“ولمْ ينخدع الشُّعراء إذْ يقولون: أجَلْ للإغريقيِّ على المُتوِّحِش حقُّ الإمرَة؛ ما دام أنَّ الطبع قد أراد أنْ يكونَ المُتوحِّش والعبدُ سِيَّيْنِ” .. “فيلزم بالضرورة التسليمُ بأنَّ بعض الناس يكونون عبيدًا أينما كانوا وأنَّ آخرين لا يكونون في أيّ مكان” .. “فرُبَّما يقع الإجماع على أنَّ أقلَّهم جَمَالاً يجب أنْ يكونوا للآخرين عبيدًا” .. “ومهما يكن من شيء فبيِّنٌ أنَّ البعض هم بالطبع أحرار والآخرين بالطبع عبيد”. هذه بعض اقتباسات من كتاب “السياسة” للفيلسوف اليونانيّ الأكبر “أرسطو”، والتي أسَّستْ للفكر الغربيّ في نظرته لنفسه ونظرته للآخرين، وليس القصد هنا أنَّ كلَّ الفكر الغربيّ وتنظيره قائم على هذه الفكرة، بل القصد أنَّ التصوُّر الغربيّ بكُمُون التفوق فيه وكُمُون البَلادة والخبل والغباء في الآخرين هو ركيزة من ركائز هذا الفكر وعماد من أعمدة قوامه.
هذه المسائل وغيرها يُناقشها بعُمق فيلم ” Waiting for the Barbarians ” (في انتظار البرابرة). الفيلم الذي أخرجه المُخرج الكولومبيّ “سيرو جيرا” يعتمد على رواية بالاسم نفسه كتبها “جي إم كوتزي”، ليبحث عميقًا في إحدى مشكلات الحضارة الغربيَّة بشاعريَّة رقيقة في تركيب يستحقّ الاهتمام وإلقاء الضوء عليه.
الفيلم يدور في مستعمرة حدوديَّة لإمبراطوريَّة ضخمة لا تُسمَّى وهي تعبير عن الحضارة الغربيَّة عمومًا وإمبراطوريَّاتها المتعددة. على تُخُوم هذه المستعمرة يعيش “البرابرة” أو الهَمَج وهي قبائل صاحبة الأرض التي تحتلُّها تلك الإمبراطوريَّة. الزمن غير مُحدَّد إلا أنَّ هيئة الحياة والمُستخدمات تدلُّ -تقريبًا- على أنَّنا في القرن التاسع عشر، مُنتصفه أو آخره.
نرى في تلك المُستعمرة التي ستدور على أرضها دراما فيلمنا الحاكِم وهو القاضي “الممثل مارك رايلانس” الذي يعيش عيشة سلام وود مع أبناء تلك المستعمرة، وعيشة هدوء وثبات مع القبائل صاحبة الأرض. ولأنَّنا لا نعرف تحديدًا زمن ولا اسم الإمبراطوريَّة فقد تجوَّل بنا المُخرج في المشاهد الأولى لنكتشف وجوهًا كثيرةً ومتمازجة؛ وجوه عربيَّة وهنديَّة وقوقازيَّة، ونجد جُنديًّا يُدعَى “نعيم” وهو اسم عربيّ مُسلم. غير أنَّنا نعلم أنَّ القبائل الكثيرة التي تقع وراء حصن المستعمرة هم من الآسيويّين الشرقيِّين -خاصةً الجنس المنغوليّ- يدلُّ على هذا صورهم وهيئة ملابسهم وحياتهم.
تبدأ الأحداث الحقيقيَّة عندما يصل مبعوث الإمبراطوريَّة العقيد جول “الممثل جوني ديب” ليعمل أعمالاً استخباراتيَّة عن الوضع في أطراف الإمبراطوريَّة والعلاقة مع البرابرة والحرب الوشيكة التي يعتقد وحده أنَّها ستقع. ويبدأ هذا العقيد ذو السلطويَّة في أعمال التفتيش والتنقيب عن آثار يثبت منها أنَّ البرابرة يحضِّرون للحرب بكُلّ قوتهم، ويعيث في مستعمرة القاضي الفساد، والقاضي بهدوء يحاول تمالك نفسه منتظرًا رحيل العقيد. ويعرض الفيلم ما الذي سيجلبه عمل ذلك القادم في تلك الأطراف الحدوديَّة.
الفيلم قسَّمه المخرج أربعة أقسام على أسماء فصول العام، الصيف بعنوان “العقيد”، والشتاء بعنوان “الفتاة”، والربيع بعنوان “العودة”، والخريف بعنوان “العدُو”. كلُّ منها متساوٍ تقريبًا إلا الفصل الأخير فهو الأقصر. قد ساعد هذا التقسيم مخرج الفيلم على بيان فكرته وتقديم قصَّته بشكل سلس مفهوم، ولا شكَّ أنّ معالجة المشكلات الفكريَّة خاصةً إذا عظُمت لتكون مشكلات حضاريَّة أمر يحتاج إلى حنكة ومهارة. والفيلم بالقطع يشهد لصاحبه بذلك. ولعلَّنا نلاحظ أنَّ تقسيم الفصول الفيلميَّة مُغاير لتقسيم فصول العام في الترتيب؛ وهذا لأنَّ المخرج قد قسَّم الفيلم بفصوله حسب المعاني فالأول لبدء الصراع، الثاني لعرض المعاني من خلال قصَّة الفتاة، والثالث تغيُّرات كثيرة في الأحداث، والرابع نتيجة كلّ هذا في عنوان العدو.
ومن أبرز ما اعتمد عليه الفيلم في بنائه شخصيَّاته. خاصةً الشخصيَّات الأربع: القاضي، العقيد، مساعد العقيد، الفتاة. فالعقيد رجل مُتعالٍ لأقصى حدّ مُمكن، يتعامل مع الجميع بأنَفَة وبرود وكبرياء، يحتمي وراء نظَّارة لها قيمة تعبيريَّة في المعنى يدَّعي أنَّها تقيه من الشمس وعيون المُحملقِين فيه كيْ لا تصيبه تجاعيد العين، قاسي التعبير والشعور منطقيّ التفكير -حسب ما يرى أو يظنّ أنَّه منطق الأشياء- ولعلَّ العين الفاحصة لا تخطئ أنَّه يعبِّر عن نظرة الغرب الأصوليَّة التي جاءت على لسان “أرسطو”. أمَّا مساعده “الممثل روبرت باتينسون” فهو تعبير عن الجيل الذي تربَّى على تلك النظرة وهو أشدّ قساوةً وأكثر خَرَقًا وتهوُّرًا لشبابه وحداثة سنّه، تجده قد امتلأ بتلك القِيَم حتى أنَّه يعذب الآخرين بتلذُّذ شديد، وهو يجلس مُتأهِّبًا جوار سيده العقيد وكأنَّه كلب حراسة يريد الانقضاض -كما ظهر في مشهد استجواب القاضي-.
والقاضي هو رجل غربيّ أيضًا لكنْ مَن قال إنَّ الغرب كلَّه واحد؟؛ فهذا هو الرؤية الأخرى الأقرب للشعور الإنسانيّ والتواصل مع الآخرين. نجده محبوبًا بين الناس، لا يرضى بالظلم لأحد، يحاول فهم لُغة البرابرة ومخطوطاتهم وتراثهم. ولا يرى في الآخرين أعداء أو أقلّ، بل هم أصدقاء وأصحاب مودة. بل إنَّه -كما صرَّح- يرى أنَّه العدو الذي يقف على أرض الغير دون مُبرِّر، ويرى أنَّه غريب وأنَّ أهل البلاد يعتبرونه غريبًا يومًا ما سيرحل وترحل معه إمبراطوريَّته. ويحسّ بالذنب تجاه أفعال أبناء وطنه مع أهل البلاد.
أمَّا الفتاة البربريَّة “الممثلة غانا بايارسايخان” فهي مثال عن ضحايا الغرب وحضارته فهي التي أتى هؤلاء الغرباء إلى وطنها فاحتلُّوه وقتلوا أباها وكادوا أن يفقدوها البصر وهم يلهون بذلك، وكسروا قدَمَيْها الاثنتَيْن، وحوَّلوها من فتاة كريمة بين أهلها إلى مُتسوِّلة تشحذ ما يسدّ رمقها. كلُّ هذا -الذي نراه يقع مع كثير من الشعوب من أفعال تلك الحضارة- لأنَّها همجيَّة بربريَّة لا تستحق إلا هذه المعاملة. وها هي تلك الفتاة مشاعرها تتأرجح بعدما أصابها هذا الضرر الجسيم حتى تجاه القاضي الذي أحسن إليها فلا تستطيع التفاعل معه بالرغم من كل إحسانه لأنَّه أولاً وأخيرًا إلى الأعداء ينتمي.
هكذا استطاع المخرج من خلال تلك الشخصيَّات بثّ هذه الكميَّة من المعلومات والخلفيَّات والإمدادات الشعوريَّة. أضاف إلى ذلك استخدام ممثلين بارعين مُحكِمِين فهم شخصيَّاتهم، وواجباتهم التمثيليَّة في كلّ مشهد. ولا يمكن تفضيل أحد على أحد إلا أنَّ السيد “مارك رايلانس” قد يلفت نظر المُشاهد ببراعة ووداعة وهدوء. والتمثيل واختياره الفنيّ هو أحد تلك العوامل التي جعلت الفيلم فيلمًا شاعريًّا.
وقد برع المُخرج أيضًا في استخدام زوايا التصوير التي خدمته بشدة في بيان تأثير اختلاف شخصيَّتَيْ القاضي والعقيد، وأيّ تأمُّل لزوايا التصوير في المَشاهد التي جمعتهما ترينا إلى أيّ حدّ استطاع المخرج تحقيق الأمر. خاصةً مشهد البداية لأوَّل ظهور لشخصيَّة العقيد وهو في منتصف الشاشة تماما وفي المواجهة، ومشهد حديثهما بعد الخروج أوَّل مرة من السجن حينما تناقشا في كيفيَّة إخراج الحقيقة من المُستجوَب -في رأي العقيد-.
وقد اختار المخرج إيقاعًا بطيئًا في أوَّل الفيلم ليُصاحب مكان الأحداث الذي هو الصحراء القاحلة (مكان التصوير الحقيقيّ في دولة المَغرب)، وليُظهر أيضًا تلك الشاعريَّة في الصورة الكُليَّة المُقدَّمة فكلّ ما في الفيلم هادئ وشاعريّ. ولأنَّنا في الصحراء فقد تفوق الصوت بشدَّة ليُعلمنا كيف هو تأثير سماع الأشياء في وسط هادئ جدًّا إلى حدّ المَوَات. فنسمع الأنفاس البشريَّة، والتنهُّدات، ووطأ الأحذية على الأرض، وحوافر الخيل المتحركة، حتى ليُخيَّل إلى السامع أنَّه يسمع تعبيرات الوجه سماعًا.
ومن الدلالات الفنيَّة في الفيلم أنَّك لستَ مُحتاجًا إلى أن تصل لذُروة الأدوات كيْ تعبِّر عن حالة مُتصاعدة من التوتر أو الحنق أو حتى في التعبير عن الجوّ العامّ للفيلم. مثال ذلك أنَّ المخرج في الموسيقى لمْ يختر إلا تنويعات وتوزيعات على أكثر من لحن جنائزيّ وموسيقى الحِداد. استخدمها استخدامًا ماهرًا للغاية دون مبالغة ولا فخامة.
إنَّ هذا الفيلم يذكِّرنا بكتاب “انحدار الغرب” أو “تدهور الحضارة الغربيَّة” لمُؤلِّفه “أسوالد شبنجلر” الذي تنبَّأ منذ عقود بزوال هذه الحضارة، أو موتها فكأنَّها أثر من بعد عين -كما يقول المثل الشهير-. وهو ما جاء على لسان القاضي عندما قال في مشهد استجوابه: “الألواح ممكن أن تُقرأ على أكثر من وجه؛ يمكن قراءتها كخُطَّة حرب، ويمكن قراءتها كتأريخ لآخر أيام الإمبراطوريَّة”. هذا الفيلم الذي يدخل إلى روح التأسيس التنظيريّ للحضارة الغربيَّة وصولاً إلى أحد الأركان الركينة فيه وهي رؤية الغرب للآخرين ليهدمه ويُبيِّن بشاعته، ويكشف في لحظة إنتاجه عن هذا التناقض الداخليّ في البناء التنظيريّ الأوربيّ.
وقد يتعجَّب أحد -والكثير لمْ تأتِه الفرصة للتعرُّف على هذه الحقائق- من الحديث ويعتبره قسوة في حقّ الغرب. فليتقبَّل هذه الكلمات من أول رسالة الدكتوراه المُمتازة “الرُّؤى الأوربيَّة عن الإسلام” للباحث “سامر سيد قديل” هو يقول: “وبالرغم من أنَّ مصطلح البرابرة الذي اعتاد اليونانيُّون إطلاقه على ما عداهم من شعوب كان بالأساس تحديدًا ثقافيًّا يحمل مدلولات الاختلافات اللُّغويَّة والتبايُن في العادات والتقاليد”. وفي موضع آخر: “يرى تزفيتان تودوروف أنَّ اليونانيِّين قسَّموا العالم بين “نحن” أيْ اليونانيِّين و”الآخر” البرابرة”… هذه الحدود التي رسم ملامحها الأقدمون ظلَّتْ كما هي مَعِينًا يلجأ إليه مَن أراد معرفة الفوارق الفاصلة بينه وبين الآخرين”.
ولمَن يتعجَّب أيضًا لعلَّه سيُبهت عندما يعلم أنَّ الغرب لا يرى إلا نفسه وحسب. هذا ليس رأي سفهاء الغرب بل رأي حُكمائهم وأعلى مَن فيهم. فلننظُرْ مثالاً أوَّل كلمات أحد أكبر الفلاسفة في العصر الحديث “برتراند راسل” في السِّفر الذي يعدُّ من أدبيَّات التأريخ الفلسفيّ وهو يُنكر الحضارة عن كلّ الشعوب التي تسبق اليونان -واليونان لها رمزيَّة عند الغرب ضخمة؛ حيث يرون فيها تاريخهم المجيد أو صورة منه- بقوله: “لنْ تجد في التاريخ كلّه ما يثير الدهشة، أو ما يُتعذَّر تعليلُه أكثر ما يُدهشك ويتعذَّر عليك تعليل الظُّهور المُفاجئ للمدينة اليونانيَّة”. وهذه مسألة في التأريخ الفلسفيّ معروفة باسم “المُعجزة اليونانيَّة” حيث يدَّعي الغرب ادعاءً أنَّ اليونان -الذي هو نفسه الغرب الحديث- كان بدء كلّ شيء في التاريخ من علوم وفلسفة وحضارة حقَّة، وأنَّ كلَّ ما فعله أيّ شعب آخر هو مجرد تمهيد لا يُقارَن بجهود الغرب.
ولمَن يتعجَّب أيضًا فليشاهِد هذا الفيلم الذي يصرخ صُراخ شاعريَّة ليحتجَّ على هذا الجانب من الحضارة الغربيَّة، وما يقع من خلال الإيمان به من أفعال يندى لها الجبين نراها كلَّ يوم في عالمنا العربيّ وفي غيره. لكنَّ هذا العالم الغربيّ يفضِّل أنْ يتعامى عنها وهو ينفض من على بذلته الثمينة غبار رصاص يقتل به الشعوب الأخرى. ولِمَ لا وهم برابرة همج ودياناتهم ديانات همجيَّة مثلهم تحضُّ على العُنف والإجرام الذي لا يريح ضميره الذي يريد الخير للجميع!