عصور الإلهاء.. لسنا وحدنا؛ الجميع كانوا كذلك
يُحاصرنا صعود الإنترنت، والانتشار الواسع للتكنولوجيا الرقميَّة، بمصادر لا حصر لها للإلهاء؛ الرسائل النصيَّة، ورسائل البريد الإلكتروني، والانستغرام، والواتساب، وتغريدات الأصدقاء، وتشغيل ملفات الموسيقى والفيديو، والأخبار، والمزيد من الأخبار الآنيَّة، وسيل من أسعار الأسهم المتغيِّرة باستمرار. ولأداء عملنا الواجب القيام به، نحاول إيقاف تيار الرقمنة هذا، ولكن سرعان ما نكتشف صعوبة القيام بذلك عندما يدهمنا المزيد من فيض المعلومات، ونُعاني من الخوف المتجدِّد من أن نفقد شيئاً. ممَّا يجعل بعض الناس يعتقدون أن لدينا إرادة ضعيفة جداً، وأصابتنا الغفلة، لأن أدمغتنا تضرَّرت بفعل الضوضاء الرقميَّة. ولكن إلقاء اللوم كله على التكنولوجيا في ارتفاع هذه الغفلة في غير محلّه. فالتاريخ يُظْهِر أن القلق تجري تغذيته، ليس فقط من الشيء الجديد القادم، ولكن عن طريق التهديد، الذي يطرحه هذا الشيء، أياً كان، على السلطة الأخلاقيَّة القائمة.
إنَّه الإلهاء، الذي يجعل كل واحد مِنَّا مشغول، ومذهول، وغافل. فهل نحن وحدنا الذين أصيبوا بمثيرات عدم الانتباه؟ يقول عالم الاجتماع والمعلِّق الاجتماعي فرانك فوريدي، الذي عمل سابقاً أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة كينت في كانتربري، ومؤلِّف لـ17 كتاباً، كان آخرها “قوَّة القراءة”، والذي صدر في عام 2015، يقول إنَّ الجميع، وعلى الأقل منذ 1710، كانوا كذلك، ومنهم الفلاسفة، الذين باستطاعتهم إثبات ذلك. فقد ظهرت الغفلة، لأول عهدها، كتهديد اجتماعي، في القرن الثامن عشر في أوروبا، خلال عصر التنوير، تماماً كما كان المنطق والعلم يضغطان ضدّ الدين والأسطورة. ويقدم قاموس أوكسفورد الإنجليزي، للتدليل على ذلك، اقتباساً من تاتلر، عام 1710، كأوَّل إشارة لهذه الكلمة، يقترن فيها الإلهاء مع الكسل؛ ربطاً لهما بالرذائل الأخلاقيَّة الخطيرة، والمثيرة للقلق العام.
غير أن النصّ الأول، الذي يتناول مرض عدم الانتباه، هو التحقيق الذي أجراه ألكسندر كريشتون، عام 1798، حول طبيعة وأصل الانحلال العقلي. إذ رأى كريشتون أن اضطراب عدم الانتباه ينتمي إلى “مجال الطب”، ولكنه تأثَّر بالعوامل الاجتماعيَّة والثقافيَّة. وادَّعى أنَّ الانتباه يمكن أن يتأثَّر سلباً بسوء التربية، وضعف التعليم، ونقص الحافز، والتقاليد العائليَّة. ويمكن أن تُؤدي كل من الغفلة المعتادة، وكذلك الإفراط في الانتباه، إلى إضعاف القدرة على التركيز؛ لدرجة يُصبِح معها مرضاً طبياً. وأكد كريشتون أن أولئك، الذين عانوا من نقص الانتباه، قد تحرِّكهم “درجة غير طبيعيَّة من القلق العقلي”. وكتب يقول إن أولئك الذين يعانون من هذه الحالة المنهكة لديهم “اسم خاص لحالة مشاعرهم …” إنهم يَدَّعُون أنهم يمتلكون الأدوات المناسبة لمساعدة أنفسهم.
أكد كريشتون أن أولئك، الذين عانوا من نقص الانتباه، قد تحرِّكهم “درجة غير طبيعيَّة من القلق العقلي”. وكتب يقول إن أولئك الذين يعانون من هذه الحالة المنهكة لديهم “اسم خاص لحالة مشاعرهم …” إنهم يَدَّعُون أنهم يمتلكون الأدوات المناسبة لمساعدة أنفسهم.
لقد كان الفلاسفة وعلماء الأخلاق في طليعة من أسهموا في البناء الثقافي، فوصفوا “عادة الغفلة”، لا كمجرد فشل أخلاقي مستقل، ولكن كمصدر للرذائل الأخرى. ففي “مقال عن الحقيقة”، نُشر عام 1770، وضع الفيلسوف الأخلاقي الاسكتلندي جيمس بيتي، الذي اكتسب سمعة في الحديث عن القلق الأخلاقي للعصر، وصف الغفلة كمصدر للـ”عادات الإجراميَّة”، التي تقلِّل من “القيم الأخلاقيَّة”. وأكَّد أنَّنا “اكتسبنا العديد من العادات الشريرة، التي، مع الاهتمام المناسب، كان يُمكن تجنّبها”. وقد ربط بين الغفلة و”القسوة وعدم الرضا”، وحذر من أنه إذا سمح لهذا المرض أن يتطوَّر، سيضعف النظام الاجتماعي.
وفي إنكلترا، اعتبر المعلِّقون المهتمُّون بالأدب، في القرن الثامن عشر؛ مثل مؤسِّس صحيفة الغارديان ريتشارد ستيل، والمعلق والأخلاقي، صامويل جونسون، عدم الانتباه كأحد أعراض “طريقة تفكير غير محدَّدة”. وقدَّموا نصائح حول طرق مواجهة “ذلك العقل المتعجِّل”، إلى “ما هي بعض الأرواح المشغولة، التي يتعرَّضون لها”. وكان أحد مصادر الاستشهاد الأكثر ترجيحاً في القرن الثامن عشر، حول مشكلة عدم الانتباه، هي “عناصر التعليم المهذَّب: المختارة بعناية من كتاب فيليب دورمر ستانهوب، عن رسائل إيرل تشيسترفيلد، إلى ابنه، عام 1774.” فقد كتب تشيسترفيلد في مارس 1746: “لا أعلم شيئاً واحداً أكثر إزعاجاً لشركة، من الغفلة والإلهاء”. وفي خطاب مكتوب في يناير 1752، ساوى الغضب مع “كسل العقل”، وزعم أن كلاهما “أعداء المعرفه”. فكان الموضوع الناظم لأفكار تشيسترفيلد حول هذا الأمر هو أنَّ الفشل في إيلاء الانتباه الاهتمام اللازم يؤدِّي إلى تآكل التسلسل الهرمي الاجتماعي والنظام الأخلاقي.
لقد احتفلت ثقافة التنوير، في الواقع، بالانتباه باعتباره أهم مَلَكَة ذهنيَّة لممارسة العقلانيَّة. وجادل المؤرخ مايكل هاغنر في كتابه: “نحو تاريخ من الاهتمام بالثقافة والعلوم”، الذي صدر عام 2003، أنه بحلول نهاية القرن الثامن عشر، أصبح “الانتباه أكثر من استعارة مناسبة لطموحات مستنيرة”. فكان يُنْظَرُ إليه أيضاً كوسيط للتعليم، وكذلك للتطور الروحي والأخلاقي. وقد اعتبر الفيلسوف الفرنسي كلود أدريان هلفيتيوس الانتباه كمصدر مهم للتنوير. ففي كتابه: “الروح، أو مقالات في العقل، ومَلَكَاتِه المتعددة”، الصادر عام 1758، ربط “الانتباه المستمر” بـ “العقل المتفوق”. ومع ذلك، وعلى عكس معظم المعجبين الآخرين بالانتباه، كان هذا المفكر الملحد المتطرِّف ينتقد ميل المجتمع إلى إدانة عدم الانتباه باعتباره رذيلة أخلاقيَّة. وتساءل قبل أن يرفض طقوس هذه الرقابة الأخلاقيَّة: “ما الأهميَّة التي يمثِّلها استمرار عدم الانتباه كجريمة؟” غير أنه لم يقدِّم إجابة على تساؤله الاستنكاري هذا.
وقد اعتبر الفيلسوف الفرنسي كلود أدريان هلفيتيوس الانتباه كمصدر مهم للتنوير. ففي كتابه: “الروح، أو مقالات في العقل، ومَلَكَاتِه المتعددة”، الصادر عام 1758، ربط “الانتباه المستمر” بـ “العقل المتفوق”. ومع ذلك، وعلى عكس معظم المعجبين الآخرين بالانتباه، كان هذا المفكر الملحد المتطرِّف ينتقد ميل المجتمع إلى إدانة عدم الانتباه باعتباره رذيلة أخلاقيَّة.
بيد أنَّ معارضيه يرون أنَّ الترويج للانتباه، باعتباره إنجازاً أخلاقياً، كان ضرورياً لغرس شخصيَّة سليمة. فقد جادل الفيلسوف توماس ريد، وهو المؤسِّس الأبرز لبرنامج “الحسّ العام” الاسكتلندي، في القرن الثامن عشر، في كتابه حول “القوى النشطة للعقل البشري”، الصادر عام 1788، بأن “هناك قواعد أخلاقيَّة تحترم الانتباه”، التي “ليست أقل وضوحاً من بدهيات الرياضيات”. وتتطلَّب هذه القواعد الأخلاقيَّة للانتباه الغرس والتدريب، على أن يضمن اختصاصيو التوعية حماية الشباب من “عادات الغفلة”. إذ كان يُنْظَر إلى عدم الانتباه بشكل متزايد كعقبة أمام التنشئة الاجتماعيَّة للشباب. وأصبحت مكافحة عادة عدم الانتباه بين الأطفال والشباب الشغل الشاغل لعلم التربية في القرن الثامن عشر، واكتسبت هذا القضيَّة أهميَّة غير مسبوقة. وكان ينظر إلى الانتباه على أنه مهم لتغذية المنطق العقلي، وكذلك للتطوّر الروحي والأخلاقي. وأصرَّت كتب المشورة الموجَّهة إلى الآباء، مثل مدرسة ماريا إيدجوورث للتعليم العملي، عام 1798، على أن غرس التركيز والانتباه يتطلّبان جهداً ومهارة لا بد من تعلّمهما.
ووسط الاحتفال بالانتباه كفضيلة، أعرب المعلّمون والمعلّقون الدينيّون والمهنيّون الطيّبون باستمرار عن مخاوفهم من الأضرار الأخلاقيَّة المترتّبة على عدمه. فمنذ أواخر القرن الثامن عشر، وما بعده، تزايدت المخاوف بشأن “عادة عدم الانتباه” كمرض أخلاقي. وفي كتابه الطبي، الصادر عام 1775، قام الألماني ملكيور آدم ويكورد بتشخيص حالة ما شَخَّصَهُ “بعدم الانتباه”. إذ تحوَّل وصفه له باستمرار بين العجز الطبي والمعنوي. ووفقاً لويكورد، يفتقر الناس الغافلون للاستقرار والتماسك الأخلاقي الضروري للتركيز. وقد وُصِفَت هذه الحالة بأنها “غير حميميَّة، وغير مباليَّة، وقاسية، ومشوّشة”. وقد صُوِرَت بأنها غير ناضجة نسبياً، ومتهوّرة، وغير موثوقة. ويعتقد أن ممارسات تربية الأطفال الضعيفة كانت مصدراً لمرض عدم الانتباه، وأن الحالة كانت أكثر شيوعاً بين الشباب، مقارنةً بكبار السن. ولعلاج العقل المشوّش، قدم ويكورد نوعاً من التدريب في القرن الثامن عشر. ووصف الحليب الرائب، ومسحوق الحديد، وركوب الخيل، كعلاج.
وخلال القرن التاسع عشر، أصبحت حالة عدم الانتباه أخلاقيَّة بشكل كامل. وكان ينظر إلى الغفلة كتهديد للتقدُّم الصناعي، والتقدُّم العلمي، والازدهار. وخَصَّ الخبير الاقتصادي السياسي الاسكتلندي ويليام بلايفير الإجماع السائد برؤيته الخاصَّة حول هذا الموضوع عندما قال: “إنَّ تدهور الشخصيَّة الأخلاقيَّة، وفقدان الانتباه للمبادئ الأولى، التي يدين بها المجتمع لرخائه وسلامته؛ وكلاهما يرافقان الثروة، هما أكثر العوامل قوَّة في تراجع الأمم.” بل أدعى بلايفر أنه في فرنسا ” كان عدم انتباه النبلاء لواجبهم أحد أسباب الثورة”. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، كان عدم الانتباه بمثابة علامة على الانحطاط العرقي. ففي كتابه: “الإنحطاط الكلاسيكي”، الصادر عام 1895، حذَّر الناقد الاجتماعي ماكس نورداو من أن “نشاط الدماغ المتدهور والهستيري هو نشاط غير منظَّم وغير مقيّد، وغير متجانس، وبدون قصد، أو هدف”.
وفي الواقع، حتى السبعينيات من القرن الماضي، عندما دخل التشخيص الطبي الحديث لاضطراب نقص الانتباه إلى الثقافة العامَّة السائدة، وكان يستخدم لفهم مجموعة فرعيَّة من ذوي الإعاقة الحقيقيَّة، فإنَّ حالة عدم الاكتراث الاجتماعي كانت تمثِّل واحدة من الضوابط الأخلاقيَّة المعيبة. وقد ركَّزت المحاضرات الرائدة لجورج ستيل، التي قدَّمها عام 1902، حول “بعض الظروف النفسيَّة غير الطبيعيَّة عند الأطفال”، على سمات سلبيَّة مثل “القسوة والتعنيف والغياب والاضطهاد والخداع الوحشي والتشويش والظلم والخيانة الجنسيَّة والفظاظة”. غير أن هذا الشعور لم يختف، بل إنَّ استمراره يؤيِّد ما ذهب إليه ماغي جاكسون في كتابه: “تآكل الانتباه والعصر المظلم القادم”، الذي نُشِر عام 2008، مع ادّعاءاته بأن “ترويض الوحش الداخلي لدينا” هو “جزء لا يتجزَّأ من تطوير الضمير”.
لقد شهدت العقود الأخيرة انعكاساً دراماتيكياً في مفهوم عدم الانتباه؛ على عكس ما حدث في القرن الثامن عشر، عندما كان يُنظر إليه على أنه أمر غير طبيعي، إذ غالباً ما يتمّ عرض عدم الانتباه اليوم كحالة عاديَّة. وكثيراً ما يتميَّز العصر الحالي بأنَّه عصر “التشتيت”، أو “الإلهاء”، ولم يعد يصوِّر عدم الانتباه كعَرَضٍ يصيب قلَّة من الناس. ففي الوقت الحاضر، يُصَوَّر تآكل قدرة البشريَّة على الانتباه كمشكلة وجوديَّة، ترتبط بالآثار المزعومة للتدفّقات الرقميَّة الهائلة من المعلومات، التي تتسرَّب إلينا باستمرار، وبلا هوادة. يقول نيكولاس كار في كتابه: “الظلال: كيف تُغَيِّر الإنترنت الطريقة التي نقرأ ونفكِّر ونتذكَّر بها”، الذي صدر عام 2010، “إنَّ الشبكة لا تستحوذ على اهتمامنا إلا لتبعثره”. ووفقاً لِعَالِم الأعصاب الأمريكي دانييل ليفيتين، فإن الملهيات في العالم الحديث يمكن أن تخرِّب أدمغتنا فعلاً.
كثيراً ما يتميَّز العصر الحالي بأنَّه عصر “التشتيت”، أو “الإلهاء”، ولم يعد يصوِّر عدم الانتباه كعَرَضٍ يصيب قلَّة من الناس. ففي الوقت الحاضر، يُصَوَّر تآكل قدرة البشريَّة على الانتباه كمشكلة وجوديَّة، ترتبط بالآثار المزعومة للتدفّقات الرقميَّة الهائلة من المعلومات، التي تتسرَّب إلينا باستمرار، وبلا هوادة.
ومع ذلك، لا تزال المخاوف الأخلاقيَّة، التي دأبت على ترسيخ انشغال المجتمع بعدم الانتباه، كامنة في خلفيَّة تفكيرنا حول هذه المعضلة. كما اعترف الناقد الأدبي الأمريكي سفين بيركيرتس مؤخراً: “ما أعرفه هو أن كلام الانتباه والأخلاق تلازمانني بشكل فوري وتلقائي”. وبالنسبة لأي مؤرخ، يُعَدُّ هذا الأمر منطقيّاً. فعلى مدار تاريخه، خدم عدم الانتباه بمثابة تركيز متصاعد على المخاوف بشأن السلطة الأخلاقيَّة. إن اكتشافه في القرن الثامن عشر ليس مفاجئاً. فقد رفض المزاج الفكري في عصر العقل الحقائق المقدَّسة للتقاليد، وأصَرَّ على أن الحجج يجب أن تستند إلى الأدلَّة والمنطق. وكما يعلم التربويُّون على مرِّ التاريخ، فإنَّ جذب انتباه الشباب يشكِّل تحدِّياً دائماً لهم. ولكن بمجرَّد أن أصبحت السلطة المعنويَّة على الشباب عرضة للشدِّ والجذب، أصبحت مسألة من يكتسب انتباههم مسألة ملحَّة. وهذا هو أحد الأسباب المهمَّة، التي دفعت الفلاسفة الأخلاقيين إلى الانتباه إلى مشكلة عدم الانتباه. وكانت هذه حقيقة اعترف بها جون ديوي في كتابه: “سايكولوجيَّة الجهد”، الذي صدر عام 1897، والذي أشار فيه إلى أننا ندرك الانتباه عندما يُواجَه المجتمع بالمطالبات المتنافسة لذلك.
لهذا، على الرغم من أن عدم الانتباه يتمّ تمثيله على أنه عكس قطبي للانتباه، إلا أنه من المفيد أكثر إدراك مسائل “الإلهاء” كمخاوف حول عدم حضور الناس لما يمثّله التركيز الأمثل للانتباه. كما يعبِّر عن الخوف من أن عدم الانتباه قد يدفع للكثير من التركيز على النصوص والممارسات الثقافيَّة الخاطئة. وهذه النقطة انتبهت إليها شيري توركلي، من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، التي تَدْرُس العلاقة الإنسانيَّة مع العالم عبر الإنترنت. وقالت في كتابها: “استعادة المطالبة”: بقوَّة الكلام في العصر الرقمي”، الذي صدر عام 2015، إننا “حيث نضعه” هو في “كيف نُظْهِر ما نُقْدِرُه”، إذ هناك الكثير من “الاهتمام بالانتباه”.
إنَّ مفهوم عصر “الإلهاء” يرتبط بعدم اليقين بشأن الإجابة على سؤال “الانتباه إلى ماذا، أو لمن”. وقد اكتسب التسامح مع المخاوف بشأن السلطة الأخلاقيَّة؛ عبر صنم إلهاءٍ مدفوع بالناحية التكنولوجيَّة، نسباً كبيرة فيما يتعلَّق بالأطفال والشباب. ومع ذلك، وكما يفهم معظم المراقبين العقلانيّين، فإنَّ الأطفال الذين لا ينتبهون لمعلِّميهم غالباً ما يدمنون الانتباه للرسائل النصيَّة، التي يتلقّونها من الآخرين. ويمكن تفسير الرثاء المستمرّ للشباب الغافل، والجيل الضائع، في العالم على أنه أحد أعراض المشكلات المتعلِّقة بممارسة سلطة الكبار.
إنَّ مفهوم عصر “الإلهاء” يرتبط بعدم اليقين بشأن الإجابة على سؤال “الانتباه إلى ماذا، أو لمن”. وقد اكتسب التسامح مع المخاوف بشأن السلطة الأخلاقيَّة؛ عبر صنم إلهاءٍ مدفوع بالناحية التكنولوجيَّة، نسباً كبيرة فيما يتعلَّق بالأطفال والشباب.
بيد أنه، في بعض الأحيان، يلقي الناس اللوم بالفشل على جنوح الشباب وتصورات خيالهم، وحالة تفكيرهم غير المباليَّة. وفي كثير من الأحيان، استجاب اختصاصيو التوعيَّة لهذا الشرط من خلال اتباع نهج حميد في استيعاب ممارسات القراءة اللامباليَّة المفترضة للمداومين على الوسائط الرقميَّة. ويتَّضح هذا النمط في التعليم العالي، حيث أدَّى الافتراض بأنَّ طلاب الجامعات لم يعد من المتوقَّع أن يقرأوا نصوصاً طويلة وصعبة، أو أن يهتموّا بالمحاضرات الجادَّة، قد أدى إلى تكييف مواد الدورة الدراسيَّة مع العقليَّة اللامباليَّة للمدمن الرقمي. وأصبحت الدعوات لتغيير البيئة التعليميَّة “لملاءمة الطالب” واسعة الانتشار في التعليم العالي.
إذن، كيف يختلف هذا عن ردّ فعل فلاسفة الأخلاق؛ مثل دوغالد ستيوارت، الذي يشعر بالقلق أيضاً لمشكلة الطالب المشتَّت الذهن؟ إذ يعبِّر ستيوارت، مؤلِّف كتاب: “الخطوط العريضة لفلسفة أخلاقيَّة: لاستخدام الطلاب في جامعة أدنبرة”، الذي صدر عام 1793، عن اعتقاده بأنَّ مشكلة عدم الانتباه يمكن التغلّب عليها من خلال التربية الأخلاقيَّة. وخلافاً لبعض الأكاديميين المعاصرين، اعتبر أنَّ هذه العادة ترجع إلى “وقت مبكّر من الغفلة”، وهي مشكلة يجب حلَّها بدلاً من الاستسلام لواقع غير قابل للتغيير لوجودها. ويعتقد هيلفيتيوس بشدة أن الجميع لديه القدرة على الحصول على “مداومة الانتباه”، و”الانتصار على الكسل”. ولكن، للأسف، فإنَّ تفاؤل هيلفيتيوس قد أفسح المجال لمزاج الاستقالة، إذ لا يزال يُنظر إلى الانتباه كأمر مرغوب فيه، ولكن يكاد يكون من المستحيل تحقيقه. وكما يحذر أحد هذه المؤشِّرات المثيرة للقلق، التي وردت سابقاً، فإن “تآكل الانتباه الوبائي هو علامة مؤكَّدة على وجود عصر مظلم وشيك”، الأمر الذي كان سيزعج هيلفيتيوس بسبب هذه القدريَّة، التي جرى التعبير عنها في هذا الرثاء على حال الشباب والمجتمعات الحديثة.
* دبلوماسي، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، عمان.
السبت 6 يوليو 2019
أديس أبابا، إثيوبيا
*المصدر: التنويري.