عقلنة الخطاب الديني
مدخل:
يحاول هذا المقال تسليط الضوء على الخطاب الديني، ودور اللغة كوسيط في الحفاظ على صلة الفرد بالدين وملاءمة المقدَّس للمجتمع، في وقتنا الحاضر. إذ إنه في سياق ما بعد الحداثة وتعقيدات الحياة الإنسانيَّة، صار الدين أكثر من مجرد نظام للمعنى يعين على معالجة المسائل الوجوديَّة للفرد. كما أصبح لزاماً على المؤسَّسات الدينيَّة استيعاب المتغيرات الناجمة عن مناخ اجتماعي فرداني غير عضوي، وأقل تقليديَّة، وعقلاني. وعلى الرغم من أن هذه المتغيرات قد تمَّ التعبير عنها في الماضي على نطاق أوسع عن طريق اللغة، اتَّجه العلماء في الحاضر لوضع المزيد من التركيز هذا الخطاب ومبادئه الناظمة، وعلى الوضع المعرفي للقائمين عليه وطبيعة معتقداتهم الدينيَّة، أكثر من التركيز على اللغة الدينيَّة نفسها. وبالتالي، محاولة استكشاف كيف تجدِّد اللغة نفسها من خلال النصوص والسمات اللغويَّة للارتباط بـروح العصر، وترجمة المقدَّس لإشباع حياة الناس الروحيَّة في عالمٍ يتعولم بسرعة هائلة.
بيد إنَّ الخطاب الديني، الذي نسمعه ونقرأه الآن، ولغته الشائعة مليء بالتناقضات، التي ينبغي أن تتوفَّر على دراستها مؤسَّسات بحثيَّة بأداوت مناسبة؛ نظريَّة ومنهجيَّة، والكشف عن دور اللغة في تشكيل نُظم المعنى الديني، ورؤية المواقف الأيديولوجيَّة لرجال الدين، وطرائق العبارات المستخدمة في الخطب، من حيث الوسائط، والاقتباسات، والمفردات، والقصص الشخصيَّة، ومعنى النُظم الدينيَّة والقواعد والقيم، وتعريف المجتمع بأسره بمغازيها. إذ إن فهم هذه التناقضات سوف يساعد في الكشف عن أثر هذا الخطاب في التعايش، ودور اللغة في التوفيق بين نظم المعنى الديني والتحدّيات الراهنة في عالمنا العربي والإسلامي.
تبادليَّة الخطاب واللغة:
يبدو الحديث عن قضيَّة الخطاب الديني أمراً شائكاً، خاصَّة في ظل تعاظم مدّ حركة ما يُسمَّى بالإسلام السياسي والسلفيَّة الجهاديَّة. ذلك المدّ الذي بات يشهد ترويجاً إعلاميّاً يضم خليطاً من الوسائل، ويزحم الأثير بأشتات من الرسائل المتعدِّدة وغير المتجانسة، التي تتَّسم في بعضها بأنها ذات طابع تحريضي، يستخدم لغةً ما أَلِفها الناس من قبل. وبالتالي، أصبح تحليل الخطاب نهجاً بديلاً لدراسة اللغة وعلاقتها بالمجتمع، والتحقيق من نفوذ وقوَّة اللغة في صياغة وصيانة وتغيّر العلاقات الاجتماعيَّة. واستناداً إلى نظريات التحليل هذه، يمكن النظر إلى مدى القوَّة والطاقة الجاذبة، التي تتجلَّى في الخطاب الديني، من خلال الاستخدامات المختلفة للغة. وربما يكون من الجائز البحث عن الطاقة والجاذبيَّة من خلال البعد الاجتماعي للخطاب ومضامينه اللغويَّة، طبقاً لمكوّنات النصوص الوعظيَّة، والتي هي معنيَّة بإنشاء وتثبيت سلطة القِوَامة الدينيَّة على المجتمع، والإعلان عن وثائق التفويض الإلهي؛ بإصدار الأوامر والنواهي، والتحليل والتحريم، الترغيب والترهيب، واللجوء إلى الإقصاء بمنطق التكفير والإخراج من الملَّة. وتُظهر الملاحظة العابرة أن قدراً كبيراً من الطاقة الأيديولوجيَّة تنبعث من الخطب الدينيَّة عند تصويرها للقيم الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة، وتوظيفها لمفاهيم الحسّ السليم، في محاولتها للتأثير على سلوك المتلقّين. كما أن استخدامات النصّ المقدَّس تبدو أيضاً كوسائل إضافيَّة قويَّة لإنشاء سلطة رجل الدين، طالما أن القصص المرويَّة ضمن هذه النصوص تساعد على بناء صور مجازيَّة للواقع المأمول. رغم أن الفحص الدقيق لأي خطاب سيظهر، بلا أدنى شك، نتائجَ وأدلة لتأثير هذه النصوص على الأبعاد الاجتماعيَّة، وكذلك تأثير الأبعاد الاجتماعيَّة على فهم دلالات هذه النصوص.
ويشيع القول إنه في الخطاب العام دائماً ما يكون البند الأول على جدول أعمال لغتنا هو، بطبيعة الحال، وصف الناس والأماكن، والأشياء. وتبعاً لنوايانا، وتحيّزاتنا، أو ميولنا، على سبيل المثال، يصبح رجل الدين هو «صاحب الفضيلة»، وهو «سماحة»، و”نيافة»، و»الإمام»، و»العالم»، وربما «المحافظ»، و»الرجعي»، ويصبح الطبيب هو «مهني الصحّة»، وهو «المنقذ»، وهو «الفنان الشامل،» أو «الدجَّال»، ويصبح رجل العلاقات العامَّة مسؤول «التواصل بين الشركات»، وهو»سيِّد الحركة»، وهو»الكاتب المأجور»، أو «المنجِّم». ونحن نفعل ذلك ليس بالضرورة لتشويه سمعة الناس في حدِّ ذاتها، ولكن فقط للإشارة بسرعة لموقفنا الخاصّ والتعبير عن مشاعرنا تجاه هذا الشخص، أو ذلكم الموضوع. وقد لا يقتصر هذا على خطابنا العام، بل هذا عين ما يحدث في الإعلام، لأنه إذا سمّى الإعلاميون الشخصيات والموضوعات، فإنه غالباً ما يأخذهم الأمر، في اعتقادهم، وقتاً طويلاً لا مبرِّر له لوضع القضايا والأشخاص في سياق تحيزاتهم وعرضها على الجمهور المتلقي. وإذا كان ذلك صواب، أو خطأ في حينه، فإن الفكرة من وراء وضع العلامات والأوصاف والنعوت في قالب مقنع هو في المقام الأول ادّعاء بتحقيق الاقتصاد في اللغة، بحجّة أن تسمية الأشياء بهذا الشكل يتطلبها قصر الوقت، وأنه لا يتوفَّر الزمن الكافي للإعلاميين لشرح أنفسهم بعبارات أكثر وضوحاً من مجرَّد التلميح والإشارة العابرة.
ومن المألوف أيضاً، أننا عندما نتحدَّث عن استخدام المفردات الطنَّانة كأداة للإقناع، أن تضطرب الأفهام وتتباين التفسيرات. فالمبدأ، هو أننا نادراً ما نكون محايدين في اختيارنا لها، ونادراً ما تحمل هذه الكلمات والمفردات ذات المعاني بين المصدر والمتلقي. ومثلما نحن أعداء لأنفسنا بسبب انحراف المعاني عن مقاصدها والعبارات عن دلالاتها، ينبغي أن لا ننسى أن لدينا أعداء يفعلون الشيء نفسه؛ ليس فيما بينهم بالطبع، وإنما يتخيرون العبارات والمفردات بقصد مدبَّر لقلب الحقائق، وذلك لتشويه سمعتنا وصورتنا في عيون الآخرين. ومثلهم يفعل المتديِّنون المغالون عندما يجعلون المؤمنين العاديِّين يغيِّرون طريقة تفكيرهم وفهمهم لصحيح الدين وحدوده المعقولة، على الرغم من وجود أدلَّة قاطعة تستحثّهم على أنه لا ينبغي أن يتعدّوها، اقتناعاً بما ألفوه وتحرياً للصدق. وهكذا، يفعل المعلنون لجعلنا جزءاً من دعايتهم بأموالنا، وبكل سرور، أو بدون إحساس بالذنب. كما يفعل المنظِّرون والباحثون عن المناصب العامَّة ذلك لكسبنا لأجندتهم السياسيَّة، أو الانتخابيَّة. ومن دون استثناء، كل واحد منَّا يختم كلماته بمهارة؛ موقناً بوجود التحيُّز الشخصي، لإقناع الآخرين للاعتقاد بما نعتقد، وأن يفعلوا ما نريد منهم أن يفعلوه. غير أن لغة الخطاب الديني مختلفة، وأوجهها الإيجابيَّة كثيرة، والسلبي منها قد يكون قاتلاً ومدمِّرا.
من المألوف أيضاً، أننا عندما نتحدَّث عن استخدام المفردات الطنَّانة كأداة للإقناع، أن تضطرب الأفهام وتتباين التفسيرات. فالمبدأ، هو أننا نادراً ما نكون محايدين في اختيارنا لها، ونادراً ما تحمل هذه الكلمات والمفردات ذات المعاني بين المصدر والمتلقي.
مشكلة لغة الخطاب الديني:
هل الخطاب الديني أكثر جدوى من غيره؟ قد يبدو هذا سؤالاً بدهيّاً، وربما تقريرياً في نظر الكثيرين، إلا أن الذي يدقِّق في فحواه سيجد أن الإجابة عليه ليست بالأمر الهيِّن. فقد هيمنت قضيَّة الخطاب الديني على مناقشات الأوساط الفلسفيَّة خلال جزء كبير من القرن العشرين، وتركَّزت جلّها على مغزى لغة النص المقدَّس، وظاهرات الغلو والتشدُّد، وبالتالي أثارت الجدل الأكثر عموميَّة ضدّ المصداقيَّة الفكريَّة العقلانيَّة للالتزام الديني للمتطرِّفين. إذ أن الخطاب الديني ينطوي على الحديث عن الله، والخلود، والمعجزات، والخلاص، والصلاة، والقيم، والأخلاق، والحلال، والحرام، والثواب، والعقاب، والإيمان، والكفر، وما إلى ذلك من مفردات لا تقبل خوض غير المختصّين في تفاصيلها وأحكامها. غير أن البعض من الخطباء، من كل الأديان، ينخرطون على نطاق واسع في الكلام المطلق فيما يتعلَّق بالإيمان، ويتَّكئون على النص المقدَّس؛ فهم قبل كل شيء، يعتقدون أن الدين جاء بالوحي اللفظي من الله، مع الإقرار الشخصي بخصوصيَّة الإيمان. وبالتالي، يظنون أن عليهم أن يتحدَّثوا دائماً بخطاب «ديني» مدعَّمٍ بنصوص مقدَّسة؛ إذا كان ذلك في خطبة، أو صلاة، أو دعاء، أو دروس، أو تعاليم دينيَّة، أو شهادات شخصيَّة، أو مدائح نبويَّة، أو مناجاة، أو دعوة للمعروف ونهي عن المنكر، أو حض على الفضائل وتحذير من المعاصي، إلى آخر قائمة الموضوعات.
وبهذا، فإنَّ الخطاب الديني ينزع لاستخدام الكلمات والتسميات، إلى جانب النص المقدَّس، كأدوات للإقناع، إلا أنه يمكن تعريفه بثلاث طرق مختلفة: أولاها، لغة تتجاوز مستوى الجملة. والثانية، سلوكيات اللغة المرتبطة بالممارسات الاجتماعيَّة. والثالثة، موضوعة اللغة كنظام للفكر. وتحليل هذا الخطاب، من خلال هذه التعريفات، يتطلب دراسة وتحليلاً عبر واحدة، على الأقل، من هذه الطرق الثلاث، وفي أكثر الأحيان، قد يكون الأمر مهماً لاستخدام جميع التعريفات في آن واحد. إذ أن التحليل ينبغي ألا ينظر إلى مستوى أساسيات ما يقال فحسب، ولكن عليه أن يأخذ في الاعتبار السياقات الاجتماعيَّة والتاريخيَّة المحيطة، مما يجعل التمييز بين ما إذا كان شخص ما يوصف بأنه «إرهابي» أو «مقاتل من أجل الحريَّة» هو أمر من شأنه أن يثير انتباه من يدرسون الخطاب، حين النظر في الآثار المترتِّبة على كل عبارة.
وللتوضيح، فإن عبارة «الإرهابي» هي المصطلح الذي يجلب الدلالات السلبيَّة للشرّ والعنف، في حين أن «المناضل» له دلالات إيجابيَّة لأنه يكافح الاضطرابات والاختلالات السياسيَّة للديكتاتوريات القائمة. لذلك، فقد يُنظر إلى عبارة واحدة بالكثير من العطف مقارنة بالأخرى، وهذا ما ينبغي استدراكه في الخطاب محلّ النظر، فضلاً عن النظر في العلاقة بين هذه المصطلحات مع مفردة تستخدم على نطاق واسع في الغرب هي «مسلم»، مقترنة بكلمة «إرهاب». وفي هذه الحالة، علينا كمحلّلين أن ننظر لأي نصّ يوصل رسالة، وعلى وجه الخصوص، كيف أن هذه الرسالة تبني رؤيتنا للآخر في الواقع الاجتماعي، أو تحدِّد تصوّراتنا عن العالم. وقد يتطلَّب الأمر أن ننظر في الخطاب عن مستوى الدوافع السياسيَّة. وهذا يبدأ بتحديد موضوع للتحليل، ومن ثم جمع قدر معين من النصوص، لتحديد كيفيَّة استخدام اللغة لاستنساخ الأيديولوجيات المخزونة في النص.
الخطاب الديني والإعلام:
إنَّ المحاججة المتوقّعة ستربط بين سيادة الخطاب الديني المتشدِّد وتكاليف العمليَّة غير المرئيَّة لأخطاء الإعلام التعبوي، إذ أن كلاهما يهيجان المشاعر العامَّة، ويستقطبان المتلقّين إلى تبنِّي مواقف غير عقلانيَّة. واليقين أن كل من درس الإعلام كتخصّص لا يمكنه أن يتصوَّر ممارسته كعلم دون قواعد وضوابط وقيود مهنيَّة، ودون توجيه ومسؤوليَّة أخلاقيَّة، أي ضمانات عقلانيَّة ترشده إلى الصواب. فماذا لو كان نجوم الإعلام الراهن هم الخطباء المغالون، وأن كثير من الذين يشتغلون في ملء ساعات الفضاء الإعلامي العربي ضجيجاً وتهريفاً وتهريجاً لا يعرفون كثير شيء عما يمكن أن يشكل الإعلام الجيد من السيئ؟ وما إذا كانت لديهم أي نماذج لكيفيَّة الإتقان والتجويد، وكيفيَّة بدء التقصِّي، وكيفيَّة وضع الخيارات النموذجيَّة، وكيف ومتى يتحرّون الصدق والموضوعيَّة والإنصاف، ومن يختارون من الضيوف والمتحدّثين؟ ومن منهم من يستطيع أن يضع العام قبل الخاصّ، والموضوعي قبل الذاتي، سواء بشكل رسمي، أو غير رسمي؟ كما يمكن وضع ذات المماثلة عندما يتوقَّع المغالون من الخطباء والمبتدئون لمهنة الإعلام أن يطالبهم الجمهور التفكير بعقلانيَّة في الشأن العام. علاوة على ذلك، سيتحقَّق هذا الجمهور عمن الذي علم هؤلاء الخطباء والمبتدئين أساسيات التفكير العقلاني، وإن كانوا قد عقلوها أصلاً؟ حيث أنهم إذا لم يتعلَّموا من أجل التوصل إلى استنتاجات سليمة، في أدائهم الخطابي والإعلامي، فكيف سيساهمون في تعليم المتلقين أفضليات العيش المشترك؟
وربما يكون السبب الرئيسي الذي يجعل من يمتهنون تهييج الأثير المرئي والمسموع، ويلوّثون مواقع الإعلام والتواصل الاجتماعي، ويسوّدون مساحات الصحافة الصفراء، لا يتطرَّقون لموضوع التفكير العقلاني هو عدم رغبتهم في معالجة القضايا بنفس الطريقة التي تقتضيها مسألة تعلّم فن الطبخ، أو قيادة السيارة، أو الكتابة، أو إجادة لعبة من ضروب الرياضة المختلفة. على الرغم من أنهم هم الذين يتمّ التعامل معهم، في المقام الأول، باعتبارهم أمناء على عمليَّة تعليم وقيادة الرأي العام، وينبغي ألا يكونوا متحيزّين لإيديولوجيات غير مرئيَّة للمتلقِّين. إن عقد الثقة المضروب بينهم، وبين من يتلقّون عنهم، لم يُنظر إليه في وارد خواطرهم على أنه شيء يجب الالتزام به، أو يمكن تقسيمه إلى سلسلة من الخطوات المرئيَّة والقابلة للتنفيذ، بقصد تشكيل القناعات العامَّة. إذ ينصب التركيز، في هذه الحالة، على مرامي ومآلات التفكير، التي عادة ما تعتمد على جمع مدخلاتها من المعلومات والبيانات والآراء، وعلى كيفيَّة تنظيمها وتحليلها. وبالتالي، فإن التفكير العقلاني عمليَّة منطقيَّة مبنيَّة على حصيلة موضوعيَّة من المدخلات. ويبقى وصول الناس إلى استنتاجات غير مرئيَّة للمصدر بقدر ما هو مشترك بينهم من تجربة وخبرات، لكنهم لا يعرفون الكثير عن الكيفيَّة التي تحصل بها عمليَّة الإقناع هناك، لدى المصادر؛ إنهم خطباء وحسب.
الحاجة إلى العقلانيَّة:
بيد أن هناك حاجة دائمة إلى التفكير العقلاني في المعركة من أجل العقل الجمعي والرأي العام، لأن المعركة شرسة للسيطرة على عقل الجمهور بين القوى العاقلة من جهة، والجماعات المتطرِّفة، من جهة أخرى، مع الإعلام كقاضٍ وحيد لا يستطيع، في كثير من الأحيان، أن يحدِّد من هو الجانب الذي على حقّ، أو الذي على خطأ، بل قد يعين كليهما لهدف مجهول. وهذه القضيَّة يتعيَّن حلها بالعقل، لأن أسّ الخلاف هنا هو من دون شك قضيَّة فكريَّة وثقافيَّة ودينيَّة وسياسيَّة، وربما اقتصاديَّة واجتماعيَّة، معقَّدة إلى حدٍّ كبير. ولكن نعتقد جازمين أن «وراء كل حجَّة باطلة يتحكَّم جهل شخص ما.» وهذا القول المأثور هو ربما أيضاً ذو بعد واحد في هذه الحالة بالذات، لذلك قد يكون من المستحسن أن نضيف إلى المعادلة العناصر المُمَكِّنَة للإرهاب؛ مثل ادِّعاء الحقّ المطلق، والمجد الكاذب، والكراهية، والغضب، أو الطموح، الذي يعبِّر عن نفسه بشكل من الأشكال المتطرِّفة، وهذه العناصر هي التي تولد حتماً التحزُّب الأعمى والتفكير المتحيِّز غير العقلاني.
لذلك، وفي خضم هذه المعركة الفكريَّة والسياسيَّة الجاريَّة، كيف يمكننا معرفة أي جانب هو العقلاني، والصحيح، والعادل؟ ومن الجانب الذي يعمل على دعم موقفه بلسان ملتوٍ، أو بسيف الحقيقة المطلقة؟ أي جانب، في الواقع، يستحقّ القبول العام والدعم؟ ولمساعدة أنفسنا على تمييز الحقّ من الباطل في حرب الكلمات والخطب المفرغة من معاني العقلانيَّة، التي تجتاح المجال العام الآن، ينبغي أن نبحث عن اللغة المهيّجة للمواقف لنستبعدها من احتمال الاستبداد بنا، وأن نقوم بجهد عقلاني مقصود يستهدف تحديث لغة الخطاب العام عن طريق استبدال إشارات العاطفة بأمثلة موضوعيَّة أكثر إقناعاً من اللغة الحاليَّة، وأكثر منطقيَّة وأهميَّة. ونحن على ثقة أن تُحدث هذه المحاولة، إن شرعنا فيها بجد، نُقلة مفيدة في فهمنا لطبيعة المواقف، والتوصل إلى منظور ذكي وناجع عن هذا الصراع الفكري والسياسي المحتدم بين التطرُّف والإعتدال.
إننا ينبغي أن ننظر إلى التفكير العقلاني بوصفه عمليَّة تطوير مستمرَّة بحيث يمكننا أن نرى كيفيَّة تحسين طريقة التفكير الخاصَّة بنا، أو الطريقة الجماعيَّة مع من لم تربطنا بهم علائق المساكنة والمعايشة. ويمكننا أيضاً أن نتصوَّر بسهولة كيف يمكن تعليم التفكير العقلاني وتطبيقه بالشكل الصحيح، عندما نحدِّد الأولويات والمآلات، والأنواع المختلفة من الحالات، التي يتطلَّب كل منها استراتيجيَّة للتفكير مختلفة. إذ علينا أن نضمن أن نستخدم أفضل وسيلة للحصول على الإجماع الموضوعي العقلاني.
هناك حاجة دائمة إلى التفكير العقلاني في المعركة من أجل العقل الجمعي والرأي العام، لأن المعركة شرسة للسيطرة على عقل الجمهور بين القوى العاقلة من جهة، والجماعات المتطرِّفة، من جهة أخرى، مع الإعلام كقاضٍ وحيد لا يستطيع، في كثير من الأحيان، أن يحدِّد من هو الجانب الذي على حقّ، أو الذي على خطأ، بل قد يعين كليهما لهدف مجهول.
التفكير الرشيد:
يتطلَّب حلّ المشاكل المستعصيَّة التي تواجه مجتمعاتنا بسبب انفلات لغة الخطاب الديني تحسيناً نوعياً على نطاق واسع في اللغة والتفكير والفهم؛ نحن بحاجة إلى اختراقات أساسيَّة في نوعيَّة التفكير، التي يستخدمها كل من الخطباء، والوعَّاظ، والإعلاميين، وصنَّاع القرار، والتي يستخدمها كل واحد مِنَّا في شؤوننا اليوميَّة. إنَّ التأكيد على أن المجتمع والأفراد يمكن أن يستفيدوا من تحسين سبل المقاربة والنظر في بعض من أصعب المشاكل في الحياة بسبب تهذيب لغة الخطاب الديني، هي ممَّا لا يمكن أن يجادل فيه أحد. لأن بغير ذلك تحدث الكارثة، خاصَّة عندما تعجّ الخطب ووسائل الإعلام والقرارات العامَّة بالعبارات المربكة لنسق الحياة العام، أو بأمثلة من الردود المشكوك فيها، أو في محاولتها لتقديم حلول للحالات والأحداث لا يُجمعُ عليها الناس. ونحن جميعاً؛ من المواطنين العاديين، والخطباء، والإعلاميين، وصنَّاع القرار، إلى قادة العالم، نكافح من أجل تطوير حلول عمليَّة مبتكرة للقضايا والمشاكل الملحَّة.
إنَّ عدم وجود الفكر الذي يميِّز بين السيناريوهات المختلفة للحل، يورثنا التأخُّر والإضطراب وخراب الحال والمآل. رغم أن الإجابات على الأسئلة الإشكاليَّة، ومقترحات الحلول غير المكتملة عن الوضع الراهن، هي من السمات الأساسيَّة للكثير من طروحات الخطاب الديني والإعلامي، إلا أن القرارات السيِّئة، أو الأخطاء المعيبة الأخرى، هي نتيجة لعيوب الفكر، أو التفكير غير المكتمل وغير العقلاني، وليس غياب التفكير.
إننا نبحث عن التفكير العقلاني. وهذه العبارة ليست لمجرَّد التكرار، ولكنها حثٌ مستمرّ على مراقبة الواقع ومطالبة بالتدخُّل الحصيف لمعالجته. إذ خلافاً للرأي الشائع عن قدرة الفكر على التصدِّي لعلل مجتمعاتنا، تقول الآراء المطروحة هنا إنَّ كل التفكير الذي يحمله الخطاب الديني ليس عقلانيّاً بالضرورة، على الأقل عندما نحدِّد معنى كلمة عقلانيَّة. إذ أن التفكير العقلاني هو القدرة على النظر في المتغيّرات ذات الصلة بالوضع الراهن، والوصول إليها، وتنظيم، وتحليل المعلومات ذات الصلة بها؛ على سبيل المثال: الحقائق والآراء، والأحكام، والبيانات، المطلوبة للوصول إلى نتيجة سليمة تُعين على حلِّ أزماتنا المتفاقمة.
وعلى الرغم من أن الاشتغال بالفكر والتفكير، كغاية في حدِّ ذاتها، هو سعيٌ جدير بالاهتمام، إلا أن تركيزنا في هذا المنعطف من تاريخ أمّتنا ينبغي أن ينصبّ على الحاجة إلى تطبيقات عمليَّة للفكر؛ موضوعيَّة وعقلانيَّة وواقعيَّة، أي استخدام الفكر كتمهيد لعمل؛ للحلّ الأمثل لما نواجهه من إشكاليات. علينا أن نتأكَّد أن التفكير العقلاني يساعدنا على التوصُّل إلى استنتاج أن نكون قادرين على القيام بشيء ما، أي اتِّخاذ إجراءات عقلانيَّة تُنتج حلاً حقيقياً لأزمات حقيقيَّة. لذا، علينا أن نلتزم منهج التفكير العقلاني بوصفه سلسلة من الخطوات الصحيحة المفضية إلى نتيجة سليمة.
وهنا، يمكن أن نصرح بوضوح عن حاجة الخطاب الديني إلى العقلانيَّة، التي لا تتنافى مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ أوليس العقل هو مناط التكليف الديني؟ إنَّ الكثير ممَّا نقوم به في الحياة اليوميَّة ينطوي على عمليَّة، أو سلسلة عمليّات من الخطوات المتكرّرة، بما فيها الخطب المفروضة بمقتضى الدين، التي يلزم القيام بها لإنجاز الشعيرة المفروضة، أو الهدف المنشود، أو الاستماع إليها لتحقيق التحصين الأخلاقي المطلوب. والعمليَّة هنا هي سلسلة متكرِّرة من الخطوات ذات مغزى كبير، التي تتولد عنها النتيجة المتوخاة. وتتطلَّب كل عمليَّة ناجحة لخطاب ناجح توفّر المدخلات اللازمة لإنتاج ما هو مرجو من أهداف، وعلى رأسها النص المقدَّس ومأثور الحديث وصحيحه، التي تحضّ على إشاعة الخير بين بني الإنسان.
ولا جدال أن نفس المنطق الذي ينطبق على النتائج وعلى عمليَّة عقلانيَّة التفكير، ينطبق على الخطاب الديني، كمقدّمة سليمة تصِحُ بها هذه النتائج المتوقّعة. وثمَّة استنتاج منطقي هو أن المخرجات الصحيحة تتطلَّب مدخلات عالية المصداقيَّة؛ على سبيل المثال، معلومات دقيقة، والوصول إلى الأشخاص المناسبين، وعمليَّة التفكير ذات الجودة العالية. رغم أن التركيز على المدخلات وحدها ليس كافياً لضمان النجاح، لأننا بحاجة إلى إيلاء اهتمام مساوٍ للفعل، أي الفهم الذي يستقيم به السلوك، أو ما نقوم به مع المدخلات وكيفيَّة جمعها وتنظيمها وتحليلها وتمثلها في حياتنا.
دعونا ننظر في حالة محدَّدة ينطبق عليها التفكير العقلاني؛ كأن نطلب من مجموعة معتدلة أن توصي بسياسة الاعتدال في المجتمعات الإسلاميَّة. فإن الناتج عن هذا الوضع سيكون سياسة تُبني على الاعتدال. إذن ما هي المدخلات المطلوبة؟ إنها قد تكون إحصاءات عن ظواهر وفوائد الاعتدال، أو آراء علماء الدين المعروفين بالعلم والتقوى والورع، وأولياء الأمور، وقادة المجتمع، المدركون لما ينبغي القيام به، وربما تشمل المدخلات أمثلة من سياسات عقلانيَّة في مناطق أخرى يمكن مقاربتها. وكما هو الحال مع معظم الأوضاع المعقَّدة، قد تتعارض بعض الأفكار والآراء العقلانيَّة، فكيف إذن يحصل المجتمع على كل هذه المدخلات لوضع سياسة سليمة تشجِّع على الاعتدال؟
وهنا تحديداً، تتبدى الحاجة الدائمة إلى عمليَّة التفكير العقلاني. ولكن أين تعلمنا التفكير بعقلانيَّة؟ إن معظم الناس لا يستطيعون الاستشهاد بطريقة معينة تعلَّموها من المدارس، غير ما سمعوه من الخطاب الديني، أو وسائل الإعلام. إذ هم عادة ما يتعلَّمون، إلى جانب المدرسة ودور العبادة والإعلام، من خلال التناصح والتناضح، أو الخبرة المكتسبة. وإذا سألت معظم الناس ما هي الخطوات التي يتّبعونها خلال التفكير، فإنهم لن يكونوا قادرين على التعبير عنها، لأنها عمليَّة تتخفَّى في ملكة الوعي. وبالتالي، فهم غير قادرين على نقد عمليَّة التفكير الخاصَّة بهم، ولن يكونوا قادرين على تعليم الآخرين، أو الاعتراض على ما يَصِحُّ من أقوالهم وأفعالهم.
واجب التربية:
إننا نريد ممَّن يتولون التربية العامَّة؛ من خطباء ووعّاظ وإعلاميين، أن يتأسّوا بالعامل الماهر الذي يتقن مهنته قبل أن يمارسوا فينا هواية السطو على عقولنا بخطاب التطرّف والتشدُّد والغلو والإرعاب والإرهاب. فنحن عندما نرى أي عامل ماهر يمارس مهنته بحرفيَّة في الهواء الطلق، لا نستطيع إلا أن نقدِّر الثمن الذي دفعه في عثرات التعلّم الأولى وجهوده المضنية لإتقان ما يفعل الآن، والساعات الطوال من الممارسة التي وضعت الأساس لهذه الكفاءة المشهودة. ويصدِّق الشيء نفسه على المفكّرين والخبراء المختصّين وعلماء الدين الموقّرين المعتدلين. فقد بدأوا جميعاً كما المبتدئين لأي مهنة أخرى؛ اجتهدوا مع المفاهيم الأساسيَّة، والأسئلة الصعبة، والقضايا المعقَّدة والشائكة، أثناء وضعهم لأنفسهم في حاضنة عمليات التفكير والتجريب، التي كانوا على يقين أن من شأنها أن تساعدهم على فهم الأشياء، وتدبير الأمور، والدعوة بالحسنى، والموعظة الحسنة، والإفتاء بما يوافق الصواب.
إننا أحوج ما نكون في مجتمعاتنا العربيَّة والإسلاميَّة، وفي ظل ما تتّسم به أوضاعها العامَّة من حراك وثورات، وفي ظلّ المخاطر التي تتعرَّض لها هويّتها الثقافيَّة والحضاريَّة، إلى التأكيد على ضرورة تحرِّي الاعتدال في الخطاب الديني، ومراعاة المهنيَّة والصدقيَّة والموضوعيَّة في العمل الإعلامي، ذلك لأن تهذيب لغة الخطاب الديني وضبط رسائل وسائل الإعلام هما السبيل الذي يمكِّن هذه المجتمعات من تخفيف حدَّة التوترات فيما بينها، ويساعدها على التفاعل الإيجابي مع العالم.
إننا أحوج ما نكون في مجتمعاتنا العربيَّة والإسلاميَّة، وفي ظل ما تتّسم به أوضاعها العامَّة من حراك وثورات، وفي ظلّ المخاطر التي تتعرَّض لها هويّتها الثقافيَّة والحضاريَّة، إلى التأكيد على ضرورة تحرِّي الاعتدال في الخطاب الديني، ومراعاة المهنيَّة والصدقيَّة والموضوعيَّة في العمل الإعلامي، ذلك لأن تهذيب لغة الخطاب الديني وضبط رسائل وسائل الإعلام هما السبيل الذي يمكِّن هذه المجتمعات من تخفيف حدَّة التوترات فيما بينها، ويساعدها على التفاعل الإيجابي مع العالم.
الخاتمة:
الجدل حول إدخال الدين في المجال العام يبدو واحداً من المواضيع التي ستظلّ تهيمن على حياتنا الفكريَّة في القرن الواحد والعشرين، كما كانت طوال الحقب الماضية. ولكن في حين جذبت القضايا الدينيَّة الكثير من اهتمام العلماء، فإنَّ الخطاب الديني العام نفسه ظل متحرّراً من سلطة الضبط العلمي والمنهجي، من حيث الجهد المبذول لتأكيد عقلانيته وإضفاء الشرعيَّة على دوره في المجال العام، وظلَّت آثاره المتعدّية لحدود العقيدة والإيمان الخاصّ بعيدة عن إطار البحث العلمي الجاد. وتنازل علماء الدين عن وظيفة الوعظ الحقّ والإرشاد الراشد. وصارت، للأسف، أصوات العقل والحكمة والاعتدال والاستيعاب للمخالفين مغيّبة أمام فوران زخم الغلو التشدّد والتطرُّف والإقصاء للآخر.
والآن، وأمام أزمات تزاحم المحن والإحن والصراعات الباردة والساخنة في حياضنا وجورانا، فنحن في حاجة إلى خطوات قاصدة لمعالجة الخطاب الديني العام ما يُطرح منه في وسائل الإعلام، الذي يزيد من وتائر هذه الأزمات ويؤجِّج من أوارها، من خلال تفكيكه وفحص مداخله ومضامينه وتقويم ما انحرف منه. وبالتالي، استجلاء الغرض الديني والهدف العام من هذا الخطاب، ومناقشة الدور الذي أسبغه القائمون على أمره باعتبارهم المصدر الرئيسي للسلطة الأخلاقيَّة، وإعفاء أنفسهم من المساءلة الاجتماعيَّة، ومن المقاييس والمعايير التي تحكم نظام الحياة العامَّة، واستعادة دور العقل والفكر، ورسوخ العلم والفقه، وإحكام اللغة والمنطق، لفهم صحَّة النصّ المقدَّس.
*المصدر: التنويري.