طه حسين في رواية “المغاربة” لعبد الكريم جويلي
المدخل: الرواية بين فنِّ التخييل والتذكير والتذكُّر..
” أن كلّ فنّ عليه أن يصير علمًا، وكّل علم عليه أن يصير فنًّا..”(محمد برادة في الخطاب الروائي لباختين)
صدرت للأستاذ الروائي عبد الكريم جويطي عدّة روايات آخرها رواية “ثورة الأيام الأربعة” الطبعة الثانية (2022).
أمَّا رواية ” المغاربة” فقد صدرت طبعتها الأولى (2016) والطبعة الخامسة (2021).
لم يسبق لي قط أن قرأت للجويطي أيَّة رواية من رواياته، وكل ما أذكر أنّني قرأت مساهمته في ترجمة كتاب” الموريسكي”من تأليف حسن اوريد وترجمة عبد الكريم جويطي مع مراجعة للترجمة قام بها المؤلف، ممَّا يعني أن المؤلف قام بإعادة صياغة الكثير من عبارات الترجمة لتتلاءم مع روح النص الأصلي الصادر باللغة الفرنسيَّة(2011).
إنَّ عدم اطِّلاعي على أعمال جويطي يرجع لسبب بسيط سبق أن أشرت إليه في مناسبة سابقة، حيث إنَّ قراءاتي للأعمال الروائية تقلَّصت كثيرا نظرًا لانصرافي وتركيزي على قراءة الأعمال البحثية الفكرية التي تتمحور حول بعض القضايا التي اهتمّ بها أو أشتغل عليها.
ومن حسن الحظ والطالع أن صديقي الأستاذ محمد مزهار الذي يشاركني في حوارات فكرية عميقة يأبى إلا أن يشركني في بعض قراءاته الروائية الخصبة لتكون موضع مناقشة بيننا حول مضامينها وما يثيره مؤلفها من قضايا وإشكالات، وضمن هذا السياق تندرج قراءتي لبعض فصول رواية ” المغاربة للأستاذ عبد الكريم جويطي التي نالت جائزة المغرب للكتاب (2017).
ساأكز في هذه العجالة على بعض الفصول فقط، وأبدي بعض الملاحظات حولها، ولن أتوقف عند الأسلوب الفني أو البنية الروائية، لأنني لست مطَّلعًا على إنتاج المؤلف اطّلاعًا كافيًا يسمح لي بإبداء رأي في المضمون.
كما سأتوقَّف عند الفصلين اللذين استدعى فيهما المؤلف رمزية “طه حسين” الأدبيَّة، بغية البحث عن غاية هذا الاستدعاء وسياقاته وعلاقته بموضوع الرواية التي تتناول صورة المغاربة عبر التاريخ وتسعى للكشف عن جوانب من مسلكياتهم وتمظهراتهم ونفسياتهم، وما تميَّزوا به من أفعال نتيجة الأحداث الجسام التي صهرت شخصيتهم وشكَّلت أمزجتهم عبر العصور المتطاولة..(حسب رؤية المؤلِّف) .
وسنحاول أن نقف عند البنية الروائية لكي نفهم غرض المؤلف من سرديته أو محكياته الروائية وضمن أي إطار وسياق جاء استدعاؤه لطه حسين هل لرمزيته الأدبيَّة، أو من منطلق أن الأدب يعتبر بمثابة رهان على الحرية والقيم الحافزة على التغيير والتجدُّد.
لقد اختار المؤلِّف جنس الرواية ليصوغ من خلاله أسئلته المركبة حول شخصية المغاربة وهويتهم متعدِّدة التلوينات، والبوتقة التي انصهرت فيها مختلف المكونات نتيجة تناقضات السلطة وحيفها والصراعات المريرة الدائرة حولها.
هل تمثِّل الرواية النسيج الأدبي القادر على احتواء التعبيرات المختلفة لتوصيل الرسالة والكشف عن مكنونات الشخصية الثاوية في أعماق الذاكرة الجمعيَّة؟
لا شكَّ أن الرواية تعتبر الفن المعبِّر عن إيقاع العصر، وقد اعتبرها “لوكتش”(1885/1971) بأنَّها ملحمة الطبقة الوسطى في بحثها عن المكانة والدور المؤثِّر.
إنَّ الموضوعات التعبيرية في الآداب الحيَّة دليل على الحيوية وعلى ما يصيب الأمم الحيَّة من عوارض ومن نشاط وفتور أو محافظة وتجدُّد، وأنَّ الفن الرفيع لا يقوم إلا على الخلق والإبداع والمعرفة، أما معرفة منطق تعتمد على العقل أو معرفة بداهة وعمادها الخيال.
الخيال باب من أبواب المعرفة، وان اختلط فيه الصدق بالوهم أو الضلال.
ويمتاز فن الخيال على الخداع، لأنَّ الفن صناعة أو صياغة منفصلة عن الموضوع، وكلما ارتقينا في تقدير الفن كلما ارتقينا في تقدير الحسّ والبداهة وفي العلم بوظيفة الخيال. الخيال وظيفة تنفذ إلى أسرار الخلق والإبداع.
نخلص ممَّا تقدَّم أنَّ مفتاح الفن الروائي بأشكاله المتعدِّدة يكمن في ملكة الخيال لدى المبدع، فالقصة فن أدبي يوظف الخيال ليعبر عن الحياة كحلم وقيم ومثل، وانطلاقًا من وظيفة الخيال في فن الإبداع تبلورت نظرية الرواية وهي نظرية حول دلالة الرواية ومعناها من الوجهة الفلسفية والتاريخية والبنائية.
والجدير بالذكر أنَّ نظرية الرواية تحتل حيزا هاما من كتابات الفلاسفة والنقاد ومحللي الخطاب، بالرغم من أنَّ تاريخ النصوص الروائية كجنس أدبي يرجع إلى القرن السابع عشر الميلادي، وقد تبوأت نظرية الرواية هذه المكانة نتيجة توافق ظهورها مع تبلور جملة من التحولات الاجتماعية والفكرية والعلمية على الصعيد الأوروبي.
وقد ترتَّب عن هذا الوضع تجدُّد البحث عن الإشكاليَّة الأدبيَّة أو الاجناس الأدبيَّة التي تتأسس عليها المقولات الجمالية ضمن إطار جدلي “هيجلي”للاستتيقا أو الظاهرة الجماليةللتفكير في إشكاليَّة الإنسان من زواياها المتعدِّد، وذلك من منظور فلسفي كمنهج حياة ضمنه يتشكَّل الإبداع الأدبي بمختلف صيغه ومضامينه.
إذن في الرواية تتداخل الذكرى الخلاقة القادرة على إدراك الموضوع ذاته وعلى تحويله، وما يجعل من هذه الذاكرة حقيقة واقعية هو قبول السيرورة الحيوية للحياة ذاتها. إنَّ الوحدة المعيشية تشكِّل المكون الموضوعي لتحقيق التجانس الذي يتطلَّبه الشكل الروائي،
ومن هنا الحضور الذاتي الطاغي في السرد، بحيث يستحضر السارد تفاصيل الذاكرة عبر التخييل من خلال أسئلة تنبع من التحولات التي يشهدها العالم من حول الإنسان، وهذا ما يثير لدى المبدع الأسئلة الملتبسة أو المسكوت عنها والتي يستطيع الأدب وحده الاقتراب منها ومعالجتها وذلك بالغوص في تلافيف الذاكرة واستحضار ما تكتنزه من أطياف يعيد لها المبدع عنفوان الحياة بنفحة من روح الخيال الفني الخلاق فتعود حيَّة تسعى على مسرح الحياة، فالتذكُّر والتذكير هو ربط الماضي بالحاضر بحيث يشكِّل العتبة الأولى لفهم المحكيات الروائيَّة.
إنَّ ازدهار التفكير النظري في الرواية واتِّساعه ليشمل بقية الأجناس الأدبيَّة الأخرى ممَّا جعل الخطاب الروائي خليطًا من اللغات والأصوات والخطابات والنصوص كمرآة لما تمور به المجتمعات الحديثة.
ونتيجة لهذا الوضع الاجتماعي الجديد تحوَّل الروائي عمّا كان عليه فتبدَّلت سلوكات الأبطال لتكون ملائمة لأجواء الرواية الحديثة، والتحولات البنيوية التي عرفتها المجتمعات الأوروبية منذ القرن التاسع عشر.
وتمثل هذا المناخ في الكتابة الروائية التي تعدَّدت فيها التعبيرات والمواقف الايديولوجية المتصارعة، فاللغة هي خطاب محمَّل بالدلالات والمعاني التي تكشف عن أنماط العلائق القائمة بين الأشخاص والأهداف الكامنة وراء الخطاب الروائي، ومن ثم فإنَّ الرواية جزء من ثقافة المجتمع والثقافة مكوَّنة من خطابات تعيها الذاكرة الجماعية وكل فرد في المجتمع يستمدّ موقعه وموقفه من تلك الخطابات متعدِّدة الأشكال التعبيرية ضمن جدليَّة الذات والعالم، ومن هذا المنظور فإنَّ الرواية صيرورة مستمرة لا تتبلور إلا بوعيٍ تاريخي.
الخطاب الروائي وأثر الطبائع في أنماط الشخصية والهوية”يقدِّس الماضي في حياة البشر، رغم إنه أمر انقضى ولا سبيل لملامسته إلا عبر التذكير..”(ص9).
في رواية “المغاربة” تطرَّق المؤلف للمكونات التي صهرت شخصية المغاربة عبر التاريخ، وأثَّرت في رؤيتهم وطبعت أنماط سلوكهم وردود أفعالهم.
وليس قصدي عرض سرديَّة الرواية أو ملابساتها، وإنما أريد الوقوف عند توظيف المؤلف للطبائع الراسخة في أعماق الذاكرة الجماعية وما انتهى إليه من عناصر تشكِّل الملامح الأساسية للشخصية التاريخية.
لقد تكلَّم المؤرخون قديما عن طبائع الأمم وعن العلاقة بين طبائعها وآثارها الأدبيَّة والثقافية، وكثر الكلام في هذه العلاقة بعد ظهور المباحث النفسية، والنظر في أطوار الجماعات البشرية.
ما يرومه الدارس من دراسة طبائع الأمم هو فهم آدابها وثقافتها، كما أنَّ فهم الثقافة يتطلَّب بحث عناصر الأجناس أو بحث الأمزجة على ضوء العقائد الموروثة، فهي بواعث محدَّدة آثارها معروفة وليست من اللبس فتختلط فيها الآراء.
إنَّ ظاهرة الطبائع المنبثقة عن الطبائع الموروثة هي التي نسجت حولها الرواية.
كيف عالج المؤلِّف البواعث المنبثقة عن الأخلاق المتمكِّنة في طبائع الأجيال المتعاقبة بحيث لا يصعب على المؤرِّخ أن يسجِّل تأثيرها في تكوين المجتمعات وحوادث التاريخ، باعتبارها محور الصراعات الكبرى في معضلات النفس البشرية. قد تتمثَّل في قصة أو مذهبا فلسفيا أو رأيا من آراء السلوك والأخلاق..
من أي سياق صاغ المؤلف ملامح الشخصية التاريخية “للمغاربة”..
هذا ما سنعرض له في محاولة للبحث عن عقدة الرواية وسداها وما يتخلَّلها من شعور وأفكار، توحي بالتخييل والتفكير، فيصبح تصوير الموقف يغني عن العناية بالشخوص أو الحوادث.
” المغاربة” قراءة لأنماط الشخصية والطبائع الراسخة عبر التاريخ..” بلد ببحرين وأنهار جارية وأراض خصبة وغابات..حكمته الصحراء منحته قادة وزعماء أشداء ..ولكنهم بلا خيال ولا طموح..”(ص123).
في فصل”موت الجد” يتحدث السارد عن الجد والجدة والأرض التي كان يزرعها الجد وهذه العناصر كلها ترمز إلى الشخصية المتجذرة رغم ما حدث من تغييرات في أطوار المجتمع ومظاهره وتقاليده.
مات الجد حزنا على أرضه التي أخذتها الدولة لتقيم عليها تجزئة سكنية..كانت الارض هي حياته لهذا كان حزنه كبيرا وجليلا..(ص29).
انتهت كل الملاحم التي شهدها المكان قرونا من الزمن تطوع فيها الأرض وتغرس الأشجار وتزهر الأزهار ويربو العشب، ولان الفلاح يحرس إرثا مقدسا فإن الجد كان يقوم بطواف على ظهر حماره حول الأرض التي كان يزرعها، فتعرض لضربة شمس قاتلة لأنه لم يعد يعرف كيف يروض الفراغ المحيط به، ولما رحل ترك فراغا مهولا، أثَّر على حفيده الذي ودَّع طفولته ونظرته للعالم والأشياء.
إنَّ الأشياء والأماكن والأشخاص رغم ما يربطنا بها من أواصر ووشائج عميقة وراسخة فإنَّها إلى زوال..(ص30).
في فصل عودة الباشا يتحدث السارد عن الباشا الذي يرمز إلى السلطة والقوة التي يتناوب على حملها رجال غلاظ أشداد.. يحظون بالهيبة والمكانة الرفيعة، يجلّهم الناس ويخشونهم.
السلطة دائما محاطة بالنزوات( المال والنساء)..ولا أحد يستطيع أن يعترضها أو يرشدها..(ص65).
الزمن وحده هو القادر أن يفعل فعله في الجاه والسلطة ..فلا شيء يبقى لأن كل شيء عابر..(ص69).
الناس لا يحكمون بالسلاح فقط بل يحكمون أيضا بالخبر فالأخبار عدة الحكم شريطة معرفة قراءتها..(ص81).
كان باشا مراكش العتيد داهية يتقن اللعب على الحبلين.. و يرجع سلوكه المزدوج إلى المنطق القبلي الذي يتسم بالتناقض في أكثر من موقف..( بين الحب والبغض والقسوة و العطف .. فالازدواجية تتيح له الانتقال بين أطراف الأشياء المتنافرة بدون أدنى حرج..(ص103).
في فصل مقامات الغريب حديث عن الولاية والاولياء والكرامات والصوفية ..التي ترمز إلى زمن الولاية والكرامة والمعجزات..والغربة بمعناها الصوفي مقام زهد وصفاء طوية وترفع عن مشاغل الناس الدنيوية..واشد غربة هي غربة الدار والوطن.. وقد ضاع الشيخ الغريب المرابط الدلائي وطمس قبره لان المغاربة لا يحرسون الذكرى الا اذا كانت تحرسها سلطة قائمة..(109).
كان الشيخ اخر الصلحاء صلى الفجر واسلم الروح.. وقد حضر جنازته جميع الاولياء والزهاد ببلاد المغرب..لم يعرف احد كيف وصلهم الخبر وهل طويت لهم الأرض ام طاروا باجنحة..(116ص).
في فصل هذيان المغاربة ينقل شذرات واقتبسات عن المغرب و يصورفيها شخصية المغاربة بأسلوب هجائي قدحي وتبخيسي وعدمي و سلبي.. وقد جاء هذا الهذيان الذي اطلقه المؤلف ( في باب المغاربة/1) وفي (باب السلاطين/2).
وسنعرض بعص الصور في سردية المؤلف عن طبائع ومسلكيات الشخصية المغربية المتجذرة كما رسمها المؤلف في روايته ” المغاربة”..
يقول السارد” صد البحر المغاربة الأوائل فاداروا له ظهورهم..
حضارة بنيت بين جواجز ثلاثة، بحر وجبل وصحراء.. ولان المغرب كان بعيدا جدا من الامبراطوريات حيث تخف قبضة الدولة و الدين والتاريخ.. فقد كان دوما ملكا للمدعين والحالمين بالسلطة والكاذبين الكبار..
شعب بلا خيال لم يحلم بمجتمع اخر الا من خلال متنبئين فاشلين ومدعين بئيسين للمهدوية..، شعب وزع كل آلامه على القبور .. وقعد على قارعة التاريخ ينتظر الكرامات..
كم ازدهرت في هذا البلد الشروح والحواشي والمختصرات وطمرت المصادر.. وحفرت خنادق عميقة بين العقل واصول المعارف .. في تلك الأوساط التعليمية المتحجرة التي صاغت عقلية المغاربة لقرون ..
كان كل شيئ قد قيل والمعارف استنفدت ولم تعد هناك حاجة إلى الإبداع والابتكار ..يكفي الحفظ والقدرة على الاستظهار..(ص122).
” بلد هرب فيه الناس من مدع إلى مدع اخر اخبث وادهى..
بلد ببحرين وانهار جارية وارض خصبة وغابات ..، حكمته الصحراء ومنحته قادة وزعماء ومنظرين اشداء..لكنهم بلا خيال..
لا تثق في تقوى معظم المغاربة ..
شعب خرج من افدح ما في اتراجيديا اليونانية ( انقياد لحب التسلط والتملك واقتراف لا فظع الجرائم ..لا احد يتحمل المسؤولية..الذين اضاعوا اجيالا أو الذين عذبوا وقتلوا وشردوا لا احد يعترف أو يعتذر..).(ص123).
” المغاربة تمرسوا منذ امد بعيد في موقف الدفاع ضد الغزاة والمخزن والجوائح والصحراء…من هنا تاتي مهادنتهم لذواتهم ..
لم يعرف هذا البلد حتى عند ابرز اوليائه وفقهائه وعلمائه وكتابه ومفكريه عملا عميقا على الذات وحفرا بداخلها..(ص125).
عقلية المغاربة عقلية تجارية وكل من في البلد يطلب من الوطن مقابلا :المقاوم والمناضل والسياسي والمثقف والرياضي والفنان ورجل الدين..(ص127).
لا يريد هذا البلد أن ينفض يديه من شيئ انتهى وينصرف لبناء شيئ جديد..(ص129).
” المغاربة مالكيون لان المذهب أرضى الجميع ، لان الامام مالك يرى أن السلطان الجائر خير من امة سائبة.. وافق المذهب النخب الحضرية لانه اعلى من شان الحضر ( والبورجوازية التجارية التي أمن لها سوقا تجاريا..).واحبوا في المذهب اقراره للمصالح المرسلة لا ستعابها ما يستجد في الواقع..(ص134).
في فصل الكتاب الذي يأتي بعد فصل الهذيان يعلق السارد على ما اطلقه من شذرات قادحة في الصفحات االسابقة بقوله :” اكتب شذرات هذيان رجل لا يعرف ماذا يفعل بوقته ، رجل يعيش بين اكتب فقط ولم تعد له صلة حقيقية بالعالم… اكتب عن نفسي عن الصحراء عن السلاطين والاولياء والصالحين ..وقد اكتفي بنسخ نصوص تاريخية..( اكتب عن المغاربة..) (ص145).
في باب السلاطين تحدث السارد عن الرابطة التي اسسست دولة المرابطين وكل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب.. فلا تقوم سلطة الا على انقاض أخرى ..(ص242).
في باب الاولياء والصالحين يذكر شذرات ومرويات وعجائب عن رجال التشف والتصوف والصلحاء والفقهاء.. الذين كان لهم دور واسهام في ثقافة المغرب الفقهية والصوفية والعلمية والسياسية..
ختم السارد الرواية بنبرة تشاؤمية تحيل على شكسبير في نظرته للمأساة الإنسانية.. فقال السارد على لسان بطل شكسبير “هملت”L انه زمن الجنون الكبير والعمى الهائل..). (ص339).
ملحوظة..
إن الشذرات القادحة في شخصية “المغاربة” ورموزهم التاريخية تندرج ضمن النظرة التشاؤمية والتبخيسية والسخرية الهجائية « Satire في الجنس الأدبي التي تنزع إلى التعسف في الأحكام والتكلف في التاويل والشطط في الاستنتاج..وتختزل الموضوعي في الذاتي.
وعلى الباحث المدقق أن يراجع هذه الاحكام والتأويلات، بالاستناد إلى المصادر الموثوقة لتصحيح الرؤية السفسطائية، بتقديم شروحا للافكار، تعتمد على قراءة استقصائية عميقة تحيط بواقع المجتمع وتكشف عن إشكاليات تجربته التاريخية.
فالتأويلات المغرضة والأحكام المتعسفة التي وردت في النص تعود إلى خطأ منهجي وقع فيه المؤلف عندما أسقط النظر بعين الحاضر على الخطاب السردي الذي يعبر عن التجربةؤالتخيلية، وتعكس رؤية الكاتب أو سارد ومواقفه واحكامه من الشخصيات والوقائع والأحداث التي تناولها موضوع الرواية.
إن وضع الأدب داخل التاريخ في شكل ادبي نتاج الخيال حيث تعاد صياغة الواقع فتتداخل الخرافة بالواقع والحقيقة بالخيال.. ولم نعد نزعم انه يرتقي إلى مرتبة القول الملزم أو الراي المقبول..
إن غاية الادب الرقي بذوق المتلقي ووجدانه.. وغاية التاريخ تجديد الظروف الذهنية الجماعية والفردية..
إن الشخصية التاريخية الصادقة هي التي تتوافق عناصرها وتجتمع ملامحها وتتلاقى اجزاؤها كما تتلاقى أجزاء الهيكل المتفرقة..
أما الشخصية الروائية ففيها الخيال والإبداع وقد تمثل الإنسانية اجود تمثيل ومع ذلك فهي مجرد وهم وخيال..
طه حسين في رواية ” المغاربة”.
“والرجل الماهر الأثر ذو القلب الذكي والبصيرة النافذة هو الذي يحفل بما وراء اللوحات الناصعة التي يكتب فيها التاريخ.”(طه حسين :جنة الشوك/ص32).
-1- استخلاص العبرة من كتاب الأيام..
جاء ذكر طه حسين في فصلين من رواية “المغاربة” ..في فصل( طه حسين والشيخ./ص45).وفي فصل ليالي الباشا(2- البكاء بين يدي طه حسين /ص263).
والسؤال الذي يطرح نفسه على القارئ ،لماذا هذا الاستدعاء وضمن أي سياق يجدر فهمه ..
يتحدث السارد عن طه حسين باعتباره نموذجا يقتدى به ، فهو الضرير الذي قهرظروف حياته وبيئته واستطاع أن يصبح عميدا للادب العربي ومديرا للجامعة المصرية ووزيرا للتعليم وهو قبل هذا كله صاحب كتاب ” في الشعر الجاهلي ” /1926).الذي احدث ثورة فكرية في الادب.. وذلك بالدعوة إلى الاخذ بمنهج نقدي تقويمي للثقافة العربية ..على أسس عقلانية تاريخية.. استجابة لضرورات النهوض والتقدم ..
يشير السارد إلى كتاب “الأيام” الذي سجل فيه طه حسين اطوارا من سيرته وذكر فيه اصابته في صباه بآفة العمى وكيف تحدى ظلام البصر بنور البصيرة ..و شدة الإصرار ومضاء العزيمة..
ويستخلص السارد من تجربة طه حسين في كتاب الأيام درسا في التحدي:” ليس من السهل أن تكون ا عمى عليك أن تشق بالاظافر الأحجار الصلدة لتشق طريقك الخاص.. وتتحدى العجز وتنتزع الاعتراف من الاخرين وذلك بالتحفز للدفاع عن النفس..
” على الاعمى أن يكون حالما كبيرا .. فالعميان لديهم القدرة على انقاذ العالم.. لانهم يعيشون حاضرا بلا اطلال ولا معالم دارسة..(ص46).
” يقول السارد بان كتاب الأيام تركيب تجريدي لجزئيات حياة تكللت بانتصار أو وهم انتصار.. انها استعراض انشائي لشخصية صارت مرموقة وافراغ لحياة الاعمى من حسها التراجيدي.. كل صفحات الكتاب لا تتسع للحظة واحدة من حياة اعمى قلق ضائع ومرتبك..
كتب طه حسين أيامه بعنفوان واقدام وبراءة من تنقصه الخبرة بالزمن والناس..، ما كان ليكتبها في شيخوخته وهو يسمع الطعون توجه إلى رسالته التحديثية ومواقفه السياسية الليبرالية..
“ليس هناك اكثر فجاجة من حياة تقدم على انها ناجحة وممتلئة..” (ص47).
انشغل السارد بسيرة طه حسين قرأ اعماله وما كتب عنه..( الكتابة عبارة عن تصوير واسترجاع وتذكر احاسيس..).هل كان طه حسين يطلب الشهرة ويسعى إلى تقلد المناصب..؟ ام كان صاحب مشروع للاصلاح ودعوة للبناء..؟
ما سر الكآبة التي كانت بادية على محياه في أيامه الأخيرة..؟ وما سر قلقه وتدخينه المفرط..؟ وما معنى العبارة التي اطلقها قبل وفاته:” ايةحماقة؟ هل يمكن أن نجعل من الاعمى قائد سفينة..؟ ومن هم العميان الذين يقودون السفينة ..؟ اهم أجهزة الدعاية الضخمة ، وأجهزة الامن الرهيبة و القادة الملهمون الخالدون..؟
فتح طه حسين ابوابا وحرك موجا راكدا ..وتجاوز ماهو متاح لرجل في مقامه ..(ص 48).
دعى إلى التجديد والإصلاح والحرية والكرامة والانخراط في الحضارة الإنسانية ..
-2- البكاء بين يدي طه حسين..
في هذا الفصل يستطرد السارد في الحديث عن طه حسين و اعماله الأدبيَّة ورسالته الفكرية التي تنير الافهام وتهذب القلوب.. ويطرح السارد السؤال عن أهمية طه حسين..؟
اليس هو من قهر الظلام وحاول أن يقرب الشرق من الغرب..( زعيم التنوير العربي..).ص265
أهمية طه حسين انه خلص إلى دور لافكار في احداث التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي..( هاجم ودافع وخاض معارك ضارية من اجل تعميم التعليم وحرية الجامعة ..).
كتب عن مستقبل الثقافة وضرورة تجديد مناهج التعليم ليكون ملائما لتحديات العصر..(ص266).
ثم يسأل السارد ” ضمن أي سياق يمكن أن ندرج كتابات طه حسين الإسلامية ( الوعد الحق ومرآة الإسلام وعلى هامش السيرة والفتنة الكبرى..). هل تعتبر تراجعا عن نزعته التغريبية والعلمانية..؟
ان طه حسين ابن هذا الشرق بمآسيه وتناقضاته الذي ظهر فيه الأنبياء والفلاسفة والمتصوفة والدجالون والجلادون والسماسرة وتجار السلاح ..وفيه زرعت إسرائيل..(ككيان وظيفي لخدمة الهيمنة الغربية..).
الشرق الحزين الذي يلبس اكثر من قناع ويعتنق اكثر من مذهب..
لوظهر طه حسين في بلد اخر غير مصر لكان له اثر بالغ..؟ (ص268).
الخلاصة..
كان طه حسين ذكي القلب عضب اللسان عصيا لا يقبل ولا يطيق الإذعان وحازما لا يحب التردد، ولعل هذه الخصال هي التي صهرته وجعلت منه الأديب (ذو المراس العنيد.) الذي جمع إلى عقله الناقد إحساسا مرهفا وشعورا حادا وذوقا دقيقا لا يفوته شيء..
يلح بأسلوب واضح يتسم بشيئ من الغموض والاغماض يقصده قصدا.. ولعل سحر الاداء يصرف القارئ عن الفكرة إلى الأسلوب الذي يعرض الفكرة..
ان الفكرة التي راودته وشكلت صلب مشروعه الفكري تدور حول” التجديد والتقليد.” فدعوته إلى التجديد الادبي والفني هي أساسا دعوة إلى التجديد الحضاري والاندماج في اثار الحضارة المادية والعقلية.. بحيث تتيح لنا أن ننتج ادبا جديدا يعبر عن تطلعنا إلى الاسهام في الحضارة الإنسانية..
ويرى انه لا سبيل إلى أن يتجدد ادبنا الا بالاستزادة من التعليم ومن الثقافة بالقديم والجديد في وقت واحد..(كتاب تقليد وتجديد ص141).
فالاديب لا يستطيع أن ينتج ادبا جديدا الا اذا استكمل أدوات الإنتاج المتمثلة في القافة الواسعة العميقة..
فالآداب الحية هي العابرة للعصور والبيئات والاجيال لانها تلهم الناس وتوحي اليهم بما انتجه العقل الإنساني من العلم والمعرفة.. والوان الفن والجمال والادب الرفيع ..ليكون الغذاء الذي يصقل العقول ويشحذ الهمم وزادا يحي النفوس وتراثا إنسانيا خصبا ومثمرا يجدد الحياة عبر العصور والزمن الممتد..
فالغاية العليا من الادب والفن أن يبلغ الإنسان اقصى الدرجات من الثقافة والمعرفة ..في طلب الكمال..
والكمال الادبي يستلزم أن تكون اللغة ملائمة للحياة .. وان يكون الادب مرآة للبيئة متصل بالحياة مصور لوقائعها ناقل لخصائصها من جيل إلى جيل لتصبح موضوعا لدرس التاريخ..
الادب قيمة إنسانية والاديب صاحب رسالة في عالم العقل والروح والضمير..
ويمتاز الادب بالصراع المتصل العنيف المتغلغل في كل شيئ ، المتنا ول لكل شيئ بين العقل الرزين والمزاج الدقيق والشعور الرقيق والذوق المهذب..
الأديب صاحب تعمق للاشياء التي تتصل بالفن من جهة و بالعقل الناقد من جهة لخرى .. بحيث يكتب في العقل والنفس والرسم والموسيقى والتصوير والنحت .. وفي نقد الادباء ويقرب إلى القراء اطاريح كبار المفكرين..
ويقوم بتحليل العقل الانساني وهو يفكر ويلاحظ ويتأمل ويحاور الفلاسفة ليخلص إلى إقامة مذهبه الفلسفي..
( انظر كتاب الوان لطه حسين /ص61).
مجمل القول إن استدعاء رمزية طه حسين الاديب في المتن الروائي إنما يحيل على حضور الشرق فكرا وفنا وقيما روحية ونظم اجتماع، كتعبير يعكس عمق الروابط والأواصر الحضارية بين المغرب والمشرق.
*المصدر: التنويري.