البيان يأتي في صدارة المقاصد التي جاءت بها الشريعة الإسلاميَّة وحملتها في علومها، وأنَّ النحو والبلاغة والمعجم وعلم القراءات وغيرها من علوم الآلة،إنما نشأت في أحضان النص القرآني لغاية تفهّمه وتفسيره،ما جعل المدونة التفسيريَّة مدونة غنيَّة ومتنوعة وحافلة بالعلوم التي لها علاقة وصلة بجهة البيان والتفسير والاستمداد.
___________
*الدكتور محمد بنعمر.
*المصدر: التنويري.