فلسفة الترجمة
الدكتور الصادق الفقيه*
عود على بدء:
كُتِبَ هذا المقال، الذي أُنْجِزَ في الأصل، يوم الجمعة 9 ديسمبر 2016، في عمان، المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة، كمقدِّمة لكتابٍ مترجم من عدَّة لغات، لمقالات وآراء غربيَّة حول السودان، نُشِرَ عام 2017. وقد فضّلت أن لا تكون المقدِّمة مجرد عرض لمحتويات الكتاب، أو تقريظاً عاماً للكاتب، ولكن كانت محاولة لتقديم رؤية حول فلسفة الترجمة، مبنيَّة على مرجعيَّة ذاتيَّة لفكرة الكتاب بأكملها، واختيارات الكاتب وطريقته في نقل المعنى. وفي الواقع، تعمّدت أن أُظْهِر أنَّ مهمَّة الترجمة لن تُصبح واضحة إلا عندما نُدرك أن النقل المباشر من لغة أجنبيَّة إلى العربيَّة قد نجح في حمل المعنى إلى أذهاننا. إذ لا بد من انخراط جدِّي للمترجم في التحدِّي العلمي لفلسفة الترجمة.
لقد أوضحت لي تجربة كتابة هذه المقدَّمة، وما بلغني من تعليقات حولها، عمق وجهة النظر الشائعة في الأدبيات العامَّة بأن موضوع الترجمة هو نقل المعنى اللغوي لما يقال، وأن محتوى الفكر هو هذا المعنى. ولا خلاف في أن هذه النظرة المفترضة حول الترجمة في التقاليد التحليليَّة العامة صحيحة، إلا أنَّ الترجمة الدقيقة، أو الجيِّدة، التي تُعيد إنتاج التأثيرات البراغماتيَّة للنصوص الأصليَّة في الجمهور المستهدف، هي الأصح. إذ إن إمكانيَّة الوصول، أو قدرة الجمهور المستهدف على فهم الترجمة، ليست معياراً عالمياً لنجاح الترجمة فحسب، وإنما هي نتيجة لازمة. وذلك لسبب بسيط، هو أن الجمهور المستهدف قد لا يكون مجهزاً بالخبرة المعرفيَّة المطلوبة لتقدير النصّ الأصلي.
إنَّ الترجمة، التي حاولنا فهمها، تقوم دائماً بإعادة بناء نصّ بمصادر سيميائيَّة مختلفة، ومعيار النجاح هو نسبي، ويعتمد على نوع النص. وما هو مناسب في ترجمة نوع واحد من النص؛ شعر، أو خيال، لن يكون مناسباً في نوع آخر؛ قانون، أو علوم تطبيقيَّة. من هنا، يجب على المرء أن يقدّر نوع النص المعني من أجل الترجمة الدقيقة. وقد نلاحظ أنَّ أحد الأمور المشتركة في الأدب، سواء داخل الفلسفة، أو خارجها، هو الميل إلى وصف الترجمة على أنها تمرين واحد يناسب الجميع، خاصَّة إذا تعلق الأمر باللغويات. وهذا يعني أن هناك العديد من عمليات التحويل السيميائيَّة، التي تهدف إلى سهولة الاستخدام، والتي ليست ترجمة، بل توطين . يستلزم أيضاً اكتشافات أخرى مثيرة للاهتمام لفلسفة الفكر، لأن هذا الفكر ليس هو “معنى” ما نقوله، بل هو الغرض الجوهري لما نقوله، وهو ما يمكن حقاً ترجمته.
لهذا، فالتفكير في الترجمة من حيث التعريب من لغات أوربيَّة عادة ما يخلط بين براغماتيَّة استخدام اللغة، أو ما هو مرتبط منها بالسياق، مع دلالات الفكر والاستفسار، وهو كل ما يتجاوز السياقات في الترجمة. وكثيراً ما تخلط التفسيرات اللغويَّة للفكر، باعتبارها معنى الجمل التصريحيَّة، بين البراغماتيَّة في استخدام اللغة المرتبط بالثقافة؛ أي المعنى الحرفي، والدلالات، أو ما يمكن أن يتجاوز سياقات استخدام اللغة. وسيلحظ القارئ الفطن نتائج هذا النهج في التفكير، وكيف يمكن استخلاص “المعنى” في “الترجمة”، لأن الاختلاف الثقافي والاختلاف الجذري، لا يشكِّلان عقبة أمام الترجمة الدقيقة. وقد أثبت المترجم أن عدم قابليَّة اللغات للقياس الواضح لا يمثِّل تحدّياً للترجمة؛ إذ إنها مشكلة فقط إذا أخذ المرء المعنى اللغوي المطابق للمُفْرَدَة المُتَرْجَمَة.
منهاج القبول:
سعدت، كمن يحفل بإهداء قَيِّم، بطلب كريم من أخ كريم، يشرِّفني فيه بكتابة مقدَّمة للمجلد الثامن من “السودان بعيون غربيَّة”، ضمن سلسلة ترجماته الناقلة لثراء معرفي يزيح الستار اللغوي والعُجْمَة عن مختارات متنوّعة، تعدَّدت مصادرها ومشاربها وخلفيات كاتبيها، لكنها تتَّحد في فكرتها الناظمة لسياق موضوها، وتتَّجه إلى قِبلة اختيارها، وذلك بتركيزها على أقُصُوصَة السودان. ولأن اختيار المرء قطعة من عقله، فقد أحسن المؤلف الأستاذ الدكتور بدالدين حامد الهاشمي في جمع مختاراته وأجاد نقلها إلى العربيَّة، ووُفِّقَ في حشدها تحت عنوانٍ دالٍ حاكم، يقود مباشرة إلى مضابط قصدها، فصورة “السودان في عيون غربيَّة” من الموضوعات الحيويَّة، التي يجب على كل مِنَّا النظر فيها بعين العقل حتى تتلاقى الأذهان، وتتبلور الأفكار، ولِنُعَظِّم منها ما هو نافع ومفيد، ونضع حول غَثِّها تعريفاتنا النافية لكل خَبثٍ أثيم.
ومهما استدعيت من روعة البيان وسحر الكلم، للحديث عن مبلغ تقديري للأستاذ الهاشمي على تكليفي، ليعجزان عن التعبير عن جميل عرفانه، خاصَّة وقد تحدَّث عنه الكثيرون من أهل العلم والدربة والدراية مما لا تطاول مدحهم عباراتي، وطوّقته الأقلام العارفة بمستحق التقريظ، أكثر مما استطيع أن أزجيه. وما أنا إلا قارئ لنتاجه، معجب بتتبّع جهده، يحاول أن يستعير بلاغة القول لأداء واجب الشكر، والتأشير عبر أسطر هذه المقدّمة عما تنطق به المشاعر من امتنان لما خصَّني به من ثقة؛ اختياراً واختباراً، أن أكون ضمن كوكبة المقدمين لهذا السِفْر الشائق، الذي حوى موضوعات سكب الهاشمي في ترجمتها عصارة خبرته وبراعة بيانه.
مقاربات نظريَّة:
إننا نُدرك مع الهاشمي أنَّ موضوع الترجمة، يُعتبر من أعقد المواضيع العلميَّة، التي تناسلت منها العديد من المقاربات النظريَّة والفلسفيَّة، وكذا المعرفيَّة، التي انشغل العلماء والفلاسفة بمحاولة فهم أبعادها في التطوّر والرقي الثقافي، وكذا تداعياتها على النمو الذهني للإنسان وقدراته الفكريَّة، فأصبحت مفهوماً يسعى إلى إعادة بناء المعرفة حسب السياقات العلميَّة الجديدة. وربما كان لتعدّد المقاربات أثر بالغ في ثراء النموذج العلمي، لكن يبدو أن السرعة الفائقة التي سارت عليها المجتمعات، في الأزمنة الحديثة، لم تُعط الفرصة المناسبة للكثيرين من المشتغلين في هذا الحقل لاستثمار كل أصول التجارب السابقة والدراسات العلميَّة والمعرفيَّة الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، وكذا الاستفادة من العديد من العلوم الطبيعيَّة والتطبيقيَّة الأخرى، التي اختارت لها نموذجاً علمياً صارماً في وضع المصطلحات وضبط المفردات.
وملاحظتنا العامَّة أن الهاشمي، بخلفيته العلميَّة والابستمولوجيَّة، قد تولى مهمّته بجدارة العالِم المثابر، واستوعب كل هذه المقاربات والتجارب، وأتقن فن البناء بها وعليها، لصالح المعرفة بشكل عام، ولصالح ترميم الذاكرة السودانيَّة، في أبعادها التاريخيَّة والثقافيَّة والفكريَّة، بتركيز أخَصْ. فقد استطاع في هذا الكتاب أن يَعْجِم ما أُعْجِمْ من مُستعصِ المصطلحات، ويكشف ما تَخَفَّى من دقائق المفردات، فأوجد تمام المتعة في قراءة الرسائل والمدوّنات والمقالات والأبحاث والدراسات والمراجعات، التي تحشَّدت بين دفتي كتابه؛ الإيجابيَّة والموضوعيَّة والمحايدة والساخرة الواصفة للسودان بعيونٍ غربيَّة، ورسم من خلالها جملة متماسة ومتماسكة من المعلومات والمعارف، التي لا غنى لأحد عن مطالعتها.
فالمؤرِّخ سيجد في هذا الكتاب ضالته، والمفكر حاجته وحجته، والسياسي بغيته. وقد يجد فيها المثقَّف متعته، إلى جانب وفرة التصوّرات المعينة على طرح الإشكاليات والنظر في نتائجها، وليس عرضها فقط. كما سيستبصر المفكر منها بمداخل لجملة من الحلول الوافية لمعضلات أعم وأشمل من قراءاته في مصادره المألوفة. ويحصل من أراد الفلسفة، بمدلولاتها وبحوثها المعمقة، على القيمة، التي تكون عوناً له في بحثه الفلسفي عن المعنى، ومن خلال مراجعات لن يصادف ما يماثلها مجتمعة في أي كتاب آخر .
فضاءات الترجمة:
ومثلما يعلم الأستاذ الهاشمي، فقد طرحت الترجمة، عبر تطوّر نظرياتها وطرائقها وأساليبها، على المجتمع الإنساني قضايا جديدة، وخلقت فضاءات جديدة، وأنتجت في ذات الوقت مصادر معرفيَّة متجددة. وأسهمت في ظهور سُننٍ تعبيريَّة وقوليَّة جديدة، تفرض على المثقف ضرورة تدبّر هذه الرّوافد المعرفيَّة المستحدثة، التي تتميّز بوفرة المعلومة. كما مدَّدت الأبعاد التقليديَّة للإنسان، فأنتجت أنماطاً ثقافيَّة إضافيَّة، وتدافعت عبرها كلّ الأشكال الإبداعيَّة، التي أنتجها الذهن البشري الخلاق طوال تاريخ الإنسانيَّة الحافل بالاكتشاف والابتكار.
ولشديد الأسف، لا يجد الحديث، في ما فرضته الترجمة من ثقافة تنوعٍّ وتجدّدٍ وتطوّرٍ وحداثة، صدى كبيراً عند الكثير من المثقّفين، الذين ينطلقون من فهم تقليديّ للترجمة، يغمطون فيه حَقّ المترجم كمشارك أصيل في إنتاج المعرفة، وليس مجرد وسيطٍ يفكّك شفرات المفردات الأعجميَّة، أو ناقلٍ للمعنى من لغة أصل إلى لغة أخرى. متناسين أن لكل لغة منطقها وشروطها الخاصَّة في قواعد النظم والترتيب والكتابة، وفي تَحَوِّي المعنى وادخار رموزه الشارحة. وأحياناً يكون لِلُغَةٍ معينة من التَعَصِّي والنّفور ما يصل حدّ الاستعلاء على اللغات الأخرى، ويُصَعِّب نقل محتواها إلى غيرها. الأمر الذي يُوجب على المترجم تَحَرِّي قدرات معرفيَّة خاصة، ودِرْبَة على شحذ قريحته، وإيقاد ذاكرته، واستحضار مقارابته، واستنفار ملكاته، واستنهاض براعته، واستخدام الأحقّ من بدائله، وإدامة النظر في عدّة مفاهيم ينهض عليها المعنى، الذي يكون غير خاضع للقياس الاصطلاحي في اللغات الأخرى. ومن هنا، قد يلزم الانتباه لما توقف عنده المؤلف شارحاً، لأنه يقف بنا عند مقاربة جديرة بالاهتمام، قد بدت ضروريَّة وملحَّة بالنسبة له، ولما لها من علاقة وثيقة بالسمت العام للموضوعات المترجمة في هذا الكتاب.
وانطلاقاً من فهمنا لما عرض له المؤلف من تفسيرات هادفة، لا ندَّعي أننا سنستعرضها في هذه المقدّمة، لكثرتها وأهميتها، ولكن نؤشِّر عليها جملة، لأننا على يقين أنها ستسترعي انتباهة القارئ الفطن. إذ إن الفهم السَوِيِّ لها يختبر قدرتنا على الشعور بأقدار أنفسنا، أو هو ما يُنتج هويتنا. إذ يُدرك المرء، عبر مخزون اللغة، أنه نتاج الهويَّة المركبة، الذي يحقِّق له معنى الذات الجمعيَّة. وقد لا يعني هذا مجموع أفراد مجتمعنا السوداني فحسب، كما هو بصيغة الكل المركب من أجزاء، أو كأن نضع قطرة ماء تحت المجهر، التي لا نستطيع أن نقتنع دائماً بمعياريَّة تفكيكها للحصول على قيمة المعنى المفرد فيها، ومشابهتها على هذا النحو، أو غيره، وإنما هي في عمق الإحساس المشترك بوحدتنا، بكل أبعادها المعنويَّة والماديَّة. وهذا هو مضمون السياق الأخلاقي، الذي يساعد على “توليد” الأفكار الخاصة بالفرد عن نفسه ضمن وحدة الجماعة المتساكنة. رغم أن انتحال “الهويَّة”، باعتبارها الأصل في الأشياء، بغير مسوقات موضوعيَّة، أمر غير مُرْضٍ في الساحة السياسيَّة، بتنافراتها المعهودة، إلا أن النظر في غير هذا المعنى الآن قد يأخذنا أبعد مما ينبغي خارج قصدنا في هذه المقدّمة المخصوصة، والمختصرة.
الهويات المتساكنة:
لقد جَادَلَت الأفكار التأسيسيَّة، في كثير من المختارات المترجمة في هذا الكتاب، مركزيَّة مخيالنا الجمعي الراسم لصورة السودان، بممسكاتها المختلفة، داعية لنا أن نتفكَّر ملياً في أن واحدة من الوسائل المهمَّة لمقاومة دعوات التعصّب في شأن “الهويَّة” السودانيَّة هي التَعَرُّف على ثراء فكرة التعدّديَّة الثقافيَّة كـ”هويات” قابلة للتعايش، لأن أي شيء غيرها هو اقصائي بالضرورة. فالتعايش يقتضي التوقف – بالضرورة – عن إعطاء اسم “صفة” حصريَّة لا يمكن تصوّر الآخر معها.
ومن يتقصَّى مزيج الصور المتباينة، التي رأتها عيون الغرب فينا، يُحَصِّل منها حقيقة أن كل من عرف السودان وأهله يُدرك نفس هذا النوع من الدوافع، التي تنشط في العمل هنا، وتُميز السلوك الجمعي للسودانيين، والتي يمكن اختصارها بوصفٍ أكثر وضوحاً في “لين العريكة”، أو السماحة والبساطة والطيبة المُبْهِرة في الشخصيَّة السودانيَّة. فغيرنا يُبْصِر أننا متعددون بتلاوين سحناتنا، وبعض مكوّنات معتقدنا وتنوّع ثقافاتنا، وحلاوة وطلاوة لهجاتنا، غير أننا متَّحدون في طبائعنا، وكأننا “هويات” متحالفة متآلفة، بدلاً من شكل واحد لـ”الهويَّة”؛ ثقافيَّة كانت، أو عرقيَّة.
وربما تمثِّل هذه واحدة من الطرق المستخدمة للالتفاف على حدود “الهويَّة الذاتيَّة” الجامدة، والانطلاق إلى رحابٍ أخرى تُنتجُ نسقاً تفسيرياً أوسع للانتماء، يتيح العمل في فضاء لقب وهويَّة شخص آخر مشارك ومساكن ومواطن، مثلا انتماء لسان الفرد للغة العربيَّة، التي ينتمي إليها أيضاً العديد من الآخرين، الذين يتوزَّعون بين ثقافات وعرقيات وبلاد أخرى. وهذه، بعد كل شيء، واحدة من إغراءات الترجمة، وهي محاولة قد تبدو بسيطة، ولكنها جادَّة، لحملها مسؤوليَّة تَتَبَّع كتابات الآخر عَنَّا، لنكشف من خلال تصوراته سمات شخصيتنا الخاصَّة، وهويتنا الذاتيَّة.
ولعل من أهم الأسئلة، التي نطرحها في هذه المقدّمة، هي: كيف تترابط الشعوب مع بعضها عن طريق المثاقفة، وكيف تتحاور عبر نقل المنشور من معارف آخرين عبر الترجمة؟ ولعل الجواب يبدأ بنقطة هامّة، وهي أننا لكي نتحاور يجب أن نعرف من نحن، وكيف يعرفنا الآخر، ومن ثم علينا أن نعرف من هو هذا الآخر. وقد حاول الأستاذ الهاشمي أن يصدر مثل هذا الجواب، عن قناعة، بأننا لن نكون أنفسنا ما لم نحقِّق حواراً مع الآخر، ونحاول رؤية صورتنا من خلال تصوراته عَنَّا؛ كبشر وثقافة وتاريخ. وهذا الحوار هو الذي يحقق في بعده العريض المجتمع العارف، والذي ينتجه الناس لكي يعيشوا فيه. إذ لا وجود لمجتمع بغير معرفة، ولا معرفة بغير حوار ومثاقفة. وهذا الحوار هو الذي يخلق التفاعل الإنساني، ويحدِّد حجمه وأهميته.
ونعلم جميعاً أن تركيبة السودان، كما وردت الإشارة إلى ذلك، ليست بسيطة، بل هي معقَّدة ومتشابكة، ولكنها في الوقت نفسه متطوِّرة وصاعدة نحو مزيد من التماسك والوحدة. وتبقى المسألة الأساس في صحَّة طبيعة المثقافة، وتبادليتها، أو فيما يُعرف بتنوّع “الذاتيات”، وطريقة تفاعل هذه الذاتيات مع بعضها إيجاباً؛ شعورياً ووجدانياً، على الرغم من التنّوع الهائل في بُناها وتشكلاتها. هذا التنوع، الذي نلحظه في تخالط اللهجات واللغات، حتى داخل الذات الثقافيَّة الواحدة, وتقاطع السمات العامَّة للتقاليد، والعادات، والأعراف، وربما الأهداف.
إن الاستجابة لهذا المعنى، في غرض الترجمة، يؤشِّر على تحرير المسؤوليَّة عن التعصّب لبعد واحد في “الهويَّة”، وأننا يمكن أن نتَّفق على أنه ليست معاني المفردات ما يتمّ نقلها في الترجمة فحسب، وإنما قصد المعنى ورمزيته، التي برع في مراقبتها والتمسّك بها الأستاذ الهاشمي. ومن أرضيَّة هذا المنطلق، وجوهر هذا التوافق، يمكن النظر في الدور الهام، الذي لعبته اللغة بالنسبة له، كشخص ظل يعمل في تَجْلِية ثُنائياتها كمترجم عاشق لمحمولاتها ومدلولاتها، على الرغم من أن النيَّة في امتهانها كتخصص ومعاش غير موجودة تماماً في الحضور اليومي لنشاطه العلمي. إذ إن مهمة الترجمة، بالنسبة له، هي العشق والتعلّق، والنظر في اللغة بوصفها دليلٌ على عطاء فكري يمثل وكالةً للمعرفة الثقافيَّة.
توتّرات اللغة:
إنَّ قدرة الهاشمي على استدعاء المطابقة المناسبة لبعض مفردات اللغة المتوتّرة في الإنجليزيَّة سهَّلت مرور المعنى الكامل للعربيَّة، على الرغم من أننا لا يمكن أن نفترض أن الشفرات المغيبة في التوتّر لا تعنينا، ولكن ظاهر الكلمة الواحدة هو مقصود المعنى الظاهر، الذي عَيَّنَهُ الكاتب، والذي أراد المترجم اعتماده، وكأنه يقول لنا إنه يعتقد أن التوتر أوجدته اللحظة ومات بِذهابها، وإنه يعرف أن الذين تحدثوا عَنَّا بغير استحباب لهم رقاب ملويَّة عن الحقيقة، وفقدوا أشرعة إبحارهم في لجَّة تعقيدات حياتنا. وقد شهدت بهذا التعقيد متون المجلدات، التي صدرت، ويوافقها هذه المرَّة هذا المجلد الثامن، الذي حوى رسائل ومقالات ودراسات ومراجعات، لا غنى للقارئ السوداني من الإطلاع عليها. إذ هي تفسير لكم هائل من الوعود والأعذار والتصوّرات المُعِينَة في ترميم صناعة تاريخنا الحديث، لا تخلق من عِبرة مطالعتنا لها في هذا الزمن غير الغيرة للتطلع لواقع ومستقبل أفضل.
إنَّ الهاشمي يكتب بلغته العربيَّة، بطبيعة الحال، لكن منقولاته المختارة مأخوذة من لغات أخرى؛ تُحَدِّث عَنَّا بغير لساننا، تُنْصِفنا حيناً، ويجانبها الصواب في أحيان كثيرة، أو يكتنفها غير قليل من التوتر، كما أسلفنا. ولكن حسّ المترجم المنتمي أخرج لنا “كوكتيلاً”من المتون الواضحة والهوامش الشارحة، التي تُغْنِي عن تجشّم معاناة السير في منعرجات المفردات والعبارات غير المنضبطة. وأنا هنا، كقارئ شغوف بالكلمة، قد سُررتُ بما طالعت في صفحات هذا السِفْر القيم من استقامة اللغة، وهو ذات ما لاحظته فيما سبقه من مجلدات تَجَاوَرت صفحاتها بمحتوى مئات من المختارات. ولأنه أمر يعرفه غيري أكثر مني، فلن أدلف إلى تفاصيل بيانها، ولا تكرار الحديث عن جودة بنيانها، الذي تحقَّق بفضل الترجمة المتقنة، والتعبير الرصين، وإنما سأكتفي بتكريس هذه المقدَّمة لإبراز المزيد من أهميَّة الترجمة: كخيار نُطالِع ثمرة خيره.
لقد جرى التأكيد على قيمة الترجمة المعرفيَّة من قبل العديد من الفلاسفة والنظريات الفلسفيَّة، التي اعتبرتها ذات أهميَّة علميَّة بالغة الأثر، ويمكن أن تقدِّم عملاً نبيلاً وجليلاً في سبيل تحسين فهمنا للآخر. وغالباً ما توصف الترجمة كبحث عن جوهر “المعنى”. وبالتالي، فإن الغرض من الترجمة يكون التحقق من طبيعة وهدف هذا “المعنى” في أوسع معانيه، وخلق مقابل جديد على أساس لغة أخرى، تحمل إلينا معها صور وتصورات الآخر.
وفي هذا السياق، نرى ضرورة التحدث عن نفس ما يشار إليه عادة بأنه دالة على نموذج هذا “المعنى” .إذ تسعى الفلسفة من خلال “المعنى” إلى فهم العلاقة بين اللغة والواقع. فالموضوعات الرئيسيَّة فيها، أي الفلسفة، لا تغادر البحث في إشكاليات طبيعة هذا “المعنى”، وما يرتبط به من القصد، والإشارة، أو مفردات نستعملها في معترك حياتنا العامة، مثل: الدستور، والأحكام، والتعلم، والتفكير، وكل ما هو مخزون في تضاعيف اللغة. وهنا تلحق الترجمة بالفلسفة كرافعة إسناد لكشف تجليات “المعنى” فيما أورقت به لغات أخرى في رياض الفكر الإنساني.
جدليَّة المعنى:
لهذا، يضع فلاسفة اللغة، أولاً وقبل كل شيء، أولويات تحقيقهم حول طبيعة هذا “المعنى” باستنطاق المفردات القادرة على حمل الفكر في كل اللغات. إذ إنهم يسعون إلى تفسير ما يعنيه “معنى” شيء ما في كل لغة حيَّة. وتشمل المواضيع المختلفة، في هذا السياق، أصول “المعنى” في حدِّ ذاته، وطبيعة التناظر والترادف، وكيف أن أي معنى يمكن أن يُعَرَّف بشكل أفضل من خلال مفردة في لغة أخرى. وهناك أمر آخر، في إطار هذا السرد، يهتم به فلاسفة التحليل اللغوي، هو التحقيق في الطريقة، التي تتكون بها الجمل في شكل كلي ذا مغزى واضح، ويكون لها دلالة من فهمنا لأجزائها. وكيف يتمّ اشتقاق معاني هذه الجمل، وما يصاحبها من تعقيدات، من معاني أجزاء منها قد لا تكتمل بكمالها.
ثانياً، يسعى المترجمون إلى فهم أفضل لما يفعله الكاتب والقارئ مع اللغة في عمليَّة التواصل، واقتسام “المعنى”، وكيفيَّة استخدامها اجتماعياً كمعبر عن مصالح خاصَّة. ويمكن أن تشمل المصالح الخاصَّة موضوعات؛ مثل، تعلّم اللغة، وخلق اللغة، وأساليب الكلام.
ثالثاً، يودّ الفلاسفة أن يعرفوا كيف ترتبط اللغة بأذهان كل من الكاتب والمترجم والقارئ. وذلك من خلال مصلحة محدّدة هي أسباب الترجمة الناجحة من كلمات لغة معينة إلى كلمات لغة أخرى.
ورابعاً، وأخيراً، يحقِّق المترجمون في كيف ترتبط لغة بعينها بمعنى وحقيقة لغة أخرى. إنهم يميلون إلى أن يكونوا أقل اهتماماً بالجمل، التي هي في الواقع الماثل تتَّصل باللغة المنقول عنها وغير مطابقة لواقع اللغة المنقول إليها، وأكثر من ذلك مع أي نوعٍ من المعاني يمكن أن يكون هذا الواقع صحيحاً، أو خاطئاً. فالمترجم، الذي يتوخَّى الحقيقة، قد يتساءل ما إذا كانت الجملة، التي لا معنى لها يمكن أن تكون صحيحة، أو خاطئة، أو ما إذا كان يمكن أن تُعَبِّر هذه الجمل عن مقترحات حول الأشياء، والتي لا وجود لها، بدلاً من الطريقة الصحيحة، التي قد تُستخدم بها ذات الجمل في لغة مغايرة.
سياسة الترجمة:
هل نفترض أن لكل مترجم سياسة؟ وهل للسياسة دخل في تقرير الترجمة، أو تحديد ما يُترجم؟ وللحق، فإن هذه الأسئلة عن الترجمة ليست من عندي، كما هي ليست بالجديدة، ولا أطلب من الهاشمي، أو القارئ، أن يجيب عليها. ولكن، لأن لكل أمر بنية سياسيَّة، بالمعنى الاصطلاحي العام لكلمة “سياسة-Politics”، ينبغي علينا توقّع القصد في الاختيار لما يُترجم؛ لا من مدخل الشبهة، وإنما من باب الاستحسان. فقد وردت عبارة “سياسة الترجمة” لأول مرَّة في كتابات عالم الاجتماع البريطاني “ميشيل باريت” بسبب شعوره بأن هذه العبارة، “سياسة الترجمة”، تستحوذ على حياة هائلة خاصَّة بها؛ إذا قُدِّرَ للقارئ أن يُشاهد اللغة بوصفها عمليَّة بنائيَّة. فمن وجهة نظره، قد تكون اللغة واحدة من العديد من العناصر، التي تسمح لنا بمعرفة معنى الأشياء، من تلقاء أنفسنا. وهو هنا لايُفكر، بطبيعة الحال، في الإشارات، والوقفات، والمترادفات، وحدها، ولكن أيضاًفي الفرصة، وفي قوة المجالات المتاحة في اللغة ككائن حي، التي تضع المعنى في مكانه الصحيح في المواقف المختلفة، وتمنعه من الانحراف عن الصراط، أو الخطّ الصحيح، في صناعة الفكر.
وإذا أردنا أن نتوسَّع أكثر في إيراد بعض الآراء المعاصرة المهمَّة والمضيئة، وذات الصلة بموضوع الترجمة و”المعنى”، وخاصَّة في القضايا الفلسفيَّة والعَقَدِيَّة، سيكون من المفيد أن نتناول في هذه المقدمة تمثيلاً مقتضباً لها. ولعلنا سنجد، أولاً، أن “كوهين” و”فيرابند” يدعوان إلى أن النظم العقائديَّة الشاملة، التي تختلف بشكل كافٍ فيما بينها هي غير “متكافئة”، أو غير قابلة للترجمة، بعضها عن بعض، لأنها لا تملك من المعاني المشتركة، والتي وفقاً لها يمكن مقاربة اللغة الثانيَّة لمحمولات الأولى، إذ إن تَغَيُّر نظام الاعتقاد يؤدِّي حتماً إلى تَغْيير طبيعة المعاني.
وإذا أردنا مناقشة الأطروحة المعروفة، التي تقول بعدم حتميَّة التحديد في الترجمة، والتي عرضها “دبليو كواين”. فَوِفْقَاً لها، سنجد، ثانياً، أنه من الممكن أن يُفَسِّر المترجم عدة ترجمات متضاربة، ولكنها متوافقة مع جميع البيانات، التي يمكن ملاحظتها، وجميع هذه الترجمات تعتبر صحيحة في المحصلة النهائيَّة. وإذا أقَرَّينا بِصحَّة هذا الزعم، فإن المعاني نفسها تبقى، في هذه الحالة، غير محدّدة بالعمق المطلوب.
ويمكن القول باطمئنان إنَّ كلا الأطروحتين تؤدِّيان إلى مشاكل لا يمكن القبول بها، وإن هناك حاجة إلى ضبط فكرة “المعنى”، الذي يكون أكثر استقراراً وأكثر موثوقيَّة، هذا من جانب. ومن جانب آخر، تقدّم النظريَّة “الخارجيَّة-“Externalist الجديدة لـ”المعنى”، التي وضعها “كريبك”، و”بوتنام”، وغيرهما، أطروحة أخرى، تقول إن المعاني لا تعتمد فقط على ما هو في ذهن المتكلم، ولكن بما في التاريخ أيضاً، والبيئة الاجتماعيَّة والماديَّة للمتحدث، والتي تلعب مُجْتمِعةً دوراً في تحديد ماهيَّة المعاني. ويُشار، من وجهة النظر هذه، إلى أن هذه النظريَّة تُساعد على تجنب المشاكل المرتبطة باختلاف اللغات في الترجمة.
آراء الفلاسفة:
وهناك الكثير من الحديث حول “المعنى” في الفلسفة المعاصرة، وكذلك في العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة. إلا أن آراء الفلاسفة حول ما هو “المعنى” تظل تختلف اختلافاً كبيراً؛ فيما بينهم، وبينهم وبين المهتمين والمشتغلين بالترجمة من مساقات علميَّة أخرى. فقد جادل الفيلسوف الأمريكي “وليام ليشان” أنَّ جزءاً من هذا الاختلاف مستمدّ من قبول واسع لما يسميه “النظريَّة التسجيليَّة المزدوجة للمعنى”. ويقترح أن هذا هو ما يفسِّر السبب في أن معظم الاختلافات حول طبيعة “المعنى” تبدو مستعصية للغايَّة.
وتحاول هذه المقدّمة الإشارة لفيلسوفين آخرين عاينا هذه الاختلافات هما، “بول ريكور”، الفليلسوف الفرنسي البارز في علم التأويل، و”جدعون توري”، الباحث المعروف في مجال دراسات الترجمة. إذ يتقارب مفهوم “ريكور” لـ”النص الثالث” غير الموجود مع مفهوم “توري” لـ”الترجمة الكافية بوصفها بناء افتراضي”، الذي اُقْتُرِح في الثمانينيات واسْتُبْعِدَ في التسعينيات من القرن الماضي. لذا، تتم مقارنة رأي “ريكور” للترجمة باسم “التكافؤ دون كفايَّة” مع موقف “توري” بشأن هذه المسألة، وفحص إمكانيَّة العمل مع كل منهما، وقراءة كل منهما في ضوء الآخر، من خلال تطبيق أفكارهما لاختبار حالة التوافق والاختلاف على ثلاث ترجمات لكلمة واحدة محدّدة. فالافتراض الأساسي لديهما هو أن إقامة روابط بين دراسات الترجمة وفلسفة الترجمة يمكن أن تُسهم في فهم هذه الظاهرة، وهو موضوع الحالتين على حدٍّ سواء، لأن الترجمة ليست حول الكلمات، وإنما هي معنيَّة بمحتوى هذه الكلمات. ومن هنا، نعتقد أن موضوع المعرفة في الترجمة ليس أمراً مهمّاً فحسب، وإنما هو جوهر هذه الترجمة.
إنَّ هناك بعض الحقائق في أعماق الأساس، الذي تقوم عليه كل مهنة، والذي يفهمه الجميع، كما قُبِلَت من قِبَل الممارسين المحدثين للترجمة، الذين ينفقون عقوداً من الجهد الدقيق والمضني، في الفترة التي تسبق امتهانهم لهذه الوظيفة الحيويَّة الصعبة، ويحتاجون بالتأكيد لمواصلة تطوير خبراتهم الأساسيَّة اللازمة من خلال مداومة وملازمة الممارسة. وتنطوي عمليَّة المداومة والملازمة هذه على تَعَلُّم مفاهيم معقدة للغاية في مجال العلوم، والتكنولوجيا، والفلسفة، والتاريخ، والقانون، والمال، والأعمال، والموسيقى، وعشرات غيرها من المجالات. ويتعزز ذلك من خلال الانشغال في مشروعات الترجمة، وقاعة المحاضرات، والفصول الدراسيَّة، وقاعات التداول، أو مجالس الإدارات، التي تكون وظيفتهم فيها نقل “المعنى” بالترجمة الفوريَّة.
وعلى الرغم من عدم وجود حدود واضحة بين دراسات فلسفة الترجمة وسياسة الترجمة، إلا أنه من الواضح أنهما ليسا حالة واحدة. إذ يختلفان، ليس فقط في كيفيَّة معالجة الموضوع، ولكن أيضاً من حيث أنهما يحتلان “منافذ” مختلفة في الثقافة. وحسب مصطلحات “بورديو”، أنهما يتشاركان في مجالات ثقافيَّة مختلفة، وإن كانت متداخلة جزئياً. ويقيني أن الأستاذ الهاشمي قد أدرك مقتضيات هذه الاختلافات، ومداخلها المشتركة، فيما أنجز من ترجمات لموضوعات تختلف في السياق والصياغة، وتتنوَّع في المساقات والتخصّصات، فوَحَّد أسلوب عرضها، وكأنها موضوع متّصل لكاتب واحد.
ويبدو جهد المؤلف في هذا السِفْر أقرب إلى فلسفة “كارل بوبر” لوجود خيط ناظم للموضوعات على سعة اختلافها. وكأني به يقترح بدايات نظريَّة جديدةٍ في الترجمة تدعو للاستناد على المفاهيم الأساسيَّة للقواعد والاستراتيجيات والقيم، اعتماداً على الفكرة الأساسيَّة، التي هي أن الترجمة نفسها هي نظريَّة، أو فرضيَّة، بشأن النصّ المصدر، ثم يُعرض هذا الافتراض للاختبار، والصقل، وربما حتى الرفض، تماماً مثل أيَّة فرضيَّة أخرى.
ونعلم يقيناً أن العلوم الطبيعيَّة هي قاعدة التأسيس المعرفي للأستاذ الهاشمي، كما أسلفنا، ولكن انشغاله بالترجمة الشاملة جعله شغوفاً بعلوم شتى، فصار ضليعاً فيها وبارعاً في تقصي معانيها. وقد بلغ به التميز، الذي اتصفت به كتبه المطبوعة وأعماله المنشورة، مرحلة من الاتقان بالغة الأهميَّة انصقلت فيها قدرته على النقل بدقة لمفاهيم كل العلوم عبر الحواجز اللغويَّة. ولا شك أن خبراته المتنوعة المشهودة قد حفزته للبحث عن كل ما هو مفيد، وكأني به قد تبنَّى أيضاً نظريَّة الترجمة على أساس فكرة “الميمات-Memes”، أي نقل الأفكار الحيَّة، التي تنتشر وتتطوَّر وتتكرر، مثل الجينات. وساعدته همّته ومثابرته أن يستكشف مجموعة واسعة من الأفكار حول الترجمة، والقواعد والاستراتيجيات، والقدرة على التقييم، والالتزام الصارم بمنهج الأخلاق المطلوب في المترجم. ويظهر كل ذلك في هذا المجلد الثامن، بتعدُّد موضوعاته وتنوّع قضاياه، مثلما ظهر في المجلدات السابقة له. إذ تجلَّت قدرته فيها على البحث عن المنظور المشترك، الذي يمكن أن تنتظم تحته المجموعات الكبيرة من الأفكار والآراء والتصوّرات الغربيَّة الواصفة لشأن السودان، وأحوال السودانيين.
وللتأكيد على ما أقول، فإنه من الأهميَّة البالغة الإشارة إلى الطريقة، التي عرض بها المؤلف الموضوعات الهامة، التى تتَّصل بالفرد والمجتمع والثقافة والسياسة والتاريخ. وذلك، لأنها تمكننا من الوقوف على التصوّر الغربي للحقائق، وتمنحنا القدرة على تبصير الجميع بما يجب أن يتوقعوه في تعاملهم مع الآخر الغربي. وإذا تأملنا محتويات هذا المجلد الثامن جيداً، سنجد أنه اشتمل على موضوعات هامة يجب علينا الوقوف عندها، وعرضها وتحليلها، تحليلاً دقيقاً للوصول إلى ما نبتغيه منها من نتائج، التي يُستحب أن تتوجَّه إليها الجهود الجماعيَّة، وتُحظى بالعنايَّة والاهتمام المؤسّسي، وأخذ الدروس والعبر العامّضة، والتي تُفيد الفرد والمجتمع السوداني بمختلف مكوّناته.
مستخلص:
وقبل الختام، نريد أن نخلص إلى القول إنَّ الأستاذ الهاشمي قد أدرك باكراً أن ثمّة نزوعاً فطرياً لدى السودانيين؛ مثلهم مثل البشر كافة، للتبادل والمثاقفة، ويمكن أن يصبح هذا النزوع لديهم معرفياً، أو وجدانياً، أو حتى عرفانياً صوفياً. وهذه النظرة الوجوديَّة لطبيعة الترجمة تفسر إلى حد بعيد إلزاميَّة التفاعل في المنظومة القيميَّة الأخلاقيَّة للإنسان. وممّا يعزِّز هذا الفهم، هو القدرة على الخلق والإبداع في مهمّة الترجمة، من خلال اكتشاف السمات، التي تشكِّل الفكرة الجديدة عن التواصل الإنساني.
وفي النهاية، لا أملك إلا أن أكرِّر شكري؛ مثنى وثلاث ورباع، للأخ الصديق الأستاذ بدرالدين حامد الهاشمي على تكريمي. وأقول إنني قد قرأت ما كتب، وأفدت منه فائدة عظيمة، وعرضت رأيي في عموميات عجلى؛ خَشْية إنْ فَصَّلت أن أُفْسِدَ على القارئ متعة الاكتشاف، وأدليت بفكرتي فيما تيسر لي من معرفة بموضوع الترجمة، لعلي أكون قد وُفِقت في عرض كتابه والتعبير عنه. وما أنا إلا بشر قد أخطئ وقد أصيب، فإن كنت قد أخطأت، فأرجو مسامحتي، من المؤلف والقارئ الكريم، وإن كنت قد أصبت فهذا كل ما أرجوه؛ وفاءً لشرف الطلب وثقة التكليف.
والله نسأل التوفيق والسداد للجميع.
______
* دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن
عمان، المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة
الجمعة 9 ديسمبر 2016
*المصدر: التنويري.