في التسامح؛ مقاربة بين الأديان والعقل الحديث
يبدأ محمد أركون في بحثٍ له تحت عنوان” في التسامح؛ مقاربة بين الأديان والعقل الحديث” بإيراد تعريفات المعاجم لهذين الاصطلاحين فطبقًا لقاموس وبستر Webster تعني مفردة “تسامح tolerance إبداء تفهّم أو تساهل إزاء معتقدات أو ممارسات تختلف أو تتعارض مع معتقدات الذات أو ممارساتها، والقبول بالحيدان عن معايير معيّنة”، فيما “إباحة التسامح toleration” تعني “سياسة تنتهجها حكومة ما تبيح بموجبها ممارسة صيغ معتقدات دينيَّة وعبادات غير معتمدة رسميًّا”. أمّا قاموس ليتره الفرنسي (القرن 19) فيشير إلى الأصل الفلسفي، لهذه التعابير، في وجوه تعارض آراء معيّنة مع آرائنا”.
يلاحظ أركون وجود “التعارض القديم” بين مقامين: أوّلهما المقام الذي يستخدم العقل المستنير، الذي يصفه بـ”أداة الدولة الحديثة” ما دام إن “ما بين ما تتسامح معه هو تنوّع أشكال المعتقدات الدينيَّة”.
ويشير أركون إلى أنَّ المعاجم التي سبقت انتصار التنوير، سياسيًّا وثقافيًّا، تبرز في تعريفها هذين الاصطلاحين وجود “عقيدة حقّة” واحدة، راوحاها الله تعالى إلى نبي اصطفاه وتولَّت حمايتها من بعده، من غيرها المعتقدات الأخرى، والعقائد “الباطلة” سلطات ومؤسّسات دينيَّة.
أنّ التسامح واللاتسامح كما يرى أركون “قضايا دائمة وعميقة حالة في بنية مواقف العقل” وتتمثَّل “برسم حدود العقل التنويري وتجاوز عقبة الظلاميَّة الجديدة التي تتفشَّى اليوم تحت مسمَّى العودة إلى الدين”.
“ما دام هنالك عقل ما يرى نفسه ساميًا، متسلّحًا بيقينيّات راسخة تستند إلى وحي إلهي أو ميتافيزيقيا كلاسيكيَّة (أو بالأحرى، يستند إلى اقترانهما مع بعضيهما)، يسهل تعريف حدود التسامح، وحصر منطقة اللاتسامح معه فيه، فحسب ما ترى الفلسفة الوسيطة واللاهوت، فإنَّ العبوديَّة لم يكن متسامح معها وحسب، بل معترف بها قانونًا. فالنساء والأطفال والكفرة والأجانب، كانوا في المرتبة الدنيا، ولا ينتفعون من كامل الوضع القانوني الممنوح للذكر، والبالغ، والمؤمن العاقل، وهو ما يقابل أوضاعهم. إلا أنَّ العقل الحديث عدّل الحدود بين المتسامح معه واللامتسامح معه. وعلى أية حال، لم تشمل تعريفاته الجديدة النساء، والأطفال، والأجانب، والمؤمنين من خارج حظيرة الكنيسة الكاثوليكيَّة، ودفعت الحروب الدينيَّة، التي اندلعت بين الكاثوليك والبروتستانت، جمهرة من الفلاسفة إلى صياغة مفهوم جديد للتسامح. ولم تدخل الشعوب المستعمَرة في هذه الأخلاقيّات الجديدة إلا بعد الحرب العالميَّة الثانية.
فالواقع إنَّ العنصريَّة ظلَّت محدّدًا يجمع السياسات في بلدان الغرب حتى يومنا هذا. كل هذا يجعل من الصعب ترسيم مجال اللامتسامح معه بوضوح، وإذًا يصعب إدراك كنه اللامتسامح معه وغرضه ووظائفه، بل ثمّة صعوبة أخرى تنهض من جراء شيوع فلسفة ليبراليَّة، يفسّرها أفراد على أنّها حرّيَّة لا تعيقها مسؤوليّات ما، تأتي بالحقوق كلها من دون أن تستدعي ما يقابلها من إلزامات شخصيَّة أو مدنيَّة، فديمقراطيَّة اليوم المتسامحة لم تولِّد نسبيَّة واسعة الانتشار فحسب؛ بل سبّبت أيضًا تفكُّك كامل ضروب القيم والمزايا الأخلاقيَّة.
عنف، ومقدّس، وحقيقة
“كان المقصد وراء الملاحظات التي طرحناها حتى الآن الإعداد لنقد أكثر جذريَّة لأفكار التسامح وإباحة التسامح من خلال تحليل أنثروبولوجي للمفاهيم الثلاثة التي تعرّضنا لها في ما سبق، وسنرى هنا كيف أنّ القوى المترابطة في ما بينها، والتمثيلات المحيطة بهذه المفاهيم الثلاثة تشتغل في مستويات متباينة في الفعاليّات الإنسانيَّة والمؤسّسات جميعها. ففي هذا، يظهر التسامح وإباحة التسامح على أنّهما محاولات أخلاقيَّة لتخفيف الآثار الكارثيَّة الناجمة عن العنف، ويفهمان بوصفهما أداة ضروريَّة وشرعيَّة ومقدّسة، من أجل حماية، وربما توسيع الحقيقة المقدّسة المتسامية، أو بالأحرى، المعلمنة- التي تنادي بها جماعة، أو مجتمع، أو أمَّة ما، ثمّة مثالان مهمّان سيكفيان لإيضاح هذه الأطروحة الأنثروبولوجيَّة: الآية 5 من سورة التوبة، والآية 256 من سورة البقرة، من القرآن. فكثيرًا ما تُذكر هذه الآيات بغرض “تبيان” كيف أنّ القرآن دعا إلى التسامح الديني قبل زمن طويل من ظهوره في التاريخ الحديث.
ونورد في ما يأتي الآيات المعنيَّة، وبحسب التسلسل المذكور:
(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التوبة (5).
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة (256).
تتوافر ثلاث قراءات ممكنة، متعارضة متدافعة، تنطبق على مواقف العقل الثلاثة المذكورة في أعلاه: الموقف الديني التقليدي، أو الأرثوذكسي، الذي يبيّنه ويلقّنه العقل الديني؛ والموقف الوضعي التاريخي والواقعي، وهو نتاج عقليَّة متنوّرة تستنكر الرؤية “الدوغمائيَّة” المضادة للنزعة الإنسانيَّة، الظلاميَّة، المنتمية للذهنية الوحشيَّة، أو البائدة او الهمجيَّة، والتأويل التاريخي، الأنثروبولوجي، السيميائي، اللساني، النفساني، الذي يحبّذه العقل الصاعد، فمثل هكذا عقل يسعى إلى استكمال أبعاد حقيقة معقّدة بعثرها العقل الوضعي، التاريخي- وهي أبعاد يتعذَّر التفكير فيها، وتبقى غير مفكَّر فيها من جانب العقل الديني. وهذه الأبعاد هي: المعرفة الأسطوريَّة، والدمج الطقسي وترميز الحقيقة، والشرعنة السياسيَّة للسلطة القائمة من خلال عنفٍ مقدَّس ومقدِّس.
من منظور التفسير التقليدي، الآية 5 من سورة التوبة، يشار إليها على أنّها “آية السيف”. ففي حين أنّ سورة التوبة هي الأخيرة حسب التسلسل التاريخي، يُعتقَد أنّ الآية 5 تلغي أثر سورة كثيرة سابقة عليها أكثر تساهلًا، بخاصّة تجاه أهل الكتاب الذين أعطوا مقامًا متدنيًا في الآية 29 من السورة نفسها (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) وطبقًا للفهم اللاهوتي الأرثوذكسي للخطاب القرآني، بوصفه التمثيل الموثوق والكلامي للإرادة الإلهيَّة وتعاليمها، فإنَّ الأوامر الملموسة، الدقيقة، التي تعطيها الآية ليست موضع سؤال. إنّها تنطبق ببساطة في المجتمع بوصفها معيارًا شرعيًّا ملزمًا.
وعلى هذا الأساس قسَّم الفقهاء الأرض المسكونة إلى “دار الإسلام” و”دار الحرب” وقُسِّمَ البشر أيضًا إلى فئات تراتبيَّة. وكان المؤمنون (المسلمون التقليديّون) على رأسهم، وصُنِّفَ أهل الكتاب (وهم، بصفة رئيسة، اليهود والمسيحيّون) على أنّهم تحت حمايتهم (بذمّتهم، أهل الذمَّة). ويتعارض مع كلا هاتين الفئتين “الكفرة” أو (المشركون) الذين ينبغي معاملتهم على وفق ما جاءت به الآية الخامسة. وكما أشرنا في ما سبق، فالمؤمنون أنفسهم، تحت الشرع الإسلامي، يقسّمون إلى راشدين، ذكور مسؤولين وأحرارًا؛ ونساء وأطفال، وأخيرًا، عبيد ومن بينهم ذكور، وإناث وأطفال، ويميل التفسير التقليدي إلى عزو بعض تفاصيل هذه الآية إلى ممارسات كانت رائجة لدى العرب على عهد النبي، على سبيل المثال ما يسمح في الحرب، ومن بينها اشكال الهجمات الممكنة كلها والقبض على الأعداء في غير الشهور الحُرم. ومع ذلك، فإنَّ هذه الإحالة إلى الزمن الكرونولوجي، الخطي، للتاريخ الأرضي لا يؤثِّر في قبول الآية قيد المناقشة بوصفها جزءًا كاملًا من كلام الله الموحى، النازل من السماء(التنزيل).
بوسعنا تتبّع الطريق الطويل الذي قطعه تاريخ التفسير التقليدي الذي قاد إلى النسق المتزمّت من المعتقدات والمنكرات التي ندعوها بالإسلام، إلا أنّ للآية الخامسة بعدان اثنان متفصّلان بقوّة في الخطاب القرآني نفسه، ووسعها كثيرًا ومنهجها شيوخ التأويل عبر توالي الأزمان، وتحت ضغط الحاجات الاجتماعيَّة المتغيّرة والضغوطات السياسيَّة. فالبعد الأوّل أمر صارم باستخدام العنف المادّي ضدّ الوثنيّين، الذين كانوا يرتبطون مع جماعة المؤمنين بمعاهدة. وقد فكّ الله هذه المعاهدة ورسوله. أمّا البعد الثاني، فهو الجزء الأقصر الذي يكرِّر الدعوة باستمرار “حتى يعودوا إلى الله ورسوله ويعطوا الجزية”. ويفهم الخصوم هذه الدعوة (ويُدعون “الوثنيّون” من أجل التشديد على البعد الديني للنقاش وإخفاء القضايا السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة في هذه المسألة) على أنّها استسلام غير مشروط. أمّا ممانعتهم فينبغي تحليلها وتأويلها في السياق الأنثروبولوجي الخاصّ بسيادة التماسك القبلي. إذ يُدخِل الخطاب القرآني معيارًا جديدًا روحيًّا بالإطلاق لتقييم الصواب والخطأ، وهما عنصرا الحقّ والباطل في الصراعات اللاحقة التي اندلعت بين عائلات المشايخ المنافسة، والقبائل والعشائر.
وهذه الأقسام الاجتماعيَّة مسمّاة بأسمائها، إلا أنّ دائمًا ما يرافق ذكرها تحذير بـ”لزم الجماعة التي لن تتفرَّق”. ووضع هذا المعيار الجديد بلاغيًّا، وبُني دلاليًّا، وتعزَّز روحيًّا، ودُمِج طقسيًّا، وأسّس أسطوريًّا، وتجدر سياسيًّا ومعياريًّا عبر 114 سورة وآلاف الآيات التي تتألّف منها.
إنَّ نظريَّة الجهاد ومعايير تسمّى بالشريعة الإسلاميَّة هي نتاج التلقّي الثاني، فقد جرى هذا الحال على الرغم من حقيقة أنّ فقهاء، وشرّاع، ومفسّرين، ومؤرّخين، وكتّاب سير خلال القرون الثلاثة الأولى التي تلت بزوغ الظاهرة القرآنيَّة، بنوا كلّهم معًا إطارًا فقهيًّا متزمّتًا للتلقي والتأويل لكامل المعرفة التي يفترض أنّها جاءت من كلام الله وسنّة النبي (التي أضاف إليها الإماميَّة والإسماعيليَّة الشيعة سيرة الأئمة). ونجد أكثر البناء منهجيَّة جرى إنتاجه إلى جانب هذه الخطوط هو الأدب الذي وضع على أصول الفقه (المصادر التأسيسيَّة ومنهجيات الشريعة).
في الإسلام والمسيحيَّ، اللذان بنيا كنسقين من المعتقدات والمنكرات في الإطار نفسه وبالأدوات الهرمنوطيقيَّة نفسها، لا ينظر للعنف المادّي المستخدم في الحرب المقدّسة، التي تدعى أيضًا بحرب العدل، على أنّه شرعي وحسب، إنّما هو فوق ذلك مقدّس، وعلى هذا الأساس، يبرِّز قوّة مقدّسة. أمّا الحال في اليهوديَّة فمختلف قليلا، بسبب من أنّ اليهود عاشوا أقليّات تابعة ولم يتمكّنوا من وضع نظريَّة بالحرب المقدّسة حتى قيام دولة إسرائيل، مع أنّهم طوّروا استراتيجيَّة تأويليَّة بمقاومة أشكال الهيمنة كلّها، فأولئك الذين يقضون في هذه الحرب بعدّون شهداء.
العوامل السياسيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، التي يضيئها نهجنا “الحديث” في التحليل والمعرفة والتأويل والشرعنة والتواصل، ينطبق بالتأكيد على المؤمنين، إلا أنّها لا تلحظ، لأنها متوارية تحت مفردات مقدّسة، روحانيَّة، مؤسطرة، متسامية، وجوديَّة، يديمها العقل الديني، كما يفعل العقل الكلاسيكي الميتافيزيقي، فما أدعوه بالجذور الفكريَّة لما أصبح غير متسامح معه بالنسبة لنا، موجودة في هذه الأنشطة الاستطراديَّة الخاصّة بالعقل البشري، الذي يحوّل أحداثًا عرضيًّا، ومؤقّتة، ومحدودة، وتركيبات خياليَّة، وروايات مؤسطرة، وتعريفات تعسّفيَّة، ومبادئ غير منظّمة إلى جواهر خالدة، ومواد لا تدرك ويقينيّات مطلقة.
______
*ملخّص لبحث محمد أركون الذي نشر كاملا في مجلَّة قضايا إسلاميَّة معاصرة التي تصدر عن مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، السنة الثانية عشرة، العدد 37-38، صيف وخريف 2008/ / العدد الرابع (4)/ نيسان- إبريل/ 2009.
*المصدر: التنويري.