فلسفة الأسرار
*الكاتب: Peter Salmon / المترجم: حاتم تنحيرت.
…المارانوس، والذين طالما تمَّ ربط هويتي بهم بشكل سِري (لكن لا تخبروا أحدا) …
مقتطف من (‘Archive Fever: A Freudian Impression’ (1994)
جاك دريدا.
ما معنى أن تملك سراً؟
ما الذي تكشفه الأسرار عن حقيقتك؟
لقد تعودنا على النظر إلى الأسرار كتعبير عن ازدواجية المعايير. أي أن نحاول خداع أحدهم من خلال اخفاء الحقيقة. وأحيانا تكون الغايات التي نأمل تحقيقها نفعية. مثل الكذبة البيضاء والصغيرة التي نقولها لأصدقائنا. أو حالة حركات المقاومة المتنوعة، والتي يؤدي أعضاؤها ‘قَسَم السرية’. لكن، عموما، نحن ننظر إلى الأسرار بازدراء، ونربطها بالكذب. إن امتلاك سِر، والاحتفاظ بسر، لابد أن يجعلنا نقدم للعالم وجها مزيفاً.
وعندما نواجه تحديا، يجب أن نقول شيئا غير حقيقي. إن امتلاك سِر هو، أيضا، شكل من الخيانة. أنا أعرف شيئا أنت لا تعرفه، وأُنكر عليك هذه المعرفة عمداً.
إن السر، بالنسبة للبعض، تعبير عن الطبيعة القصدية لاِبعاد ما نعرفه عن الآخر- سواء كان فردا، أو جماعة، أو مجتمع. ربما ذلك ما يحدد حقيقة السر. إننا نشعر عموما، أن المرء لا يمكن أن يمتلك سرا لا يعرف أنه يمتلكه . حيث يجب على المرء، بمعنى ما، أن يقرر بشكل واعٍ ومقصود ألا يُفشي السر. هكذا، فإن السر هو شيء لا أصُوغه في كلمات، لكني أخبر نفسي به. إن المرء لا يحمل سرا بداخله، إلا إذا قام بإنجاز هذا الفعل. حين يفصح المرء لنفسه عما كان يتمنى أن يضل سرا. ويتخذ القرار بأن لا يسمح لأحد بسماع الكلمات التي حدث بها نفسه.
بالنسبة للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، (Jacques Derrida) والذي عُرف بفكرة التفكيك. فإن فكرة الأسرار قد مارست عليه سحرا هائلا، ومثل جميع الفلاسفة، فقد كان دائما شديد الاهتمام بما يمكننا أن نسميه ‘الوعي’. أي ذلك الجزء من تفكيرنا، والذي يمكننا من الإدراك. حيث نشعر أننا متواصلين على نحو شديد الحميمية. إنه ذلك الجزء من تفكيرنا الذي نميل إلى النظر إليه بوصفه ‘نحن’ ــــ لدينا آرائنا، وتفضيلاتنا، وأفكارنا عن هذا وذاك. لقد اتخذت هذه فكرة مكانة مركزية في الفسلفة الغربية. جادل ريني ديكارت، (René Descartes) على سبيل المثال، أن معرفة أننا واعون، هي الشيء الوحيد الذي يمكننا الوثوق به ــــ أنا أفكر إذن أنا موجودـ ــــــ بينما دافع جون بول سارتر (Jean-Paul Sartre) على فكرة أن الوعي هو المصدر والضامن لحريتنا.
قدم عدد من الفلاسفة، في أواخر القرن 19، وبداية القرن 20، ومن بينهم دريدا، نقدا جذريا لهذا الموقف. فكرة أن لدينا نوعا من الولوج الخالص للوعي. وبالفعل، فإنهم يجادلون أن ذلك الوعي، بوصفه نوع من التعبير الخالص عن الذاتية، هو أمر مشكوك فيه بشدة، إذا لم يكن خطأ صريحا. إن الوعي عملية بناء مثلما هو حال قدرتنا على الحساب ــــ إنه موضوع تَعلُّم. إن حقيقة أننا نتواصل مع أنفسنا ـــ ذلك الصوت في رؤوسنا ـــ من خلال اللغة التي تعلمناها من المجتمع الذي نعيش فيه، هي مثال مبتذل عن هذا الأمر. ذلك أننا في زمان ومكان ٱخريٓن، قد ‘نفكر’ بشكل مختلف حول كل شيء. وتستمر الحجة بالقول، أنه لا وجود لـ’ذاتي’ الخالصة داخل جميع طرق التفكير التي تعلمتها. إن الصوت في رأسي ليس صوتيَ الخاص.
لقد حَملت أعمال جاك دريدا المبكرة، تفكيكا للطرق التي تدفعنا الى الخطأ عندما نخلط بين ذلك ‘الصوت في رؤوسنا’ و’ذواتنا’. حتى أننا فيما يخص التفكير الديني، فإننا نقوم بالخلط بينه وبين ‘أرواحنا’. بالنسبة لدريدا، إن أي شيء نتج عن عملية ‘بناء’ هو قابل ‘للتفكيك’. ويُعد هذا شكلا من أشكال المشاركة في شيء ما دون تدميره. إنه منهج يقوم على رؤية أي العوامل التي تتضافر لجعلنا نفهم شيئا ، بوصفه شيء محدد وخاص، سواء كان ‘الله’، أو ‘الحقيقة’، أو ‘الذات’.
أما فيما يخص الذات، فأننا نأخذ عددا كبيرا من العوامل المتباينة، ثم نمنحها تصنيفا موحدا. وفي حالتي أنا ‘بيتر سالمون’، هذا ما أسميه هويتي ــــ إنه الإسم الذي أوقع به مقالا مثل هذا (وهو كذلك مشكل من عوامل متباينة لكنها وضعت في قالب موحد). لكن، أيضا فيما يخص الوثائق القانونية، ووسائل التواصل الاجتماعي، والإسم الذي أعرف به نفسي. إن الكتاب الذي ألفته عن دريدا (An Event, Perhaps (2020). يحمل اسمي على الغلاف، فأنا أعلن أنه فكرتي.
لكن، لا أحد من هذه الهويات يمثل ذاتي بشكل كامل ـــ في كل واحدة منها درجة من السرية. وعلى سبيل المثال، في وقتنا الحاضر، ضمن وسائل التواصل الإجتماعي ، نحن واعون جدا بأننا نحتفظ بالأسرار. إن المرء لا يود أن يعلم رئيسه في العمل شيئا عن الحفلة التي يقيمها، أو علاقاته، ودون شك توجد أشياء لن نقولها أبدا، لا لشريكنا أو حتى لجابي الضرائب، في بعض الحالات.
إن أسئلة السرية والهوية، كانت دائما حاضرة بالنسبة لدريدا، منذ أعماله المبكرة في ستينيات القرن العشرين، وصولا إلى أعماله المتأخرة في مطلع القرن الواحد والعشرين. ويعود السبب في ذلك، بشكل جزئي، إلى لحظة استثنائية في حياته. حيث ولد بالجزائر، والتي كانت آن ذاك مستعمرة فرنسية. لقد كان سنة 1930 طفلا يرتاد المدرسة، عندما شهد الإحتلال الألماني لفرنسا وهو يضع تشريعات معادية لليهود. حيث تم ارسال دريدا إلى مدرسة يهودية رفقة مدرسين وتلاميذ يهود ٱخرين. ثم فقد جنسيته الفرنسية. وبالنسبة لدريدا اليافع، فإن هذه لم تكن مجرد كارثة شخصية ــــ رغم أنها كانت كذلك حقا. لقد فهم كيف يمكن أن يصبح شعورنا بهويتنا اعتباطيا وهشا. وكيف يمكن أن تُنتزع منا بواسطة قِوى خارجية- وأننا أحيانا، يجب أن نحتفظ بالأسرار حتى نتمكن من النجاة. لقد كانت أسرة دريدا يهودية علمانية. وفجأة أصبحت ‘يهوديته’ هي الموضوع الرئيسي في نظر القانون. وفي تلك المرحلة كان القانون، هو كل شيء.
بعد سنة واحدة، تغيرت شروط الحرب. وتمت استعادة جنسيته الفرنسية. ولم يجد دريدا اليافع نفسه، وهو في سن 13، أقل حيرة وصدمة. فجأة تغيرت هويته مجدداً. (رغم أن ‘استعادتها’، لم تكن بالمعنى الكامل ـــ إذ لا يمكن للمرء أن يضل كما كان من قبل، خاصة بعد الصدمة).
ألا يشير السر على الآخرين ـــ وأكثر من ذلك، هل حقا يعتمد عليهم.
تتجلى عبقرية دريدا في فهمه أن ما حدث له، رغم طابعه الدرامي. فإن هذه الهشاشة والاعتباطية، تشكلان بمعنى ما، الشروط التي يتقاسمها جميع البشر. فأنا شخص مختلف بينما أكتب هذا المقال، مختلف عن الشخص الذي أكون عليه عندما أقضي الوقت مع الأصدقاء. أو عندما أحب، أو أزور الطبيب. وأنا كذلك شخص مختلف في عين القانون (أو القوانين) ووضعي قابل للتغير، كما تتغير القوانين. أو في حالة الحرب، أو عندما أهاجر. أو إذا بحثت عن ملجأ ( وقد كان دريدا مُهتما بهذا الأمر على نحو خاص؛ إذا بحثت عن ملجأ، فأنا ‘لاجئ’: ‘لقد كنت طبيبا في اوكرانيا، وأنا الٱن عامل نظافة في لندن’.
ماذا عن “السر” إذن ؟ اذا كان السر حقا، هو ما أخبر به نفسي فقط. فهل يوجد هنا شيء خاص بي، شيء أملكه أنا وحدي. والذي يتمكن من النجاة بوصفه ‘ذاتي’ الحقيقية. شيء أساسي أكثر من الأدوار المتعددة التي ألعبها في المجتمع؟ لكنه يسأل، هل يمكنني أن أمتلك أي سر، بمعزل عن الناس الاخرين، ؟ ألا يشير السر على الآخرين أيضا.
إن إجابة دريدا عن هذه الفكرة هي إجابة معقدة ( كما هي علاقة دريدا بأية فكرة.) إن ما يبهر جاك دريدا هو مكانة السرية في حياتنا، وفي خطاباتنا، وعلاقاتنا. يجادل دريدا، بأن هناك تاريخ سري الأسرار. ويلاحظ أن تعريف الدولة الشمولية ينطلق من كونها تلك الدولة التي لا تسمح لأحد بامتلاك أسرار. ورواية جورج أورويل ألف وتسعمئىة وأربعة وثمانون، مثال على ذلك. إن سِر “ونستون سميث”، هو حبه لجوليا. لقد تم إجباره على إفشاء سره. والآن بعد أن قام بذلك فقد وقع في حب “الأخ الاكبر”. لكن، يمكننا أن نرى ذلك في جميع الدول البوليسية. إن امتلاك سِر معناه أنك خائن. لذلك فإن هدف المحاكمة ليس فقط العقاب. بل اعلان أن سلطة الدولة تتجاوز جميع جوانب الفرد. لذلك لن تكون لديك أسرار.
هناك أمثلة متطرفة. لكن هذا الوضع ليس حكرا على الأنظمة الشمولية، بل هناك إشارات محددة أيضا نجدها في المجتمعات الديمقراطية،، بشأن محاولات الحصول على البيانات الشخصية، والدفاع عنها. وحول ما يمكن للدولة أن تقوم به من أجل الولوج إلى أسرارنا. أن تحاكمك الدولة معناه أنها تصادر حقك في أوجه متنوعة من الخصوصية الشخصية. وهذا يشمل ويتضمن الأسرار. إن العديد من أشكال حمايتنا القانونية، هو في الحقيقة مبني على افتراض يقول أننا لا يمكننا أن نطلع على أسرار شخص ٱخر. يتعين على المرء غالبا إثبات النية الجرمية (mens Rea) من أجل الإدانة. هكذا تضل النية مفهوما مغامضأ حقا.
إن فكرة السر، بالنسبة لدريدا، مرتبطة بشكل حميمي بفكرة “الإعتراف”، سواء كان سياسيا، وشخصيا، أو دينيا. لا يحتاج الاعتراف إلى الإجبار. طبعا، في الحقيقة، يمكن له أن يكون فعلا من أفعال الحب. إذا اعترفت لك ب ‘أعمق أسراري’ . فاني، وفق تصور صادر عن الحس السليم، ‘أفصح لك عن ذاتي الحقيقية’. أو بالأحرى، أكشف لك عمن أنا حقاً. وذلك عبر أداء نوع من الكشف الذي يجعلني هشا ومنفتحا. كما أني أدعو الى انفتاح مُماثل. أنا أثق بك/أحبك جدا إلى حد أني لا أملك أسراراً. وعادة، يمكن أن تشكل ذلك أحد أفعال الصداقة العميقة ـــ هذه احدى موضوعات دريدا الأخرى ــــ والمتعلقة بالترابط. عندما يقول أحدهم: ‘هل تريد أن أخبرك بِسر؟ فإننا لا نشعر فقط بالإثارة التي تنجم عن تجاوز المحرم، بل نشعر بأننا أصبحنا جزءا من الجماعة. حتى لو كانت تتشكل من شخصين فقط. فإننا نتقاسم الأسرار.
سواء كان الاعتراف بالاكراه، أو غير ذلك، فإن جميع الأمثلة المذكورة تتضمن الفهم الضمني القائل أن الاعتراف، يشكل حقا، فعلا من أفعال كشف الذات. في رواية ألف وتسعمئة وأربعة وثمانون، قام “ونستون” بكشف سره، فدمر ‘ذاته’. إذا اعترفت لك بأسراري فإنك قد دخلت الى ذاتي الأكثر الحميمية. إن طقس الاعتراف الكاثوليكي مثال نموذجي عن ذلك. أنا أكشف أسراري للقِس، أي أكشف ذاتي الحقيقية. تلك الذات التي لا يخترقها غير الله. أما إذا احتفظت بأسراري، وأخفيتها عن غرفة الاعتراف، فإن الذات التي عرضتها لله، ستضل عن سواء السبيل. وسأكون قد خُنت الله ، لأني احتفظت بمعلومات عن ممثل/ خليفة الله في الأرض. لذلك فإن الذنب الكاثوليكي ـــ أي الذنب الناتج عن عدم الاعتراف، هو ذنب التجاوزات المسكوت عنها في كلٍ من الفكر والعمل.
بالنسبة لدريدا، وكما أشارت الفيلسوفة أغاتا بيليك-روبسون (Agata Bielik-Robson)، في كتابها الممتاز Derrida’s Marrano Passover (2022). فإن اهتمامه قد انصب على جماعة دينية واحدة ومحددة، الأمر الذي فتح حواره الخاص مع فكرة الأسرار ـــــ جماعة شديدة السرية، حيث نسيت أنها قامت بإخفاء وجودها حتى عن أعضائها أنفسهم.
لقد ارتُكبت مجزرة ضد اليهود يوم 4 من ماي 1391، في اسبانيا والبرتغال. حيث قام حشد هائج من الغوغاء بإحراق المنازل في إشبيلية، وهاجموا دور العبادة، فقتل 4000 يهودي. وقاموا بنهب المنطقة اليهودية الحبيسة، في واحدة من أوائل أعمال التحريض الناتجة عن التعصب الديني. والتي ستقود في القرن اللاحق إلى محاكم التفتيش. لقد انتصرت الهجمات في أنحاء شبه الجزيرة الاسبانية – قرطبة، بلنسية، برشلونة، وحتى في جزر البليار، وغرناطة. حيث اختفى السكان اليهود تماما.
لكن، لم يتم قتل جميع اليهود المختفين. فقد تم تعميد الكثيرين، وجعلهم يعتنقون العقيدة الكاثوليكية بالقوة عادة، وهؤلاء ‘المسيحيون الجدد’ سيحملون أسماء جديدة ـــــــ لقد كانوا عبارة عن onversos, anusim (بمعنى ‘المُجبرون’) أو اليهود المختفون. لكنهم عُرفوا بشكل أكثر شهرة من خلال لقب ‘الخنازير القذرة’ (وليس صدفة أن يشير هذا الاسم إلى رفض اليهود تناول لحم الخنزير): المارانوس. إن الأمر المميز في المارانوس من بعض النواحي، والذي كان يُبهر دريدا، هو إصرارهم. لقد استخدموا حِيلا معقدة من أجل اخفاء استمرارية إيمانهم اليهودي. مثل العثور على طُرق لتجنب العمل يوم السبت ــــ واحدة من أشهر الطرق كانت هي وضع طفل وراء منضدة البيع في متاجرهم. حيث يخبر الطفل المحققين أن والديه قد غادرا للتو ـــ وتبني الطقوس الكاثوليكية، التي قد تكون متوافق مع العقيدة اليهودية، وكذلك تجنب الدروس والطقوس التي تعلن الطبيعة الإلهية للمسيح.
الكلمة العبرية الوحيدة التي كانوا يعرفونها، هي كلمة أدوناي، وهي الكلمة العبرية التي تشير الى الله
طوال 600 سنة الماضية، لم تحم هذه الحِيل المارانوس من الإبادة فقط، بل قامت بخلق ديانة جديدة. منفصلة بطرق عديدة، عن مصدريها الأصليين معا. ونظرا لطابعها السري، فقد أصبحت مزيجاً بين المسيحية المُعلنة، والطقوس اليهودية المَخفية، ومع ذلك، فقد كانت منفصلة عنهما معاً. لقد ضاعت الكثير من الطقوس التقليدية اليهودية الخاصة بالمارانوس ــــ حيث لا توجد نصوص خاصة بهذه الفئة من ‘أهل الكتاب’ ــــــ وقد تحولت الطقوس المسيحية إلى طقوس يهودية هجينة (والعكس بالعكس).
بشكل استثنائي، يعد اللسان العبري مجهولا بالنسبة المارانوس. إلا كلمة واحدة. وعندما قام المخرج سام نيومان (Sam Neuman) سنة 1990، بتوثيق حياة جماعة صغيرة من المارانوس في قرية بلمونت البرتغالية، كانت الكلمة العبرية الوحيدة التي يعرفونها هي أدوناي، الكلمة العبرية التي تشير إلى الله. لكن، طبعا، ليس هذا هو الاسم الحقيقي لله في التقاليد اليهودية.
اسم الله الحقيقي سر.
لقد ظهر تفكير دريدا المنبهر بالمارانوس بشكل متأخرا. حيث تحدث في وثائقي سجل سنة 1999، داخل كنيسة بمدينة طليطلة ـــ وهي بناية كانت عبارة عن كنيس، ثم مسجد، قبل أن تصبح كنيسة مسيحية. [تحدث] وقال: ما هو السر المطلق؟ لقد كنت مهووسا بهذا السؤال بقدر هوسي بأصولي اليهودية-المسيحية المفترضة. لقد تجمع هذا الهوس في صورة المارانو.
لقد تم سحب دريدا إلى نزعة المارانوس،(marranism)، كما كان يطلق عليها، لعدة أسباب. بما في ذلك هذا التوتر بين فرد لا يملك أي ‘انا’ أساسية. وإلحاح فكرة السر، بوصفها مثال على كشف نوع من الـ ‘أنا’ التي تشكل الذات الحقيقية. لكن، تمثل النزعة المارانية، بالنسبة لدريدا، أيضا مثال على ‘دِين بدون دِين’. إن اعلان المرء عن ايمانه، والاعتراف به، ينتهي ببساطة الى فقدانه. أو، أحياناً، يمكن أن يصل الأمر إلى فقدان المرء لحياته. إن تجربة المارانوس، هي تبعا لذلك، مثال مُتطرف عما اختبره العديد من اليهود في القرن 20. وكما أشارت “حنا أرندت”( Hannah Arendt) في مقالها ‘The Jew as Pariah: A Hidden Tradition’ (1944)’. كان على المرء أن يخفي هويته اليهودية، حتى يُسمح له بالكلام، والحياة. إن هذا الشرط ليس خاصا باليهود حصرا، لكن، في وقت كتابة أردنت، كانت لهذا الأمر دلالته الخاصة.
وكما جادل “ألبرتو مورييرا” (Alberto Moreiras)، المنتمي الى أمريكا اللاتينية، في كتاب (Against Abstraction (2020، ‘المارانو ليس وضعا يكون عليه المرء، بل هو شيء يحدث له’ ــــــ مثل أن تكون في لحظة، فرنسي الجنسية في سن 13، وتصبح في اللحظة التالية يهوديا جزائريا في سن 13. لو كانت عائلة دريدا تعيش في فرنسا، كان يحتمل أن يكونوا ضمن 72.000 من اليهودي الفرنسيين الذين قام النازيون بإبادتهم. أو، ربما، كان بإمكانهم أن يحتفظوا بيهوديتهم سِرا، فيصبحون مارانوس ـــ مُستترين.
بالنسبة لدريدا، يمكننا أن نستمر في الحفر داخل سرداب أنفسها، ولن نكشف عن الجثة أبدا
لكن، بالنسبة لدريدا، فإن تجربة المارانو، تمتد أبعد من لحظة الاعتناق (و/أو الخيانة)، وحتى أبعد من الأجيال اللاحقة، والذين، بمعنى ما، حافظوا على شمعدان المينوراه مشتعلا. لقد كتب دريدا: ‘ أنا واحد من المارانوس اللذين لم يعودوا يقولون أنهم يهود، حتى في أعماق قلوبهم. وبدل السر الذي نحن واعون به، ها هو ذا سر نابع من اللاوعي. حيث كتب دريدا: ‘ لعلنا، قد نجد هناك السر وراء السرية.
هنا يتلاقى تفكير دريدا ـــ كما يفعل غالباـــ مع التحليل النفسي. إن مهمة المحلل النفسي هو أن يستخرج من المشخص موضوع التحليل، ليس فقط الأسرار التي هو على وعي بها ـــــــــ يتصرف المحلل النفسي هنا مثل العاشق والقِس. بل تلك الأسرار المكبوتة. وحسب سيغموند فرويد، ( وقد أُجبِر أيضا على الهروب من إبادة محتملة) فإن أعمق أسرارنا هي تلك التي لا نستطيع نحن أنفسنا الولوج إليها. إذا كان الحس السليم يؤكد أن الأسرار التي نتعمد الاحتفاظ بها قد تكون الأقرب إلى ذواتنا الحقيقية، فإن التحليل النفسي يطرح فكرة أننا نحتفظ بالأسرار في الحقيقة بعيداً عن أنفسنا بشكل سري. فالأسرار التي نٓكْبتها هي الاكثر صدقا. والتي تؤثر على سلوكنا. وكما أشار المحلل النفسي جاك لاكان، فإن هذه الأسرار غالبا ما يتم اخفائها في أماكن تكون على مرأى من الجميع. مثل ‘الرسالة المسروقة’ في القصة القصيرة التي كتبها إدغار ألان بو، لكنها لا تقل خفاء عن ذلك.
بالنسبة للتحليل النفسي، فإن العلاج، هو ،مجددا، صياغة تلك الأسرار في كلمات. لا شيء هنا ينتمي الى مجال اللامبالاة بالنسبة للتحليل ـــــــ هذا المستوى من الاعتراف، لدى البعض، يوازي تعذيب محاكم التفتيش. وداخل هذه العملية تصبح الذات في وضع خطير، إذ لا وجود لحل مضمون ــــ حيث كل سِر يقود إلى ٱخر، ويصبح ‘لا نهائية له’ مثل اللاهوت اليهودي ــــــ كل سؤال تتم الإجابة عنه بسؤال ٱخر.
يشكل هذا الأمر بالنسبة لدريدا واحداً من أهم الأسرار المتعلقة بالأسرار. حيث لا يحددنا سر نهائي يمنحنا هويتنا، ويكشف عمن نحن حقاً. هنا تختلف مقاربته عن تلك التي نجدها في النظرية الفرويدية، إذا لم نقل أنها تختلف عنها في مستوى الممارسة أيضا. بالنسبة لدريدا، يمكننا أن نستمر في الحفر دائما، باتجاه سرداب ذوتنا، غير أننا لن نكشف الجثة أبدا.
يمكن للمرء تجنب فخ الاعتراف، فقط من خلال اختيار الصمت. وكما كتب الفيلسوف “جرارد شوليم” (Gerhard Scholem) ببراعة، سنة 1918، وهو أيضا مؤرخ مختص في تجربة المارانوس، [كتب] : ‘يستطيع المرء أن يلتزم الصمت بالعبرية… لا يوجد بيننا من يستطيع فعل ذلك’. لا سيما دريدا، والذي كتب: لا أريد أن أترك نفسي سجين ثقافة السر. والتي مع ذلك أحبها جدا. كما أحب صورة المارانو تلك، والتي تستمر في الظهور في جميع نصوصي.
وكما لاحظت بيليك-روبسون (Bielik-Robson):’ لا يشدد دريدا أبدا على يهوديته، لكنه لا يُسكتها أيضا. ‘ إن الصمت النهائي، والذي لا يمكن تجنبه، هو الموت، طبعا. وأثناء هذا الفعل، نحن نأخذ أسرارنا معنا إلى القبر. لم يكن دريدا استثناء هنا- في ٱخر لقاء معه، أسابيع قليلة قبل وفاته، في أكتوبر من العام 2004. قال هذا المُعترف والأديب العظيم:
عندما أتذكر حياتي، فأنا أميل إلى الاعتقاد، أن الحظ قد حالفني حتى أحب حتى اللحظات التعيسة في حياتي، وأن أباركها. جميعها تقريبا، مع استثناء واحد فقط…
ما كان ذلك الاستثناء، إذن، لقد احتفظ دريدا بذلك السر.
__________
*الكاتب: Peter Salmon ( كاتب استرالي، ومؤلف كتاب يتناول السيرة الذاتية للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، بعنوان: An Event Perhaps: A Biography of Jacques Derrida.
الناشر: موقع المجلة الالكترونية aeon، بتاريخ 26 ماي 2023
رابط المقال: https://cutt.us/3gXWT
المترجم: حاتم تنحيرت، حاصل على درجة الماستر في علم الاجتماع، من جامعة عبد المالك السعدي، تطوان/المغرب. (ماستر الديناميات الاجتماعية: المجال وظواهر السلطة ) مدرس مادة الفلسفة في التعليم الثانوي العمومي. كاتب ومترجم، نشر مجموعة من المقالات.
*المصدر: التنويري.