ـ مفتتح إجباري :
حتى وإن هيمنت المرأة في عصور بائدة، وسيطرت على مصالح البلاد والعباد في أزمنة منصرمة، وإن اعتلت يوما ما سدة الحكم وسادت وفرضت سطوتها فإن هذه السيطرة وتلك الهيمنة تزامنت مع مشاهد الضعف وإحداثيات الانكسار وتماثلت مع قرائن الانهيار السياسي والاجتماعي والأخلاقي، ومن يستقرئ صور صعود المرأة وخروجها للشارع واعتلائها للمشهد الاجتماعي يدرك على الفور أن المجتمعات التي احتضنت هذه الصور واعتمدت تلك المشاهد السافرة هي مجتمعات تبدو منحلة وشيكة السقوط يغلب عليها الاقتداء برؤى الفتنة والشر والاعتداد بثقافة الهزيمة.
ـ التنوير الزائف :
أجبرتني وفاة الفتاة الإيرانية مهسا أميني إلى استدعاء كتابات بائدة لي عن الإسلام السياسي في إيران تحديدا ملامح النظام الديني التشيعي المهيمن على أروقة الحياة الاجتماعية هناك، هذا الاستدعاء المقلق جعلني أتذكر ما سطرته منذ سنوات ليست بالبعيدة وحتى قرابة الشهر المنصرم عن ولاية الفقيه والهوس الجنسي لدى أمراء جماعات الجهاد، وفتنة النساء التي تؤرق بل وتصدع أركان المؤسسات الراديكالية التي لا يزال ملف المرأة المتضمن ختانها وبلوغها ونضجها الجسمي وبروز نهديها وأحكام نكاحها وحيضها يحتل أهمية بالغة بأجندة الفقه في طهران الشيعية وكابول التي اقتنصتها حركة طالبان وباكستان التي هيمنت عليها من قبل تنظيم القاعدة المتشتت، وفي راهننا تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش ) في سوريا والعراق.
ووسط تفجرات العقل بالذكريات المرتبطة بالكتابة عن أمراء النساء وفقهاء الجنس الأكثر بزوغا وشيوعا بل وسطوة بكافة الجماعات الجهادية، استدعت ذاكرتي ما كتبته من قبل عن الواقع المرير للمرأة في فلك جماعات الجهاد الديني، وكان لزاما علينا الاسترجاع والاستدعاء القسري والقهري لتجربة مالالا زاي يوسف الفتاة الباكستانية المكلومة ومقولتها البارزة والغائرة بصدور جماعات الإرهاب والتطرف حينما قالت : ” اللَّهُ بَارَكَنِي بِحَيَاةٍ جَدِيْدَة ” و بهذه العبارة افتتحت فتاة باكستان حديثها عقب إفاقتها من الغيبوبة التي دخلت فيها كرها بعد الاعتداء الوحشي على أيدي رجال حركة طالبان الإرهابية هذه الحركة التي نجحت بعد سنوات من تدميرها أن تعتلي سدة الحكم في كابول، والعبارة جد بليغة لأنها ذكرت أولئك الذين يتشدقون بالدين وهم بعيدون تمام البعد عن إسلامنا الحنيف بالقيم التي ينبغي أن يلتزموا بها. لكن الغريب في المشهد الثقافي أن المفتونين بشبكة التواصل الاجتماعي والجالسين ليلاً ونهارا أمامه بغير اكتراث بشرف المشاركة في الحياة الطبيعية وليست الافتراضية أنهم يدركوا أنها نفس السياسات والإجراءات بعينها التي تنتهجها الفكر المتطرف وإن تعددت مسمياته من طالبان للقاعدة إلى تنظيم الدولة أو جماعة الإخوان الإرهابية أو جماعة الجهاد وجماعة التكفير والهجرة وعشرات التنظيمات المتطرفة الأخرى التي بدت كجيوب سياسية صغيرة بشتى بلدان منطقة الشرق الأوسط المتناحرة فكريا وثقافيا ودينيا أيضا بين سنة وشيعة وتيارات شتى للقاديانية والبهائية والأباضية والوهابية.
وقبل الشروع في حكي مأساة وفاة الإيرانية مهسا أميني على أيدي شرطة الأخلاق بإيران وتوضيح أسباب احتجازها ثم مقتلها أثر التعذيب الوحشي، وجب القول بإن مالالا زاي يوسف قصة إنسانية ضد خفافيش الظلام الذكورية والظلامية المولعة بالجنس تحت ستار الولع الأخلاقي، وأعداء التنوير الرافضين لقيم الحرية والمساواة كما كتبت منذ شهور ، فهي فتاة نشأت وترعرعت في ظل ثقافة حركة طالبان التي تدعي أنها حركة دينية أصولية وهي في الأصل لا علاقة لها بالإسلام ولا بأهله مطلقا، وهؤلاء يرفضون حتى لحظة الكتابة تعليم المرأة بوجه عام لاعتبارات ثقافية ترتبط برهاناتهم الفكرية والأيديولوجية وتعليمات أمرائهم وشيوخهم بأن في تعليم المرأة انهياراً للمجتمع الإسلامي. وحكاية مالالا تشبه آلاف الحكايا والقصص التي ترتبط بواقع الفتاة في مجتمعاتنا العربية الذي يصر ألا يرى في الأنثى عقلاً أو رأيا أو ذهنا وربما لا يدرك أنها بحق إنسان في ظل ثقافة ذكورية مريضة، فالقصة الاجتماعية ترى المرأة فتنة وغواية ومصدرا للشرور ذلك لأن تفكير النصف الأسفل من الجسد هو المسيطر على هؤلاء المرضى المتهوكين فكراً وعقلاً.
وبالبدهي ونظرا لانشغال سكان الكرة الأرضية ببعض المشاهد اليومية التي تعبر عن وضعهم المعرفي فهم بالضرورة مشغولون بوفاة الملكة إليزابيث وجنازتها، أو التحقيق القضائي التونسي مع الغنوشي بتهمة إرسال مقاتلين إلى سوريا والعراق، أو الصراع السياسي شبه الكوميدي في السودان الشقيق وسجال تبادل الاتهامات بين كل الفصائل السياسية والكيانات الحزبية هنالك، وتألق هالاند بالدوري الإنجليزي وسحب بساط الشهرة والتميز من تحت أقدام اللاعب المصري مو صلاح، واستعداد الكرة الأرضية لأزمات المناخ العاجلة غير الرحيمة وسيناريوهات الحرب الروسية الأوكرانية، أو حتى الحريق الهائل الذي لحق بمصفاة تكرير للنفط في فنزويلا، وغيرها من أحداث يومية باتت بليدة الخطى ووئيدة الحركة، كل هذا يكفي لغياب معرفة سكان الأرض بالفتاة الإيرانية مهسا أميني التي لقت حتفها في إيران على أيدي رجال شرطة الأخلاق رهن احتجازها منذ أيام معدودات.
مهسا أميني قاتلة للأطفال ؟ بالطبع لا. إذن هي تتاجر في الأعضاء البشرية أو في تجارة البشر عموما ؟ أيضا لا. حتما هي من ضمن النساء المريضات نفسيا والمهتمات باصطياد الرجال المتحرشين وتمزيق أجسادهم بعد تسميمهم ؟ الإجابة أيضا بالنفي لا ! ربما بالتأكيد أن هذه الفتاة المقتولة أثر التعذيب والتي قدم الرئيس الإيراني واجب العزاء لأسرتها الحزينة كانت تمارس أفعالا منافية للآداب العامة وتحترف مهنة البغاء نظير تقاضي أموال مالية ؟ حقا إنها مأساة المرأة في ظل تأويل العقول المريضة متشابكة الرؤى العبثية التي لا تعرف لليقين مرفأ واجب الاطمئنان.
قد تعتريك بعض التخييلات اليونانية التي تنتمي لعالم المسرح اليوناني القديم أو لبعض حكايا محاكم التفتيش في عصور كنسية مظلمة في أوروبا من أجل أن تجد تفسيرا واحدا يبرر قتل مهسا أميني في إيران النووية. وخصوصا أن ملابسات ما بعد وفاة مهسا هي الأكثر إثارة وغموضا أيضا في ظل اعتراض السلطات الأمنية الإيرانية تشريح الجثة لمعرفة أسباب الوفاة وإسدال الستار بصورة قمعية على المشهد برمته، الأمر الذي دفع الآلاف من الإيرانيين لإطلاق هاشتاج ” الموت لخامنئي “، ورافقه هاشتاج آخر أكثر احتقانا وهو ” عار علينا جهل مرشدنا “.
منذ أسبوع تم القبض على فتاة إيرانية تدعى مهسا أميني من قبل شرطة الأخلاق واحتجازها بتهمة ( ارتداء الحجاب بطريقة غير مناسبة )، نعم هذه هي التهمة التي وجهت للقتيلة. وقد تزامن مقتل مهسا أميني ثمة تظاهرات شرسة في إيران تحديدا في طهران ومشهد، تنديداً بوفاة مهسا إثر توقيفها من جانب “شرطة الأخلاق”، فيما نفت الشرطة من جديد أية مسؤولية لها في هذه الحادثة البشعة، بل إن شرطة طهران أكدت أول أمس كما جاء عبر وكالات الأنباء الدولية والإذاعات العالمية عدم حصول أي “احتكاك جسدي” على حد القول النصي بين شرطة الأخلاق والفتاة مهسا أميني.
ففي الثالث عشر من سبتمبر الجاري تم توقيف الشابة مهسا أميني البالغة من العمر (22 عاما )، المتحدرة من محافظة كردستان، في العاصمة طهران بحجة ارتداء “ملابس غير ملائمة”، أو بالأحرى وعلى وجه الدقة ” ارتداء الحجاب بطريقة غير مناسبة ” على يد عناصر من شرطة الأخلاق المكلفة بالتحقق من تطبيق القواعد الإسلامية الموجب إعمالها في إيران، ومنها إلزامية وضع الحجاب بصورة معينة.
وقبل الشروع في تأويل الحدث والحادثة، فإن شرطة الأخلاق سلطة مدنية إيرانية تفرض مجموعة من الضوابط والإجراءات الحازمة والحاكمة الواجب تطبيقها على النساء في إيران، وهي ثمة قيود مشددة على الملبس، بينها منع النساء من ارتداء المعاطف القصيرة فوق الركبة أو البنطلونات (السراويل) الضيقة أو حتى بنطلونات (سراويل ) جينز بها ثقوب المعروفة بالبنطلونات الممزقة المنتشرة بقوة في الشوارع العربية، إضافة إلى الفساتين ذات الألوان الفاقعة التي تبدو مثيرة للغريزة ومحفزة للشهوة في يقين شرطة الأخلاق الإيرانية.
وكما تداولت وكالات الأنباء الدولية الخبر ذكرت أن كلا من وكالة “فارس” و”تسنيم” الإيرانيتين للأنباء أن عدة تظاهرات أقيمت منذ مساء الأحد الماضي في مدينة ( سنندج) عاصمة محافظة كردستان في شمال غربي إيران حيث تنحدر الفتاة الإيرانية مهسا، فيما سارت تظاهرات أخرى أمس الاثنين في عدد من الجامعات الإيرانية منددة بالحادثة ذاتها. وكما ذكرت إندبندنت عربية أن وكالة “فارس” أعلنت أنه مساء أمس الاثنين في شارع الحجاب وسط طهران، ردد “مئات الأشخاص شعارات مناهضة للسلطات، وخلعت نساء الحجاب”.
هذا الحدث يدفعنا إلى قراءة عميقة من جديد للمشهد الإيراني، هذا المشهد الذي تحدثت عنه في مقالة سابقة طويلة جاءت تحت عنوان ” كيف أسس الخوميني لإمبراطورية التشدد ؟ ” والتي تناولت بالشرح والتحليل فكرة سعي بعض الوجوه الإيرانية إعادة إنتاج أفكار الثورة الإيرانية الإسلامية لصاحبها الإمام الخوميني، وهي ثورة في أساسها فكرية تضمنت في ثناياها كافة أنماط الاستلاب والإقصاء والتهميش وتكميم الأفواه وقتل كل صور الحريات لاسيما المتعلقة بالمرأة وحقوقها التي منحها الله لها.
وهذه الثورة الجهادية التي سيجيء الحديث عن مكتسباتها البعيدة تماما عن التثوير النووي الراهن كفزاعة ضد الغرب الأوروبي وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية يتم استخدامها وتوظيفها لتحقيق مطامح إيرانية اقتصادية وربما لا أتجاوز التوصيف أنها ” توسعية ” أيضا تبيح لها السيطرة النسبية على منطقة خليج العرب كنوع من التوازن السياسي والديني الذي تفرضه الإدارة الأمريكية على المنطقة العربية، ـ هذه الثورة هي التي صدرت منتجها الفقهي المتطرف إلى منطقة الشرق الأوسط ونجم عن فقهها المتطرف بشراسة بزوغ جماعات الجهاد الإسلامي والسلفية الجهادية والجماعة الإسلامية بمصر، وصولا إلى الجماعة الضالة الموسومة بجماعة التكفير والهجرة ( وإن كانت هذه الجماعة على وجه التحديد هي خوارج العصر الحديث بأفكارها الضالة المضللة وبرموزها المضللين فاتري الفكر والرؤية والتوجه وهي بالفعل جماعة سعت في الأرض فسادا وقتلا وتدميرا في مصر في فترة حكم الزعيم الخالد محمد أنور الساعات حتى نهاية التسعينيات فترة حكم الرئيس المصري محمد حسني مبارك وهي حاليا فترة حكم الرئيس السيسي تعمل تحت أقنعة وغطاءات أخرى لا تحمل اسمها بل تكتفي بحمل سمتها الأيديولوجي ) إلى أنصار بيت المقدس إلى جماعة ولاية سيناء مرورا بجماعات وطوائف متناحرة داخليا في الفكر والتوجه والمقصد وصولا إلى تنظيم الدولة الإسلامية بجانب استخدامها للعنف والترهيب والترويع واستغلال ضعف بعض البيئات العربية اجتماعيا واقتصاديا لفرض السيطرة.
ولا شك أن معظم المتابعين للمشهد الإيراني يقفون عند حدود فكر الشيعة هناك والاحتفاء سنويا بذكرى استشهاد الإمام الحسين في كربلاء وإقامة احتفالات صاخبة تبدو مستفزة لأهل السنة والسلفيين في شتى بقاع الكرة الأرضية، والتمايز في الآذان الذي يوصي بولاية ووصاية الإمام الراشد علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) كذلك الافتخار غير المبرر بامتلاك إيران لترسانة نووية وكأن إيران هي الحليف القوي لدول المنطقة في حالة الهجوم عليها من أي معتدٍ غاشم !.
لكن إيران لها وجوه أخرى لا يمكن الفكاك منها تتماثل فيها مع حركة طالبان كذلك تتوافق في إحداثياتها مع فكر تنظيم القاعدة وتشوهات تنظيم الدولة ( داعش ) الفكرية تحديدا فيما يتعلق بالنساء، الأمر الذي دفعني يوما أن أطلق على أمراء هذه الكيانات السيسيودينية بأنهم أمراء النساء مرتكزا إلى هوسهم بقضايا المرأة وبزواجهم المباح والمطلق بغير عدد وفتنتهم بتاريخ المرأة الموغل في المتعة والبغاء.
وكما ذكر المفكر والناقد المصري الراحل جابر عصفور في كتابه ” دفاعًا عن المرأة ” أن هناك متزمتين في كل زمان ومكان وظيفتهم التضييق على الناس والحجر عليهم وكل شئ في فقه هؤلاء المتزمتين حرام وضلالة وإثم ومعصية مثل ابتسامة المرأة وضحكتها الأمر الذي يستوجب التعنيف والتقبيح وصولا إلى وجوبية العقاب الجسدي وربما التعذيب تماما كما حدث للفتاة الإيرانية مهسا أميني.
ولربما استشرف ابن قتيبة راهن إيران منذ قرون وهي يسطِّر كتابه ” عيون الأخبار ” حينما تحدث عن المتطرفين فكريا والمتزمتين لحد القتل والتعذيب والتعزير حينما وصف هؤلاء بأنهم لا يزالوا ينظرون إلى المرأة ( المسلمة بالضرورة وفقا لوجودهم بالمجتمعات الإسلامية ” على أنها أصل الشر، ومنبع الفتنة وهي ” ثعبان الغواية الشرير ” الذي لا نجاة منه إلا بالقضاء عليه و بحبسه في مكان دونما خروج حتى الموت، وهي ـ أي المرأة ـ حبائل الشيطان هذا الكائن الذي لا يمتكك عقلا أو فكرا أو رؤية بل هي مجرد جسد للمتعة والإغواء لا أكثر لا أقل !.
ويسرد ابن قتيبة عشرات القصص التي دفعت بالمتزمتين والمتطرفين في عصره وعصور منصرمة عن تبرير رؤية هؤلاء لسوء الظن بالكائن الخبيث المعروف بالمرأة !.
كل هذا التوجس ظل مترعرعا في فكر الجماعات الجهادية وفي أجندة التيارات الراديكالية التي استهدفت في بادئ أنشطتها النساء عموما تحت فكرة أنهن الأسهل سيطرة واقتناصا لعقولهن، كما أن كافة المرجعيات الدينية السياسية لدى جماعات الإسلام السياسي مثل جماعة الإخوان والتكفير والهجرة والجماعة الإسلامية والقطبيين تؤكد أن السيطرة على عقل المرأة هو بمثابة إحكام مطلق للمجتمع بأسره وأنه من الضروري حجب كل نافذة للتفكير والرأي تتاح للمرأة لأن هذا سيشكل خطرا على بقاء هذه المجتمعات المتطرفة، في الوقت الذي يبيح فيه تيارات الإسلام السياسي استخدام المرأة في تظاهراتها ضد الأنظمة الحاكمة أو تعكير صفو المجتمعات المستقرة بقضايا نسوية من مثل إرضاع الكبير أو مشروعية الزواج القائم على مذهب بعينة كأبي حنيفة أو أحمد بن حنبل، وجهاد النكاح، وزواج المتعة، وإرضاع الكبير، إلى الزواج من الصغيرات اللاتي لم يتعدين التاسعة وفقا واحتكاما لنصوص تراثية مهجورة لا سند لها ولا ضابط أو حاكم شرعي سوى الهوس الجنسي المريض، وصولا إلى جهاد الحب حتى نكتشف أو نستقر صوب حقيقة دامغة في فكر هؤلاء الموتورين ؛ وهي الولوع بالنساء وكأن زمرة وحفنة من أمراء الفتنة ولعوا عشقا حد الهوس بالنساء وباتت العورة التي كانوا يدشنون خطبا طويلة عبر اسطواناتهم المسموعة كما الحال في ثورة الخوميني هي الهدف المطلق لهؤلاء، وأن المرأة هي المركزية الكونية لفقههم وغير ذلك من قضايا هي أشبه بالرصاصة التي توجه لصدر المجتمعات الإسلامية.
وعودة إلى المشهد الإيراني من جديد، فالمستقرئ لتاريخ الثورة الإيرانية يقرأ أن علي شريعتي المفكر الإيراني الشهير ( 1933 ـ 1977 ) والمولود في قرية ” مازينان ” في إقليم ” كفير ” الصحراوي الواقع شرق إيران قد أدرك قبيل رحيله المد الديني المتطرف الذي تزامن مع ظهور شخصية الخوميني الذي استقر ـ المد ـ بنجاح الثورة الإيرانية وإسقاط حكم الشاه، الأمر الذي دعاه إلى استبعاد رجال الدين المتطرف من المشهد السياسي والأمني بل فضل وجود مثقفين إسلاميين تقدميين وسط صفوف رجال الدين الإيراني تحسبا لمقاومة التطرف المستشرف آنذاك والذي تحقق بالفعل حتى وقتنا الحالي والذي أسفر عن مقتل مهسا أميني تحت مزاعم أخلاقية ورؤى إسلامية تستوجب التأويل والتحليل.
ولا شك أن أفكار شريعتي الإصلاحية كانت مثار جدل واسع استمرت حتى بعد وفاته عام 1977، فآية الله الخوميني نفسه قال عقب استقرار نجاح ثورته بإن تعاليم وأفكار ” علي شريعتي ” قد أثارت جدلا في صفوف رجال الدين، إلا أنها قادت الشباب وصغار المثقفين إلى الإسلام “. ورغم ذلك دعا الخوميني تقييم المسائل والطروحات التي أثارها علي شريعتي من باب أنها قد تقوض أفكار الثورة الإيرانية التي بدت متسامحة واستقرت متشددة وخصوصا أن مجمل أفكار شريعتي تناولت المؤسسة الدينية الشيعية الرسمية، وخصوصا أن ثمة وقائع تاريخية تشهد السجال والصراع بين أفكار شريعتي وبين آية الله مطهري أحد أبرز منظري الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وإيران اليوم المتمثلة في شرطة الأخلاق التي قتلت الشابة مهسا أميني تحت مزاعم أنها خارجة عن قوانين العفة المنصوص عليها بالمرجعية الإيرانية، هي نفسها مرجعية آية الله الخوميني الذي وإن اعتراه الشأن السياسي والثورة الدينية لكن هواجس السيطرة على المرأة بأية صورة وشكل والتضييق عليها تمثلت حتى وقتنا الراهن، وخصوصا إن فكر علي شريعتي الذي أقلق سلطته وسلطة من جاء بعده لاسيما وأن فكر شريعتي مثَّل تيارا إسلاميا معتدلا ومختلفا نوعيا عن فكر علماء الدين التابعين للثورة الإيرانية الذين لهم مطلق الوصاية.
ومشكلة شريعتي أن رؤاه الإصلاحية قد تناولت المرأة ليس من باب أنها باب للفتنة الجنسية والولع بالإغراء بل لأنه أعاد صياغة الأيديولوجية الإسلامية الشيعية في اتجاه يبعد الشباب الإيراني لاسيما الفتيات عن قيادة رجال الدين بحجة جمود فكرهم ومعارضتهم لأي فكر جديد تنويري.
بقي لنا في تحليل مشهد وفاة الفتاة الإيرانية مهسا أميني على أيدي بعض عناصر شرطة الأخلاق في إيران الإشارة إلى آية الله سيد طلقاني، وهو الذي كشف حالة الفصام التي يعاني منها النظام السياسي الديني في إيران لاسيما وأنه أحد منظري وقادة ثورة إيران الإسلامية بل إن طلقاني هو الذي دعا إلى أن الحكومة الشرعية هي الحكومة الإسلامية التي يرأسها الإمام أو الولي، وتجاوز في توصيفه الحد الذي وصل به القول بإن مثل هذه الحكومة يجب ألا تمثل طبقة واحدة بل تمثل كل أفراد المجتمع، ومسئوليتها ـ كما ذكر الدكتور وليد عبد الناصر في كتابه ” الإسلاميون التقدميون عن وجه آخر للفكر والسياسة في إيران ” ـ تكمن في حماية حقوق كل الأفراد على المستويين الفردي والجماعي “.
لكن سرعان ما غير طلقاني رأيه بشأن هذه الحكومة التي بدت بصورة مغايرة وانتهجت سياسات معادية للحريات، وامتهرت ـ من المهارة ـ في التضييق على المرأة من ناحية، وإحكام القبضة والسيطرة على عقول النساء ومن ثم أجسادهن من ناحية أخرى، فصار يستنكر تبني سياسة القمع من جانب السلطة الإيرانية الثورية وهوس أصحابها بالبقاء في السلطة فحسب والحفاظ على أطماعهم ومطامعهم بعيدا عن الشعب الإيراني، بل إنهم تجرأوا في تغيير مبادئ ثورتهم وإيمانهم بحرية المرأة وقت الثورة بتبديلها لتلائم أمزجتهم وأهوائهم وغرائزهم.
وقبل وفاة طلقاني المفاجئة حذر الشعب الإيراني من الاستبداد المتخفي تحت عباءة الإسلام، وأكد أن الإسلام لا يقر منع المرء من ممارسته حريته والتعبير عن رأيه وحق المواطن في الاعتراض والتعبير عن طموحاته، بل أكد أن ثمة من الانتهازيين المتسترين خلف عباءات دينية هم بعينهم محتكرو السلطة وأن أهدافهم بعيدة تماما عن أهداف الثورة الإيرانية التي تفجرت في 1979.
_____________
*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م) ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر
*المصدر: التنويري.