عالم صوفي بين اللايقين وضيق العاجلة
دفعت أزمة العلم والمعرفة إلى إعادة التفكير مجدّدا في أسس التفكير ذاته، وكان هايزنبرج وامانؤيل كانت هما أبرز من نظر لتلك الأزمة. فبرأيهم ليست الأزمة أزمة العلم فقط بل أزمة فكر وطريقة تفكير، وهذا ما أكَّده هوسرل إذ يرى إنَّ أزمة العلوم هي أزمة فكرة العلم، وإنَّ هذه الأزمة تطال الفلسفة نفسها، خاصَّة في علاقتها بمشكلة المعرفة.
فقد دخل مبدأ اللايقين في العلم، وبخاصَّة في الفيزياء، حيث أوضحت نظريَّة الكم لـماكس بلانك أنَّ المادَّة لا متعيَّنة، ومن الصعب التنبُّؤ بالطاقة المشعَّة التي تنطلق في قذفات أو كمّيّات لا متواصلة، وأوضح مبدأ هايزنبرج في اللاحتمية أو اللايقينية، استحالة تحديد سرعة أي إلكترون، وبالتالي استحالة تحديد زمانه ومكانه. وهكذا أصبح العالم يمقت الدقَّة والانضباط، حتى في الرياضيات والمنطق، إذ توجد في أي نظام رياضي ومنطقي، مسائل لا يمكن إثباتها أو نقضها على أساس من بديهيات ذلك النظام. وبالتالي استحالة برهان صحَّة كل النظريَّات ضمن البنية الرياضيَّة، هكذا تكون عشوائية الكون في تصوّرنا البشري ضمانة لاستمرار الرياضيات.
إنَّ أهمّ ما توصَّلت إليه العلوم هو حقيقة محدوديتها، وعجزها عن تقديم إجابات أبعد أمام بعض المعضلات التي تحكم قوانين الكون، وبالتالي تأكيد نسبيَّة المعرفة وقصورها أمام ألغاز الوجود. وهو ما يعني من الناحية العلمية أنَّ العلوم التي كانت تُعرَف بالعلوم البحتة، والمستندة إلى قوانين لا شك فيها قد فقدت هذه المصداقية، وصارت كغيرها من العلوم الإنسانيَّة نسبية تملك قدرا محدودا من الحلول غير النهائية.
صدمة شديدة تعرَّض لها العقل البشري عندما صدم بالرياضيات وبالتالي اهتزَّت معه وبسبّبه كل النظريات المصاغة بشكل رياضي. بحيث بدا الهيكل العام للرياضيات وكأنه مليء بالثغرات والفجوات، والتي لن يكون في مقدرة العقل الإنساني يوما ما أن يملأها، وهي النظريَّة التي طوَّرها وأكَّد على أهميّتها علماء كثيرون من بعده.
إننا كبشر لن نتمكَّن من الآن فصاعدا من سدّ هذه الثغرات فهي موجودة، وستبقى هكذا، فالعقل والمعرفة البشريَّة قد وصلا إلى حدّهما الأقصى، وهذا بدوره لا يعود إلى عجز الأجهزة التي يوظّفها الإنسان، والتي لو أنه تمكَّن من تطويرها لوصل إلى مستوى أفضل من الأداء العلمي، بل يعود إلى عجز القدرة العقليَّة والمعرفيَّة في تحديد مستقبل الظاهرة الكونيَّة، فقدراتنا تنصب على التأكد من ” الآن ” دون القدرة على الجزم ” بمستقبل ” الظاهرة في الزمان.
من هنا كان التوجُّه إلى الفلسفة الشرقية بالذات للبحث في الميتافيزيقا عن مخارج لهذه الأزمة الكبيرة، وإعطاء معنى لكل ما هو عسير على الفهم في الكون. وإذا كانت الفيزياء الكوانتية قد أثبتت أنَّ العقل لا يستطيع أن يلم بجميع الأمور الكونيَّة، لأنَّ الطبيعة ذاتها محكومة بمبدأ اللايقين، فإنَّ الأهمّ هو التقارب بين النظريَّة العلميَّة والنظرة الصوفيَّة. فالفيزياء اليوم تتاخم الميتافيزيقا، خاصَّة أنَّ العلم لم يثبت حتى الآن وجود الكتلة، ولم يثبت وجود نمط مستقيم، ولم يثبت وجود السطح. وهذا ما يؤكِّد في النهاية أنَّ عالمنا الأرضي عالم صوفي.
*المصدر: التنويري.