عالم معولم حقًّا
فالح فزع
اتّسع مفهوم العولمة بسبب تعدّد أوجه المجالات التي تطالها، كان هذا المفهوم يقتصر إلى حدٍّ ما على السياق الاقتصادي من خلال وصفه انفتاح اقتصادات العالم على بعضها (التبادل التجاري، والاستثمار، وانتقال الأيدي العاملة، وما إلى ذلك)، ثمّ سرعان ما تمدّد ليعني “تكامل” أو “اندماج” مجتمعات العالم وثقافاته مع بعضها بفضل الاقتصاد أيضا وتطوّر شبكات الاتّصال. بل إن بعض الكتّاب والباحثين وجد في نشاطات التجّار والمستكشفين العرب والمسلمين في العصر العبّاسي وعلاقاتهم مع العالم القديم مثالا عن وجه من وجوه العولمة، فضلاً عن أن الضرورة النسبيَّة لتعلّم العربيَّة، بالنسبة للمسلم غير العربي، وأداء الحج قد أوجدت نوعاً من الثقافة الكوزموبوليتيّة.
إلا أنّ موسوعات كثيرة معنيَّة ترى في العولمة اشتغال جملة عوامل (اقتصاديَّة، تكنولوجيَّة، سوسيوثقافيَّة، سياسيَّة، وبيولوجيَّة) ولا تغفل، بل قل إنَّ بعضها يشدِّد على تخطّي الأفكار والألسن والثقافة الشعبيَّة (ما يطلق عليه بالمثاقفة) للحدود الوطنيَّة كأحد أبرز وجوه العولمة في عصرنا الراهن.
على أساس هذا المفهوم الأخير صار كثيرون يصفون عالمنا الراهن بالقرية الكونيَّة كتشديد على أن أجزاء العالم المختلفة كلها تشكّل مجتمعاً إنسانيّاً واحداً مرتبطاً بالاتّصالات الإلكترونيَّة، لا سيما الإنترنت، أي أنَّ هناك عولمة قديمة وأخرى حديثة، هذا على سبيل محاولة التعريف وليس النظر النقدي.
على وفق هذه الحركة، ليس هناك من تعارض ظاهر أو “صدام” مباشر بين الثقافات، ومن بينها ثقافات المسلمين. لذا يتّجه كتّاب ومفكّرون إلى معارضة “العولمة” بـ”النزعة الجهاديّة”.
في آذار (مارس) من العام 1992، كتب عالم السياسة الأميركي، بينجامين باربر، مقالاً في مجلَّة اتلانتك بعنوان “الجهاد في مقابل عالم ماك”، (طوّر أفكاره في كتاب بالعنوان نفسه ونشر في العام 1995) رأى فيه أنَّ هناك مستقبلين محتملين وراء ما كان يحدث كلاهما “بائس” وغير ديمقراطي.
أمّا الأوّل، حسب ما يعتقد، فهو إعادة توزيع جموع البشر على قبائل من خلال الحرب وسفك الدماء؛ وهذا يعني تهديداً بلبننة دول تتخندّق فيها ثقافة ضدّ ثقافة، شعب ضدّ شعب، عشيرة ضدّ عشيرة- أي جهاد باسم عقائد مفهومة فهماً ضيّقاً ضدّ أي نوع من أنواع التكافل، أي نوع من أنواع التعاون الاجتماعي والتبادليَّة المدنيَّة. أمّا الثاني فهو اندفاع القوى الاقتصاديّة والبيئيَّة التي تلحف بالاندماج والتشاكل، وتخدّر العالم بموسيقى سريعة وكومبيوترات سريعة ووجبات سريعة- بوجود محطّة (أم تي في ) وماكنتوش وماكدونالد، التي تدفع الشعوب إلى شبكة عالميَّة متجانسة تجاريّاً، أي عالم ماك واحد مشدود إلى بعضه بالتكنولوجيا والبيئة والاتّصالات والتجارة.
ويطلق باربر على هذين المسارين “قوى الجهادforces of jihad” و”قوى عالم ماك forces of Mc World” اللذين يراهما يشتغلان بشدّة متوازية واتّجاهات متعارضة، الأوّل تسوقه بغضاء ضيقة أفق، والثاني تعميم الأسواق، الأوّل يعيد إنشاء الحدود الأثنيَّة والإقليميَّة القديمة التي كانت قائمة في الدولة نفسها، والآخر يجعل من الحدود الوطنيَّة هشّة سهلة الاختراق من الخارج. ويقول إن هناك شيئاً واحداً مشتركاً بين المسارين إلا وهو أن أيا منهما لا يقدّم أملاً للمواطنين المتطلّعين إلى سبل عمليّة لحكم أنفسهم ديمقراطيّاً. فإذا كان مستقبل العالم يتمثَّل بتباري زوبعة الجهاد الطاردة عن المركز ضدّ ثقب عالم ماك الأسود المندفع نحو المركز، فلا يرجّح أن تكون النتيجة ديمقراطيَّة.
في العام 2002، كتب عالم السياسة، جوزف ناي، مقالاً يعارض فيه العالميَّة بالعولمة ليعرِّف العولمة بنقيضها، وكيف أن كلا من هذين المفهومين يصوغان عالمنا الراهن. يرى ناي أنّ العالميَّة تصف واقع الترابط أو الاتّصال، بينما العولمة تستحوذ على السرعة التي بها تتزايد هذه الاتّصالات أو تنخفض.
وعلى سبيل المعارضة بين المفهومين، يقول إن العولمة تشير إلى زيادة درجة العالميَّة أو انخفاضها. وهي تركِّز على قوى هذه التغيّرات أو ديناميتها أو سرعتها. ويعتقد أنَّ العالميَّة ظاهرة لها جذور قديمة. لذا فالمسألة لا تتعلَّق بقدم العالميَّة، إنما بالأحرى بمدى ضعفها أو سمكها. ويضرب مثلا عن العالميَّة الضعيفة أو الهزيلة بطريق الحرير. الذي كان يوفّر رابطة اقتصاديّة وثقافيَّة بين أوروبا القديمة وآسيا. أمّا التحوّل من العالميَّة الضعيفة إلى العالميَّة السميكة فيتمثّل بالعولمة، وإن مدى سرعة وصولنا إلى ذلك يمثِّل معدّل العولمة.
الممتع أننا اشترينا أحد الكتب المذكورة هنا عبر الإنترنت.