يتناول الفيلم قصَّة رجل أعمال يُدعى “يحيى” (آسر ياسين) ينوي بناء منتج سياحيّ في منطقة بها مقام يُدعى “مقام سيدي هلال”. وكي يستطيع بناء هذا المنتجع لا بُدَّ له أنْ يهدم المقام، ومن هنا يبدأ مع شريكَيْه التوأمَيْن (بيومي فؤاد) تداول القضيَّة وكيف يحتالون في سبيل هدم هذا المقام الذي يأتي به الناس من بعيد ليتبرَّكوا به ويطلبوا منه الغفران والسماح وقضاء الحوائج.
وبعدما يستقرّ الرأي على هدم المقام تبدأ حوادث غريبة في حياة يحيى وعمله؛ فتنهار أسُهُمُه في البورصة، ثم يُحرق له بيت كبير بمحتوياته، ويصيب الضرر أرضًا له. وفي ظلّ شكّ بدأ ينبعث في نفس يحيى أنَّ السبب هو تجرُّؤُه على هدم المقام تسقط زوجته (أمينة خليل) مغشيًّا عليها، وتنقل إلى المشفى لتوصف حالتها بأنَّها نزيف في المخ لا مبرِّر له، ثمَّ تستمرّ في غيبوبتها رغم كلّ ما فعله الطبيب، ولا يعلم أحد ما بها.
وفي المشفى يجد يحيى شخصيَّة جديدة هي “رُوح” (يسرا) التي تخبره أنَّ عليه الذهاب وطلب السماح من الذين أغضبهم، فيعرف يحيى أنَّ المقصود هو إغضابه للأولياء الموتى في قبورهم، ويستنتج من كلامها أنَّ عليه طلب السماح من بقيَّة الموتى الأولياء الذين غضبوا على هدم مقام صاحبهم “هلال”. فيبدأ رجل الأعمال رحلة لمساجد الأولياء وصولاً لمقام “الإمام الشافعيّ” والذي يجد عنده أحد معارفه القدامى ويطَّلع فيه على الرسائل التي يتركها الناس في مقام الإمام طالبين منه المعونة والغوث. فيقرِّر أن يساعدهم كيْ ينقذ زوجته المريضة.
وقبل تناول أفكار الفيلم نقف وقفةً مع بناء الفيلم نفسه الذي ألَّفه الصحفيّ “إبراهيم عيسى”، وأخرجه “محمد العدل”. وأوَّل ما يسترعينا هو القضيَّة التي أُثيرت من سرقة مؤلِّف هذا الفيلم من فيلم صهيونيّ اسمه “مكتوب” بدليل أخذه فكرة الرسائل -المتروكة في الفيلم الآخر على “حائط المَبْكَى” في الأراضي الفلسطينيَّة-، وتحقيق بطلَيْ الفيلم لأمنيات أصحابها.
وبعد رؤية الفيلم يتبيَّن أنَّ الفيلمَيْن يتلاقيان عند كثير من نقاط التشابُه وليس عند مسألة الرسائل فقط؛ فكلاهما يعتمد على شرارة بدء واحدة وهي نذير الشُّؤم -وهذا في دراما العملَيْنِ هو المُبرِّر الأوَّل أو باعث الحدث ومُحرِّكه-، وكلاهما فعل الأبطال فيهما شرًّا سيؤدي فيما بعد إلى تحويلهما إلى طريق الخير، وكلاهما يعتمد في بنائه اعتمادًا رئيسًا على الصدفة والاتفاق التلقائيّ كمُبرِّر لبقيَّة أحداث الفيلم، وكلاهما مَعيب بضعف التبرير، وكلاهما يعتمد على الكوميديا أو الإضحاك كتصنيف ثانٍ للفيلم بعد تصنيفَيْ مُغامرة، دراما. لكنْ بقي أن أقول إنَّ الفيلم الصهيونيّ أكثر تماسُكًا، وأنجح في صناعة الكوميديا من “صاحب المقام”.
وفي غير مسألة السرقة من الفيلم الآخر إذا نظرنا إلى فيلم “صاحب المقام” سنجد أنَّه فيلم ضعيف التكوين في دراما العمل ومنطق بنائه الداخليّ. حيث اعتمد على الضعف الشديد في المُبرِّر الدراميّ، ومثالاً على ذلك شخصيَّة “رُوح”.
وهي شخصيَّة رئيسيَّة ومحوريَّة حيث هي التي نقلتْ يقين رجل الأعمال بأنَّ هدمه للمقام هو سبب البلاء الذي أصابه وهو ما يُسمَّى في الدراما “الحلّ”. وقد تمثَّل هذا الحلُّ في ذهابه إلى الأولياء وإرضائهم، وهو التحول الدراميّ الأعظم في الفيلم، ليس هذا وحسب بل قامت كذلك بمُباشرة الخطّ الدراميّ العامّ للأحداث بالحلول الجزئيَّة؛ حيث تقترح على يحيى كلّ الحلول وتعطيه كلّ المفاتيح التي يكمل بها رحلته، وتُوجِّهه إلى حيث تريد. فضلاً عن أنَّها صاحبة الخدعة التي نكتشفها جميعًا في نهاية الفيلم. وهذا كلُّه يدلُّ على قيمة هذه الشخصيَّة في الفيلم.
الإشكال في هذه الشخصيَّة أنَّها تشبه الفيلم كلَّه لا أحد يعرف لها أصلاً! فشخصيَّة “رُوح” بها الكثير من العجب تظهر وتختفي فجأةً بلا مُبرِّر في أول مشهد لها فيظنُّ المُشاهِد أنَّها شخصيَّة روحيَّة لا حقيقيَّة، ثمَّ يُعاملها المؤلف معاملة أخرى لتظهر أمامنا بأنَّها شخصيَّة حقيقيَّة تقابل الناس في المشفى ويعرفونها وتعرفهم -وهنا نسأل لماذا إذنْ اختفتْ في المشهد الأوَّل على أنَّها طيف أو خيال؟!- ثمَّ تترك لباس المُمرضة لتلبس لباس رجل أمن في المشفى ظاهرةً أمام ممرضة أخرى دون أيّ مُبرِّر للأمر! وكأنَّه شيء عاديّ لا يستحقّ التبرير. وتتحدث الممرضة الأخرى عن روح قائلةً إنَّها كانت موجودة في المشفى من قديم وبعض الناس يقولون إنَّها وُلدتْ هنا. وهذا في الدراما يُسمَّى “صنع تاريخ للشخصيَّة” مِمَّا يؤدي إلى تعميق الشخصيَّة.
ثم تظهر وتختفي فجأةً في مواضع شتَّى في قصص الناس الذين سيُساعدهم يحيى. وهنا نسأل ويسأل أيُّ عقل سليم هل المؤلف يقدم روح على أنَّها شخصيَّة حقيقيَّة أمْ خياليَّة؟! .. وننتظر لآخر الفيلم لنراها تقول: “ليس المُهم مَن أنا، المهم لماذا أنا؟”. ويقف المشاهد متعجبًا أمام هذه المحاولة الفاضحة في الهروب من التبرير من قِبَل المؤلف.
ليس أمر هذه الشخصيَّة التي تقدح في البناء الكُلِّيّ للعمل وحسب، بل فلننظر إلى ضعف القصص الجزئيَّة مثل قصَّة “وجدي الدقاق” الذي كان يحتجز ابنة امرأته التي ماتت، وكذلك طُرُق الحلّ في الفيلم التي امتازتْ بسذاجة بالغة مثل جمع شخصيَّات كثيرة للاستعانة بهم على وجدي هذا. غير أشياء أخرى مثل طريقة مشهد اكتشافه علاج زوجته حيث نرى العجائز المرضى المُتهالكين يقفون تحيَّةً وتصفيقًا وتصفيرًا!! ومشاهد أخرى كثيرة وبناءات جزئيَّة أخرى كثيرة. وهذا يرجع إلى ضعف البناء الفيلميّ وتشتُّته بين كثير من المَذاهب والمُعالَجَات من التأليف والإخراج؛ مِمَّا أضرَّ العمل كثيرًا.
أمَّا عن الضعف الفكريّ فيه سأكتفي فقط بذكر موضعَيْن: أوَّلهما أنَّ الحلّ الدراميّ في الفيلم تمثَّل في الذهاب إلى مواطن أولياء الصوفيَّة ومحاولة طلب المغفرة منهم على جريمة هدم الضريح. وهنا تقف أمامنا مشكلة أنَّ “الإمام الشافعيّ” لمْ يكنْ وليًّا، بل لمْ يكُن من الصوفيَّة أصلاً. فلِمَ ذهب الفيلم إلى هذا الإمام بالذات وأكمل معه الفيلم؟! والأصل ألا يذهب البطل إليه بل إلى الأولياء المعدودين من الصوفيَّة وهم كُثُر حيث أهمل الفيلم: الرفاعيّ، الدسوقيّ، العدويّ، والشعرانيّ. وغيرهم كثير، بل إنَّ كلَّ مُحافظة في مصر بها الكثير. فلِمَ ترك الفيلم كلَّ مَظَانِّ الصوفيَّة والأولياء هذه ليذهب إلى “الإمام الشافعيّ”؟! وهُم أشهر بلا شكّ، وهُم أولى بلا شكّ، بل هُم مَدار الزيارة لكلّ مَن يفكِّر في زيارة الأولياء. ولا يحتجُّ فيها بالرسائل فهي موجودة منتشرة في كلّ هذه المساجد، حتى أورد المؤلف أنَّهم وجدوا رسائل في قبر “سيدي هلال”.
الموضع الثاني في موضوع “مبدأ السببيَّة” حيث اعتمد الفيلم على المذهب القائل بأنَّ الأولياء أصحاب قُدرة على الصُّنع أو الخلق -وهو مذهب يقول به بعض الصوفيَّة- عندما أرانا كيف نال “سيدي هلال” من يحيى وتلك الخسائر الفادحة التي كبَّدها إيَّاه، والتي قال الفيلم إنَّه فاعلها. إذنْ فالفيلم على مذهب القائلين بقُدرة الأولياء في الخلق وتسيير أمر العباد في الكون. وإذا بالفيلم يميل بنا إلى أحد العلماء “الإمام الشافعيّ” ليُعامله معاملة الوليّ، ويُرينا بعض الأولياء الآخرين، والناس يقفون يطلبون منهم ويسألونهم الغوث. والغريب أنَّ الفيلم بعدها يلجأ في إحداث التغيير في حياة النماذج التي التقى بهم يحيى إلى “مبدأ السببيَّة” حيث اعتمد على مُجهودات يحيى ومعارفه وعلاقاته ونفوذه وأمواله في إصلاح أحوال هؤلاء الذين يطلبون من الأولياء. فهل الأولياء يفعلون أم لا يفعلون؟! وهل فعلهم بسبب أو بدونه؟! وإذا كان لوليّ محدود القدرة والشهرة هذا الكمّ من الفعل المُباشر دون سبب ألا يكون لغيره من الأولياء الآخرين القدرة نفسها على حياة مُتَّبعِيهِم؟! ولماذا احتاجوا إذن إلى السبب وهم ذوو قدرة على الخلق المباشر والتسيير بلا سبب؟!
فضلاً عن أنَّ الفيلم قد غذَّى بشدة هذا الرأي القائل بنفي السببيَّة، عن طريق إهمال التسبيب وعدم التفكير فيه. فنرى شخصيَّة “رُوح” -التي أوكل لها الفيلم مهمة بثّ آراء المُؤلف- وهي تقول في تبرير ما يحدث للبطل: “ليس المُهم أنْ تفهم، المهم أنْ تحسّ”. وبالقطع مثل هذه الآراء وإدخال التأثير الدراميّ عليها يؤدي إلى كثير من الاضطراب الفكريّ العامّ بين المشاهدين الذين لنْ يكونوا عالمين بشيء يُسمَّى السببيَّة أو غيرها، بل سيتداولون أقوال الفيلم وتبريراته في حياتهم، ليقعوا في مزيد من الاضطراب.
قد يبدو أمام المُشاهد في البدء أنَّ المؤلف أراد من فيلمه إحياء فكرة زيارة قبور مَن يُسمُّون أولياء الله، أو طلب العون منهم مِمَّا يُعبِّر عن روح دينيَّة -في نظر البعض-. وإذا وقفنا عند هذه الفكرة وتبرير البعض للفيلم بأنَّه خطوة للإيمان والرُّوحانيَّة في زمن الماديَّة فلسنا في حاجة إلى أنَّ هذا ترويج للخرافة وليس للتديُّن. لكنْ يجب التنويه على أنَّ كلَّ ممارسات المَوَالِد والتعبُّدات للمقامات هي من موروث الديانة المسيحيَّة التي تأثَّر به الصوفيَّة المُبتدعة في أزمان متطاولة -هذا ليس رأيًا بالقطع بل هي حقيقية-. وأنَّ كل ما دار حوله الفيلم مناقض لصريح العقيدة الإسلاميَّة بلا شكّ.
فإثبات الخلق للإحياء مناقض للإسلام الذي يُفرد “الله” بخلق الكون وتدبيره بلا شريك، فما بالنا والحديث عن أموات لا صلة لهم بعالم الحياة من قريب أو بعيد. وكذلك فقد ظهر في الفيلم مذهب “وحدة الأديان” عندما زار البطل كنيسة في رحلته لإرضاء أولياء الله الصالحين. وهذا المذهب قد أتى به بعض المتصوفة منذ أزمان (وأصله هنديّ) وبالقطع لسنا في حاجة إلى القول بمناقضته للإسلام، فضلاً عن خطورة بثّه بين الناس.
وقد استطاع مخرج الفيلم أنْ يبدأ بداية قويَّة في المشاهد الافتتاحيَّة، وقد حاول الاجتهاد في بعض المشاهد الأخرى بإدخال تميُّز بصريّ عليها وقام بتنفيذ مشاهد المساجد بطريقة الإعلانات التجاريَّة. ولمْ يكُن مُوفَّقًا أبدًا في الأدوار الجانبيَّة وإدارتها فأتى بممثل ماهر في دور بسيط (بطل الشطرنج) كان من الممكن الاستفادة به في دور أكبر. كما أنَّ تقليصًا لبعض دقائق الفيلم غير المفيدة مثل قصة “وجدي الدقاق” كانت ستقلِّل من ضعف البناء الفيلميّ.
وقد اعتمد الفيلم على موسيقى شرقيَّة لتُناسب روح التديُّن التي بُثَّتْ في الفيلم. وقد كانت من عوامل التوفيق فيه.
*المصدر: التنويري.